|
سيرَة أُخرى
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 4981 - 2015 / 11 / 10 - 14:37
المحور:
الادب والفن
1 " جحا "، هو أحد أقاربنا البعيدين. كان مشهوراً كصاحب أكبر كرش في الحارة؛ في وقت شبابه طبعاً. ولأنه كان حلاق الزقاق، فقد كنا نحن الأطفال نخشاه ونتمنى عدم الوقوع بين براثنه. إذ كان أثناء الحلاقة يضع كل ثقل يده الجبارة على نقرة الصبي، ويقوم أيضاً بنعره إذا حرك رأسه يمنة أو يسرة. على ذلك، لم يكن بالغريب أن نختلق القصص عن قدرة معدته على التهام الأطعمة في هذه الوليمة أو تلك العزيمة. ذات يوم، سمعنا أن أقارب " جحا " يحضّرون لعزيمة إيفاءً لنذر وأنه من بين المدعوين. لذلك طلبنا من أولاد المضيفين ( وكانوا أصدقاءنا ) أن يوافونا بكمية الطعام، التي سيلتهمها الحلاق صاحب الكرش. هكذا انتظرنا أمام باب ذلك المنزل، المفتوح للمدعوين، متلهفين على الأخبار الموعودة. بعد قليل، خرج أحد أولاد المنزل صارخاً: " جحا إلتهم على الريق عشرين فطيرة سبانخ! ". فما أن انقضت برهة أخرى، إلا وأطل ثان ليقول ضاحكاً: " بربي أحصيت حتى الآن ثلاثين حبة كوسا محشي تناولها جحا! ". وأخيراً، اندفع ثالث قائلاً: " جحا لم يترك شيئاً للمعازيم في صينية الكبة، وأظن أنه أكل أربعين قطعة!".
2 الشقيق الأكبر لقريبنا " جحا "، ما غيره، كان حميماتياً. وقد أورث هذه " السوسة " لأخيه الأصغر، وكان حلاقاً أيضاً. في منزلهم الكبير، كانت سقالة الحمام موجودة كالعادة على السطح. ولأن المنزل في مدخل الزقاق، حيث يوجد محل الحلاقة، فإن صاحبنا الحميماتي كان كلّ مرة يترك الزبون وعلى ذقنه رغوة الحلاقة لكي يهرع إلى الشارع ويراقب الأجواء..! " حرب الحميماتية "، كانت كلمة مألوفة في صغرنا. إذ كانت تنشب النزاعات عندما تتشابك أسراب الحمام بعضها ببعض، فيفقد هذا أو ذاك من أصحابها عدداً منها. وكان الحميماتي، وهو في حالة الحرب، يستعمل حماماً ماهراً بجلب أنداده في الأسراب العدوة؛ منه نوع يُدعى " البربريسي ". وكنا نحن الأطفال نصرخ دوماً بهذا الاسم، حينما نكون متجمعين على الجادة قرب محل الحلاقة. ذات مرة، كان معنا جار يكبرنا قليلاً، وكان ضريراً منذ الولادة. وقد كان معتاداً على متابعة أحاديثنا عن الحمام، فيما نحن واقفون على الجادة. وإذا بالحماس يدبّ به فجأة، فيصرخ بأعلى صوته وهو يرفع رأسه باتجاه السماء: " ها هو البربريسي، البربريسي! ".
3 المعروف، أن أكلات الريف تعتمد بشكل أساسي على اللحوم. أما المطبخ المديني، فإنه غنيّ بالخضار وبالتالي متنوّع أكثر. هذه الحقيقة، لا يتفهمها كثيرون من أهل الريف، بل يعتبرون أن المدنيين لا يحترمون ضيوفهم أو أنهم بخلاء. قريبة لي، زوجها من ريف إحدى المحافظات البعيدة. ذات مرة، جاء والده في زيارة للشام. فأرادت تبييض وجهها أمام الضيف، بأن تريه مهارتها في المطبخ. هكذا استدعت بعض أخواتها ليساعدنها في تحضير عدة أطباق من الطعام؛ من الكبة والمحاشي والفريكة إلى فطائر اللحم والجبنة والسبانخ، علاوة على السلطات والتبولة والفنوش وغيرها. زوج المرأة الشاطرة، دخل عليها في المطبخ وقال لها بقلق: " لو أحضرتِ فروجين مشويين من المطعم أما كان أفضل من كل هذا العذاب؟ ". إلا أنها اعتقدت أنه يمزح، فأكملت عملها. بعد قليل، كانت الأطباق ترصف بانتظام على المائدة فيما الضيف يتطلع بعينيه شزراً. وما لبث أن ركل الطاولة بقدمه وهو يصرخ: " ما هذه الحشائش، التي تريدين اطعامها لي وكأنني خروف؟! ".
