كرار حيدر الموسوي
باحث واكاديمي
(Karrar Haider Al Mosawi)
الحوار المتمدن-العدد: 4967 - 2015 / 10 / 26 - 12:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بينما كان إله الحياة يمر بجانب إحدى الحانات, سمع صوت صخب وصراخ قهقهة فاجرة ماجنة, منبعثاً من فاجرات ماجنات ورواد بيوت الدعارة. فاستغرب سرّ هذا الضجيج الصاخب, وقرر الدخول ليستطلع الأمر.دخل إله الحياة بيت المجون و هاله أن وجد المومسات الماجنات, قد تعرين من ثيابهن, ورحن يتساقطن ويتدحرجن من حضن رجل إلى آخر, بينما الرجال راحوا يقهقهون ويصرخون بجنون ولذة, ويتصرفون تصرف الخلاعة والوقاحة.تأمل إله الحياة في وجوه الرجال و صعق أن وجد من بينهم الحكيم الحاكم, والقديس, والفيلسوف, واللص والمجرم.لم يتحمل عقل إله الحياة ما شاهده, فصرخ صرخة كبيرة زعزعت المكان و جفل كل من كان في الحانة و توقف الصخب.
اتجه إله الحياة إلى الحاكم وقال متهكماً: الحاكم هو الإله المنظور على الأرض, إنه يرعى الفضيلة ويقود الآحاد إلى الواحد. إنه الألوهة المتجسدة في الإنسان الفاضل ليرعى اختبارات الفرد في الحياة, ليحميه من لعبة الانفصال عن الذات الكلية, وليعيده إلى حضن الأزلية الطاهر. ثم كرر إله الحياة قائلاً: حضن الأزلية الطاهر وليس أحضان المومسات.ثم اتجه إله الحياة إلى القديس وقال له: أحييك أيها القديس الفاضل, يا من نذر حياته وتبتله لمكاشفة الحقيقية. أحييك أيها العين المستبصرة وراء وهم المكان والزمان. يا من يستشعر بروحه وكيانه متغيرات الزمن. يا من كاشف الألوهة و لاذ بالصمت والزهد والورع. يا من تعبدت البشرية قداستك وزهدك و ورعك, فتراكضوا وراءك يقتفون أثرك. يا من تغنت البشرية بحكمتك و مواعظك فجعلت منها آيات. ثم كرر إله الحياة قائلاً: آيات للقداسة والطهارة وليست آيات للنجاسة والدعارة. ثم قال إله الحياة معنفاً: ألا تخجل من نفسك يا رجل؟..كيف تعيش ازدواجية القديس والعاهر, المتأله والشيطان, الناسك والفاجر؟.ثم اتجه إله الحياة إلى الفيلسوف قائلاً: و أنت يا أيها الفيلسوف الأعظم, يا تجلي الوعي السامي في الإنسان, أيها الضمير الكوني المرتحل في انفلاش الكون, أيها الجوهرة الكونية التي تعي ذاتها بذاتها.
ثم تساءل إله الحياة ساخراً: هل انتهت مهمتك في وعي المطلق ولم يبقَ أمامك إلا أن تأتي إلى هنا لتعي متعة الفسق والمجون بين أحضان المومسات؟.وضع إله الحياة يديه على وجهه ثم صرخ وقال: كنت أظن أن هذه الحانات قد خلقت للصوص والمجرمين, ولم أكن أتوقع وجودكم فيها.جلس إله الحياة على الأرض وراح يبكي.اقتربت إحدى المومسات من إله الحياة وتظاهرت بلمسة حنان و مررت يدها على أماكن مثيرة, فانتفر منها وقال لها ابتعد عني أيها الشيطان.قال الحاكم: على رسلك أيها الإله. لا تجعل الغضب يعمي بصيرتك ولا ترفض النعمة والرحمة. فأنت لم تختبر المحن التي أوقعتنا بها حكمتك. ثم كرر الحاكم ساخراً: حكمتك؟! أية سذاجة و أية حماقة قادتك إلينا فصدقناك, وأصبحنا سذجاً حمقى رعاعاً تتقاذفنا أسنة رماح وسيوف أكلة أرواح ونفوس البشر.
