|
الفن ما بعد ما بعد الحديث
معين جعفر محمد
الحوار المتمدن-العدد: 4956 - 2015 / 10 / 15 - 01:11
المحور:
الادب والفن
الفن ما بعد – ما بعد الحديث Post – Postmodern Art كتابة : ستيفن هِكس ‹1› ترجمة: معين جعفر محمد
يبدأ الفن في ذهن الفرد المبدع. فالفنان يتخذ من خبراته الهامة ، مادة أولية و يخلق لها تجسيدا حسي الادراك. وكل فنان يخلق أحكاما مستقلة لتحديد أي من خبراته و أفكاره يعد هاما . و استثمارا لأفضل حالات مقدرته و بأسلوبه الفريد يسخر كل فنان تقنيات وسيلته الحسية في الاختيار ، لتكون النتيجة الناجمة مادة تحمل في احسن أحوالها ، قوة مرعبة للارتقاء بأحاسيس و أفكار و عواطف أولئك الذين يجربونها . إن أولئك الأفراد الذين، على مر القرون، لبوا نداء الفن، قد طوروه إلى أداة ناقلة للفكر تستلزم أعلى درجات بصائر الرؤيا البشرية الخلاقة، كما تتطلب مهارة شديدة التدقيق. أما الأسماء التي تثير فينا إحساسا بالعظمة ، من نحو: ليوناردو، مايكل أنجلو، رافائيل، رامبرانت، فيرمير.. فترمز إلى أولئك الأفراد الذين وسعوا نطاق الثيمات و الموضوعات، و طوروا ذخيرة تقنيات متوافرة للجيل التالي من الفنانين. لقد خلقت إنجازاتهم حالة للفنان، لا بصفته مجرد رؤيوي أو مجرد محترف ، بل بصفته فردا من طراز خاص تندمج فيه الرؤيا و الحرفة كلتاهما و تتعمقان. و لكن عالم الفن بدأ يفقد الثقة بنفسه، مع حلول منتصف القرن التاسع عشر تقريبا. و لقد كانت أعراض تدهور الفن جزءا من انزلاق عالم الفكر الأوسع نطاقا، في إحساس مفاده أن التقدم، الجمال، التفاؤل، والأصالة الحقيقية...أمور لم تعد ممكنة. أما أسباب الاحساس بالتدهور، فقد كانت كثيرة ، منها أن تصاعد مد الطبيعية naturalism في القرن التاسع عشر، أدى – بالنسبة إلى أولئك الذين لم يتخلصوا من تركتهم الدينية – إلى شعور بالوحدة و بانعدام المرشد في كون فسيح مقفر. كذلك كان ظهور نظريات فلسفية من نحو التشكيكية و العقلانية قد أفضى بكثيرين إلى فقدان الثقة بقدراتهم الادراكية ممثلة بملكة التصور و العقل. أما تطور النظريات العلمية كنظرية التطور و الإنتروبيا entropy (2)، فقد اجتلبت معها تفسيرات تشاؤمية للطبيعة البشرية و لمصير العالم. يضاف إلى هذا، إن انتشار الليبرالية و الأسواق الحرة حدا بخصومهما في اليسار السياسي – الذين كان جلهم أعضاء في حركة الفن الطليعي – إلى رؤية التطورات السياسية سلسلة من خيبات أمل عميقة. هذا بينما أدت الثورات التكنولوجية، التي حفزها توحد العلم و الرأسمالية، بكثيرين إلى استشراف مستقبل تصبح البشرية فيه منزوعة الانسانية و مدمرة بالماكينات نفسها التي كان يفترض أن تحسن نوعهم البشري. و مع الانعطاف الى القرن العشرين، أصبح الإحساس بعدم الاستقرار، الذي شهده عالم الفكر في القرن التاسع عشر، قلقا و شديد التأزم. و قد استجاب الفنانون متحرين في أعمالهم عن الافتراضات الضمنية لعالم بدا فيه أن كلا من