|
الريادة في القصة العراقية : ذو النون أيوب
بتول قاسم ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 4945 - 2015 / 10 / 4 - 14:19
المحور:
الادب والفن
الريادة في القصة العراقية :
ذو النون أيوب
مقدمة : ــ
في الصغر كنت أقرأ القصة وسيلة تسلية...لم يكن ليعنيني منها سوى الحادثة ، ومتابعة الشخوص في تنقلاتهم .. لذا كنت أضيق بما يكتنف ما أقرأ من وصف وإطالة سرد فإذا قرأته قرأته على مضض ، وقد أجتازه باحثة عما يربط الأحداث بعضها ببعض ، ولم أكن أفكر بما ترتبط به القصة من غايات فكرية وتصورات عميقة في الحياة .. ثم وفي مرحلة الشباب والنضج في التفكير أستعضت عن قراءة القصة بقراءات أخرى في الفكر والفلسفة وجدت أنها تغني أكثر مما تغني قراءة القصة التي كانت غايتي من قراءتها التمتع والتسلية .. وهكذا بقيت إلى أن كلفت ومن الدكتور علي جواد الطاهر - الذي درسنا مادة النقد الأدبي الحديث في كلية الأداب جامعة بغداد - إلى أن أعود أليها ومن خلال قصص (( ذو النون أيوب )) قارئة ، ناقدة .. كلفني الدكتور الطاهر أن أسجل رأيي بشأن الناحية الفنية لرواية (الدكتور إبراهيم) ولما قرأتها فاجأتني صراحة القاص وجرأته ومواقفه الشجاعة الى جانب القضايا الوطنية والإنسانية العادلة التي تتطلب موقفا صارما منحازا الى جانب الشعب والوطن ، فكان أن كسبني إلى جانبه ورضيت مع هذه الصراحة العجيبة والمواقف الشجاعة أن أغفر له ما يمكن أن يؤاخذ عليه من عيوب فنية فيها .. وهكذا انتبهت الى ما لم يكن يعنيني في الصغر وهو أن القصة تتضمن أفكارا وترتبط بغايات وتدفع الى مواقف ووجدت أني أنحاز الى الكاتب ورحت أسعى لقراءة أعماله الأخرى فازداد به إعجابا .. ثم قررت أن أكتب بحثا عنه ، وعدت إلى بحوث في ميدان القصة العراقية , فوجدت أغلبها يقف عنده ويفصل في الحديث عنه .. ولكني مع ذلك وجدت هذا التفصيل قاصرا عن الوقوف عند سمات مميزة لأدبه فلم يعطها حقها من الدراسة المستفيضة العميقة ، وأن هناك الكثير الذي جاء من خلال هذه الدراسات قليلا ، وهناك العميق الذي جاء سطحيا ، والبارز الذي جاء ضئيلا.. وبعد ذلك لا أقول إني وفيت ما قصر عنه الآخرون وحققت ما لم يحققوه .. ولكني اكتفيت بأن أشرت إلى ما لم يُشر إليه وعيّنت ما لم يعيّن وأكدت أهمية ما لم يعط أهمية كافية ..
من حياة (ذو النون أيوب) :
الأديب هو ابن بيئته التي عاش فيها وظروف تلك البيئة وأحداثها التي تسهم إلى حد بعيد في التأثير في ذلك الأديب وبالنتيجة التأثير في أدبه وتشكيله . وإذا جاز لبعض الدارسين أن يدرسوا آثار أديب معين بغض النظر عن الظروف المحيطة التي عاش فيها والأحداث التي عاصرها مما أسهم إلى حد بعيد في تكوينه النفسي والفكري ؛ فإن ذلك لا يجوز عند دراسة أدب (ذو النون أيوب) ، فأدبه يرتبط ارتباطا وثيقا به ، وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بظروف حياته . ومن هنا جاء أدبه معبرا عن هذه الظروف التي عاش فيها ، لا ينفصل عنها أبدا .. لقد جاء أدبه يعبر عن ذاته ؛ ولكن ليس بالمعنى المحدود للذاتية ، المعنى الضيق الذي باعتباره يمكننا أن ندرس الأثر الأدبي مجردا من علاقاته الأخرى ، ولكن بمعنى الذاتية الواسعة .. الذاتية التي تتوسع لتحتضن قضايا الآخرين قضية لها ، حتى كأنها قضيتها الخاصة ، وحتى نحس كأنه عاش للآخرين ، ومن خلاله عرفنا هؤلاء .. كان يسجل ظروفهم وواقعهم حتى جاء أدبه وثائق تاريخية لتلك الظروف وذلك الواقع .. ومن هنا ومرة أخرى نقرر أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن ندرس أدب (ذو النون أيوب) بغض النظر عن دراسة تأريخ حياته ، ظروف بيئته الاجتماعية ، دراسة النفسية الاجتماعية ، دراسة الأحداث التي عاصرها .. وبدونها لا يمكننا أن نفهم أدبه ولهذا جاءت أكثر دراسات أدبه وهي تؤكد هذا الترابط .. وعلى هذا أيضا يقسم الدكتور عبد الإله أحمد - وهو أحد الذين اهتموا بدراسته - أدبه على ثلاث مراحل ، رابطا أدبه بحياته لأنه يرى ما قررناه سابقا .. لا نحاول هنا أن نعرف كل شيء عنه مما كتبه هو عن نفسه ومما كتبه الآخرون لأن هذا ما لا تسمح به هذه الدراسة ، وسنكتفي فيها بهذه اللمحات اليسيرة التي تشير الى المهم والى الذي ساهم في نوجيه حياته الأدبية : (ولد أيوب في الموصل سنة 1908 من أب تاجر متوسط الحال وأم ذات صلة قربى بالقبائل المحيطة بالموصل .. بدأ تهذيبه في الكتاب على الطريقة القديمة ثم نقل إلى مدرسة أهلية ساهم أبوه في تأسيسها بعد الاحتلال الانكليزي لمدينة الموصل وأكمل دراسته الثانوية ، فشد الرحال إلى بغداد ودخل دار المعلمين العالية في أول تأسيسها وتخرج منها مدرسا مختصا بالعلوم الطبيعية والرياضية)(1) وهكذا اتجه في بداية حياته العملية اتجاها علميا ، واصبح استاذا للعلوم الرياضية والطبيعية في المدارس الثانوية ببغداد واستمر يدرس هذا الفرع البعيد عن الأدب فترة طويلة قبل أن ينصرف للقصة يكتب فيها . وتكشف لنا حقيقة هذا الانصراف قصة ( مؤامرة الأغبياء ) التي نشرها في مجموعته الرابعة ( وحي الفن ) وهي من قصص التراجم الذاتية التي تتحدث عن كاتبها حين تتحدث عن بطلها ومراحل تطوره الفكري ، وقد أكد أيوب خطوطها العامة في أكثر من مناسبة حين تحدث عن قصصه أو عن تجربته في الكتابة وعوامل انصرافه اليها . وتكشف هذه القصة عن تعلقه المبكر بالقصص منذ المرحلة الأبتدائية من دراسته حين كان يستمع الى ما تقصه عليه إحدى عجائز محلته وحين منع أبوه هذه القاصة العجوز من دخول بيته وجد ضالته في بيت أحد أصدقائه الذي كان يقع قرب مقهى يقرأ فيه ( قصة خون ) قصص ألف ليلة وليلة أو سيرة عنترة أو أخبار الزير سالم أو فيروز شاه . ثم تعرف على هذه القصص قراءة بعدما تعرف عليها سماعا . وفي المدرسة يكتشف أحد معلميه اهتمامه هذا فيعطيه أحدى قصص جرجي زيدان التاريخية ثم قرأ جميع مؤلفات جرجي زيدان التاريخية . وبعد ذلك بدأ بمطالعة الروايات البوليسية وقصص المغامرات فلم تسلم من يده قصة . ثم اتجه الى قراءة القصص الغرامية فقرأ كل ما وقعت عليه يداه منها . وقبيل انتهاء دراسته الثانوية انضم الى زمرة من الطلبة المتحمسين الذين كانوا يتشبهون بالكبار من رجال السياسة والعلم والأدب فيؤسسون الجمعيات ويتباحثون في شتى الشؤون ، وفي هذه الزمرة وجد من يعيب عليه قراءة القصص ويتباهى بأنه يقرأ كتب الفلسفة وشتى أنحاء الفكر . فاضطر الى مطالعة هذه الكتب ولكنها لم تصادف هوى في نفسه وقادته الى قراءة الطوبيات والتراجم وكان قد أتقن اللغة الانكليزية اتقانا يمكنه من فهم ما لم يترجم الى العربية . ومع مرور الأيام لم تعد قراءته لقصد التسلية بل ابتغاء التلذذ بدراستها وانتقادها ، ثم تحولت دراسته الى دراسة علمية وكان ذلك نقطة التحول في حياته إذ اختار في دراسته العالية وكما قلنا تخصصا علميا خلافا لما نشأ عليه من تعلق بالقصة والأدب على أنه لم ينقطع عن قراءة القصة وقد حدث أن وقع بصره عفوا على قصة (الجريمة والعقاب )لدستويفسكي فاستولت على مشاعره وخلبت لبه وكان أن قرأ القصة ثلاث مرات وكانت هذه الحادثة بداية دور جديد في حياته فقد عرفته بكاتب فذ فسعى الى قراءة نتاجه الآخر . ويرجع الفضل لدوستويفسكي في ولعه بالأدب الروسي فانكب على مطالعة مؤلفات تولستوي وتورجنيف وبوشكين وغيرهم .وقد قاده هذا الى أن يبحث عن شبيه هذا الأدب التحليلي في آداب الأمم الأخرى وقاده بحثه الى أناتول فرانس والفونس دوديه وبول بورجيه وهنري بوردو وموبسان واميل زولا وهوجو وفولتير ومارسيل بريفو وشو وويلز ودكنز ومارك توين وادكار الن بو ولويجي براندللو وماريا ريمارك . ثم تخرج في كليته وانخرط في الحياة العملية يحمل مثله الخاصة التي بذرتها الكتب في قلبه وعمل بهمة ونشاط ولكن قيم مجتمه أدت الى أن يصطدم بهذا الواقع وكان رد فعله عنيفا عاتيا فقر قراره على القيام بخدمة وطنه واختار أن يكتب سلسلة مقالات يشرح بها وجهة نظره ويبرهن على فساد الأنظمة ، وبدأ يكتب وكم كانت دهشته عظيمة حينما وجد أنه يكتب فصلا من قصة ولكن ذلك لم يثنه فاندفع يكتب حتى أتم رواية كبيرة مزج فيها الفن بالنقد والنكات بالمآسي والأحلام المعسولة بالشكوى المريرة . وفي هذا تأكيد أن (ذو النون أيوب ) كان همه أن يكتب المقالة الإجتماعية للتنديد بواقعه الاجتماعي فوجد نفسه نتيجة قراءته في القصة مسوقا الى أن تأخذ مقالته الشكل القصصي.. (2). ولقد شارك في تحرير مجلة ” العصر الحديث ” ومجلة ” المجلة ” في ثلاثينيات القرن الماضي ثم أصبح رئيسا ً لتحرير الأخيرة في الأربعينيات ، وفيها كان الكاتب يتقلب بين وظائف عدة في وزارة المعارف ما بين أستاذ في مدرسة ، وأستاذ في معهد الفنون الجميلة ، إلى مدير المعهد) (3) وقاده اهتمامه بالسياسة حتي أصبح علي حين غرة عضوا ً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي . ولأنه لا يخضع في الرأي ولا يلتزم بتنظيم وكان يشاكس لذا فصل من الحزب بعد عام واحد فقط من انتمائه (من تشرين الثاني 1941 إلي تشرين الثاني 1942) وفي العام 1947( دخل السجن لتعريضه بالحكومة ومحاربته لها ) (4) .. وبعدها قرر الترشيح للمجلس النيابي ضمن الجبهة الوطنية كشخص مستقل . وإذ يخوض التجربة في 1948 في الموصل يفشل بفارق صوت واحد .. و(لم تكن طريقة الانتخابات نزيهة لكنه يعيد التجربة ثانية في 1954 .. عندما تغيرت إلى حد ما طريقة الانتخابات .. ويفوز كمستقل ضمن الجبهة الوطنية المعارضة للاستعمار ولحكم نوري سعيد .. غير أن السلطة الرجعية تغلق المجلس بعد جلسة واحدة فقط) . ثم ضويق بعدها كثيرا ولم يستطع العودة إلى الوظيفة ، إنما أحيل الى التقاعد بسبب أن قانون المجلس لا يسمح للنائب أن يعمل في مكان أو وظيفة غير المجلس النيابي. كان راتبه التقاعدي 30 دينار ولم تكن له موارد اقتصادية .. تشبث بأعمال حرة بسيطة ولم يوفق .. ويقرر في 1955 مغادرة العراق إلى فيينا ليستقر فيها فمجال الاطلاع والتمتع بالفنون والتذوق الحضاري واسع جدا وهناك يكتب مجموعته (قصص من فينيا)، واستمر في الكتابة لتظل ممارسته الدائبة ، ومصدرحريته كما يقول .. (5) ولقد انقلب على أفكاره ومواقفه السابقة ونال من الشيوعية واشتراكيتها ومن الشيوعيين وقال ان سلطة البعث جاءت (بهم الى الوزارات واعتبرتهم حزبا وكونت معهم جبهة دون ان يكون ذلك عن خوف منهم بل انتشالا من الحضيض ) وتقرب من سلطة حزب البعث وامتدح قياداته وعلى رأسها صدام حسين الذي مجد حتى حربه المدمرة . وأثنى عليهم عندما وصل اليه انهم سيسندون اليه منصبا كبيرا وكانت له بعض المطالب المادية وهو تحويل تقاعده الى فيينا مع حرية رجوعه الى بغداد وقد اجيب الى طلبه ، وهو يقول ان الشائعات اشيعت حوله بأنه قد اشتري وسقط وقبل باليسير لقاء بيع قلمه(6) . وقد كتب عقب تكريم النظام له والاستجابة لمطالبه : (واشكر هذا النظام الذي ما كان لي به من علاقة غير اتفاقنا في المبادىء العامة الانسانية ، بله الوطنية والقومية )(7) . وقد قابلت وزارة الإعلام في عهد النظام السابق مواقفه هذه بأن أعادت طبع جميع آثاره بين العامين 1937 ــ 1970 في أربعة مجلدات يحتوي المجلد الأول على مجموعات القصص الصغيرة الآتية ، المجموعة الأولى : (رسل الثقافة) ، الثانية (الضحايا) ، الثالثة (صديقي) ، الرابعة (وحي الفن) ، الخامسة (الكادحون) ، السادسة (برج بابل) ، السابعة (العقل في محنته) ويحتوي المجلد الثاني على المجموعة الثامنة (حميات) ، والتاسعة (الكارثة الشاملة)، العاشرة (عظمة فارغة) .. والحادية عشرة (قلوب ظمأى) .. الثانية عشرة (صور شتى) .. الثالثة عشرة (قصص من فينيا) .. الرابعة عشرة (قرن اللاجئين) .ويحتوي المجلد الثالث على الروايات الآتية : (الدكتور إبراهيم) و (اليد والأرض والماء) و (الرسائل المنسية) و (على الدنيا السلام) .ويحتوي المجلد الرابع على مجموعة مقالات في كتابين ، عنوان الأول (مختارات ذو النون أيوب) والثاني (على وهج الذرة) وأنجز تعبيرا عن علاقته الجديدة بالنظام السابق قصة تحت عنوان (بعث في تموز) قال يصفها في رسالته الى صدام حسين بأنها ( وضعت انتصارا لكم ..قدمتها قبل سنة هدية مني إليكم )(8). وقد قوم ( ثورة 14 تموز في العراق في كتيب بعنوان : للحقيقة والتاريخ كما قوم ثورة 17 – 30 تموز حين بلغت العاشرة من عمرها بكتيب اخر بمساهمة محمود خالد )(9).. وفي الثمانينيات كتب قصة حياته بقلمه في ثمانية أجزاء . . ولقد قال إنه يصر على الاستمرار بالتأليف والترجمة حتى يموت ويصر على نشر ما يكتبه ، إذ يعتقد أن الحياة لا معنى لها بدون ذلك. ولقد توفي في النمسا عام 1988 ودفن في بغداد .