وأضاف الحاكم قائلاً: الحاكم هو الإله المنظور على الأرض هذا ما علمتني إياه فأوقعتني في لعبة الحماقة والسذاجة واستهلكت حياتي وراء اختبارات لعينة. لقد حكمت شعباً خبيثاً فاجراً لا يعرف الحب ولا الرحمة. شعب تأصلت به العائلية والعرقية وشبق رهيب للعنف وسفك الدم. شعب لا تهمه الحقيقة ولا الفضيلة. شعب هو تجلي للهمجية بعينيها. إذا أعطيته الحرية سفك دمك, وإذا أعطيته المحبة اعتبرها جبناً, وإذا أعطيته الرحمة اعتبرها ضعفاً, وإذا منحته النور والمعرفة داسها بأقدامه كالخنازير. شعب تاريخه دموياً بشعاً. وطلبت مني أن أقود الآحاد إلى الواحد, أن أكون الألوهة المتجسدة في الإنسان, ليرعى اختبارات الفرد في الحياة, ليحميه من لعبة الانفصال عن الذات الكلية, ويعيده إلى حضن الأزلية الطاهر.ثم صاح الحاكم بإله الحياة قائلاً: يا إله الحياة يا إله السذاجة والحماقة, لمَ لم تعلمني أن هذا الشعب يحتاج النار, يحتاج الترويض كما تروض الوحوش والضواري, كي يتطهر من آثام و جرائم تاريخه السافل.
ثم أضاف الحاكم قائلاً: لقد أعطيت هذا الشعب قلبي وحبي وحياتي, علّه يحترم نفسه, علّه يحترم الإنسان, علّه يحترم الحياة, فلم أرَ في الشعب إلا اللصوص تزداد غنى, وتجار الفكر والفلسفة تفيض بكم هائل من نتاجٍ مزيف, والمحتكرون يسيطرون على الأسواق, والدجالون والأفاقون يسدون أعتاب السياسة, والحقد والكراهية تعم قلوب الناس. حاولت جهدي كي أعلم السياسيين المبادئ والأخلاق, وكي أعلم رجال الفكر والقلم الضمير, وكي أعلم رجال الاقتصاد الحكمة والرحمة, وكي أعلم الناس الحب والفضيلة. فماذا كانت النتيجة؟..اعتبرني الشعب أحمقاً أخرقاً, واعتبرني رجال السياسة والاقتصاد ساذجاَ غبياً, واعتبرني رجال الفكر جباناً رعديداً. هنا علمت ضرورة حقيقة الحكمة التي تقول كما تكونوا يولى عليكم. لهذا أرجو منك يا ملك الحياة أن تجد غيري لهذه المهمة. فهذا الشعب لا ُيحكم إلا بالحديد والنار والإعدام والسجن. دعني أيها الإله هنا أتفيء عطر الخمر, وألامس أجساد غضة, ودعني أعوض حياة البؤس والجحيم الذي ذقته بسببك.
اقترب القديس من إله الحياة وقال: ماذا تنفع القداسة والطهارة في زمن العهر والابتذال. لا تلمنا يا ملك الحياة بل حاول أن تلوم نفسك. لقد أنجبتنا سابقي عصرنا بآلاف السنين. ليست كل الشعوب بمقدورها أن تعي معنى القداسة. الشعوب القبلية و العائلية ترى القداسة في عدائية الآخر, والشعوب الدموية والمحبة للعنف والهمجية ترى القداسة في القتل وسفك الدم. لقد أنجبتني إلى شعوب لا تعرف الحب ولا الرحمة وطلبت مني تعليمها الطهارة والقداسة. فرفضتني, لأنها تتطهر بالدم, وتتقدس بالعنف. لذا قررت إما أن أقتل نفسي كي أريحها من العذاب أو أن أحافظ على حياتي و أعوض نفسي عن الشقاء والحرمان. وصدقني يا ملك الحياة أنني لم أندم في حياتي على شيء إلا لظلمي للمومس. لقد كنت أعتبرها شيطاناً كريهاً لعيناً يدمر العائلة والفكر والمجتمع , لكني هنا وجدتها إنساناً آخر. إنها تدمر نفسها كي تمنح الآخر اللذة والسعادة وصدقني أن الجنة التي تكفي حلمي المشوه وجدته هنا.صرخ إله الحياة رافعاً يديه إلى الأعلى كفى ... كفى.اقترب الفيلسوف من إله الحياة قائلاً: ماذا ينفع عقل الفيلسوف وسط مجتمعٍ من المجانين؟ . إذا كانت مهمة العقل استقراء واستنباط المعرفة من الواقع بغية رفع وتطوير مفاهيم الحياة. فمهمة المجنون تنفيذ حكم السجن خارج حكمة العقل. المجنون يحتاج العقل لكن القدر قد أغلق عليه السبيل عقاباً له. فإذا منع القدر العقل عن المجنون فلماذا يا إله الحياة أنجبتني كعقلٍ بين المجانين؟. هل لمعاقبة المجانين؟. قطعاً لا ... بل لمعاقبتي أنا!. العاقل بين المجانين, مجنون؟.