4 في صغري، وبسبب حادثة أليمة، صرت أكره كل أنواع اللحوم تقريباً. والدتي، كانت تشك عيداناً في أكلات مثل الكوسا والكبة المقلية واليبرق، لكي يعرف الآخرون أنها بدون لحمة ومخصصة للإبن المدلل. وكان والدي، من ناحيته، يعبّر عن ضيقه في كل مرة أشارك فيها بالغداء: " هذا لن يصبح رجلاً إلا عندما يذهب إلى العسكرية! "، كان يقول للأم. ثم جاء وقت استدعائي لخدمة العلم، فأمضيت دورة الأغرار في كلية الدفاع الجوي بحمص. بعد شهر ونصف، عدت للمنزل في أول إجازة. فما أن انتهيت من السلام على الحاضرين، حتى بادرتُ والدتي طالباً منها أن تلحقني بالغداء إلى غرفتي. فقالت لي مترددة: " طبخت اليوم كواج، ولكنني سأحضّر لك أكلة أخرى تختارها أنت؟ ". وقد دهشت هيَ، لما طلبت منها أن تأتيني بطبختها حالاً وحتى بدون حاجة لتسخينها.
5 كلية الدفاع الجوي في حمص، كانت بناء حديثاً ومطعمها يتسع لحوالي 500 شخص. عندما اتجهت نحوه في الطابور لأول مرة، كنت أتصوّره شبيهاً بمطاعم الشام. فما أن صرنا داخل المكان الكئيب، حتى استقبلنا بالشتائم والوعيد من قبل طلاب الضباط المتطوعين، المسؤولين عن النظام بشكل دوريّ. في اليوم التالي، وعلى الغداء، ما أن هممت بالجلوس على الطاولة المستطيلة ( وكان يشاركني فيها خمسة زملاء )، حتى هتفت بغضب وأنا أنظر إلى قصعة الطعام: " من سمح لكم بخلط الرز مع المرقة واللحم؟ ". وقبل أن يفتح أحدهم فمه، انبعث صوت الضابط المناوب من خلفي: " ولاه..! ماذا يجري هناك؟ ". فلما اقترب، وعرف الحكاية، فإنه خاطبني ساخراً بعدما لاحظ لهجتي الشامية: " ألن تختلط المرقة مع الرز بمعدتك؟ ". فأجبته وأنا أشير إلى الحلوى الموجودة على الطاولة: " الشعيبيات أيضاً ستختلط بمعدتنا، فهل يجب أن نضعها في القصعة مع المرقة والرز؟ ". هنا، صاح الضابط بغضب: " ومتتفلسف كمان؟ّ! ". بعد ذلك، أمرني أن أقوم بالهرولة في مكاني بينما أنا آكل، كي يربي فيّ الآخرين.
6 هناك أكلات معينة، يتشاطر فيها الرجل أكثر من المرأة. وعادةً، فإن " الأكلات الرجالية " مكانها خارج المطبخ؛ كالكبة المشوية واللحمة المشوية والكباب والحفاتي والمقادم وغيرها. فإذا كانت النساء مشهورات بعمل الكبة الكسلانة (!)، فإننا معشر الرجال نتفنن بالكبة المشوية. المرحوم والدي، عندما كان يذكّر أمي بهذه الأكلة الأخيرة، فإنها كانت تقول له بدون تردد " الموقد في الجنينة بانتظارك! ". ومن الأكلات الأخرى، التي كانت عزيزة جداً على قلب الوالد، الحفاتي ( أي المصران المحشو بالرز واللحم ). وهيَ أكثر شيء أكرهه منذ الصغر. فعندما يجتمع أفراد أسرتنا حول سماط الغداء، فيلاحظ الأب غيابي، كانت أمنا تتضاحك وتقول: " لقد قال لي أنه سيهرب ليس فقط من البيت، بل ومن الحارة كلها! ".
7 من النادر أن يخلو بيت دمشقي قديم من البحرة. فإنها مركز أرض الديار، يتجمع حولها أفراد الأسرة، حيث المجالس على شكل أرائك أو كراسٍ من القش. عادةً، يستحوذ على البحرة في النهار نساءُ المنزل. وهي ليلاً للرجال، حيث يتسامرون مع ضيوفهم على وقع رقرقة المياه في النافورة..! عندما كنتُ صغيراً، اعتدت أن أقضي وقت السهرة بالقرب من البحرة في بيت ابن العم الأكبر، الذي كان يملك جهاز تلفزيون. صاحب المنزل ( وكان يكبر والدي وأناديه بالعم )، كان يرحب بنا نحن أولاد العمومة بشرط ألا نعكّر مزاجه، الذي يصفو كثيراً بظهور مطربته الأثيرة؛ سميرة توفيق. ذات مرة، عدتُ إلى البيت منذ بداية السهرة منزعجاً، بعدما أنبني ابن العم لسبب يتعلق حتماً بإثارة أعصابه. فما أن واجهت والدتي حتى قلت لها متذمراً: " لماذا لا نملك تلفزيوناً، أو بحرة، كما في منزل العم؟ ". فأجابتني متضاحكة: " عمك صاحب مزاج، وليس مثل والدك المقضي وقته بالسياسة والكتب! ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحت شجرة بلوط
-
الفلك
-
الفخ
-
الإختيار
-
صداقة
-
ابن حرام
-
مولانا
-
البهلول
-
جمال الغيطاني؛ ختامُ الكلام
-
ذكرى
-
بسمة ساخرة
-
الحرية
-
الثعلب
-
مدوّنات: أخباريون وقناصل
-
الصديقتان
-
الغابة العذراء
-
زجاجة مكياج
-
الجرف
-
الرئيس ونائبته
-
كان ليبياً أفريقياً
المزيد.....
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|