ذو النون أيوب والقصة العراقية :
بدأ ذو النون أيوب الكتابة الأدبية منذ العام 1933 ، وبدأ كتابة القصة في العام 1935 بقصة ( صديقي) التي نشرها في صحيفة (الطريق) وكان مفهوم القصة الحديثة قد ترسخ في العراق واتسعت دائرة قرائها وكتابها على حد سواء وكتب فيها العديد من المحاولات القصصية الموفقة وغير الموفقة مما حدد اتجاهها ووضعها على أسس من الفن أمتن . ولقد كان للمحاولات المخلصة الجادة التي بذلها محمود أحمد السيد وغيره من القصاصين سواء أكان ذلك في كتابة القصة الحديثة أم في الترجمة عن لغات أخرى ما مهد الطريق وهيأ منطلقا جديدا للقصاصين . ولقد استطاعت القصة العراقية ان تشهد في خلال مدة قصيرة من عمرها ولادة آثار فنية تشبه الآثار المصرية واللبنانية التي صدرت في ذلك العهد ومن هنا كان المناخ صالحا لـ(ذو النون أيوب) لكي يتجاوز ما كنا نلمسه في المحاولات القصصية الأولى في العراق من تردد وضعف ولكنه لم يستطع أن يفعل ذلك في جميع أعماله ، ولم يستطع في الجيد من هذه الأعمال أن يصل الى قمة تطورهذا الفن ونضجه فإن هذا كان من نصيب كتاب آخرين . ويعد نتاج (ذو النون أيوب) امتدادا للنهج الذي خطه محمود أحمد السيد ووضع أسسه فهو ينطلق من مدرسته في القصة فكان ينطلق من المجتمع العراقي يصوره تصويرا صادقا ويتأثر الأدب القصصي الغربي وخصوصا القصص الروسية المتمثلة في نتاج كبار كتابها : دوستويفسكي وتورجنيف ومكسيم غوركي وجوجول وغيرهم . كان من همه ان يكتب المقالة الاجتماعية للتنديد بواقع اجتماعي معين أثاره فوجد نفسه نتيجة قراءاته في القصة مسوقا الى ان تأخذ مقالته الشكل القصصي 0 وجاءت أكثر قصصه وهي أقرب الى أن تكون مقالات اجتماعية أو سياسية من أن تكون قصصا . ومما يؤكد قوة هذا الاتجاه عنده أنه كان يحرص على أن تضم كل مجموعة من القصص ما يتعرض لناحية من نواحي المجتمع او لمشكلة من مشاكله حتى لكأن كل مجموعة قصصية من مجاميعه كتاب بحث يدرس هذه المشكلة من جوانبها المختلفة . وبسبب من اتجاه المؤلف هذا وبسبب من أن قصصه حرصت على عرض كثير من الحقائق الاجتماعية والسياسية على نحو من الجرأة والشجاعة في الثلاثينيات أصبح لهذه القصص قيمة اجتماعية كبرى لا يمكن اغفالها وأصبحت دراسة هذه القصص دراسة لمرحلة من تاريخ العراق السياسي والاجتماعي وعرضا لمشاكله التي كان يعانيها على نحو صادق أصيل وكان لذلك الفضل الأول في شهرة كاتبها واتساع دائرة قرائه على نحو لم يحققه كاتب عراقي قبله ولا بعده .(10) كان (ذو الون أيوب ) أبرز وأشهر كتاب القصة في الثلاثينيات والأربعينيات بعد محمود أحمد السيد الرائد الأول . وقد فرض اسمه على المجتمع الواسع بما قام عليه قصصه من التزام سياسي اصلاحي اجتماعي يخالف به المألوف وينحو به الى التحرر ويعارض الحكم القائم .. وكان الناس يطلبون ذلك والوعي العام يسعى اليه ويبحث عنه . ومن هنا صار ذو النون ايوب (استاذا ) تبعه كثيرون وتأثروا به ونهجوا نهجه فكانوا ساسة ومصلحين واجتماعيين . ولكن (ذو النون أيوب) تهمه الفكرة اولا ويقوم نهجه على البساطة (والبساطة وحدها) ليسهل تناوله ويعم تأثيره ، ولأنه لم يأت القصة عن طريق الأديب وإنما أتاها عن طريق السياسي – الاجتماعي ، ضغف عنصر الفن لدى الإدارة واللغة والتصوير تحت وطاة طغيان المضمون . ولم يخطىء كثيرا من رأى في قصصه ضروبا من المقالات الصحفية . ولا أدل على تأثير (ذو النون أيوب) من قراءة لمجموعة أصدرها شاب اسمه عبد الملك نوري سنة 1946 باسم (رسل الانسانية ) . ونخص بالذكر عبد الملك نوري لما سيكون له ولجيله ممن شرعوا يكتبون في الاربعينيات ( وتتضح معالمهم في أواخر هذا العقد ) من تقدم على نهج ذي النون أيوب ( وتمرد أيضا ) . لم يكن (ذو النون ايوب) وحيدا في الميدان فمعه وقبله وبعده اسماء تذكر محاولة التميز ومحاولة نقاطا من الفن وهم : أنور شاؤول ، شالوم درويش ، يوسف متي ، جعفر الخليلي ،عبد الحق فاضل ، عبد المجيد لطفي .. وعشرات آخرون لم يكن الزمن في مصلحتهم وكان (ذو النون أيوب) و –ظل – أبرزهم وأكثرهم تأثيرا . وإذا كان ل(ذو النون أيوب ) فضل ادخال النوع القصصي الى المجتمع العراقي فقرأ قصصه من لا يقرأ القصص وشرع اسمه يذكر الى جانب اسماء الشعراء إذا ذكر الأدب العراقي والأدباء العراقيون .إذا كان .. وقد كان .. فأثره في المسيرة الفنية ليس كذلك وقل كان سيئا حين عاق الخط التي جد محمود احمد السيد في رسمه وحين عاق ظهور المفهوم الصحيح المتكامل من وحدة الشكل والمضمون لدى الذين نشأوا معه أو في ظله .. ولكن لابد من أن يصح الصحيح ، وأن يجد ما يعيد المياه الى مجاريها ويصل ما انقطع. وقد حدث هذا فعلا لما اتسع من ميدان الثقافة وفتح من آفاق الفن وجرى من اتصال الداخل بالخارج ورجوع الشباب الى تجاربهم الخاصة واتصالهم بالجيد المصري وبالمترجم العالمي وفيهم من مكنته لغته الاجنبية او صحبته المباشرة لمتمكن من لغة اجنبية في الذهاب الى ابعد ما ذهب اليه المصريون والسوريون.. لقد مضت جماعة من الخمسينيين في التقدم الفني ضمن المنظور الواقعي او الواقعية النقدية واستطاعت أن تتجاوز نهج (ذو النون أيوب) فعنوا بإدارة القصة وخففوا من المباشرة وابتعدوا عن المقالة وخرجوا قليلا الى الاحوال النفسية والمعاني الانسانية العامة ولكنهم يبقون مع ذلك – ومع تقدمهم الفني الصق بالخط الواقعي العام وشرع عدد هؤلاء يزداد ، واذا كان لابد من الاقتصار على الابرز فيهم ذكرنا : شاكر خصباك ومهدي عيسى الصقر وغائب طعمة فرمان ..(11) .. أصدر(ذو النون أيوب) ست مجموعات قصصية بين عامي 1937 – 1939 ولم يحافظ نتاجه الذي كتبه خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها على المستوى الفني الذي حققه في بعض مجاميعه القصصية بل سجل تراجعا محسوسا بحيث انحسر الفن القصصي وجفت العاطفة وساد البرود سرده وأخذ يعيد نفسه فلا يقدم جديدا ويبدو أن ذو النون أيوب وقد شفى غليله فيما كتب وخفت حدة الحافز الاجتماعي الذي دفعه الى الكتابة لم يجد عنده ما يكتبه لذلك نضبت عاطفته ففقدت قصصه نتيجة لذلك حرارتها وصدقها المتدفق العنيف فانعدم تأثيرها في قارئها الذي كان يجد في كتاباته الأولى واقعه مرسوما بدقة وجرأة متناهيتين . ولا يعود الى مستواه السابق الذي حققه في مجموعتيه الخامسة والسادسة إلا في مجموعته الحادية عشرة (قلوب ظمأى) التي نشرها في العام 1950 إذ يعود الهدوء والاستقرار الأسلوبي اليه فيقدم قصصا ذات مسحة حزينة صادقة اللهجة ولعل ذلك يعود الى أنه كان تحت وطأة مشاعر صادقة دفعته الى كتابتها بعد خيبة أمله في الحصول على كرسي في مجلس النواب إذ رشح نفسه في العام 1948 للانتخابات العامة ولكنه خسر المعركة الانتخابية. ونحس هذه الجودة التي لمسناها في (قلوب ظمأى ) في مجموعتيه الأخيرتين ( صور شتى )عام 1954 و(قصص من فيينا ) عام1957 التي حاول فيها أن يسلك سبيل القصة الحديثة من حيث صياغتها الفنية . وهكذا نرى أن (ذو النون أيوب ) لا يكتب جيدا الا إذا سخط وأثاره شيء ، على أن نتاجه الأخير في القصة بالرغم من جودته لا يرقى الى مستوى القصص التي أخذ يكتبها الجيل الجديد من القصاصين بعد الحرب العالمية الثانية أمثال عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي فلم يعد والحالة هذه عامل دفع للقصة العراقية ولا شاهد تطور عليها شأن نتاجه الأول فيها(12).
السمات المميزة لأدبه
1 ــ التأثر بالأدب العالمي والانعكاس عنه :
توفرت الأسباب التي جعلت أدباء هذه المرحلة ومنهم (ذو النون أيوب) على صلة مباشرة بالثقافة العالمية وتمثلها والوعي ومنها معرفتهم باللغات الأجنبية التي مكنتهم من الاطلاع على آداب الأمم الأخرى وترجمتها.. ( ولعل أضخم الجهود التي بذلت في سبيل الترجمة هي جهود أيوب ولا يسع للقارئ إلا أن يكبر في هذا الرجل روح الجد والمثابرة إذا علم مبلغ معرفته باللغة الأجنبية ومبلغ ماعاناه في الرجوع إلى القاموس ليدرك معاني الكلمات .. وكانت فاتحة أعماله الأدبية ترجمته لقصة (المعطف) للكاتب الروسي كوكول .. نشرها في مجلة صدرت في العراق مدة وجيزة أسمها (الطرائف المصورة) ، كما ترجم فصلاً من الأخوة كارامازوف أسمه (المفتش الأعظم) نشرته له مجلة (الغد) لصاحبها المرحوم رؤوف الجبوري. وترجم سنة 1934 قصة (المكفول) للكاتب الروسي جيركوف نشرتها له جريدة الأهالي البغدادية .. كما أشتراك بترجمة قصة الأم لمكسيم جوركي إلا أن الترجمة جاءت سيئة الطبع ركيكة الأسلوب .. وأخرج بالاشتراك مع أكرم فاضل (الآباء والبنون) لتورجنيف)(13) وترجم عن الألمانية أسد الفلاندرز .. ان مستوى هذا الاطلاع على الأدب العالمي جعل لأدب (ذو النون أيوب) علاقة واضحة به.. وهو ينص على أنه تأثر بالآداب العالمية فيقول أنه نشأ (على أدب عالمي أكثر مما نشأ على أدب محلي)(14) .. قرأ هذه الآداب العالمية مترجمة أولاً قبل أن يقرأها بلغاتها الخاصة .. راح يقرأ بدافع من اتجاهه الواقعي أعمال الكتاب الواقعيين العالميين ، فـ(أصحاب المدرسة الواقعية في الأدب الفرنسي وهم ، زولا وبلزاك واضرابهما قد أحدثوا انطباعاً عميقاً في نفسه)(15) .. وقرأ لـ(ويلز ، وشو ، وها ردي ، وهكسلي ودكنز وكونان دويل في الأدب الانكليزي ، وكوته الألماني وطاغور الهندي)(16) .. إلا أن تأثره الأعظم كان بكتاب القصة الروسية العظام .. فكانت (الآباء والبنون ، والأرض العذراء وليزا أول ما قرأ لتورجنيف)(17) .. وقرأ كذلك لكوركي وكوكول ، وتولستوي ، وبوشكين وليرمانتوف وغيرهم .. إلا أن الكاتب الذي بهره هو دوستوفيسكي ، الذي تعرف عليه عفواً إذ (وقع بصره عفواً على قصته الجريمة والعقاب .. فعزم على قراءتها حين تذكر أنه لم يستطيع قراءتها من قبل ووجد لشدة دهشته أن القصة تستولي على مشاعره وتخلب لبه وكان أن قرأ القصة ثلاث مرات وكانت هذه الحادثة بداية دور جديد في حياته ، فقد عرفته بكاتب فذ سعى إلى قراءة نتاجه الآخر فقرأ (بيت الموتى) و(الزوج الأبدي) و(الأخوة كارامازوف) وغيرها من مؤلفات الكاتب وأصبح يحتفظ بهذه القصص ، يراجعها ويطالعها عدة مرات لا كما يفعل سابقاً حين كان يرمي القصة دون مبالاة بعد إن يفرغ من مطالعتها)(18) .. بل أن إعجابه به هو الذي قاده إلى أن يقرا مؤلفات الكتاب الروس الآخرين .. وأن يبحث في آداب الأمم الأخرى عن (شبيه هذا النوع من الأدب القصصي التحليلي)(19) .. الذي عرف به دوستوفيسكي فـ(قاده بحثه إلى أناتول فرانس والفونس دوديه وبول بورجيه ، وهنري بوردو وموبسان وأميل زولا وهوجو وفولتير ومارسيل بريفو... الخ ، وقرأ غيرهم من الكتاب ، شو وويلز ولورنس وجون كالزورتي ودكنزوسنكلر لويس ومارك توين وادكار ألن بو ، ولويجيبيراندللو وماريا ريمارك)(20) .. فاهتمامه انصب على سيد القصص التحليلي في رأيه دوستوفيسكي الذي يضعه في المقدمة دائماً ، ويعترف بتأثره به في كل مناسبة .. وربما وافقت نزعة دوستوفيسكي هذه نزعة أيوب الخاصة ، والتي أكتشفها في نفسه من خلال هذا الكاتب العظيم .. فراح يعيش ما يكتبه هذا .. ويندمج فيه .. حتى ليشعر إنه يكتب عنه ، أو يكتب هو عنه ، وكان أن حدث هذا فعلاً ، فكتب الجريمة والعقاب التي لا تعدو كونها ( تقليد لا أصالة فيه لموضوع قصة الجريمة والعقاب العظيم ، فالحانة مكان دوستوفيسكي الأثير ، تواجهنا منذ بداية القصة ، وهذه الثرثرات التي يتحدث بها السكيرون في الحانات والتي تحطم حياتهم باستمرار جرائم غير قانونية ارتكبوها فيلاقون عقابهم الخاص في هذا العذاب الداخلي الممزق على نحو مميت نتيجة لصحوة ضمير تطل عليهم في كل آن)(21) .. وكتب من خلاله (البيك المثقف) .. (والعاصفة وصداها) إذ أن (هذه الدقة في التحليل ، وهذه القدرة القصصية المتمكنة والتي تتجلى في هذا المنلوج الطويل المتحرك دون تقيد بالزمن والذي دار في ذهن بطل القصة توما وهذا الجو الروحاني المسيحي الذي أشاعه في صفحات القصة الأخيرة تذكرنا بأجمل صفحات الأخوة كرامازوف .. وحوار اليوشا وايفان الداخلي وموقفهما المتناقض من المسيح كما أن هذا المزج بين ذكريات الطفولة ورغباتها ، بين الواقع القريب والبعيد فيه فنية دوستوفيسكي ونحسب أن (ذو النون أيوب) كان واقعاً تحت تأثير هذه الرواية حين كتب قصته هذه فإن جوها وأسلوبها وتطور تقنيتها لا ينسجم مع قصص المؤلف الأخرى)(22) ..وهذا يؤكد حقيقة معينة ، فهو عندما يقع تحت تأثير عمل عظيم .. يأتي بمثله إذ لا يتأثر بالموضوع فقط ، بل إنه ليكتب وكأنه استعار من الكاتب أسلوبه وعرضه وتقنيته .. وهو نفسه يقول : (أني أتأثر بكل قصة أقرؤها ويتوقف هذا التأثر على مبلغ بلاغتها واستكمالها لشروط الفن ، وأهم من كل ذلك صدقها في السرد والهدف ونبلها في الغاية)(23) .. فإذا تأثر هو بقصة اجتمعت لها هذه الأمور . جاء بعمل يرقى فنيا عن مستوى أعماله القصصية الأخرى ويكاد أن يقترب من مستوى الأعمال المتوفرة على شروط الفن القصصي ، ونقول يكاد لأننا نجرده من فضل الإبداع ، فيبقى العمل الفني عنده ينقصه أنه يقلد فيه أعمالاً أخرى وإن توفر على الصفات الفنية للقصة .. وأستطيع أن أقف مع مظاهر أخرى لتأثره بالأدب الروسي ، مع أنني لم أقرأ كل هذا الأدب ولو حدث هذا لاستطعت أن أقف على كثير من مواطن هذا التأثير .. ومن خلال أمكانيتي المحدودة هذه أستطيع أن ألمح مواطن أخرى تؤكد هذا .. ففي الدكتور إبراهيم رصد سيكولوجي لنفسية الدكتور إبراهيم بين فيه أ ثر الظروف الخارجية ، بما فيها التربية الأسرية ، في تشكيله النفسي .. وهذا ما فعله كوكول في بيان أثر هذه العوامل على نفسية بطله ، تشيتشيكوف ،في (الأرواح الميتة) .. وكيف دفعته إلى أن يكون انتهازياً من الطراز الأول .. وكيف استقرأ لنا مواطن انتهازيته لتنتهي به هذه أخيراً إلى الفشل والفضيحة وكل هذا نقله ( ذو النون أيوب) في الدكتور إبراهيم .. وتكاد تكون المطابقة النفسية تامة بين بطل الرسائل المنسية والذي يتكرر من خلال أقاصيص أخرى ل(ذو النون أيوب) وبين بطل ليرمانتوف (بيتشورين) في قصته(بطل من هذا الزمان) ، فالنفس الضائعة ، القلقة ، الضجرة .. ذات النظرة السوداوية للحياة .. طابع بطلي القصتين .. أراد (ذو النون أيوب) في قصته هذه أن يعكس حقيقة اجتماعية واقعية ، عكسها ليرمانتوف كظاهرة لعصره في قصته قبله .. وهي ظاهرة الضياع بالنسبة للمتنورين المثقفين الذين لم يرتبطوا بهدف أو بفكرة معينة ، وهو يتأثر بأسلوبه أيضاً وطريقة عرضه ، لا موضوعه فقط فالعملين عبارة عن رسائل ترسل من قبل صديق ليتولى صديق آخر نشرها معرفاً القارئ بما جاء فيها ، و(نكاد نلح ما يشير إلى هذا التأثير في (الخصم والحكم)(24) .. فالمحاكمة التي هي موضوع الأقصوصة تكاد تكون هي نفسها المحاكمة التي تجري في (الأم) لكوركي .. ويتأثر مرة أخرى بكاتب غربي كبير أنساه الشيطان اسمه كما يقول هو ، ليكتب (حلم المعيدي) .. وبهذا ًنقرر : ان أيوب يتأثر بالأعمال العالمية الكبيرة ، ويقع تحت تأثيرها ليأتي بأعمال له ، لا أقول مشابهة شبهاً تاماً بل هي تؤكد وبصورة واضحة تأثره بها ومحاكاته إياها ، سواء في الموضوع أو العرض أو الأسلوب .. وربما جاء حتى العنوان يؤكد هذا .. فهو يتأثر (الجريمة والعقاب) ليكتب الجريمة والعقاب موضوعاً وأسلوباً ، وعنواناً أيضاً .. وهذه الظاهرة بارزة في أدبه .. لو وقفنا عندها وحدها لزدناها تأكيداً ولكننا محدودين بالمسموح به في هذا البحث مما يجعل وقفتنا عندهذه الظاهرة تكاد تكون لمحاً عارضاً .. فالكاتب يتأثر أسلوب غيره ليكتب عن حوادث وقعت فعلاً في الواقع الذي يعيش فيه أو يستعير حوادث واقع آخر يجعلها كأنها من واقعه ، يتحدث عنها بأسلوبه وقد لا يتحرج أن يستعير الأسلوب أيضاً .. وهنا نسأل : لم كل هذا .. ونقول : حدث كل هذا لضعف قدرة القاص عنده .. لعدم تمكنه من الابتكار والإبداع .. لأنه ليس قاصا .. وكما يعترف هو .. بل ناقد اتخذ القصة أسلوباً للنقد ..