ثم سأل الفيلسوف إله الحياة قائلاً: أي إثمٍ اقترفت وأي جناية ارتكبت كي تأتي بي إلى هذا الوسط السافل؟. أتظن أن بيت الدعارة هذا أكثر سفالة؟. كلا ... كلا ... على العكس تماماً, المومس أكثر حكمة منا جميعاً. لقد أدركت مكامن ضعفها فلم تراوغ فاستسلمت للواقع. لقد مارست الرغبة حتى ماتت في أعماقها. إنها تعرف قدر نفسها فتحتقرها وتحتقر حياتها. إنها حكيمة أدركت نهاية رحلة حياتها وهي إلى القمامة. ليتك يا إله الحياة علمتني الحكمة كما علمت المومس. لقد خدعتني وأقنعتني بقوة العقل وسط المجانين وعلمتني قيمة الحكمة في زمن الجنون والسقوط. ليتك علمتني يا الهي أن ممارس الحكمة والعقل في هذا الزمن كممارس الدعارة كلاهما سينتهيان إلى القمامة!.اقترب اللص من ملك الحياة وقال: ها أنت تشهد الآن بأم عينك سقوط الحاكم والقديس والفيلسوف والمومس معاً. وكنت تعلمني يا سيدي دائماً, أن أكون واقعياً. وقد جنبتني الحكمة أن أسقط سقوط المجانين السذج و الرعاع. وطالما لا يستفيد المجنون من ممتلكاته, وطالما لا ينفع العقل, السذج والمخبولين من أمثال القديس والفيلسوف, فلم لا أستفيد أنا منهم؟. صحيحٌ أنا أسرق ممتلكات غيري, لكني افعل هذا بدافع تقديس النعمة التي لا يعرف حق قدرها سوانا نحن اللصوص حكماء هذا الزمن.تقدم المجرم من إله الحياة وقال: إذا ازداد العفن في الحياة إلى الحد الغير مسموح به, دمرها. إن الحياة تعج بالعفن والفساد والحسد والحقد والكراهية. لهذا آثرت حماية الحياة من الدمار عبر قتل المفسدين.ثم أضاف المجرم قائلاً: صدقني يا إله الحياة إن هذا الزمن يحتاج الموت أكثر مما يحتاج الحياة.صمت المجرم ثم قال: لا تظن أيها الإله أنني عندما أقتل, لا يكابد قلبي آلام العذاب. صدقني أن عمري كله عذاب بعذاب. لهذا فلا أجد لنفسي الراحة والعزاء إلا هنا. وأنا أشكر الله لأنه أبدع لنا المومس كي تخفف عن أنفسنا إصر العذاب. وتبقي لنا متعة رحلة الوضاعة والسقوط في زمن العهر والابتذال.
اقتربت إحدى المومسات من ملك الحياة وقالت: عندما تصادر القوى الطاغية إمكانيات العمل الشريف, فإنها تدفع الناس إما إلى السرقة أو الدعارة أو الانتحار. أنا لست شجاعة بالقدر الكافي كي اسرق أو انتحر. لقد أدركت يا سيدي حقيقة جبني وضعفي ولم أستطع صم آذاني عن صوت الحياة الصاخب في أعماقي الذي يدفعني للذة والمتعة, فاستسلمت لضعفي, ورحت أبيع اللذة مقابل حفنة قليلة من المال.
ثم كررت المومس قائلة: أنا عاهرة أبيع اللذة مقابل حفنة مال, لكن الفيلسوف يبيع لذة الفكر, لسفلة مقابل حفنة أقل من المال, أو قدرٍ حقير من رضا الذات. فماذا تسمي فعله هذا إذاً؟.!!. القديس يبيع قداسته للجهلة والرعاع مقابل إعجاب السذج والحمقى, فماذا تسمي فعله هذا إذاً؟!!. الحاكم الحكيم يبيع قداسة روحه وتجاربه الكونية لعصابات من السفلة والقتلة مقابل تمجيد وتخليد اسمه. فماذا تسمي فعله هذا؟!!. هل أنا وحدي أمارس الدعارة؟. أم أننا جميعاً نمارس الفسق والدعارة؟!.
