|
الحركة التصحيحية الروسية؟!
سعد الله مزرعاني
الحوار المتمدن-العدد: 4951 - 2015 / 10 / 10 - 13:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يتيح السجال، غير المسبوق تقريباً، الذي شهده منبر الأمم المتحدة منذ حوالى أسبوعين بين الرئيسين باراك أوباما وفلاديمير بوتين كشف الكثير من سياسات وتوجهات القيادتين الأميركية والروسية، وبينها أحد أهم أسباب التدخل العسكري الروسي في سوريا. هذا ينطبق على الموقف الروسي بدرجة أكبر بسبب أن خطة روسيا للتدخل العسكري في سوريا قد كانت منجزة وشبه معلنة. وهي، بالفعل، وضعت موضع التنفيذ فور عودة الرئيس الروسي من الأمم المتحدة حين باشرت طائرات «السوخوي» الروسية غاراتها، بسرعة وتصميم وفعالية، على مواقع متعددة في سوريا.
رغم المظاهر، ليس التدخل الروسي عملاً هجومياً صرف. إنه كذلك فقط في الشكل. أما في الجوهر، فهو يندرج في سياق نهج روسي دفاعي في مواجهة سياسات أميركية خصوصاً وغربية عموماً عملت، دون كلل، على إضعاف روسيا: من الخارج، بكل أشكال الحصار السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي، ومن الداخل عبر محاولات متواصلة لمنع قيام سلطة مختلفة عن حكم المافيات المدعوم من الغرب والذي كان قائماً في مرحلة حكم الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين. في وجه سلطة الرئيس بوتين أثيرت تباعاً مشاكل لا تنتهي: الحريات وحقوق الإنسان. ومسألة تجديد ولاية الرئيس الروسي وتعديل الدستور. ودعم تحرّك المعارضة الداخلية بما فيها التمرد الشيشاني. وتحريض الدول التي كانت جزءاً من المنظومة السوفياتية السابقة وعقد معاهدات وإبرام اتفاقيات سياسية وأمنية استفزازية مع تلك الدول، موجهة، تحديداً، ضد الدولة والقيادة الروسيتين (بما في ذلك نصب منظومات دروع صواريخ سعياً لتحجيم القدرات العسكرية الروسية وتحويلها إلى قدرات محض دفاعية). كان على بوتين أن يوطد دعائم حكمه في الداخل: ضَرَبَ، أو حجَّم، أو استوعب (في نطاق سلطته) إمبراطوريات المافيات الروسية في الحقول الأساسية، ومنها الإعلام بالدرجة الأولى. عزَّز قبضته على الجيش والأجهزة الأمنية، وهو الضابط السابق في المخابرات السوفياتية. لجأ إلى المناورة تجنباً لتعديل الدستور، عبر اعتماد صيغة التناوب مع صديقه وتلميذه مدفيديف. استخدم أقصى العنف لمواجهة حركة الانفصال الشيشانية الداخلية التي كانت تغذيها الاستخبارات الغربية والسعودية. كشَّر عن أنيابه في جورجيا. قدم مساعدات تعادل الرشوة للاحتفاظ بحكم حليف في أوكرانيا. لجأ، أحياناً، إلى تصفية جسدية لأخطر خصومة ممن استهدفوا نظامه بدعم من الخارج. لكن بعض نجاحاته في مواجهة الهجوم الأميركي والغربي ظلت قاصرة عن وقف الهجوم الشامل على نظامه، والذي اتخذ أبعاداً دولية، أمنية وسياسية خطيرة، بعد غزو العراق واحتلاله وتغيير نظامه بالقوة العسكرية المباشرة، ولاحقاً، بعد استغلال وتشويه أهداف الاحتجاجات الشعبية، في عدد من البلدان الشرق أوسطية (ولاحقاً أوكرانيا)، بغرض تحويلها إلى نسخة حيّة من «الفوضى الخلاقة» التي روَّج لها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن وحلفاؤه «المحافظون الجدد» في نطاق مشروع «الشرق الأوسط الكبير». كان بوتين قد احتجّ، منذ الغزو الأميركي للعراق، على محاولة الإدارة الأميركية «التفرد بإدارة العالم» عبر الجنوح نحو الغزو والاجتياح بالقوة العسكرية وخلافاً لمبادئ الشرعية الدولية. بعد استغلال عدد من احتجاجات «الربيع العربي»، استشعر بوتين اقتراب الخطر من سلطته أكثر عبر إثارة المشاكل والفوضى في البلدان المستهدفة تمهيداً لتغيير أنظمتها في خدمة سياسات الهيمنة الأميركية دون تحمل أعباء تدخل عسكري أميركي مباشر كما كان يحصل في عهد «المحافظين الجدد». المشاركة الواسعة لمقاتلين روس شيشانيين في القتال في سوريا وتحقيق نجاحات كبيرة لمصلحة المتطرفين، هو ما أثار القلق الأكبر الذي عبَّر عنه الرئيس الروسي في خطابه في الأمم المتحدة، رافضاً نهج التواطؤ مع الإرهاب والإرهابيين لتغيير الأنظمة ولو أدى ذلك إلى الفراغ وإثارة الفوضى اللذين يوظفهما الإرهابيون لتوسيع نفوذهم واستهداف بلدان جديدة. إن نجاح المتطرفين في سوريا سيفتح الطريق واسعاً أمام إمكانية ممارسة تأثير غير محدود على عشرات الملايين من المواطنين ممن يعتنقون الديانة الإسلامية في