2- غلبة الموضوع السياسي والاجتماعي : لا يعدو ذو النون أيوب الموضوع السياسي والاجتماعي فيما يكتب .. حتى أصبحت الكتابة عنده لا تعني إلا ذلك .. وحتى أمكننا أن نحمل على هذا حتى ما جاء بعيداً عنه في ظاهره وهذا ما سنؤكده من خلال محاولتنا تفسير (الرسائل المنسية) و (تيفوئيد) تفسيراً يبعد بها عن ظاهرها .. فالأدب عنده سياسة .. و (لا يمكنك أن تطالب الأستاذ (ذو النون أيوب) ، أن يكتب لك القصة الخالية من الفكرة السياسية) (25) .. فهو مأخوذ دائما بالهم السياسي والاجتماعي .. وهذا هو الأهم الذي يجب أن يراعيه الأديب في نظره (فالأديب هو أبن الحياة البار .. فلا غرو أن تهبه الحياة من القوة والنشاط ما يساعده على النضال المستمر والكفاح الشديد في سبيلها، لا يتذمر ولا يتأفف، صبوراً جلداً)(26) .. و (الأديب يفهم الحياة أكثر مما يفهمها بقية الناس لأن في يده مفاتيح مغلقاتها ، وهو مؤتمن على ما بيده ومهمته فتح هذه الأبواب وإدخال أخوانه من البشر إلى هياكل الحياة واطلاعهم على ما في تلك الهياكل من كنوز ثمينة هي من تراثهم ، وحقهم فيها كحقه)(27) ..فهو دائما يؤكد على الأديب أن يكون ملتزماً : (أحمق من يعتقد أن الأديب لا يضره جهله بالعلوم المادية والاجتماعية وليس له أن يتدخل في السياسة)(28) .. فـ (كل ما في الحياة يعني الأديب وهي من ضمن مجالاته)(29) .. فيجب على الأديب أن لا ينسى (المهمة المقدسة الملقاة على عاتقه ، لا يركن إلى راحة أو يغرق نفسه بالمخدرات التافهة التي تنسيه لذة الحياة الكبرى ، لذة مداعبة أسرار الحياة العليا) إنه أن فعل ذلك (مات وقبر) .. (إنه يستطيع أن يوجه بقلمه ومهما كان عدد من يتأثر به ، فأن عليه مسؤولية أدبية تجاه هذا العدد ، عليه أن يغربل لهم الآراء الشائعة ويجلي ما خفي من الآراء الصائبة ، وينبه إلى تهافت الآراء الخاطئة ، إنه يستطيع أن يقوي العزائم ويثير الهمم)(30) .. وراح يؤكد مفاهيمه هذه من خلال أدبه الذي كان خير مصداق لآرائه تلك وهو أن نص أحياناً أنه لا يكتب في السياسة ، فلأنه أراد أن يدفع ما يمكن أن يلحقه أدبه به من أذى ، وقد لحقه منه الكثير وعرضه للسجون والمحاكم والفصل . ولهذا نراه مرة يقول إنه إنما يكتب (عن الماضي ، وما الماضي في عرفه دول الغابرين وأسلاف الدهور ، بل الماضي هو تلك الساعة التي أنفرط عقدها من حياتك في اليوم الواحد)(31) ..وذلك تهرباً مما يمكن أن يفهم من أدبه (لأن الكتابة عن الحاضر تعنى عند البعض التدخل في السياسة)(32) . ولكن ذلك لا يمكن أن يستر حقيقة ما يكتب ، ولا أن يغشي طابع أدبه الوحيد والأثير . وهو نفسه (يدرك تماما أن ما يطرق من موضوعات يتناول مكاناً معيناً وزماناً معيناً وأبطالاً يستطيع العراقي أن يضع يده عليهم بسهوله ويسر كبيرين)(33) فأدبه يتناول أبداً (ناحية .. من نواحي حياتنا الاجتماعية ذات رابطة وثيقة بالناحية السياسية)(34) .. كما يؤكد هو في مواضع أخرى . والغرض الأخلاقي بإطاره السياسي والاجتماعي يبدو واضحاً للقارئ وهو يشكل كما يبدو هما أساسياً في همومه .. وهو يفترض افتراضات منها ما هو سياسي ومنها ما هو اجتماعي ثم يحاول أن يجد نماذج قصصية وأمثلة حياتية مطابقة لتلك الافتراضات ، فهو يهتم بالفكرة أكثر من اهتمامه بالشرط الإبداعي فيها ، إذ ان الفن والإبداع أمور ثانوية عنده . وهو يرفض الأدب الرخيص حتى لو كان (ينطق بالروعة الفنية) يرفض أن يكون سماً ينفثه المفسدون .. فلا نجده يهتم بالناحية الفنية ، اهتمامه بالغاية . ومن هنا جاء أدبه ضعيفاً فيها وهو ربما أعترف بضعف شكلية أدبه ، وعرف آراء غيره فيه ، ولكن وليكن ما دام ذلك لا يحظى عنده بالنصيب الأوفر من الاهتمام ، وهذا ما قاد أعماله إلى أن تفتقر إلى الصدق الفني رغم كونها صادقة أخلاقياً لأن الصدق الأخلاقي لا يكفي في تميز الأعمال الفنية الراقية ، وهو ( مجرد غشاوة تحول دون رؤية الصدق الحقيقي النابع من ملائمة العناصر العديدة المكونة للعمل الفني ملائمة قد تتعارض مع الصدق الأخلاقي ذلك أن الصدق الأخلاقي نسبي للغاية وملائمة عناصر العمل الفني لبعضها البعض تعنى في المقام الأول خلو العمل من الاختلال أو التورم أي طغيان أحد العناصر على بقية العناصر ولذلك ندعو الأعمال الصارخة بالآراء السياسية أعمالاً غير صادقة لأنها تغلب العنصر السياسي أو الدلالة الاجتماعية على بقية العناصر لأن التجربة الشخصية فيها تطغى على بقية العناصر فتتسم القصة بالفوتوغرافية على المستوى الفني وبالتحريض على المستوى الاجتماعي والسياسي)(35) .. وقد قاد هذا قصص (ذو النون أيوب) إلى أن تبدو وكأنها مقالات سياسية أو اجتماعية بصورة قصصية فهي مقالات قصصية أو (مقاصات) كما سماها عبد الملك نوري ..
3 – تعبير الشخصيات عن أفكار مجردة :
حديثنا عن شخصيات (ذو النون أيوب) يرجعنا للحديث عن غرضه من الكتابة . ونحن نعرف انه لا يكتب من أجل الكتابة القصصية .. بل أن هذه وسيلة لديه لغاية سخر لها كل أدبه .. وهو يؤكد أن يكون الأدب سلاحاً في معركة الشعوب ضد مستغليها ، ولابد له أن يلتزم قضايا الشعوب ، وهو بذلك يربط (بين الأدب والوطن) (36) ويبرز (الخصائص الجوهرية لهذا الوطن وللناس الذين يعيشون فيه) (37) هو يرى أن هناك إيديولوجيتين لطبقتين متناقضتين مستغـَلة ومستغـِلة ، فقيرة ومثرية .. وهو ينحاز إلى فلسفة أو أيديولوجية الطبقة الأولى ، ويتخذ من أدبه وسيله لعرض أفكارها والدفاع عنها .. وهو يمثل لكل طبقة بأفرادها ، ليعرض الصراع الدائم بينهما ، فهو يمثل للطبقة الأولى ، الطبقة الدنيا من الشعب العراقي التي يشعر نحوها بأعنف الحب ، والتي (يعجب ببساطتها الصافية ، وطويتها الكريمة ، ويرثى لجهلها وقناعتها بالذل وانحطاط عيشها الذي تحياه ، ويشعر في ذاته وخز الألم الذي يضمه صمتها الأبدي)(38) .. بأفراد منها ، وهم غالباً من العمال والفلاحين فيصف (حالة الفلاح ، وما يلقاه من مختلف أنواع الشقاء وضروب السلب والاستغلال ، هذا البائس الذي يعيش مع البهائم ، يشاركها مأكلها ومأواها ، يفني زهرة حياته في التعاسة والحرمان، في حين يتدفق ما تنتجه يداه ذهباً خالصاً إلى جيوب طائفة ضئيلة تتفنن في أساليب الإسراف والإنفاق وتبتدع صنوف الملذات والشهوات)(39) .. ودرس أوضاع العامل ، فوصف لنا (قسوة العمل الذي يكدح فيه ليل ونهار ، وتفاهة الأجر الذي يعود عليه من وراء كدحه المضني ، وضخامة الأرباح التي تتكدس في خزائن أرباب الأعمال)(40) .. وراح يصف أحوال الجماهير العريضة المحرومة ، ويدافع عن حقوقها ، مناضلاً فكريا معها في كفاحها المرير من أجل الحياة الكريمة .. وهو يخلع (على أبطاله الذين يحبهم ويعجب بهم صفات تقربهم إلى القلوب وتحيطهم بهالة من الاحترام ، وهم إجمالاً أقوياء العضل ، تزينهم إرادة قوية وعزيمة راسخة ، وصرامة في الحق لا حدود لها)(41) .. أما الطبقة الأخرى التي ينحاز ضدها فهي (العالم الأكبر) في أدبه ، فيمثلها بـ ((فريق من رجال السياسة يحصي عليهم تصرفاتهم ويسجل مثالبهم ويحلل نفسياتهم ويغوص أحياناً إلى أعمق أعماق قلوبهم ليكتشف جذور الجهل والأنانية التي تصطرع باستمرار وتطبع أعمالهم بطابع الشر والخداع وحب الذات وإغفال المصلحة التي فرض فيهم أن يسهروا على رعايتها ، كما فعل مع الشخصيات التالية ، الدكتور إبراهيم ووالده الشيخ إسماعيل والإقطاعي صالح جبر ، وينجح الكاتب في إثارة القارئين وملء صدورهم حقداً عليهم ، كما ينجح في إثارة الرثاء المشوب بالازدراء يجري في أعقاب أولئك الساسة الذين تنكروا على ما أصابوا من مفاهيم بعد الدرس والتحصيل العالي وتجاهلوا المثل الأخلاقية العليا))(42) .. ولكن شخصيات كلا الطبقتين تفتقر إلى الصبغة الإنسانية .. فهي غير واقعية ، إذ هي مطلقة في صفاتها ، أما خيرة لا تعرف الشر ، وأما شريرة لا تعرف إلا الشر فليست هي نماذج بشرية .. بل هي (دمى) صاغها بصورة معينة لتخدم أفكاره ، وهذه هي الأهم عنده .. أما شخوصه فوسائل وأدوات ، بل أن الأسلوب القصصي ، أساساً ، وسيلة لديه لأداء هذه الفكرة ، وهذا ما أكده في كتاباته حتى تستحيل شخوصه رموزاً ومعان مجردة .. ففي (الدكتور إبراهيم) - والذي هو كما يقول في المقدمة تشريح تفصيلي للانتهازية في العراق ، والانتهازية العلمية أو العصرية كما يسميها – يريد ان أن يدين فكرة عن طريق الدكتور إبراهيم ، فالفكرة على حساب الشخصية حتى تستحيل هذه رمزاً وفكرة مجردة .. الفكرة تعرض وتسلسل تفاصيلها من خلال حياة الشخصية .. هو يريد أن يتكلم على الانتهازية في العراق فيأتي بالنموذج الإنساني ليعرض هذه الفكرة .. وهو - من هنا - لا يهتم بنمو الشخصية وتطورها ، فليست هي بالنموذج الواقعي الذي يتطور ويتنامى .. الدكتور إبراهيم الانتهازية مطلقةً ، فإذا تكلم فهو انتهازي ، وإذا تعامل فهو انتهازي ، وهو انتهازي إذا فعل وتصرف .. هو انتهازي منذ ولد وإلى أن فر هارباً . وهكذا بدلاً من أن يكتب مقالة في الانتهازية فيقول : الانتهازية 1ــ أن يقول الإنسان كذا .. 2ــ أن يتعامل كذا .. 3ــأن ينطوي على كذا ........ قال : تعامل الدكتور إبراهيم كذا .. وقال كذا .. وانطوى على كذا .. وكل ما هنالك أنه تناول الفكرة بأسلوب قصصي .. نجده يرصد الفكرة بكل دقائقها ليكلف بها الدكتور إبراهيم ، وهو من أولئك الكتاب الذين يفرضون أنفسهم على أبطالهم فرضاً ، وهو في ذلك من المبالغين .. يلح على هذا الدكتور ليكون كما يريد ويبالغ في إلحاحه حتى لنعجب من قدرات الدكتور إبراهيم هذا وكيف استطاع أن يمثل انتهازية الانتهازيين منذ عرف التأريخ الانتهازية .. الناس الانتهازيون كلهم تصرفوا من خلاله .. فهو الانتهازية جامعة مانعة .. أينما التفتنا لا نجد سوى الانتهازية .. الانتهازية ولا شيء غيرها . وحتى عندما يعرض لبعض النماذج الايجابية (غسان ، سامي) لا يعرضها إلا ليصور كيف تعامل الانتهازي مع هؤلاء .. ويكاد يرهقنا ، وهو يلح علينا في استقراء مواطن هذه الفكرة .. وحتى ننتهي إلى أن البطل لا يمكن أن يكون إنساناً انتهازيا ، بل هو الانتهازية ، فكرة مجردة .. ومن ثم نلومه على أنه حمل هذا الدكتور المسكين ما ينوء بحمله. ولأن الفكرة واحدة.. فقد ينتهي به الأمر إلى أن تتشابه شخوصه ، لا بل تتكرر .. فبطل أقصوصته (عداء قاتل) هو نفسه الدكتور إبراهيم ، وهذا نفسه تماماً الإقطاعي بطل (مزارع عصري) ، وهو (عظمة السيد أفضل) ، ويحمل ملامحه الرأسمالي بطل أقصوصته (فرصة) .. وذلك لأن الفكرة واحدة .. لأنها هي الانتهازية ، الوصولية والنفعية ، وسوء الوضع السياسي والاجتماعي .. بطل (الرسائل المنسية) ، هو صاحب (رسالة غرام) حتى إن هذه تكاد تكون واحدة من تلك الرسائل .. وفي المنتحر في (لماذا انتحر) منه .. ومنه في بطل (فتاة) و (دمية وظلام) و (بدماء القلب) .. الشخصية واحدة ، النفس الضجرة القلقة السوداوية ، الضائعة .. وهو يعرض حقيقة اجتماعية واقعة ، مسألة الضياع ، لا سيما بالنسبة للمتنورين الذين لا يرتبطون بهدف أو بفكرة ما .. وهناك ظاهرة تؤكد نفسها ، أرى مناسباً أن نشير إليها هنا ، وهي أن بطل قصته الغرامية واحد وهذا يقودنا إلى الاعتقاد بأنه بطل قصصه تلك .. وهو يرصد العالم الداخلي للشخصية ، ويبين أثر العوامل الخارجية على سلوكها ، وطريقة تصرفها .. فهو يشرح لنا مثلا الظروف المحيطة التي تعاونت على تشكيل نفسية الدكتور إبراهيم كما قدم لنا نماذج (من الطبقة الوسطى بتقاليدها ومشاكل أجيالها الناشئة ، هذه الطبقة التي أخذت تتطور بسرعة في العراق فيما بين الحربين وما بعد الحرب الثانية وترمي عنها القشور التي تحجرت قروناً حولها ، فكانت تتلذذ باجترار عيوبها ، والتلمظ بنقائصها ، وقصص أيوب كقصص عبد الحق فاضل كانت نوعاً من عقاب الذات جلدت به البرجوازية العراقية نفسها ، ليتكشف فيها الإنسان المتطور المتألم وراء القواقع التقليدية المتحجرة ، وكانت خطوة متمردة في سبيل مجتمع جديد ، هو ككل فنان يستغل هذه النماذج فيشرح لنا فلسفته التي تدور حول الحياة باعتبارها ظاهرة اجتماعية ) (43) .. وقد يهب أيوب الحياة لشخوصه عن طريق رسم الخطوط الخارجية للشخصية حتى تبرز وتظهر ملامحها وهذا يحتاج إلى دقة ملاحظة ، وهو ما أتصف به (ذو النون أيوب) ، حتى تتجسم الشخصية في مخيلة القارئ : (والتفت إلى حيث أشار جليسي ، وابتسمت عندما تعثرت نظراتي بالشاربين الأسودين الكثين ، المنسقين على الطريقة الأستالينية ثم سارت متنقلة من الوجه الأصفر الشاحب ، إلى الشعر الجعد الممشط بعناية كبيرة إلى الثياب القديمة الحائلة الألوان ، التي يظهر منها إن صاحبها قد بذل جهداً كبيراً في العناية بمظهرها من غسل وكي ، لكي تبدو أنيقة تشير إلى رفعة ذوق مرتديها وأناقته)(44) .. وينتقل من وصف الهيئة الخارجية للشخصية إلى تعمق باطن هذه الشخصية ، يتغلغل فيها ، ويعرض علينا ما تهمس به وما يحتمل في صدرها ويدور في عقلها ، صراعها الذهني ، حساسيتها للحوادث الخارجية .. وشخصياته نمطية .. تمتلك نمطاً واحداً من السلوك ، وتمثل صفة أو عاطفة واحدة تستمر بها من البداية وحتى النهاية .. فالدكتور إبراهيم شرير من البداية وحتى النهاية وسامي - في الرواية نفسها ــ خير من البداية وحتى النهاية أيضاً . فتظل هذه الشخصيات تفتقر إلى عنصر المفاجأة إذ من السهل معرفة نواياها وعواطفها ومناحيها الأخرى إزاء الأحداث والشخصيات الأخرى . وقد تتداخل شخصياته بعضها ببعض فلا نجد بينهما حدوداً واضحة وهذا ما لاحظه الدكتور عبد الإله أحمد على شخصيات روايته (اليد والأرض والماء) .. (وقد زاد من إحساسنا بهذا التداخل بين الشخصيات إن المؤلف لم يعن بتعمق نفسيات أبطاله وتحليل نوازعهم وإنما كان يقدمهم من خلال إلصاق الأوصاف الخارجية بهم لذلك ظلت هذه الشخصيات غريبة علينا لا نكاد نعرفها فلم نتعاطف معها لذلك ، ولم نجد لمواقفها سبباً يبدو مقنعاً)(45) .. ولاسم الشخصية دلالة معينة عند أيوب .. فيطلق اسم (أفضل) على صاحب الفخامة بطل أحدى أقاصيصه(46) ، ليعبر عن وجهة نظر هذا بنفسه ، وليسخر هو بدوره منه. ويطلق على أحدهم اسم (سعيد) بينما هو (عدو الحظ) ليعطينا مفارقة لطيفة من مفارقات الحياة .. وقد يغفل وضع اسم معين لأبطاله وقد يكون قاصداً إلى ذلك قصداً كما فعل مع بطل أقصوصته (تيفوئيد) الذي مثل به الطبقة البرجوازية التي أراد التحدث عن تذبذبها ، وعدم استقرارها على حال واحدة حسب مصالحها . ولما كان الاسم يعنى أعطاء صفة محددة ومستقرة للشخصية ، أو للطبقة التي تمثلها لذا أهمله قاصداً ذلك . وقد يفعل ذلك من غير قصد (وهذا ما يدعو إلى أن تكون الشخصيات مبهمة غير مميزة المعالم .. وإذا أضفنا إلى ذلك أن القاص قد يخطئه التوفيق في إعطاء الحركة الكافية للشخصية لتثبت وجودها وتدل على كيانها أدركنا مبلغ العتمة التي تحيط بأبطاله)(47) .. فشخوصه (قليلة الحركة فإن ما يؤمنون به من مبدأ راسخ لا يعنون كثيراً في حمل الآخرين على اعتناقه فكأن نظرتهم إلى الحياة خاصة بهم ، لذا تجد بعضهم يميل إلى الانفراد ، يعتصم في قرية ، يعتزل بها الناس ، أو يركن إلى بيته لا يحب أن يسكنه فيه أحد)(48) .. وهذه الملاحظة تصدق بصورة خاصة على أبطال أقاصيصه.. وأرى أن لا نؤاخذه على هذا في هذا المجال ، لأن طبيعة الأقصوصة لا تسمح للكاتب بان يهيأ لشخوصها مجالاً واسعاً من الحركة كما تسمح به الرواية مثلاً ..
