|
انتحار المثقفين العرب الجزء الثاني
أروى المهنا
الحوار المتمدن-العدد: 4972 - 2015 / 11 / 1 - 11:52
المحور:
الادب والفن
مر وقت ليس بطويل منذ أن قمت بكتابة الجزء الأول من هذا الكتاب " انتحار المثقفين العرب " هذا الكتاب الذي لم أخرج من دوامته بعد ولن على مايبدوا ، اقتُبس على غلاف الكتاب لرجاء النقاش ( من أعمق وأجمل الكتب التي صدرت حديثاً لواحد من أكبر المفكّرين العرب المعاصرين ) ومن منا كقراء وكتّاب نحمل على عاتقنا ما نحمله لايعرف من هو رجاء النقاش الناقد والكاتب المصري صاحب مقالات " هل تنتحر اللغة العربية " ! والتي جمعتها زوجته عند وفاته في كتاب واحد ليقرأها العالم أجمع بشكل أوسع مما هو عليه . لي أن أضم صوتي الخجول لصوت رجاء لأُسقط ما أسقطه على انتحار المثقفين العرب بأعمق وأجمل الكتب التي صدرت حديثاً بل وأكثر . كُنت قد توقفت في الجزء الأول والذي نشرته في موقع ثقافات عند عدّة نقاط جديرة بأن ألقي الضوء عليها أيضاً لتشاركني أيها القارئ متعتها الخاصة جداً . في صفحة 151 يأخذنا الكاتب بجناحين لامثيل لهما جناحان للعمل الفني العظيم لايحلق بدونهما ( في غياب الأعمال الأدبية والفنية العظيمة عن مسرح الثقافة العربية هذه الأيام ، نشعر بشوق كبير إلى الحديث عنها ، إن لم يكن عن أعمال منجزة ملموسة فعن بعض الشروط الجوهرية التي لابد ان تتوفر في أي عمل أدبي أو فني ليكون أدباً وفناً عظيماً ) نعم ولي أيضا أن أشعر بالشوق الكبير للحديث عن انجاز أدبي ضخم يكون بمثابة مفارقة كبيرة في هذا الوقت المُعاصر بالذات حيث أن الحركة الشعرية مرنة أكثر من ذي قبل ويقع على القصة القصيرة والرواية مايقع على الشّعر أيضا ولم أنسى بالطبع المسرح وكل حرية النص التي يمكن أن يلعب بها المخرج حينها ، البناء المادي هو الجناح الأول لعمل فني عظيم ( يشترط سلامة البناء المادي الحسي للعمل أو صورته الحسية التي تتراءى لكل الأنظار والتي يستطيع أن يبصرها ويفهمها ويتذوقها الناس العاديون على اختلاف مستوياتهم والتي لايختلف في النظر اليها في حدودها الحسية هذه الإنسان العادي والناقد المتذوق والفيلسوف المحلل فهي أمامهم سواء من حيث هي مادة وصور وشخوص وأحداث وألوان واضواء واصوات وصيرورة متجسدة في الواقع المحسوس ) ومن تراثنا القديم يقدّم لنا الأنصاري ظاهرة انتحارية لأديب انتحر أديباً باحراق كتبه وأنقذه التصوف من الانتحار الشخصي، انتحر أبوحيان فكرياً ومعنوياً عندما أحرق كتبه وهو الأديب والمفكر الذي ليس له من تراث في هذه الحياة غير تلك الكتب * أبوحيان التوحيدي من كبار مثقفي القرن الرابع الهجري يضعه النقاد من حيث التفوق والابداع الأدبي بعد الجاحظ مباشرة في تاريخ النثر العربي كاتب خصيب الأسلوب متوقد الفكر عاش معظم حياته فقيراً مهملاً وانتهى متصوفاً يائساً من أشهر كتبه الإمتاع والمؤانسة ، الصداقة والصديق . عنون الأنصاري ماعاشه التوحيدي بصراع الأضداد صراعه أولاً مع الفقر الفقر المدقع الذي لم يجد التوحيدي أي مبرر فلسفي أو ديني أن يقنعه بعدالته ووجاهته أما الصراع الثاني الذي عاشه التوحيدي ( كان ابوحيان يتمتع بعدد من المواهب والكفاءات : كان منشئاً بارعاً ومثقفاً واسع الاطلاع ومفكراً له وزنه وكان يريد دون شك احتلال اجتماعي يتنساب مع مواهبه ويرفعه على الأقل الى منزلة ابن العميد والصاحب بن عياد أو مايقرب من ذلك تحقيقاً لذاته من ناحية وتخلصاً من حالته المزرية من ناحية اخرى ) هكذا ذهب التوحيدي لفكرة الانتحار، في كتابه الهوامل ( يثير مسألة الانتحار ويستعرض احوال بعض أهل العلم الذين لجأوا إلى الانتحار تخلصاً من البؤس الشديد . وهو وان كان " يهجن " التخلص من الحياة فإنه مع ذلك كان يجد صورة نفسه في أولئك المنتحرين فكل واحد منهم ابو حيان في بؤسه وسوء حاله وضيق رزقه ونفور الناس عنه ) ولقد تجسدت صورة الانتحار في حياته بشكل درامي عندما حوّل صداها من نفسه إلى كتبه فأعدمها انسياقاً وراء شعور داخلي فيه ان أبا حيان المفكر والأديب لايمكنه أن يعيش في ذلك الإطار الحياتي والإجتماعي الذي يسوده اختلال المقاييس من كل جانب. في الجانب الآخر كما في حالة يافيم لاديجنكسي وظاهرة انتحار الفنان اليهودي الذي وصل إلى إسرائيل ضمن هجرة اليهود الروس الى " أرض الميعاد " بعد أربع سنوات من وصوله ذهب ذات صباح إلى الأستوديو الفني الخاص به كعادته كل يوم ليزاول نشاطه الفني وبدلاً من أن يرسم شنق نفسه ووضع حداً لحياته وهو في السبعين من العمر بعد أن قام برسم لوحتان كانتا بمثابة رسالة انتحار فماذا قال في رسالته ؟ أراد " بافيم لاديجنسكي " أن يقول انه لم يستطع ان يتعايش لا مع النظام السوفياتي ولا مع المجتمع الصهيوني في اسرائيل وأنه ظل مصلوبا على خشبتي أو على نجمتي النظام ( أن يتضايق فنان يهودي مشبع بالروح الدينية من النظام السوفياتي في روسيا هذا مفهوم يمكن تفسيره وتبريره ولكن أن يرفض فنان يهودي أصرّ على الهجرة الى اسرائيل بعد أن قارب السبعين أن يرفض الحياة في الأرض الموعودة ويقرر الإنتحار ويضع نجمة داود رمزه الديني الصهيوني العميق على مستوى النجمة الحمراء الشيوعية من حيث كونهما تعبيراً عن القمع والعداء لروح الانسان والفن فهذه فضيحة شديدة الإحراج بالنسبة لصميم الفكرة الصهيونية والمجتمع الاسرائيلي ) * الى دعاة الحوار الحضاري مع اسرائيل من بعض كبار الأدباء الناطقين بالعربية اقرأوا قصة هذا الفنان اليهودي الذي لم يستطع حتى الحوار المعيشي مع اسرائيل ألا تقول لكم قصته أنكم صرتم حواريين مع اليهود أكثر من اليهود أنفسهم " . ينتقل الأنصاري لغراهام في ( إنّي أتهم ) وهو العنوان الشهير الذي اختاره الأديب الفرنسي اميل زولا في القرن التاسع عشر لإثارة القضايا الشهيرة في عهده وكان غرين يقول للفرنسيين لن تعودوا أوفياء لتقاليدكم وها نحن نيابة نحملها عنكم " إني أتّهم قصة علاقة مراوغة بين أديب انجليزي ومدينة فرنسية ( يبدوا أن الريفييرا الفرنسية تعطي الحرية للكشف عن أجسامهم في شواطئها تحت شمس النهار بينما هي تخفي أشياء وأشياء تحت جنح الظلام في عالمها السفلي المرعب ) * هذا ماحاول أن يقوله بكلمات أخرى الروائي الانكليزي المعروف غاراهام غرين البالغ من العمر السابعة والسبعين وأحد المعجبين بأجواء "شاطئ اللازورد " حيث يقضي الآن سنوات تقاعده بهدوء في قرية انتيب الساحلية التي لاتبعد عن " نيس "عاصمة الشاطئ سوى عشرة أميال وليس له من سلوى غير الكتابة والشراب "لكن سرعان ماخرج غراهام من هذا الهدوء ليخوض معركة شخصية ضد سلطات نيس ضد ماأسماه بعصابات العالم السفلي التي تتحكم كما يقول بأقدار الناس ، استيقظ أدباء فرنسا وسياسييها على صرخة روائي انجليزي عجوز وهو يدق جرس الانذار ضد فساد خطير يتهدد مصير أجمل مدنهم ويحمل عالياً راية الاصلاح لحماية المواطن الفرنسي والزائر الأجنبي القادم إلى فرنسا * مدينة فرنسية لايصلح أمورها غير أديب انجليزي ؟ يالثارات واتروا! يالثارات نابليون ! بعد المعركة المسترة الطويلة التي كتب عنها الأنصاري بأكثر من 4 صفحات بين الرجل الانجليزي والمدينة التي يعشق كان من المهم أن يخرج لنا غراهام غرين بأثر أدبي ناجح في النهاية .. وهذا مايشك فيه الفرنسيون ! في صفحة 127 عنون الكاتب ( تجنباً لانتحار الإنسان الحديث العودة إلى رومانسية القلب الواعية ) وسأختتم المقال بإيجاز على لسان الأنصاري ( بعد أن أخرُج من زحمة المدارس الأدبية من كلاسيكية ورومانسية وواقعية وسريالية وهي مدارس اتجاهات أدبية يعيشها المرء لحكم الحرفة الأكاديمية والهواية النقدية بعد أن أخرج من زحمة هذه المدارس وفلسفتها وعلومها الكلامية وحروبها النقدية يخالجني شوق من أجل استعادة صفاء النفس إلى ترديد أبيات بسيطة وساذجة جدا في عرف المدارس الوقورة المذكورة أعلاه مثل قول الشاعر أبوالقاسم الشابي ) : اهدئي ياجراح واهدئي ياشجون راح عهد النواح وزمان الجنون وأطل الصباح من وراء القرون مثل هذه الأبيات وماينحوا منحاها في البساطة والحديث المباشر الى القلب الإنساني والشعور الإنساني الطفل هي التي تستطيع أن تبقى على الزمن وأن تخرج منتصرة بعد سيادة مدرسة أدبية وأخرى أو بعد انحسار جميع المذاهب الأدبية لتقول للمتأدبين المتحذلقين : فقل لمن يدّعي في العلم معرفة عرفت شيئاً .. وغابت عنك أشياء !
#أروى_المهنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إنتحار المثقفين العرب
-
نظرية الفوضى وعلم اللامتوقع
-
بيروت المدينة المستمرّة
-
تلابيب خُطاي
-
سيرة ذ ا ت ي ة
-
ماذا يعني أن أكتب ؟
-
الخلايا الجذعية stem cells
-
محاكاة إلى صديقة
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|