الداخل الروسي وفي الجمهوريات الآسيوية الواقعة على الحدود الروسية. رئيس الورزاء الروسي، من جهته، عبَّر عن هذه الخشية مباشرة في حديث جديد له بعد انطلاق العملية الجوية في سوريا: «نقاتلهم هناك (في سوريا) لكي لا نقاتلهم هنا بعد عودتهم (منتصرين ضمناً) إلى بلادنا!». هذا هو الجوهر الدفاعي للعملية الروسية في سوريا. أما تكتيكياً، فقد استفادت القيادة الروسية من الارتباك الأميركي ما بين هدفي القضاء على سلطة الرئيس السوري بشار الأسد واستنزاف حلفائه (بمن فيهم الروس)، وتعاظم خطر الجماعات الإرهابية التي حققت نجاحات هائلة وبات خطرها يُهدد العالم أجمع، ما اضطر الإدارة الأميركية إلى إعلان الحرب الشاملة عليها وتشكيل تحالف محلي ودولي من أجل ذلك. أدى الارتباك الأميركي، وتضارب المصالح بين حلفاء واشنطن في المنطقة (السعودية وتركيا خصوصاً)، والفشل الذريع لبعض تجارب التدخل (خصوصاً في ليبيا) وتكرار الأخطاء التي اعترف ببعضها الرئيس الأميركي نفسه، إلى توفير فرصة استفاد منها الرئيس الروسي إلى الحد الأقصى: إعطاء شعار الحرب على الإرهاب مضموناً جديداً، محرجاً للشعار الأميركي الذي بقي غالباً ذا طابع إعلامي وموظفاً في خدمة سياسات أميركية مناورة وانتظارية لتغيير التوازنات التي كانت قد بدأت، أخيراً، تختل في سوريا لمصلحة الجماعات الإرهابية المتطرفة التي تمكنت من إنهاك وتشتيت قوى الجيش السوري. إذا كان الهجوم هو، أحياناً، أفضل أنواع الدفاع، فإن القيادة الروسية تهاجم في سوريا، ليس فقط من أجل الدفاع عن النظام السوري، بل أساساً، من أجل الدفاع عن النظام الروسي نفسه! يتحدث القادة الروس عن الأميركيين والغربيين عموماً بوصفهم «شركاء». اكتشف المسؤولون الروس أن هؤلاء لن يقبلوا «الشراكة» ما لم يتكرس توازن جديد تفرضه روسيا بمناعة وضعها الداخلي وتحصنه بمبادراتها وتحالفاتها وتشبثها بمصالحها ودورها الدوليين في مواجهة الحصار الأميركي والاستفزازات التي ينفذها ضدها حلفاء واشنطن، وخصوصاً منها معركة النفط التي أربكت الوضع الاقتصادي الروسي وأدخلته في ركود خطير وألحقت أضراراً كبيرة بالمواطنين الروس الذين تراجعت مداخيلهم إلى ما يقارب النصف. لا شك في أن الرئيس الروسي قد استغل صعوبات الإدارة الأميركية الحالية، التي ورثتها عن الإدارة «البوشية» السابقة. ولذلك هو لجأ إلى المبادرة والإقدام في حين تتسم السياسة الأميركية بالحذر والإحجام. مهمته ليست سهلة أبداً: لا في سوريا، ولا في المنطقة ولا في العالم. التدخل الخارجي (العسكري خصوصاً) ليس مقبولاً من حيث المبدأ. لكن التدخل الروسي وقع إثر مسلسل تدخلات متعددة في سوريا، وقد تنتج منه عملية تصحيح للعلاقات الدولية عموماً وللعلاقات الأميركية الروسية خصوصاً. ثم إن العملية الروسية تطرح ضرورة الالتزام الحقيقي بملف مكافحة الإرهاب، ما يضفي على العملية الروسية، في حال النجاح والمثابرة، سمة إنقاذية عامة تذكّر، بطريقة ما، بالتضحيات والبطولات الروسية (السوفياتية) في مواجهة النازية والفاشية في الحرب الكونية الثانية. سيستفيد العرب من التناقضات والتطورات الراهنة لو كانت لديهم سلطات تدافع عن مصالحهم. وفق المجريات الحالية لا ضمانة أبداً، رغم المظاهر، لتفادي أن يكونوا الخاسر الأكبر عندما تقرر الساحات والتوازنات مصير التسويات. منطقتنا هي الآن الأكثر اشتعالاً والأكثر معاناة. السبب يعود ليس فقط إلى أطماع الخارج، بل، أساساً، إلى اختلالات الداخل الناجمة عن سوء الأنظمة والحكام بالتكافل والتضامن والمسؤولية!
#سعد_الله_مزرعاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من الطائفية إلى العنصرية
-
خللان لا خلل واحد!
-
سؤال روسيا... والتنويه بدورها
-
تداركاً للفوضى والعنف والتآمر...
-
مهمات متداخلة لمشروع التغيير
-
الصحوة والسخط المقدسان
-
التعقيد والاستعصاء السوريان
-
هل بدأ التغيير؟ لا بد من ذلك!
-
معادلة المعرِّي هي الأنبل!
-
اتفاق واشنطن وطهران
-
أردوغان: هروب التاج؟!
-
السياسة والدين والقضاء
-
الأنانيات والفئويات سبب استعصاء الأزمات
-
المحنة السعودية: مقاربة بديلة
-
التفتيت بالفئويات والعصبيات والتآمر
-
واشنطن وطهران وما بينهما
-
«عقيدة» أوباما الجديدة
-
نقد الأخطاء لتحسين الأداء
-
من سوريا إلى اليمن
-
«الأمانة» والأمانة!
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|