4- بساطة الأسلوب :
الأسلوب في أبسط تعريفاته : (التعبير الفني عن المعنى)(49) وأسلوب الكاتب هو : (الوسيلة التي يختارها الكاتب)(50) وهو في الفن القصصي (طريقته في اختيار الكلمات وترتيب الجمل وتنسيق الحوادث)(51) أما طريقة (ذو النون أيوب) في الكتابة ، فهو يأخذ بأسلوب بسيط لا تعقيد فيه ، يضرب فيه بانتظام وعلى وتيرة واحدة .. وربما كان يكتب في نوع من عدم المبالاة .. حتى لا يرتفع عن مستوى الأسلوب الصحفي السريع الذي يخلو من أي قيمة فنية ، والذي يعج بالمواعظ ، والمواقف الخطابية والحماسية ويزخر بالاستطرادات والأساليب التعليمية ، حتى ينخفض إلى مستوى الكتب الرسمية التي تكتب في الدوائر الحكومية ، أو إلى مستوى التقارير الرسمية التي ترفع إلى الجهات المسؤولة .. فهو أسلوب سردي تقريري . وهو يستوحي لغة بسيطة مباشرة ، خطابية ، لغة مقالة لا قصة .. وهو نفسه أكد هذا من خلال ما نشر في مجلة ألف باء : (أنني لا أعيب الوضوح ، فحينما أكتب مقالاً مثلاً أكتبه بشكل قصصي ، وليس ثمة بعد بين الأسلوب القصصي والأسلوب الصحفي المشرق أطالب بلغة واضحة وبسيطة)(52) حتى جاءت كتاباته وكأنها مقالات سياسية أو اجتماعية بصورة قصصية ، فهي مقالات قصصية أو(مقاصات) كما أحب عبد الملك نوري إن يسميها . ومن المناسب أن نذكر إنه لا يعد رأي النقاد هذا شتما فيقول : إنهم يمدحونني ، فهو يعتز أن يكون كاتب مقال . لكنه يبقى في نظر بعض الباحثين (بالقياس إلى معاصريه من الكتاب المحليين من أفضلهم أسلوباً)(53) .. مع إنه (لم يتخذ سمة خاصة تنم عليه شأن الكثير من الكتاب الكبار ، ومرد ذلك كما أعتقد ، هو الرغبة في الظهور قبل استكمال العدة ، وإهمال المطالعة الجدية في أمهات الكتب)(54) وما دمنا نتحدث عن لغته ، نقول : إننا لا يمكن أن نعفيه من خطأ لغوي .. ففي (تاريخ وجاهة)(55) .. يقول : إلا لحى الله وقتاً ، في حين يريد أن يترحم على ذلك الوقت ، ونعرف أن معنى لحى قاتل أو لعن .. وفي (صاحب الفخامة) (56) .. فالشوارع مملوءة ليلاً نهاراً ، والأصح : ليل نهار، أو ، ليلاً ونهاراً .. وفي (الآلهة الصغرى)(57) فقتل وسجن دون أن يجد وازعاً أو رقيباً .. والأصح مانعاً أو رقيباً لأن الوازع هو الدافع وهذا موجود ، منه مصالحه وجشعه .. وفي (إنسان قادر)(58) .. وأجبت : ولكن من أي نوع هو ، من الذي تستهويني شخصياتهم كما تقول؟. والأصح : أمن الذين ..؟ وفي (عجفاء)(59) : ولا أخالك أنك ستحسبها والصحيح : ولا أخالك ستحسبها أو : ولا أخال أنك ستحسبها .. وقد نجده يفصل بين متلاصقين بفاصل طويل : (أريد ذلك من كل قلبي ، ولكن أوقات فراغي القليلة ، إذ أنا أعمل لأعيش ، لا تكفي)(60) .. ولا نعفيه كذلك من خطأ نحوي ، ففي (مناجاة)(61) : فقد بدأ لي أول وهلة الفرق شاسع .. والأصح شاسعاً .. وقد لا يوفق في تحقيق الجو النفسي عندما يشبه ، ففي (أيتام في عيد الميلاد)(62) .. : ينساب الدانوب خلالها انسياب الأفعوان في خميلة غناء .. فالأفعوان لا يوحي بالهدوء والاطمئنان اللذين كان يستشعرهما ، بقدر ما يوحي بالفزع .. وقد يقتبس من القرآن الكريم كثيراً من عباراته .. ففي (عداء قاتل)(63) .. كحمر مستنفرة ، فرت من قسورة .. وفي (صاحب العظمة) (64) .. فإذا هو أسفل السافلين .. وفي (أوامر عسكرية) (65) .. إن السيد رفش يكره اليهود كرهاً جماً ويحب المال حباً لماً .. و : يسلبون أموالهم ويستحيون نسائهم .. وفي (وجه صبوح) (66) : ولو رايته حينئذٍ لملئت منه رعباً .. وفي (زهرة في الرغام) (67) : ولما أصبحنا منها قاب قوسين أو أدنى . أو من الشعر القديم .. ففي (همام)(68) : ليعشعشوا في بلادنا ويبيضوا ويصفروا. وقد يردد عبارات واحدة محفوظة .. ففي (همام)(69) : أسعد منهم حالاً واهدأ منهم بالاً .. فهو من أولئك الكتاب الذين يأخذون (بأسلوب الذاكرة) كما يسميه الدكتور محمد مندور بما يعينه من استخدام العبارات المحفوظة التي طال استعمالها من قبل غيره حتى هزلت وامحت .. هذه العبارات التي يسميها عبد القادر حسن أمين (بالعبارات الكلاسيكية) يقتبسها من هنا وهناك كأن يقول: (ودقوا بينهم عطر منشم) وكقوله : (أجمعت القبيلة أمرها عشاءً ولما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء ) وقد لا نجد بأساً في ذلك ولكن ما فيه البأس أن يستعمل كلمات بحاجة إلى الشرح وتكاد تكون حوشيه غريبة عن إفهام القارئ العادي ، مثل كلمة : لهوة ، واقعاء ، ووصيد ، والعثير في (صور شتى) . وقد جنح أيوب في هذه المجموعة نفسها إلى استعمال الأمثلة العلمية يبغي من ورائها الايضاح وجلاء الصورة كأنه أمام طلبة في فصل مدرسي .. ولا ريب أن ذلك يورث الأسلوب جفافاً ويسبغ على الكلمات تحديداً علمياً في حين أن الكلمة الأدبية يجب أن تكون ذات طاقة موحية لا تحدها أبعاد ولا تضبطها موازين ، وأرجح أن أيوب قد راجع كتب العلوم من النبات والحيوان والكيمياء والفيزياء ، كما راجع كتب الأدب القديم ، جرياً على القاعدة القائلة : إن الأديب يجب أن يلم بطرف من كل علم وفن ، قال في (صور شتى) : (عناصر الحياة في الحجيرة ثمانية فتية ، نشيطة قوية ، بعضها موجب وبعضها سالب).. وقال (وفي زاوية من شريان صغير يتفرع من شريان المدينة الأكبر) ..(إن الذوق السليم يأبى أن يصدم بأسلوب كهذا خلا من الروح حتى أمسى جثة محنطة تزكم الأنوف تلك الروائح المتصاعدة من قناني المختبرات وتصم الآذان تلك الآلات الصاخبة التي تدفع الطاقة السالبة إلى الطاقة الموجبة حتى تتعادل الطاقتان والحق أقول : إن ذلك ليس بالكثير الخطير، ولكني أخشى أن يجري أسلوب الكاتب دائباً على ذلك حتى يلفظ آخر أنفاسه فيمسي قنينة في مختبر أو سلكاً معلقاً في الهواء يمر به تيار سالب)(70) .. أما الحوار فهو عند أيوب جزء من الأعداد الأيديولوجي لتفسير الحوادث التي ستتلو .. لأن ليس عنده سوى الفكرة ، فيأتي حتى الحوار خادماً لها معداً لتفصيلاتها .. فهو لا يحقق فائدة ملموسة في تطوير الأحداث وتقوية عنصر الدراما فيها .. وقد اصطنع لهجة عامية تتناسب والشخصيات ، لأنها من لوازم القصص الواقعي العراقي الحديث .. (فإذا جاء الحوار انسانياً واقعياً حياً كان ذلك الخطوة الكبرى في تكوين الشخصية الفنية المتميزة الملامح الجارية مع الحوادث والوقائع ، بإرادتها وإبداعها وتجاوبها الطبيعي مع سائر ما يحيط بها في ظروف واقعية)(71) .. وهذه العامية لا تأتي من خلال الحوار وحده .. بل تأتي من خلال السرد ، وبكلمات واحدة : فيستعمل (الكشخة، والنفخة) و (أفندية) و (رجيفة) .. وهذه العامية تأتي ضمن اللغة الفصيحة (خسئت الرجيفة ، وخسيء غيرها)(72) .. و(هل ستهوسون كما فعلتم؟)(73) .. فهو يزاوج بين الفصحى والعامية ، منطلقاً من اتجاهه الواقعي في الكتابة .. وتتحدث شخصياته (بمنطق واحد وبلغة تكاد تكون واحدة فلا تستطيع في كثير من الأحيان أن تتميزهم إن لم ينص المؤلف على أسمائهم)(74) .. فهو لا يميز بين أسلوب الشخصية والأخرى (ليكون هذا التنويع وسيلة من وسائل تبرير الفن والإقناع الموضوعيين في تصوير الشخصيات والموقف جملة)(75) .. ويوزع حواره بالتناوب على شخوصه (وهو حوار مسخر لخدمة هدفه في شرح ما يريد شرحه وتوضيحه لذلك لا تجد كبير اختلاف فيما يجري من حديث على لسان الجميع)(76) .. وكثيرا ما يأتي الحوار بلغة غير لغة الشخصية التي يعتادها أمثالها في الحياة الواقعية فسنية في (اليد والأرض والماء) تعرض علينا آراء فلسفية، اقتصادية مما ليس من أفكارها .. وكذلك الخادمة الصغيرة التي تتكلم عن (غلاء الخبر بكلمات لا تصدر إلا عن عقلية ناضجة)(77) .. وقد يحدث العكس فيورد آراء غير ناضجة على ألسنة من يشترط فيهم التوفر على مستوى رفيع من الثقافة والفهم كتلك المحاورة التي (بينه وبين الدكتور إبراهيم عن أسلوبهما في الحياة اشترك فيها الانكليزي الضيف ، وذهب كل منهما يبرهن إن قومه يقدسون الحرية بأسلوب لا يعلو على أسلوب طلبة المدارس)(78) .. وهو قد يقع في أخطاء في مجال الحدث .. وغالباً ما يفتعل الأحداث خادماً فكرته فقط .. وتلوح في أسلوب(ذو النون أيوب) السخرية يستعين بها للنيل ممن يضعه هدفاً لنقده .. وقد يكون لاذعاً في سخريته .. فالسخرية تعينه أكثر لكي يبلغ ما يريد.. ولكي يكون الوقع أشد نراه يعمد إلى السجع : (والسيد أفضل موظف في ديوان ، له خادم ، وله أعوان ، وله عقل يتسم بالرجحان ، قد درس وتثقف وتهذب طبعه وتلطف ، حتى أصبح مما يشار إليه بالبنان ، من ذوي الكلمة عند الأقران)(79) ولكن (أشد السخرية وأكثرها إيلاماً هي تلك الصور المفارقة التي يوفق أيوب أحياناً كثيرة في رسمها ، تستطيع هذه الصور أن تستلب من القارئ ابتسامة ساخرة قد تكبر وتكبر حتى تصير قهقهة مثال ذلك قوله (وسهر الليالي مكبا على الكتب الصفراء حتى شحب وجهه وكل بصره ، وضعفت بنيته ، فأصبح يشبه بقامته النحيفة ووجهه الصغير وعمامته البيضاء ، وملابسه العصرية تحت الجبة السوداء قلماً من الرصاص في رأسه ممحاة)(80) .. وقد يبتذل القول : (وهل قضيت ستة عشر عاماً في تحصيل العلم لأتملق هذا الشيخ .. الخرف الذي يقول إن الأرض واقعة على قرن ثور وأن المطر بول الملائكة)(81) .. (ولا يدخلن في روع القارئ أن السخرية هي طابع أسلوب أيوب بل طابعه الجد المؤلم كما أن محاولاته لإخفاء ذلك تحت غلالة خفيفة من روح لطيف مشبع بالدعاية لا تستطع أن تخفف حدة الشعور بالألم والمرارة)(82) .. ومع ما لاحظناه في أسلوبه من عوامل تدل على عدم النضج إلا اننا نجد أسلوبه يميل نحو القوة أحيانا وهذا واضح في (صور شتى) إذ أصاب العبارة شيء من المتانة والعذوبة ، لم يكن لنا بهما عهد في مجموعاته السابقة باستثناء (قلوب ظمأى) حيث نجد بداية الاهتمام برشاقة الأسلوب والاحتفاء بانتقاء الألفاظ والعبارات الموحية ، مثل : (وأتى النادل يحمل كأساً فيه قطرات صفر كدموع سكبتها أعين مقروحة) ومثل (أما المفوض فتطلع في وجهي بنظرة ذكرتني بنظرات أرنب أليف)(83) .. ونجده يكشف عن مقدرة في الوصف ، بحيث يقود القارئ إلى أن يندمج معه في جو قصته ، فيقدم لنا وصفاً مندمجاً مع الحدث .. وعلى لسان أحدى الشخصيات .. بحيث نرى الشيء الموصوف لا من خلال عين الكاتب بل من خلال عين الشخصية .. فهو يصوغه بلغة الشخصية التي تراه وتتأثر به لا من خلال عينه هو .. وهو يقدم لنا بوصف للمكان الطبيعي في أقاصيصه مما يسهم في تطور الحدث ولا يصف النفسية الفردية ويتعمق أغوارها البعيدة فقط ، بل يتناول النفسية الاجتماعية .. إذ كان يمتلك وعياً متقدماً لطبيعة الحياة الاجتماعية التي كان عليها العراق وهذه المعرفة مكنته من رصد ما هو مفيد واستعماله في عمله القصصي وأن يتعامل مع الموروث الشعبي والديني وأن يختار منه ما يحتاجه ليطعم به عمله القصصي .