العقل، النظام، اليقين، الكرامة، و التفاؤل قد اختفى تماما. أما الأعمال التي هي قطع تهكمية من فن القرن العشرين، فتعبر عن ذهنيات الأسماء الكبيرة التي قد أبدعتها. و هكذا فإن فن القرن العشرين هو عالم بيكاسو المنكسر و المسكون بكائنات مفككة ذات عيون خالية من أيما تعبير ؛ هو نساء و رجال إدوارد هابر غير التناغمين عاطفيا في محيطات settings عليلة بالية ؛ هو الرعب الاستلابي لسلسلة انتجها ويلم دي كوننغ willem de Kooning تحت العنوان « إمرأة » ؛ هو عالم سلفادور دالي السريالي الذي ينطمس فيه الحد الفاصل ما بين حالات أحلام ذاتية و واقع موضوعي ؛ هو ابتذالية أندي وورهل Andy Warhol المصطنعة و تناسخاتها الميكانيكية ؛ هو واقع استولى عليه إدوارد مونش Edvard Munch تنبؤيا في «الصرخة» التي تحكي رعب الصيرورة صفرا في عالم هو ببشاعة دوامة من اشكال لا شكل لها تقريبا near – formless forms . كذلك يعد عالم القرن العشرين قصة تحكي محوه ذاته. فبينما كان كل من بيكاسو و مونش ينظران إلى الواقع و يسجلان ملاحظاتهما الكئيبة، تقهقر آخرون من العالم و شرعوا بتعرية الفن من كل ما استطاعوا تعريته منه. و على أساس أن وسائل الاعلام الأخرى، كالتصوير الفوتوغرافي و الأدب، تستنسخ الواقع و تحكي قصصا عنه، عمد كثيرون الى محو المحتوى من أعمالهم بقدر ما استطاعوا، حتى بلغ الفن حالة أصبح معها دراسة مكتفية بذاتها عن البعد، اللون و التكوين. و لكن لعبة التعرية stripping – away game التي مارسها الفنانون الاختزاليون، سرعان ما ادت إلى تحديات موجهة حتى لتلك السمات. و في دراسات اللون العقيمة التي أنتجها بايت موندريان Piet Mondrian و بارنيت نيومان Barnett Newman اختفى أي إحساس بوجود بعد ثالث. و في لوحة كاسيمير ماليفيتش Kasimir Malevich الأقرب إلى أحادية اللون near – monochrome «بياض في بياض» ، فقد تم التخلي عن التمايز اللوني. و في رسم جاكسن بولوك Jackson Pollock الشاذ «قطرات و رذاذ»، أهمل أي دور للتركيب الفني. و هكذا انتهى المطاف بعالم الفن الى طريق مسدود. فحينما كان يتطلع بعيني بيكاسو و ميونخ, لا يرى قيمة لأي شيء ؛ و إذ ينظر إلى ما كان الاختزاليون قد أنتجوه، يرى انه لم يكتب البقاء لأي شيء فني على نحو استثنائي. و بالإجمال، كان الأعضاء القياديون في عالم الفن قد قرروا أن ليس للفن محتوى , ليست له اية أداة أو تقنيات خاصة، و ليس للفنان أي دور حاسم في العملية الفنية .وهكذا لم يعد الفن شيئا يعتد به أو هو قد أصبح تصريحا باللاشيئة nothingness . إن خلاصة للاستنتاج النهائي أعلنها مارسيل ديوشامب Marcel Duchamp على نحو شائن , و ذلك حينما طلب من ديوشامب تقديم شيء ليعرض في معرض كان يزمع إقامته في العام 1917 , إذ أرسل لهم «مبولة» urinal ! بالطبع كان ديوشامب يعرف جيدا تأريخ الفن ، كان يعرف ما تم إنجازه و كيف كان الفن ، على مر القرون ، أداة ناقلة للأفكار