وأضافت المومس بصوت الواعظ الواثق: نحن يا سيدي نمارس جميعاً الدعارة في مملكتك وتحت أنظارك. وكم حريٌ بك أيها الإله أن تغير اسمك من إله الحياة إلى إله الدعارة. صرخ إله الحياة: كفى ...كفى . و خرج من الحانة مترنحاً واتجه إلى بحر التكوين وقرر أن يلقي بنفسه هناك وينتحر.لكن كبير الآلهة تجلى له وصاح به: على رسلك أيها التائه.أجابه إله الحياة: ذات يوم تساءلت معك أيها الإله عن مبرر إبداعك للموت فأجبتني: سيأتيك زمن تقول لي فيه, كم هي الحياة قاسية وظالمة دون وجود إله الموت. أجل ... عندما يصبح أي عمل شريف مهما كان نزيهاً قيد الاشتباه, وعندما تصبح الوضاعة, السبيل الوحيد لعبور الحياة. يكون الموت مطلباً مصيرياً ملحاً.صمت إله الحياة ثم أضاف قائلاً: كفى الحياة انهياراً, وكفى العقل محنة, وكفى الروح متاهة.قال كبير الآلهة: على رسلك, لمَ لم تفكر بالحكمة المستترة وراء هذا الانهيار وهذه المحن والمتاهات؟.قال إله الحياة: إذا فقد القلب الحب هل يبقى هناك أي معنى للحكمة؟.قال كبير الآلهة: عبدة المطلق تتجاوز هذه المعايير والمعاني. إنها تتحدى كل تحدٍ.قال إله الحياة: أنقذني ... ساعدني ... قل لي كيف يستطيع عابد المطلق تجاوز هذه المحنة.
أجاب كبير الآلهة: عابد المطلق يدرك أن المجتمعات تجلّي نوعي كارمي. الإنسان الوضيع يولد في مجتمع سافل. الإنسان الفظ القاسي القلب يولد في مجتمع العنف والدموية.والإنسان الدنيء يولد في مجتمع الخساسة. علاوة على ذلك لا يستطيع الإنسان السفر وتبديل مجتمعه إلا بموجب حصيلته الكارمية.وأضاف كبير الآلهة: وكما تكونوا يولّى عليكم, فالمجتمع الدموي لا يستطيع حكمه إلا الطغاة المتسلطين. والمجتمع الأناني لا تحكمه إلا السفلة واللصوص. والمجتمع الدنيء لا تحكمه إلا الكَذَبَةُ والمنافقين. إن النفس تأتي العالم وتختار المجتمع الذي ستولد فيه وفق بصمة طبائعها التي اكتسبتها عبر نشوئها وارتقائها. أما النفوس الإلهية وأبطال المعجزات الكارمية, فتأتي الحياة مختارة أبشع أنواع المجتمعات, وتتخذ ولادتها بين الجهلة والقتلة واللصوص, لتعينهم على تصفية حساباتهم الكارمية كي لا تخلو الدار من الفاضل, وكي تبقى الحقيقة والمرحمة بين ظهراني البشرية, وكي تبقى الصفة الإلهية في الكرم والتضحية متجلّية بين البشر وهم لا يبصرون.ثم أضاف كبير الآلهة: النفوس الإلهية لا تأخذ الحياة بمقاييس الربح والخسارة, ولا تفرق بين التراب والذهب, والحر والبرد, والموت والولادة. النفوس الإلهية تدرك عظمتها, لأنها إذا بصقت على الجحيم أحالته إلى جناة ونعيم!!. الصبية والمراهقين مدّعي الحكمة والقداسة والفلسفة, تبكي وتصيح وتنوح كلما واجهتهم المصاعب والمحن من أمثال القديس والفيلسوف والحاكم, الذين صادفت تيههم وضياعهم, وفرارهم من حياة الطهارة إلى حياة الدعارة.وأكد كبير الآلهة قائلاً: عابد المطلق يدرك أن الحياة أغلى وأثمن من كل حكمة يمكن اختزالها بأي فكر. إنه يعيش حياته الأرضية بحسابات التاجر والمقامر, مقدماً كامل نتائج عمله للحقيقة المتعدية للأنا. إنه رجل التجارب والمصائب والمحن.
#كرار_حيدر_الموسوي (هاشتاغ)
Karrar_Haider_Al_Mosawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