5- التحليل النفسي :
ما يشكل ظاهرة بارزة في أدب (ذو النون أيوب) ، ميله إلى التحليل النفسي .. وهي ظاهرة أشير إليها كثيرا وإن لم تنل حظها من الوقفات الطويلة المتأملة .. ويمكن أن نرجع ظاهرة الكتابة في قصة التحليل النفسي عنده ، وحتى عند غيره إلى ظروفها الموضوعية ، فكان لالتقاء الشرق المتخلف بالغرب المتقدم أن (صبا الإنسان العراقي الى أن يتنسم نسمات هذه الحضارة بكل ما فيها من عطر وجيف ويرتدي معطياتها بكل قاذوراتها، فصار يعيش في جسم غربي وعقل أوربي ولكنه يعيش في مجتمع متخلف يحمل بذور التقدم والتطور، والإنسان العراقي يؤمن بذلك كل الأيمان ومن هنا تفجرت أزمته في شبه تمزق ملتاع بين رغبة تلح عليه في أن يحيا حياته بعيدا عن ضراوة التخلف وبين رغبة تؤازره في أن يعيش مجتمعه كما يريد هو له أن يعيش)(84) ..وكان هذا التمزق ( نتيجة ، صراع القيم القديمة بالمعطيات الجديدة ، ورد فعل التناقض الصارخ بين الرغبات المكبوتة في النفس وقيود الحياة الاجتماعية ، وهذا يعني مأساة الإنسان)(85) ولقد (انبعث التمزق في نفس الأديب العراقي بصورة أشد اندفاعا وعنفا عندما بدأت الأزمات الاقتصادية والسياسية تجتاح العالم ومن ورائه العراق أزمة الانكماش الدولية التي شردت ملايين العمال في العالم وآلاف العمال في العراق .. والحرب العالمية الثانية بما خلفت من عقد نفسية في الصدور ربما لا تدانيها في نتائجها الأرواح التي أزهقت والدماء التي سالت عند عقد معاهدة بورتسماوث، بين بريطانيا والعراق . ثم مأساة فلسطين التي كانت دافعا مهما من دوافع التمزق لأنها كانت صدمة فادحة طاش في أعقابها العقل والضمير والقلب العربي . وفي خلال الخمسينات أشتد الصراع السياسي الأيديولوجي حتى طغى على أغلب مستويات الحياة وصبغ مظاهرها وغمر عقول الناس في الشوارع والبيوت ، وكثرة الأحزاب السياسية السرية والعلنية والصراع المبدئي والفكري بينها وقيام ثورة يوليو في مصر التي أطاحت بالنظام الملكي والمحاولة التي قامت في العراق 1953 للقضاء على الملكية ثم فشل المحاولة وامتلاء السجون وتجديد المحاولة عام 1956 كل هذه العوامل خلفت نوعا من البلبلة وتركت في قلب كل عراقي هوة ، وفي كل نفس أزمة ، وفي كل صدر صراعا) (86) فكانت هذه الفترة ( فترة قلقة روحياً، مضطربة التوازن ، وقلقة من الناحية السياسية) (87) ولذلك (ما كان إلا أن يفرز هؤلاء أحماض القلق والتوتر السلبي من أعماقهم ، وغالبا ما يفرون بين أحضان الحقيقة الجديدة إلى عوالم غريبة باهتة لا تمت إلى القديم أو الجديد معا ، وعبر كتاب الجيل الجديد عن كل الظواهر النفسية المتدفقة في كيانهم كاللهب وفي صور عدة من التمرد والتمزق والشك والحيرة والغضب والاشمئزاز من الماضي وانطلاقاً منه ورغبة في تغيير الحاضر واندفاعا نحو التحرر في طريق المستقبل وإيمانا به ، وهذا ما يجعلنا نطلق عليه الجيل القلق لأنه جيل يتعثر وسط حطام قضيته، يفتش عن قيم جديدة بعد تهرؤ قيمه القديمة ، فيعيد النظر بها ويحاول أن يمزج بعض قيمها بما أكتسبه من قيم جديدة وهو وسط كل هذا الضياع يفتش عن ذاته ويحاول وجودها)(88). وكان لاطلاع (ذو النون أيوب) على نظريات فرويد وغيره أثره في كتاباته في هذا المجال إذ أعطته وسيلة لاكتشاف تجارب عديدة .. إذ ( أثرت مادة فرويد ويونج في القصة وموضوعها واكتشف الأدباء عن طريق مؤلفاتهم أن حياة الإنسان الواعية ما هي إلا جزء ضئيل من حياة الفرد ) (89) وكذلك قراءاته في الأدب التحليلي وتأثره به. وكانت الجريمة والعقاب لدوستويفسكي أول ما صادفه من هذا الأدب التحليلي . وهي ما دفعه إلى أن يقرأ له مؤلفاته الأخرى فيدهش بما يقرأ .. بل يقوده أعجاب به إلى قراءة مؤلفات الكتاب الروس الآخرين . ثم ليبحث في آداب الأمم الأخرى ( عن شبيه هذا النوع من الأدب القصصي التحليلي.. فقرا أجود ما عثر عليه)(90) فهو يتأثر بالأدب التحليلي العالمي لا سيما أدب دوستويفسكي ليكتب فيه .. ونرى أثر دوستويفسكي واضحا بارزا في أكثر قصصه فاقصوصة الجريمة والعقاب يبرز فيها تأثيره واضحا (بحيث لا تبدو هذه القصة أكثر من تقليد لا أصالة فيه لموضوع قصة الجريمة والعقاب العظيم)(91) وكذلك في (عاصفة وصداها) .. فهذا (الجو الروحاني المسيحي الذي أشاعه في صفحات القصة الأخيرة تذكرنا بأجمل صفحات الأخوة كرامازوف لدوستويفسكي) (92) كما (تتجلى هذه النزعة ومهارته في استخدامها على أوضح ما تكون في البيك المثقف) (93) ونقف عند دوستويفسكي فقط لأنه أكبر من تأثر به في هذا المجال .. وإن كان هناك تأثير واضح لغيره ممن كتب في هذا اللون من الأدب .. فتأثير ليرمانتوف بقصته السيكولوجية الاجتماعية (بطل من هذا الزمان) يبدو بارزا في (الرسائل المنسية). وهذا الذي ذكرناه لا يشكل وحده دافعا للكتابة في قصة التحليل النفسي .. بل هناك في نظري ما هو أهم منه وأعني به النزعة الذاتية التي عند المؤلف للتحليل النفسي التي ترتبط بما عرف عنه من حب لاستكناه بواطن الأمور والنفاذ الى أغوارها وماعرف عنه من ملاحظة دقيقة وفهم عميق للأمور .. فالعوامل السابقة إذا بلورت هذه الصفة الخاصة عنده ، والتي بدونها لا أحسب أنه أو غيره يستطيع أن يكتب في هذا المجال وينجح ، فإذا صح أنه تأثر بدوستويفسكي ليكتب في هذا فبمن تأثر دوستويفسكي وتأثر غيره.. ؟ فليس صحيحا إذاً أن نوعز لهذه الظروف الموضوعية وحدها التأثير في دفعه إلى الكتابة في التحليل النفسي إذ أن هناك صفة ذاتية لديه تمكنه من ذلك ، زائدا هذه الظروف المساعدة التي اجتمعت لتدفعه إلى أن يخوض في هذا المجال فينجح فيه ، وليس صحيحا أن هذا الاهتمام عنده كان تقليدا لآثار الغرب .. بل هو تأكيد على ذاتية خاصة ، وقدرة فنية ... ويبدو كذلك أن(ذو النون أيوب) كان يكتب بدافع من حاجة ملحة إلى معالجة مشاكله الداخلية والتكافؤ معها .. فجاءت محاولاته في هذا المجال تدور في حدود تجاربه الشخصية وفي نطاق وعيه الذاتي وخبرته المباشرة .. فكتب عددا من القصص (أفصح في بعضها عن لحظات ضعفه وحاجته إلى ما يعزز ثقته بنفسه كما حاول في البعض الآخر أن يتناول مضامين تشغله عن واقعه وتنسيه ألمه منه ) (94) وكان إحساسه بالمرارة لتكرار خيبة أمله .. وما صادفه من متاعب وما جابهه من مصاعب (قد أسلمه في أوقات كثيرة إلى لحظات ضعف شعر فيها بيأس كاد يحمله على التخلي عن مثله وأفكاره ومواقفه الوطنية كما حمله في أحيان أخرى على التفكير بالانتحار وهو في مثل لحظات الضعف هذه كان يحس بالخواء في قلبه وبالظمأ إلى ما يرويه ويعيده إلى الحياة التي تكاد تنقطع صلته بها وبالحاجة إلى ما يعزز ثقته بنفسه وبسلامة نهجه الذي اختطه لها لكي يقوى على مجالدة ما يصيبه من أذى ، كما أن إحساسه بالمرارة قد حمله في أوقات أخرى على محاولة الهروب من الواقع القاسي الذي يعيشه والانشغال بخلق أجواء تنأى به بعيدا عما يؤلمه ويزيد من إحساسه بالمرارة ) (95) لقد عكس كل هذا في كتاباته ، حتى جاءت ضربا من الترجمة الذاتية تكشف عن موقفه الخاص من الحياة والناس .. ورسم لنا صورة حية للمجتمع العراقي .. فرصد لنا النفسية الاجتماعية لا الفردية فقط ، وهو بهذا يكشف عن فهم دقيق للأمور.. ومقدرة على معرفة الحقائق كبيرة ، فقدم لنا من خلال كثير من أقاصيصه صورة صادقة لما تعانيه طبقة المثقفين المتبرمين الذين لا يؤمنون إلا بمثل يخلقونها هم .. فالثقافة نقلت هؤلاء أجيالا بعيدة بعد جيلهم وبترتهم عن واقعهم، فالذين يتجاوبون معهم قلة، فكان إن أحسوا أحساسا حادا بتميزهم وانفصالهم عن الواقع .. فكانوا ينزعون إلى تصور صورة للحياة كئيبة تتميز بحس دقيق للشقاء البشري .. وهو بهذا يعبر عن ظاهرة اجتماعية من ظواهر العصر.. هي ظاهرة الضياع.. ضياع هؤلاء الذين زادتهم الثقافة انفصالا عن الواقع.. لأنهم رأوا أن هناك فرقا بين ما يؤمنون به وما يرون الواقع عليه ، ففي (لماذا انتحر) يعرض لأزمة هؤلاء فالكتب التي قرأها البطل هي التي باعدت بينه وبين واقعه : (كم أود أن أكون قنوعا راضيا كالآخرين ولكن هذه الدودة التي تنخر في عقلي تجعل الأمر مستحيلا ) (96) ثم قادته إلى التشاؤم والسوداوية والعبثية .. فالانتحار : ( لا أراني إلا واضعا حدا لحياتي يوما. لقد جربت كل أساليب الحياة ، وذقت حلوها ومرها فلم أجد في كل ذلك ما يبعثني على التشبث بها. إن أثمن ما في الحياة هو الإنسان ولست أرى في هذا الإنسان رأيا محترما فجله يشبه الحيوان شبها تاما في طراز معيشته وفي أسلوب تشبثه بالدنيا)(97) وهكذا يعكس شكواهم وإحساسهم بالوحدة والقلق والتمزق ورغبتهم في العزلة لعجزهم عن تحقيق آمالهم ثم عجزهم عن الانتماء لواقعهم ورفضهم لقيمه وعدم قدرتهم على التعاطف معه لأنهم نظروا على ضوء أفكارهم التي استمدوها من ثقافاتهم .. وهكذا قد يصبح الخمرالإجابة الوحيدة على ما يعتري حياتهم من لحظات تتفجر حزنا وفجيعة .. فبطل (لماذا انتحر) يلجا إلى هذه (المخدرات الاجتماعية) لكي ينسى أفكاره السوداء .. أو يكون الموت حلا في نظرهم لهذا العبث الذي ينتظم حياة الإنسان منذ ولادته وإلى انقضائه : (إن الإنسان يستطيع أن يترك هذه الدنيا متى أراد أذا وجد أن الحياة قد أصبحت عبأ على عاتقه) (98) فأبطاله عبثيون يبحثون دوما عن تبرير لواقعهم فلا يجدون شيئا من ذلك : (كل شيء يدعو إلى السخرية وليس ثمة ما يقيدني بالحياة غير رغبتي في أن أضحك منها فإذا تعبت من هذا أيضا فما الذي يجبرني على البقاء فيها ؟)(99) .. وقد يقودهم شعورهم بالعبث الناتج من هذا التناقض بين إرادتهم الباطنية التي تصبو إلى حياة ذات قيمة وبين الواقع الخارجي الذي لا يريد أن يستجيب لذلك ، إلى أن ينزلقوا عن ذوا تهم وكأنهم غرباء عنها فلا يبالون بها ولا يبالون بكل شيء .. ولكنها اللامبالاة التي يصاحبها حزن عميق فبطل (لماذا انتحر) فقد الاهتمام بكل شيء حتى (أدرك حد الخطر)(100)فـ(قلة الاحتفال وشرود الذهن لم تفارق سحنته)(101).. ونراه يردد : (أما أنا فقد مللت كل هذه المناظر من زمن بعيد وبحثت عن أشياء أخرى أكثر لذة وأوفر متعة ، حتى أدركت أخيرا إن ذلك مظاهر مختلفة لشيء واحد. إن ما يصلنا بالحياة هو المتع التي تربطنا بها ، وحب الإنسان ذي العقل يختلف عن حب البقاء عند الحيوان الأعجم المجبر على البقاء بالغريزة)(102) و(ذو النون أيوب) بهذا يعبر عن مأساة البرجوازية الصغيرة .. أي يعبر عن مأساته هو فنماذجه محركة في إطار هذه الطبقة الاجتماعية .. التي عاش معها وفهمها وأدرك في أعماقه سخفها ونفاقها .. فأبطاله هنا يمثلونه نفسيا وطبقيا : (وبعد فليس هذا المتشائم من أولئك الذين يدعوهم إلى اليأس ضعف في مجال الرزق أو معاكسة من الأقدار أو فشل في تحقيق أمنية غالية ، فلم يجع في حياته ولم يعر وقد أحتل في المجتمع مركزاً يحسده الكثيرون عليه وما كان قبيحا ولا مشوها ترغب عنه النساء بل كان فيه طراز من الجاذبية تتحدث عنها بنا ت حواء بشيء من الـحـيـــرة والغموض والخوف في بعض الأحيان وكان إلى جانب ذلك ولوعا بالقراءة ولعاً عظيما ، للمتعة لا للدراسة والتتبع وفوق كل ذلك كان قوي الذهن مصابا بلعنة الإنسان العصري الا وهي إطلاق الفكر وتحطيم كل حاجز أمامه . ) (103) وكانت حياة المدينة المادة الموضوعية لكتاباته لأنه كتب عن اختباراته الشخصية هو من خلال أبطاله .. وبين أثر العوامل الاقتصادية والاجتماعية في النفسية الفردية .. ففي (الدكتور إبراهيم) رصد سيكولوجي بين فيه أثر الظروف الخارجية على سلوكيته الخاصة. وهو يضع شخوصه دائما تحت تأثير ظروف قاسية صعبة لتتصارع في عالم من القلق والارتباك والتمزق بما يرهق الأعصاب .. محللا مشاعرها وأحاسيسها ، مظهرا تناقضاتها ، وصراعها ، وميولها ، وأهوائها .. وقد تكون نماذج بشرية تافهة تقاسي من أعباء الرذيلة ، وقد نشفق عليها لأنها تذكرنا بضعفنا الإنساني . ومعظم شخصياته (شخصيات وحيدة منعزلة ، فهم يخشون الزحام ، ويحتفظون بأسرارهم لأنفسهم ومع ذلك فليسوا أشباحا بل أناس لهم حس انفعالي شديد عرضة لأن يصابوا بآلام شديدة)(104) .. وأناس (يعيشون في الوحل بلا طموح وبدون اتجاه لا يعرفون ما يأملون ، يمقتون تاريخهم وأحلامهم ويخدعون غدهم وحاضرهم ويبصقون على ماضيهم ، غادروا صميم مأساتهم إلى محيطهم ليموتوا في خليجها الأبدي وقد فقدوا في حياتهم دفقات الأمل والنور)(105) .. أناس لم تتكون لديهم حقيقة ثابتة عن ماهية الأشياء ، فالحقائق نسبية والإنسان مقياس كل شيء وليس هناك شيء حسن أو رديء ، خير ، أو شر ... ولم نجد في هؤلاء البطل الرومانسي الذي (يطوع عالمه ويؤثر فيه وفي حوادثه بإرادته ، وأصبحت الإرادة نفسها معرضة للهجوم والنقد لأنه إذا كانت حواس الإنسان غير قادرة على إكسابه المقدرة على ملاحظة الأشياء والظواهر الطبيعية ، فكيف إذن سيتمكن من السيطرة على نفسه ولهذا فمعظم شخوص هذه القصص غير متكاملة)(106)..