ذات سطوة تستدعي أعلى درجات تطور الرؤيا البشرية الخلاقة، و تتطلب مهارة تقنية تدقيقية ؛ كما كان يعرف ما للفن من طاقة رهيبة للارتقاء بأحاسيس أولئك الذين يختبرونه و ذهنياتهم و عواطفهم . لقد أخزى ديوشامب تأريخ الفن و قرر صياغة بيان فحواه أن الفنان ليس مبدعا كبيرا– كان ديوشامب يتبضع في متجر سباكة ، حيث العمل الفني لا يعد شيئا من طراز خاص، بل هو نتاج جماهيري ينتج في مصانع – و إن خبرة الفن ليست مثيرة للدهشة و مشرفة بل هي في أحسن أحوالها محيرة و في أغلب الأحيان تترك المرء حاملا إحساسا بالنفور. و لكن علاوة على ذلك و الأهم منه، أن ديوشامب لم يقم باختيار مادة جاهزة كيفما اتفق, لغرض عرضها, بل – حينما اختار المبولة – كانت رسالته واضحة: الفن شيء تبولون عليه!! إن الفن بطبيعته يتناول الشيء الهام. فهو يعبر عما يعتقد الفنان و يشعر بأهميته، الى الحد الذي يجعل منه تعبيرا عن كينونة الفنان. و هو بيان موجه الى جمهور عما يعتقد الفنان و يشعر بأهميته، إلى الحد الذي يجعل منه فعل اتصال. و إذ يقرر فنان تكريس أسبوع ، شهر ، سنة أو أكثر، من حياته لإبداع ( هذا ) دونا عن ( ذاك )، فإنما هو يقول لنا أن ال ( هذا) يستحق أن يكرس له وقته و جهده. و إذ يقدم الفنان ثمار جهوده إلى أي جمهور، فإنما يقول لهم إن إبداعه يستحق الوقت و الجهد اللذين ينفقونهما في تأمله. فنحن نربأ بأنفسنا من أن نبدد وقتنا على شيء غير هام أو أن نطلب من آخرين تبديد وقتهم – ما لم نكن راغبين في التعبير عن الاعتقاد الهام بعدم وجود شيء هام على الإطلاق. لقد أصبح ديوشامب و الآخرون رموزا أيقونية iconic figures في تأريخ الفن الحديث. فمن خلالهم ، أصبحت قصة عالم الفن قصة تحكي حالة تفكك ذاتي الوعي. على اية حال, ما إن يتم تفكيك كل شيء, حتى يصبح لكل فنان خياره. فهو قادر على اختيار ان يلعب لعبة السينسزمية (3) و اليأس الجارية حاليا ، آملا في أن يقدم – في أحسن الأحوال – أدنى درجة من العدول هنا و هناك . أو هو يستطيع أن يلقي نظرة حية إلى العالم ليكتشف من جديد الطاقات الكامنة فيه التي كان الفنانون الكبار الأوائل وجهوا عنايتنا نحوها.
إن كثيرا من عالم الفن في الوقت الحاضر , ينأى بمسافة كبيرة عن البناء على أساس الأشكال الانسانية التي أسلبها مايكل أنجلو Michelangelo بقوة، مهارة رمبرانت في رسم الشخصيات ، استعمال فيرمير البارع للضوء . و مع كونه الأقرب زمانيا إليهم ، فإن كثيرا من عالم الفن في أيامنا ينأى بمسافة كبيرة عن جلال أعمال ألبرت بيرستات Albert Bierstadt و فريدريك تشارتش Frederick Church , عن أناقة رسومات جون سنجر سارجنت John Singer Sargent أو غنى رسومات فردريك رمنغتن Frederic Remington . ليس الفنان آركيولوجيا ( عالم آثار – المترجم ) و ليس القصد بعث الماضي و محاكاته بل القصد أن العالم الذي شهدوه و مجمل أشياء أخرى كثيرة ، لا يزال موجودا و لكن خارج المتناول .