6- التعبير بالرمز : قلنا إن كل من درس أدب (ذو النون أيوب) لاحظ مذهبا بارزا ينتظم أدبه هو المذهب الواقعي وإن أختلف الدارسون حول تسمية هذه الواقعية . ولاحظ بعض هؤلاء الدارسين مذهبا آخر ضعيفا يتخلل اتجاهه المعروف هذا ، هو المذهب الرومانتيكي ، وهو عنده رومانتيكي واقعي .. لكن هؤلاء الدارسين لم يقفوا على اتجاه آخر لديه مثل ما وقفوا على هذين .. وأعني بهذا الاتجاه الى استخدام الرمز بدلا من التصريح وبهذا فنحن لا نعني بالرمزية هذا المذهب الأدبي المعروف بعناصره وأصوله في المذاهب الأدبية الغربية . ولقد اكتفى بعض هؤلاء بإشارات عابرة لا تعطي هذا الاتجاه قيمة يستحقها .. فعبدالقادر حسن أمين(107)لمح إلى استخدام (ذو النون أيوب) هذا الأسلوب في أقصوصة واحدة لديه ، هي (سراب) التي كانت (ثمرة لتجربة عميقة مؤثرة ) (108) في رأيه ، اتخذ فيها الرمز أسلوبا ، والرمز فيها (جميل بارع) (109) . ويرى إنها (تمثل رد الفعل لما أصاب الكاتب من أخفاق ، وهي بمثابة العزاء لنفس خبرت مر الحياة ولم تر أمامها غير الأشواك .. وما ذلك الأريج إلا الحلم الذي بنى عليه أمله في الظفر بكرسي النيابة .. ولكن كان أريجا لا يستحق الاهتمام فهو أريج بنات الهوى ) (110) .. وبينما يرى الدكتور عبد الإله أحمد أن مضمون هذه الاقصوصة لا يحتمل هذا التفسير ، ينص هو على ثلاث من أقاصيصه اتخذت الرمز أسلوبا والرمز الساذج كما يسميه لأنها لا تحتاج إلى كد ذهن من القارئ لكي يضع يده بسهولة على ما تقتصده من حوادث وأشخاص من واقعه لم يشأ أن يتحدث عنهم صراحة . هذه الأقاصيص هي ( مصرع العقل ) (111) التي ترتبط ارتباطا (بأحداث تجري في واقع القاص وأناس معينين فيه لم تخفها هذه البراقع (الرمزية) الساذجة .. وليس في القصة غير هذه الغلالة الرمزية الساذجة من جديد في الفكر والمضمون مما يمكن معه أن تتميز عن غيرها من قصصه ) (112) . ومثل هذه القصة في النهج على رأيه قصة (غريب في القطيع ) (113) ومثلها (شيوعي من الملايو) (114) التي (تسير في هذا الاتجاه الرمزي الساذج ) (115) ولا أعتقد أن آخرين نصوا على هذا الاتجاه في أدبه ، وان نص فإنما ينص عليه عرضا وبلمحات خاطفة .. ومن خلال ما قرأته لـ(ذو النون أيوب) استطيع أن أقول إنه يشكل ظاهرة بارزة في فنه ، حتى نستطيع أن نحمل عليه كل ما جاء في ظاهره خارج نطاق السياسة ، موضوعه الواحد والأثير ، والذي نشك أنه يغادره إلى غيره .. وكل ما يتطلبه ذلك منا وقفة تأمل ، قد تكون طويلة أو قصيرة بعد أن أصبح بيدنا مفتاح أدبه ، وهو أنه لا يمكن أن يكتب الا في السياسة ، وعلى هذا أستطيع أن أختار نماذج من أدبه تبدو في الظاهر بعيدة عن السياسة ، فأفسرها تفسيرا يقربها من السياسة أو يجعلها منها .. أستطيع أن أقول : إن (الرسائل المنسية) من أدبه الرمزي هذا فأنا أتفق مع الدكتورعبدالإله أحمد إذ يقرر (إن صديق المؤلف الشاذ الغريب الأطوار عارف الذي هاجر إلى بلاد مجهولة بعد الحرب لم يكن إلا (ذو النون أيوب) نفسه في أعمق أعماقه ) (116) وإن ( هذه القصة لم تكن في حقيقتها إلا تصويرا لجانب في شخصية(ذو النون أيوب) الخاصة التي تتصف هي الأخرى بالشذوذ والغرابة والمكابرة وعدم الاستقرار على حال واحدة ) (117) .. أقول أتفق معه في هذا ولكني لا أرى في حبيبة عارف ، سها (المرأة ، مطلق المرأة في حياته التي عاش معها التجربة حياة أو خيالا ) (118) سها جاءت هنا كما جاءت المرأة في (سراب) صورة رمزية لشيء آخر .. فهي العقيدة التي آمن بها وأحب ، لكنه يريد أن يتخلى عنها لأنه لم يجد فيها إلا عذابه .. يحبها لكنه لا يجد الراحة إلا في الابتعاد عنها .. والذي حملني على هذا التفسير ما ذكرناه سابقا وهو أننا إذا أردنا أن نفسر أدب أيوب علينا أن لا نفصله عن حياته وعما يكتنف هذه الحياة ، عن الظرف الذي أحاط به ، ورد فعله عليه .. فنحن نعرف أنه بعد عام 1954 اشتد إحساسه بالعنت والتضييق عليه حيث حلت السلطات المجلس النيابي المنتخب وكان أحد الفائزين الاثني عشر المعروفين ، فأدى به ذلك إلى (خيبة أمل جديدة بالحياة السياسية في العراق .. واضطراره نتيجة لما أصابه من تضييق وعنت أثر ذلك إلى مغادرة العراق والسكنى في بلد أجنبي وقد أدت هذه الخيبة إلى رد فعل داخلي عنيف تجاه السياسة وما يتصل بها ، بعد إن كثرت خيبات أمله بها واشتد الألم بسببها ، زاد منها موقف بعض الأدباء الرافض لأدبه في هذه الفترة فسعى مخلصا هذه المرة إلى أن يبتعد عن أجوائها)(119) .. وإذا عرفنا أنه كتبها عام 1955 أدركنا أنها جاءت تعبيرا وتصويرا لهذه الظروف وما ولدته عنده من رد فعل لأننا نقرر إن أدب أيوب لا ينفصل عن ذاته وهذه لا تنفصل عن ظروفه المحيطة .. وعلى هذا نعود فنقول إنه لم تكن هنالك علاقة حب بالمعنى المحدد لها ولم تكن سها هي المرأة ، مطلق المرأة في حياته ، بل هي ما قلنا .. وربما كان هذا يعيننا على معرفة لماذا لم يستطع الكثير تفسيرا لهذه العواطف المتناقضة للبطل .. هذا الحب المتقلب الغريب ، حتى قال بعضهم إن تلك هي حالة شاذة في الحب تعكس شذوذا في نفسية أيوب نفسه .. واستغربوا لماذا نراه - البطل - ، يتعلق بهذه المرأة ويتمسك بها تمسك الطفل بأمه ، ثم نراه يعلن لها إنه لا يكن لها أي حب وعاطفة .. حب ، ولا حب (ولا بد لمن يتنازعه هذان الأمران المعذبان من أن يتعب أخيرا فيرفض حبه رفضا نهائيا يكون القطيعة التي لا عودة بعدها)(120) وهكذا كان أن تخلى أيوب أو تصور في لحظات يأسه وضعفه إنه تخلى عن السياسة وفكر في أن ينفض يديه منها ، وأن يبتعد عنها ، يبتعد عن الوطن لأن الوطن بالنسبة لديه سياسة .. وهكذا كان ، لا بد لعارف وهو(الرجل المتمرد)على كل شيء إلا أن ينهي إليها خبر القطيعة النهائية موضحا أسبابها بعبارات من تكشفت لباصرته كل أبعاد علاقته التي ظل أسيرها فترة طويلة وأحسن بضرورة إنهائها : (لقد بدأت أشعر مؤخرا بالملل من جسمك الهامد الذي اشتعل مليا ثم خمد. ومن تفكيرك الذي اجتاز مرحلة لا بأس بها ثم وقف عند حد .. من مسكنك في هذه البلدة الميتة ، من التكرار الممل في القدوم إليك) (121) .. وهكذا يقرر فك ارتباطه بها .. وانفصاله عن فكرة أحبها وتمسك بها ، لأنه يراها قد جمدت عند حد من التفكير ، أو لأنها تسكن في بلد جامد ميت ، وربما يريد أن يقول إنه لا يمكنه أن يرتبط بها في العراق .. في البلد الذي هي فيه معبرا عن يأسه من امكان نجاح ما يعتقد به ويؤمن في العراق . ويطلب البطل (من هذه المرأة التي قرر بمحض إرادتهالانفصال عنها أن يظل صديقا لها)(122) لأنه كان أحرص على الاستقلال برأيه وعدم الرغبة في الارتباط حتى بمن يحب وهذا ما كان عليه أيوب في الحياة السياسية .. في مرة يرى البطل (إنه جعل المرأة التي يحب هدف طلاب الزواج) (123) ليرمز إلى أنه روج لهذه العقيدة بأدبه .. وأخيرا يقرر إذ يرى فشل كل ما بينهما الهرب خارج العراق – كما شاء لعارف أن يفعل - بسبب الظروف السياسية المعينة لا بسبب قصة الغرام الغامضة هذه التي أحسب إن من يمثل أيوب بعارف يقول بها . وهذا التفسير يخلصنا من محاولة تفسير كثير من التناقضات التي وردت في الرواية والتي لم نستطع جاهدين أن نجد لها تفسيرا ، فهو يفسر لنا لماذا أهمل أيوب كل ما عدا هذه العلاقة ، لماذا أهمل المكان ، الحدث ، تصوير الشخصيات .. يفسر لنا لماذا جاءت المرأة فيها وكأنها ليست (امرأة عراقية موجودة فعلا في واقع القاص ولا يعرض لعلاقة تربط بينهما مما يمكن أن يقع في بيئة عراقية فعلا في فترة مبكرة من تاريخ العراق الحديث) (124) .. ولماذا كانت هذه غائبة عن الرواية وظلت دائما بعيدة لأنها تمثل العقيدة المفارقة لهذا فارقت الرواية وظلت بمنأى عنها .. وبهذا نقول إن التفسير السياسي لهذه الرواية هو الصحيح . ولا أقول إن وقوفي عند هذا يكفي لتفسيرها تفسيرا سياسيا بل أقول إن ما ذكرت مجرد أشارات تمثل مفتاحا يعطينا القدرة على أن نمضي في هذا التفسير ولعلنا نكتشف أنه هو الأصوب .. ولنا بعد هذا أن نسأل : لماذا يترك أيوب أسلوبه المباشر ليلجئ إلى أسلوب الرمز ؟ .. وعن ذلك أقول إنني لاحظت نتيجة لربط أدبه بحياته ، إنه في لحظات التضييق عليه من الخارج وانهياره الداخلي يلتجئ إلى التعبير بهذا الأسلوب .. فالظروف القاهرة التي مرت به والتي أفلحت أن تسحق غيره وتقوده إلى الصمت لم تفلح في هذا معه ، فهو لا يستطيع أن يصمت بحال من الأحوال ((بسبب طبيعة خاصة لديه فيها الكثير من العناد والإصرارعنى مصارعة الخطوب)) .. لابد له ــ إذا ــ من أن يكتب ، أن يعبر بسبب من طبعه هذا ، لكنه يدرك أنه محاسب على ما يكتب .. فلا بد عليه ـ إذا ـ أن يوفق بين الاثنين .. فيكتب ما لا يحاسب عليه .. إذ كان يدرك مدى ما يحدثه أدبه من تأثير .. وقد يبالغ (في تصور أثر ما يكتب في الناس وما يمكن أن يؤدي إليه هذا الأثر من أذى أكبر يصيبه .)(125) (وقد يقوده هذا إلى حالة من الرعب تدفعه إلى اتخاذ هذا الأسلوب مرة أو إلى النشر باسم مستعار(126)أو أن يعتذر في مقدمات أقاصيصه تلك بأنه لا يقصد أشخاصا معينين ولا حوادث معينة وإنما هو يأخذ من الخيال . وهذه الظروف الخارجية ورد فعله الداخلي عليها الذي (أسلمه في أوقات كثيرة إلى لحظات ضعف شعر فيها بيأس كاد يحمله في بعض الأحيان على التخلي عن مثله وأفكاره ومواقفه الوطنية كما حمله في أحيان أخر ى على التفكير بالانتحار)(127) هي السبب في اتخاذ الرمز أسلوبا في هذه الأقاصيص الثلاث التي نص عليها الدكتور عبد الإله أحمد والأقصوصة التي عينها عبد القادر حسن أمين . وربما أعاننا تفسير آخر : فهو عندما يحس بالإرهاق والتضييق بجانب عجره عن مواجهة هذا يحاول أن يهرب من ظروفه هذه بأن يخلق له عوالم وأجواء جديدة تبعده عما هو فيه ، ولكنه في لا وعيه يتحدث عن هذا الذي فر منه من خلال ما فر إليه ، يعبر عن هذه الحالة الواقعة بالحالة المتخيلة وهو لا يدري ذلك .. وهذا التفسير لا يختلف مع الأول سوى إنه التجأ إلى الأسلوب الأول بوعيه وإلى الثاني بلاوعيه .. ومحاولة أخرى في هذا المجال مع أقصوصته (تيفوئيد) إحدى أقاصيص مجموعته الثامنة (حميّات) والتي سأقف عند كل تفصيلاتها ، وربما كان السبب في ذلك قصرها بالنسبة للرسائل المنسية .. قلنا إن القاص لا يبعد عن الغرض السياسي والاجتماعي في كتاباته ، مأخوذاً به حتى أصبحت الكتابة لديه لا تعني إلا ذلك ، وحتى أمكننا أن نحمل عليه حتى ما جاء بعيداً عنه في الظاهر ..ونستطيع أن نؤكد هذا .. فهذه واحدة من أقاصيص مجموعته (حميات) والتي عنوانها (تيفوئيد) .. قرأتها فشككت أن يكون قد قصد منها ما يعينه ظاهرها .. (128) .. فرحت أنظر ما وراءه مستعينة برؤيته الواحدة : الرؤية السياسية ، فأفسرها تفسيراً ، ربما هو الذي قصده منها ، وربما كان قريباً منه ، وأقول : إنها محاولة كشف. وسرني أن أجد ما يلمح إلى أن الكاتب قد قصد ذلك التفسير أو شيئاً منه ، في التمهيد الذي كتبه في مقدمة مجموعته السابعة (العقل في محنة) مستعينة به في زيادة إيضاح .. عنوانها ، (تيفوئيد) : وكما ينتاب هذا المرض الجسم البشري فينحل منه كل شيء وكما يهذي المهموم عندما ترتفع حرارته .. (كذلك يسف العقل ويتقهقر المنطق في كل أمة عندما تصاب تلك الأمة بالحمى)(129) .. و (مكروب الحمى عند الأمم ، الأفكار العفنة ، والآراء البليدة ، وسبب العدوى في هذه الأمراض أفراد من تلك الأمة المصابة ، يولدون في مستنقع الرجعية الموبوء ، حيث يبلغ التفسخ منتهاه ويترعرعون فيه)(130) .. وبين هذه الحمى الخبيثة ( وبين المناعة الطبيعية التي تتمثل في ميل المجتمع إلى المحافظة على الأصلح ، حرب شعواء ، كتلك التي تنشب بين المكروب وكريات الدم البيضاء)(131) .. (ومتى اشتدت الحرب فذلك يدل على أن هذه الحرب في دورها الأخير ، حيث ، يكثر الهذيان ويعم الاضطراب) ففي قصته هذه يعرض لقصة شعب من الشعوب ، ولعلها قصة كل الشعوب ، قصة شعب تعرض لمحنة .. شعب مريض .. وسبب مرضه ، أفراد منه ، هم علة آلامه وبلواه .. أما من يمثلهم ؟ ..فالمهندس الذي لم يعطه اسماً ربما ليشير الى أنه لا يرتبط بشخص محدد موجود في المجتمع في ذلك الوقت - مع أنه قد يكون كذلك – لكي يدفع التهمة عن نفسه بالتهجم والتشهير ببعض الشخصيات المعروفة ، وهو بتحديده مهنته ، أراد أن يعطيه الصفة الطبقية ، فهو ممثل عن هذه الطبقة ، البرجوازية ، المؤهلة لتقبل المرض لأنها (تترعرع في مستنقع الرجعية الموبوء) على حد تعبيره .. لتكون سبب أزمات ومحن الشعب الذي تنتمي إليه . يشعر المهندس بأعراض مرضية : (خلل في جهاز الهضم ، صحبه ألم في المعدة ... مع صراع شديد مزعج) فموطن مرضه ، معدته .. ليشير إلى أن مصالح هؤلاء وامتيازاتهم هي علة المرض .. (وقد ظن أن مصدر هذا التوعك هو الإمساك الذي كثيراً ما ألم به من قبل) فهم متخمون دائماً ... موبوؤن دائماً. وهو من عادته (أن يداوي نفسه بنفسه في مثل هذه الظروف) وأن (يطبق ما أكتسبه من خبرة على نفسه ، وعلى عماله الخمسة ، وحصانه ، وبغليه اللذين يحملان متاعه ) ويبدأ يمارس خبرته .. فيجرب (كل ما لديه من المسهلات الخفيفة ) .. ( ولما رآها قليلة الجدوى ، التجأ إلى أقواها مفعولاً (الملح الانكليزي) .. ففي لحظات تخبطها تتعامل هذه الطبقة مع المستعمر ، مع أنها ، (أشد كرهاً لهذا الدواء اللعين .. الذي لا يكاد يدخل المعدة ــ وهو بذلك يعيِِِن الطريق الذي منه ينفذ المستعمر - حتى يحدث فيها اضطراباً وشغباً ، فيثور جهاز الهضم بأجمعه وتضطرب الأحشاء ثم تندفع إلى البلعوم مرة واحدة ، لتقذف نفسها وتقذفه معها ، حتى إذا ما وصلت المريء ، تزاحمت هناك ورجعت معه على مضض ) .. وربما كانت هنا معاناة عامة معاناة الشعب بأسره ، لأن ويلات المستعمر لا شك واقعة عليه ، وإن لم تكن له يد في ذلك .. وهو في معاناته تلك يدرك أن ليس سهلاً قذف الاستعمار خارجاً بعد أن تغلغل وتمكن .. (ولم يبخل مريضنا على هذا الدواء بشيء من الشتائم واللعنات) فهو يعلم ما يسببه له : (أما أنت فلا تكاد تدخل باب المعدة حتى تقيم كل أعضاء الجسم وتقعدها نفوراً منك وضجراً من وجودك) ولكنه في لحظات تخبطه .. في لحظات خوفه على مصالحه من أن تموت ، يلجأ إليه (تألله لولا خوفي من الموت لما ذقت طعمك) .. ويستفحل الداء ، فيبيت في ليالٍ سود ، ويحس (بانحلال غير طبيعي في قواه) ويزداد ( ألم الصداع في رأسه ) وتزداد معاناته الفكرية ، ويتفاقم المرض حتى تصل حرارته الأربعين ، و ( ثلاثة خطوط أخرى ويصبح في عداد الأموات ) .. ( وحرارة جسمه المسجور تكاد تزهق روحه .. وتذيب دماغه ، وتذهب بعقله ) .. وتمر ليال ٍ قاسية أخرى ، وهنا يرى - ممثلاً لطبقته - أن تعامله الأول لم يفده ، بل هدده ، لا بد إذاً من أن يستعين عليه بفئة لا يمكن إلا أن تحمل له العداء كله .. ليستعن برئيس عماله ، حما ( ممثلاً للطبقة العاملة ) يطلب إليه أن يضع سريره في العراء ليلاً .. وربما أندفع هنا طالباً المعونة عن طريق آخر .. ربما التجأ إلى السماء : ( فكان يقضي لياليه المسهدة في التحديق برقعة السماء ) وتمر به الأفكار ( فتجري على وتيرة غريبة ) .. ( ذكريات متقطعة لا تربطها سلسلة واضحة ، ولا يحكمها منطق معقول ، وتذكر أموراً غريبة لا داعي لتذكرها ، وتذكر جميع الصدامات التي تلقاها خلال العشرين سنة التي عاشها ) .. ثم ( تذكر آلامه ومطامحه ومشاريعه التي سوف لا تتم .. ثم أخذ يرثي نفسه ) .. فيسيطر عليه يأس قاتل .. وبعد أن ( فقد المهندس المسكين سيطرته على كل شيء أسلم نفسه لعماله الخمسة يصنعون به ما يشاؤون ) .. يأتي هنا دور الطبقة العاملة .. وهي لا شك تتعامل مع هذه الطبقة البرجوازية .. مستخدمة ، مأجورة من قبلها .. وهنا تدرك ، أو يدرك ، حما، ممثلها إنه ( ليس من العقل أن يخضع لهذيان ) سيده ... ولا أن ( يتركه ، في تلك الحال المحزنة ) لأنه لا شك متأثر بما يصيب سيده . وفي داخل كل طبقة من الطبقات ، مراتب ودرجات خاصة .. فحما يمثل من الطبقة العاملة من يحب أن يكون بطل الساعة ، من يهوى القيادة والزعامة (فيستلم المهمة ) ويقرر (الاستقلال برأيه) و (القبض على زمام الأمور بحزم) وهو يدرك أن يجب أن يعد للأمر عدته .. فسيده في حال خطيرة (قد يفضي بالإنسان إلى قبره) .. فيقرر أن لا بد من نقله إلى اقرب مستشفى .. ولكن عليه أن يتحمل مشقة ذلك وحده لأن (من المستحيل أن يقطعها سيده ماشياً أو جالساً فوق صهوة جواده) إذ إن (الطريق شاقة وعرة المسالك) وعليه أن يتخذ الحذر لأن (أدنى هفوة من المارة ترديه في تلك الهوى الصخرية ، فلا يصل قرارتها إلا أشلاء ممزقة) لكنه يدرك .. بعد أن (أعيته الحيلة) .. إنه لا يمكن أن يتولى ذلك بمفرده وهنا (يجمع رفاقه ويعقد منهم مؤتمراً) .. جمعهم (ليظهر تفوقه عليهم ، لا ليسترشد بآرائهم ، إذ لم يلبث أن وثب بينهم وأخذ يلقي عليهم أوامر صارمة ) .. العمل ـ إذاً ـ يجب أن يكون جماعياً .. ويبدأ الآخرون بصنع (محفة) يحمل عليها المريض .. فالمبادرة تأتي من قبل هؤلاء الآخرين الذين هم أبعد ما يكونون عن الدعاوى .. وبينما يحمل المريض من قبلهم .. يسير حما أمامهم وعلى نور الحقيقة الواضحة يسيرون .. وعلى ضوئها يبدو كل شيء جميلاً (وكان القمر بدراً ينير لهم الطريق ، ويريهم معالمه بوضوح) ويبدأ المريض يتفاعل مع ما يحيط به ، ويستشعر أشياء جديدة عليه : (ولم يخف جمال الليل حتى على المريض المحمول في تلك النقالة) .. ويتطلع إلى الحقيقة (فقد بقي محدقا طول الطريق بالبدر وأشعته الفضية ) ولأول مرة شعر (بالسلام والهدوء وهو في محفته المريحة) .. إذ تعهده العاملون المخلصون وعندما يغني أحدهم ويردد معه الرفاق ، بكل إيمان الشعب (تجيبهم الجبال والوديان ، والجنادل والصخور والغابات) .. يستجيب لهم كل شيء ويصلون المستشفى ، فيطالعنا الطبيب ، وما دمنا قد مثلنا الشعب بطبقاته من خلال الشخوص .. نسأل .. من يمثل الأطباء ؟ ونقول إنهم مفكرو الشعب وعقلاءه ، من ينظّر ، ويعين الحقائق ، ويرشد إليها ، من يشخص .. وعنده الدواء الناجع . ومن خلال تمثيله هذه الفئة بالأطباء ، يشير إلى حقيقة معينة ، وهي انتماء هذه الفئة الاجتماعي لا الفكري الى الطبقة البرجوازية .. عندما يحاول أحد الأطباء معرفة سير المرض وأعراضه .. لا يجد من المهندس تشخيصاً صحيحاً .. عندها يلجأ (إلى حما ومقاييسه وأدواته) فهو الأكثر وعيا من الطبقة العاملة ، وهو البصير بعلة سيده ومصدر آلامه وأعراضه ، فعلاماته واضحة لديه (يكفي لإدراكها حواس سليمة ، وعقل يقظ ، يميز بين الغث والسمين بسهولة ، ويسمي الأشياء بأسمائها الصحيحة ، ولا يخلط بينها ) ويستطيع الطبيب هنا تشخيص الحالة ، فهي : (تيفوئيد ومن النوع الخطر .. والمسكين في حالة سيئة جداً ) . ولكنه يؤكد إنهم لن يستطيعوا أن يحققوا شيئا ً إلا بمدى استجابة الجسم نفسه ، وما عليهم سوى مساعدته عن طريق (العناية التامة كيما يستطيع أن ينازل المرض بكل قواه ... وربما نجا رغم شدة وطأة المرض) ويعلم المريض مدى خطورة حالته .. فتسيطر عليه فكرة أنه سيموت ، وتستولي عليه (فلا تترك مجالا ً لسواها) .. (وساءل نفسه : لماذا لا يشعر بآلام النزع؟) ، لماذا لا يتحسس آلامه .. ويأتي الجواب بسوآل آخر : (ألا يحتمل أن تكون حواسه متخدرة أو ميتة؟) . وراح يتأكد من ذلك ويؤكده .. (فيقرص أطراف بدنه ، ويغرز أظافره في لحمه ، فلا يحس لذلك ألما ً ، ولا يشعر بغير أصابعه تغور في جسمه) وفي غمرة يأسه وتهالكه يستنجد بهؤلاء الأطباء ، بأن ليس من الإنسانية أن يترك (نصف ميت) .. الأطباء يمارسون جهودهم في محاولتهم إشفاءه .. وهم يدركون أن (معدته) و (رأسه) هما موطن آلامة .. فعليهما ـ إذا ً ــ يجب أن يمارس العلاج .. ويؤمر (بكيسين من المطاط مملوءين بقطع الثلج ، وضع أحدهما على رأسه ، والآخر فوق معدته ) وهو يصارع مرضه .. يتذكر ــ فيما تذكر ــ (خبر جريمة شنيعة روت الصحف تفاصيلها منذ ثلاث سنوات) وربما حدد الزمن لارتباط ذلك بحقائق تاريخية ( وكان قد ذهب ضحيتها شاب صغير السن سطا عليه الأشرار ، فسلبوه ماله وقطعوه إرباً إربا .. وخبط الشرطة في التحقيق خبط عشواء كعادتهم ) وهنا يدين الجهاز الأمني، (وأرتبط ذهنه بالجريمة ، وأخذت كل أفكاره تدور حولها ) .. وعندما يمر (بالصدفة في تلك اللحظة شرطي بباب غرفته يحمل دفتراً تحت أبطه) يتوهم (أنه يحمل ملف التحقيق في قضية جنائية لها صلة بالقتيل) يبدأ يتهم نفسه (تراهم من سيتهمون بها .. إن الشرطة مشهورون بأغلاطهم ، فلا يبعد أن يتهموه هو بهذه الجريمة .. لقد نظر إليه الشرطي نظرة غريبة ، فلا بد أن يكون الأمر حقيقيا ً ، ولا بد أن يلقوا القبض عليه ) .. ولنسأل هنا : لماذا عاد ذهن المريض إلى هذه الجريمة ولماذا يتهم نفسه بها .. هل هو الشعور بالذنب .. ألأنه سبق وأن أرتكب مثلها ؟ ..وعندما يمر الطبيب يسأله : (هل بدأ التحقيق ؟) .. فيدرك هذا أنه مازال بحاجة إلى ممارسة العلاج ويوصي (بتبديل أكياس الثلج) .. بينما مازال مريضنا يعيش حالة من الرعب بسبب هذا (التحقيق الموهوم) الذي يوحي به له (عقله المريض) .. حالة من الخوف تعيشها هذه الطبقة ، في أزماتها فقط عندما يتهدد وجودها ، وتحيط بها ذكريات جرائمها لتزيد في أزمتها تلك .. وراح يرى (نظرات الاستغراب توجه إليه من كل الناس) و (يخيل له إن التهمة ثبتت عليه وأنه سيشنق عن قريب) وصورت له نفسه ألا أمل له حتى (فقد إيمانه بالجميع) فلم (يرغب في إعلان شكواه فقد أصبح سيء الظن بكل الناس ) الخير له أن يموت ، هكذا رأى ، ولماذا لا ينتحر .. وهنا يطلب من الممرضة دبوساً لينتحر به ، إذا غرسه في القلب أو الرقبة أحدث الوفاة مباشرةً .. إن الموت يكون عن طريق القلب أو الرأس . ولكن هذه تمنع محاولاته لذلك .. وربما أراد كاتبنا أن يؤكد من خلال الممرضة على دور بعض الجهات الفاعلة عندما تتعرض الشعوب إلى المحن والآلام .. وعندما تعوده جدته (يشكو إليها ما يلقاه من سوء المعاملة في المستشفى ) و ( إنهم سيشنقونه) فهو ممثل لطبقة متذبذبة ، ترتمي في أحضان من تتصوره مخلصاً لها من محنة تلم بها . وهي أن تعاملت ، تتعامل بدافع الخوف على نفسها لا من منطلق الأيمان بمن تتعامل معه .. وهنا ترتمي أو يرتمي في أحضان الدجل والدجالين فالشيخ (سويلم في نظر جدته (هو الوحيد الذي في استطاعته أن يشفي الإنسان من المس ويطرد الأرواح الخبيثة). وتأتيه في اليوم الثاني بقطعة من السكر عزّم عليها الولي .. وبعد أن يضعها في فمه تقبله وتخرج مطمئنة إلى أنه التجأ إليها مؤمناً بها كافراً بهؤلاء (الكفرة والزنادقة) معبرة عن وجهة نظر الرجعية بمفكري الشعب ومصلحيه .. وفي الخارج يعمل الشعب .. ويتعالى (صوت المطارق) داخلاً إليه من خلال النافذة - ولكنه البعيد عن الشعب - ، يتصور أنهم يقيمون مشنقة له .. وربما أنصرف ذهنه محدقاً بالمروحة الكهربائية ، المعلقة في السقف .. فهو يعرف وسائل القمع .. فعلم أنه ربما جاء دوره ليقمع بها . ويكون المرض قد بلغ شدته الآن .. وبسبب ما أعطته إياه جدته .. فحرارته ترتفع بصورة شاذة وعندما يعرف الطبيب السبب يقرر أن : (تضائل الأمل بشفائه) إذ فقد أيمانه بهم ولجأ إلى مضلليه .. ومع هذا يستمر المصلحون ... وتستمر محاولاتهم .. ولا يشعر المريض بالراحة إلا معهم (وذلك عند تبديل كيسي الثلج) .. وأثمرت الجهود .. (فبعد مدة لا يعرف مقدارها بالضبط ، أنتبه إلى نفسه) وكان الصباح ... وكان السلام .. ويفرح المصلحون . فما خاب سعي المؤمنين (حيث يدخل الطبيب متهلل الأسارير) ولا يفوته أن المريض (ممثلاً لطبقته) ، لا يمكن أن ينسلخ عن أفكاره تماماً .. فهو ربما فكر بالرجوع ما كان عليه (فلما أتوه بالفطور ، نظر بازدراء ، وسأل الخادم : هذا فقط؟).. وهنا يخبر انه لا يسمح له إلا بما يوصي به الطبيب لئلا تعاوده أمراضه .. ولما ضمنت سلامته .. سمح له بمغادرة المستشفى .. فيجد (عماله ، وحصانه ، وبغليه، وجدته العجوز ، في انتظاره ، وأغرقه الجميع بعبارات التهنئة ) .. الشعب فرح لسلامته .. فرح لانتصاره على مرضه.. (إنه ليشعر أنه ولد من جديد ) .. انتمى من جديد .. (فابتسم وظلت الابتسامة مدة طويلة لا تفارق شفتيه) .. ويقف الطبيب أخيراً ليقول كلمته مؤمناً بأن لولا قدراته وقوته لما استطاع انتصاراً على المرض : (لقد أنجته صحته من موت محتم بأعجوبة) ، وأخيرا يقف ذو النون أيوب ليقول في موضع آخر وهو قد يؤكد تفسيرنا : (إ ذا وجدت ما يستثير الضحك في هذيان العقل البشري ، وهو في محنته العظيمة ، فلا تستغرب ولا تتشاءم لأن الجسم في حالة غير طبيعية ) . (132)
7– تداخل الأجناس الأدبية :
ظاهرة التداخل بين الأجناس الأدبية هي نتيجة لكون الأدب ظاهرة إنسانية متطورة بفعل عوامل خارجية وداخلية وهو عملية إبداعية والإبداع يكسر الحدود ويكره التقولب ضمن محددات ثابتة ، ومن هنا جاءت هذه الظاهرة التي قيل عنها إنها نوع من التراسل أو التعالق أو الترافد أو التماهي أو التنافذ أو التناص الإجناسي مابين النصوص الأدبية وسمي النص الناتج عن هذه العملية بالنص الجامع أو النص المفتوح أو النص الحر الخ.. تميل الأجناس الأدبية الحديثة إلى الانفتاح بعضها على بعض وإلى الترافد بالعناصر الأساسية المميزة لها فيتزود بعضها من بعض فتتزحزح حدودها وتفقد بعض ملامحها الأصلية وتتحلى بملامح جديدة ، في عملية تحول مستمر مع احتفاظها بثوابت لا تستطيع إن هي نزعتها أن تتسمى بالاسم الخاص بها . وأصبح النقد الأدبي ينظر للجنس الأدبي من خلال تداخلاته المختلفة فلم يعد للأجناس الأدبية نقاؤها القديم .. إن التجارب المعاصرة تؤكد أن مسألة نقاء الجنس الأدبي وهويته الخالصة أمر لم يعد له وجود فقد استحال الى مكونات هجينة تتداخل بنيويا فيما بينها فيتزحزح الجنس باتجاه تشكل جديد ولا يعود يميز نسبته إلى الجنس الأصلي الا ما يتعلق بالشكل الخارجي والهيئة العامة ، فهناك نوع من التفاعل العام بين النصوص حتى لو كان الاختلاف بينها واضحا .. لقد تجاوز النقاد مفهوم الجنس أو النوع الأدبي ، فلا تقليد ولا فروق بين الأنواع الأدبية و ظهرت أعمال تتجاوز تقاليد الأنواع الأدبية وتنظر الى هذه التقاليد بأنها مجرد حقيقية زائفة يؤمن بها بعض الأدباء و القراء . إن نظرية الأجناس الأدبية تقوم اليوم على حقيقة التداخلات الكثيرة وفي عناصرها المختلفة ، والأجناس التي لاتتطور تجاوزها الوقت ولم يعد لها مكان . وفي الوقت الذي تتصاعد فيه الدعوة الى إلغاء الحدود الفاصلة بين الأجناس السردية ، نجد من يرفض ذلك و يصرّ على أن وجود ما هو مشترك بين الأجناس الأدبية لا يعني بالضرورة تداخلها إلى الحدّ الذي ينتج معه جنس جديد . ولا بد من وجود قواعد تحدد الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص ، فالتحديد مدخل لمعرفة هويته وقراءته والحكم عليه ، ولا بد لكل نص من مقومات يستند إليها تسمح لنا بنسبته الى جنس أدبي عام ، مهما بلغت درجة خروجه على القواعد التي تطبع ذلك الجنس . وهكذا أصبح تداخل الأجناس الأدبية أمرا واقعا و حقيقة ثابتة واتجاها فنيا راسخا ، بل تجاوز ذلك ليصبح عند بعض الأدباء غاية يسعون اليها ليتميزوا بها ، و إن نشأ بينهم خلاف حول نتائج هذا التداخل والمدى الذي يبلغه . وتعد الرواية " وفي غياب مفهوم دقيق ومحدد لها الجنس الأكثر تحرّرا لأنها كما يقولون جنس غير مكتمل ولم تتوضح كل ملامحه حتى الآن فلا حدود له وما ينفكّ يخترق الأجناس التقليدية القديمة ويحتويها ومازال مستمرا في تطوره ولا نعرف المستويات التي سيبلغها في تطوره والأبواب التي سينفتح عليها . إن تداخل الأجناس الأدبية ظاهرة واضحة في قصص (ذو النون أيوب ) حتى دعت هذه الظاهرة القاص العراقي عبد الملك نوري الى أن يسميها (مقاصات) وهي تتداخل مع فن المقالة تداخلا واضحا وسوف نسلط الضوء على هذه الظاهرة من خلال أحد أعمال ( ذو النون أيوب ) وهو - ابو هريرة وكوجكا – في سبيل دقة العرض و التوضيح والنقد والتحليل لمعرفة اتجاه هذا التداخل والمستوى الذي وصل اليه في خلخلة الحدود التي يقوم عليها جنس القصة ؟ .