ملاحظات المترجم: 1 – ولد البروفيسور ستيفن هكس في العام 1960 في تورنتو , أونتاريو , كندا. في العام 1979 التحق بجامعة غالف حيث نال درجة البكالوريوس في الفلسفة عام 1982 , و في العام 1985 نال درجة الماجستير في التخصص نفسه و في الجامعة نفسها . ثم حاز على درجة الدكتوراه في جامعة إنديانا ، بلومنغتن، في العام 1991 و كانت أطروحته تحت عنوان (( دفاع عن التأسيسية)). من بين أبرز مؤلفاته التي أحدثت أصداء في الأوساط الثقافية و الأدبية ، كتابه (( شرح ما بعد الحداثة: التشكيكية و الاشتراكية من روسو الى فوكو)) و قد ترجم إلى عدة لغات منها البرتغالية ، الصربية ، الفارسية ، الاسبانية ، و السويدية . اعتمدها مفكرون و اكاديميون يمثلون جناح أقصى اليسار السياسي للتعبير عن رد الفعل تجاه فشل الاشتراكية القومية و الشيوعية !! ( ستنشر " الأديب الثقافية " ترجمة لمناقشة نقدية لهذا الكتاب كتبها و نشرها الناقد و الباحث الأكاديمي ستيفن . م. ساندرز ). أما كتابه الهام و الخطير الثاني فهو (( نيتشه و النازية )) الصادر في العام 2006 و أعيد طبعه في العام 2010 . ترجم هذا الكتاب الى البولونية و الفارسية في العام 2014 . يبين هذا الكتاب ماهية الجذور الآيديولوجية و الفلسفية للاشتراكية القومية، كما يبين كيف استعملت أفكار نيتشه ( و أسيء استعمالها في بعض الحالات !) من قبل أدولف هتلر و النازية لتبرير معتقداتهم و ممارساتهم. 2 – entropy الإنتروبيا : مصطلح يعني في أصله اللغوي «الكون» ؛ أما اصطلاحا فيجري تعريبه بال ( إعتلاج ). إن أصل المصطلح ، في اليونانية ، يفيد معنى التحول ، و لكنه استعمل في الفيزياء و الكيمياء ضمن قوانين التحريك الحراري في الغازات أو السوائل حيث ينص القانون الثاني للديناميكا الحرارية على مبدأ أساسي يقول بأن : " أي تغير يحدث تلقائيا في نظام فيزيائي لا بد من أن تصحبه زيادة في مقدار انتروبيته " و هكذا تطورت استعمالات المصطلح " أنتروبيا " ليفيد معنى التحول الى حالات أكثر فوضوية ، مثل انتشار نقطة الحبر في الماء . من هنا مأتى استعمال هذا المصطلح في أدب ما بعد الحداثة دلالة على هذه السمة ( الانتشارية ) و ردم الحدود الفاصلة بين الأجناس. ( المترجم – عن موسوعة الويكيبيديا الألكترونية المجانية ، بشيء من التصرف و الإيجاز ) 3 – السينسزمية : cynicism – في الفلسفة : اشتقاق من "cynic" – « المؤمن بأن السلوك البشري تهيمن عليه المصالح الذاتية وحدها ، و المعبر عن موقفه هذا عادة بالسخرية و التهكم / المترجم عن قاموس المورد » أما في الأدب و الفن فيشير الى أسلوب ساخر غالبا ما يتخذ شكل تورية .
#معين_جعفر_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا نشيد برجا عاجيا : ستانلي فيش
-
روابط سردية في شعر لا سردي
-
هل يستطيع ما بعد الحداثيين إدانة الإرهاب ؟ ... لا تلم النسبي
...
-
النقد الأدبي النسوي
-
نظرية الأدب و تأريخ الأفكار
-
حوارية
-
القصيدة سيرورة سردية : قراءة في ديوان - إنتماءات لمدن الصحو
...
-
المعنى : الحركة من المؤلف إلى القارئ
-
نقد استجابة القارئ لستانلي فيش / كتابة : كريس لانغ
-
قصيدة شعرية
-
مدونة الأعراف
-
بعض خصائص النظرية المعاصرة/ ح 2
-
بعض خصائص النظرية المعاصرة
-
قصيدة رثاء
-
رثائية
-
قصائد قصيرة جدا
-
قصائد شعرية
المزيد.....
-
الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
-
فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف
...
-
تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|