صدرت ((أبو هريرة وكوجكا)) عن دار المعارف في تونس في العام 1995 ، يترجم لنا ((ذو النون أيوب)) فيها لمرحلة من مراحل حياته قضاها بعيدا عن وطنه. ومن هنا تأتي قيمتها من كونها وثيقة دقيقة تترجم لصاحبها في هذه المرحلة من حياته في الغربة لكنه لا يجعل من نفسه بطلا مباشرا للرواية وإنما يتحدث فيها عن نفسه من خلال صديقه (محمود طه) الذي يرسل له رزمة أوراق هي عبارة عن مذكراته في سنيه العشرة الاخيرة ، ويرجوه نشرها.. ومايدعونا الى القول بأنها ترجمة لصاحبها ما ورد فيها من معلومات تحدد ((ذو النون أيوب)) تحديدا دقيقا بما نعرفه عنه مسبقا ، والأمر الأكثر تأكيدا أنه يدعو من يريد أن يتعرف عليه أن يقرأ روايته هذه(133) . ونحن نعرف أن أدبه لا ينفصل عنه فهو دائما ينقل لنا تجاريه الخاصة ويستخلص قصصه من الحوادث اليومية التي يشاهدها ويعاني منها ويقول إنه حين لايجد هذه الحوادث فإنه لا يستطيع أن يكتب قصة . وصحيح أنه يدخل بعض الأشياء غير الموجودة في الأصل مما يسميه ((رتوشا)) لابد منها لكن ذلك لايخرج القصة عن كونها حادثة واقعية فعلية. فهو لا يتخيل الحوادث أو لا يختلقها ، إنما يقتبسها من المجتمع ومن المشاهدة اليومية ، وهي المواد الأولية لتركيب كل ما يكتب ، وهذا ما يميزه من غيره من الكتاب كما يقول(134). في هذه الرواية يكتب عن أفكار تكونت لديه بعد أن عاش في الخارج واطلع على التطبيق الفعلي للأفكار الإشتراكية التي ناضل من أجلها وتعرض الى الأذى في سبيلها في وطنه العراق وهو يعرب عن قناعته الجديدة بسوء وفشل التطبيق من خلال هذه الرواية وبدلا من أن يكتب مقالة سياسية واجتماعية يبين فيها آراءه الجديدة يفضل كعادته أن يكتبها من خلال الأدب القصصي وهو ما يعمد إليه دائما الأمر الذي دعا القاص الكبير عبد الملك نوري يسميها (مقاصات ) إذ يرى أنها مقالات ولكن صيغت بالشكل القصصي .، وهو يقول عن نفسه – من خلال بطل القصة - إنه :( تكونت لديه نتيجة مطالعاته الكثيرة آراء اجتماعية وسياسية مغرقة في التطرف. ولو أبقى كل ذلك لنفسه أو تحدث به مع اصدقائه وأقرانه فحسب لهان الأمر ، الا انه أخذ يكتب وينشر وكانت كتاباته من نوع عجيب ، فقد كان يطلق قلمه على سجيته مادة وأسلوبا ، فتجده يكتب مقالا تحسبه قصة أو قصة لاتخرج من أسلوب المقال أو نظما منثورا أو نثرا منظوما ) ونحن لا ننكر أن يتضمن الأدب الفكر السياسي للكاتب ولكن من دون أن يتجاوز عناصر الفن القصصي ودون أن يغلب الفكر السياسي على مقومات الفن لديه وهذا ما وقع فيه كاتبنا مما جعل الذين درسوا أدبه لا يتجاوزون وصف عبد الملك نوري له.. ولربما أراد أن يمارس نوعا من تمرده وثورته على الأفراد الذين ينتقدهم ويفضحهم مشنعا عليهم ، فهو يرفض كذلك الانتماء الى قواعد تجنيسية محددة راسخة متعارف عليها كما يرفض هؤلاء والأنظمة والأفكار التي ينتمون إليها فهو ينتمي الى نفسه فقط وهو غير قابل للتأطير . أو إنه لا يريد أن يكون صادقا في نسبة ما تتضمنه مقالاته إليه مباشرة لأن هذا يعرضه لمساءلة السلطة فيخرج مقالته في شكل الرواية لكي يجنب نفسه ما يمكن أن يتعرض له من أذى في حال المكاشفة والمباشرة . والرسائل أسلوبه المفضل لاسيما في مجال القصة والرواية ، يبعثها شخص اليه ليقوم هو بنشرها. ولقد اتبع هذا في روايتيه ((الدكتور ابراهيم)) و((الرسائل المنسية)). وهو في أسلوبه هذا متاثر بنماذج معينة في القصة العالمية اعتمدت على هذا الأسلوب(135)، وهو يعترف بأنه نشأ ((على أدب عالمي أكثر مما نشأ على أدب محلي))(136). موضوعها وكما يذكر هو: ((نقد اسلوب تطبيق الاشتراكية في البلاد الشيوعية))(137) ، ويعين في الرواية نقد ((النظام الشيوعي في جيكسلوفاكيا والديمقراطي في النمسا))(138) لكن ((بلهجة صديق مشفق يصدق صاحبه لايصدقه))(139) وهو يستقي معلوماته من الشعب نفسه ، في الشارع ، في المعمل ، من الفلاح ، من العاهر ، من الطاهر ، من الجاد ، ومن الماجن(140) .. فالموضوع إذن موضوعه الأثير السياسة ، وموضوع آخر : هو الموضوع العاطفي يختلط به أو يقدم أحدهما من خلال الآخر ، وهو في هذا يكرر نفسه أيضا. وما أن يطلع القاريء على هذه الرواية حتى يستحضر أمامه كل ماكتبه ((ذو النون ايوب)) سابقا ، وهو في هذا الكل كان المدافع المتحمس لأفكار معينة ، يدعو لها ويلقى الأذى بسبب ذلك في موطنه لما كانت أفكارا مجردة آمن بها وتحمس لها. وما أن اصطدم بها في مجال التطبيق كما يقول حتى عاد لينال منها ، أو من الطريقة التي تطبق بها، وبالأسلوب نفسه الذي اتخذه أولاً للدفاع عنها .. ونحن نعرف عنه أنه لايكتب الا إذا أُثير ، وإلا إذا احتج. ومايثيره وما يحتج عليه أمور يصفها بالمآسي والمتناقضات والانحطاطات في الحياة السياسية والاجتماعية لاتتفق مع ما نشأ في فكره –كما يقول- من المثل العليا التي حصلت بوساطة مطالعاته في الآداب على اختلاف أنواعها. فكان إذا وجد مايثير التساؤل والاعتراض والاستنكار ، تساءل واعترض واستنكر ، فقد استهوته في الكتابة أمور لم تستهو غيره ، فراح يهجم ((على القمم في المساوئ الاجتماعية و القمم في السياسة الخاطئة)) ولا يقتصر ذلك على مجتمعه – ومازلنا ننقل كلامه – إنما كانت عاطفته الانسانية تحمله هموما تتسع لتشمل العالم الذي أصبح يتعرف على ما في بعض مجتمعاته التي سافر إليها من مساوئ فراح ينتقدها بالحدة نفسها. وقد ذكر أنه فعل ذلك في آخر أعماله غير المنشورة –وهو يشير الى هذه الرواية إذ لم تكن قد نشرت بعد – ويقرر أن استمراره على الكتابة إنما هو لاستمرار الأوضاع التي لا تريحه في كل مكان يرتاده ، وهذا يعين دافعه في الكتابة ، فهو تدفعه غايات اجتماعية تحدد رؤيته للأدب على انه رسالة ذات هدف اجتماعي تتجه الى الإنسان تريد أن تنبهه الى سوء الأوضاع الاجتماعية لكي يثور عليها ويزداد اصرارا على مقاومتها. ومن هذا نبع التيار الواقعي عنده وهويحدد فهمه للواقعية في الأدب ومفهومه للقصة ، فالقصة ((هي كل شيء واقع)) وواقع ينتقد ويحتج عليه(141). ومن هنا نجده في هذه الرواية ينتقد أوضاعا وواقعا لكنه يتعدى نطاق وطنه ، وما ينتقده هو سوء تطبيق الافكار التي تعتمدها بعض البلدان الاشتراكية وهو يعرض بسوء تطبيقها ، وفي مناحي الحياة كافة فلا يترك جانبا حياتيا الا جاء به معرضا. ولأجل ذلك يأتي كل ما في الرواية مفتعلا مختلقا ليتم له مايريد. ولأجل ذلك أيضا نراها مثقلة بالشروح والتعليقات التي تطبعها بطابع الكتابة البحثية والدعائية وما يريده من دعاية لأفكاره ، ومن هنا جاءت عيوبها الفنية الكثيرة .. يقدم روايته هذه بـ ((بداية)) يستعرض فيها حياة صاحب المذكرات استعراضا سريعا بما يعرفه هو عنه ، حيث ترجع معرفته به الى عهد الصبا ، وكان يلقبه ((أبا هريرة ..)) لأنه كان ((مولعا بالقطط ولعا عجيبا))(142) . وعندما (بلغ سن الرجولة أشرك في حبه للقطط التي تمشي على أربع أخرى تمشي على رجلين(143). عندما أدرك سن الشباب ((بدت عليه أمور غريبة مصحوبة بميول فنية وأفكار أعلى من أفكار من هم في سنه ، لقد كان رساما بالفطرة محبا للمطالعة ... لم يلهه ذلك عن الدراسة ولم يتأخر فيها حتى أنهى دراسته العليا وتوظف في بنك))(144) .. كان يقيم معارض فنية للوحاته ((تثير غيرة الرسامين المحترفين وحسدهم))(145) ولم يقف أمره عند هذا ((فقد تكونت لديه نتيجة مطالعاته الكثيرة آراء اجتماعية وسياسية مغرقة في التطرف. ولو أبقى كل ذلك لنفسه أو تحدث به مع اصدقائه وأقرانه فحسب لهان الأمر ، الا انه أخذ يكتب وينشر وكانت كتاباته من نوع عجيب ، فقد كان يطلق قلمه على سجيته مادة وأسلوبا ، فتجده يكتب مقالا تحسبه قصة أو قصة لاتخرج من أسلوب المقال أو نظما منثورا أو نثرا منظوما ، ويقف بكل ذلك أمام القراء كما يفعل بلوحاته. وضج المتزمتون في المجتمع العراقي المتأخر عندما رأوا تاثير ذلك الشيء وحامت الشبهات السياسية حواليه وكانت نتائج ذلك أن وضعته الشرطة السياسية في اول قائمة تضم أسماء الخطرين على النظام القائم من الهدامين والشيوعيين والملحدين والأباحيين وما أشبه ذلك. وكانت العقوبة على هذه التهم شديدة قد تصل حد الإعدام ولكن الرجل بقي سادرا في غيه ففصل من عمله وسجن وشرد في العهد الذي سمي بائدا ، وضويق في ما تلاه من عهود أطلقت عليها أسماء تتراوح بين الثورة الخالدة او العهد المقبورحتى شب عهد الثورات عن الطوق وبدأ يبشر بالخير وكان صاحبنا قد تورط في شبابه في الانخراط في الحركات الشيوعية السرية ، تلك الحركات التي كان يضمها حزب واحد))(146) ولما بدأت تنقسم على نفسها ((نفر صاحبنا منها بحكم طبيعته الناقدة المتمردة التي تأبى ما لايتفق وينسجم مع منطقه))(147) . وتجمعه بالمؤلف ظروف شاذة في براغ بعد اسقاط الجنسية العراقية عنهما الاثنين بعد الثورة ((الثورة الثانية)) ثم يفترقان عند ((الثورة الثالثة)) وصار التقاؤهما نادرا. ويعلم فيما بعد أنه أصيب بأمراض خطيرة من جملتها أمراض القلب))(148) وأخيرا يأتيه نبأ مصرعه ((لا نتيجة لتلك الأمراض بل لحادث من حوادث السيارات ، فيخالف المألوف في مماته كما خالفه في حياته)) (149).. ويحزن لمصرعه هذا حتى يفاجأ يوما برزمة الأوراق التي ذكرناها مرسلة من مجهول اليه. وما أن يطلع عليها حتى يبغت بما تضمنته ، ومن هنا ينفض يديه عن دور الراوية تاركا لصاحب المذكرات مهمة اطلاع القارئ على ما جاء فيها ، بعد أن يكون قد مهد لنا بـ ((البداية)) و((النهاية)) والموضوع كذلك. ومن خلالها نتعرف على تفاصيل حياته في هذه المرحلة المحددة وقصة حبه لفتاة جيكية تصغره بثلاثين سنة ، من خلالها ، ومن خلال الناس الآخرين، ومن خلال الأوضاع التي يتحدث عنها ، يوضح لنا ما الذي حمله على أن ينتقد ويهاجم. وهذا ما نستطيع له تلخيصا لأنه أراده كله ... في الفصل الأول يكاد البطل ينتهي من كتابة قصة حياته عن هذه المرحلة التي قضاها في جيكوسلفاكيا والتي سيرسل بها الى المؤلف. وهو يبدأ من مرحلة متأخرة من حياته ثم يرجع الى ماقبلها قليلا ، ثم يرتد بنا الى ماقبل ثمان سنوات(150) يوم كان موظفا في السفارة العراقية ، وعندها يتعرف بهذه الفتاة الجيكية ، فيلتصق بها من أول يوم رآها فيه. ومن هذه المرحلة يصعد بنا الى مرحلة أخرى لنجده في فراشه مريضا فيقوم بكتابة قصته تلك. فالكاتب لايتقيد بمفهوم السرد التقليدي للأحداث في هذه الرواية: يبدأ من النهايه ثم البداية ، والنهاية مرة أخرى. فظاهرة الزمن في روايته هذه تكاد تكون مضطربة وهو لايراعي هذه الظاهرة. وفي تقديري أنه لايهمه أن يراعيها لأنه يريد من كتابته شيئا واحدا ، وهو الموضوع او الفكرة التي تهتم المقالة السياسية بها ، أما غير ذلك فهو لايشترطه ، فقد ينتقل بنا من اللحظة الآنية التي هو بصددها الى ما ماقبلها بسنين مرة واحدة ، ليعود بنا بالسرعة نفسها الى الوقت الذي انطلق منه ليتابع لنا سرده .. الشخصية البارزة في الرواية والتي كانت أكثر بروزا من شخصية البطل نفسه هي الفتاة الجيكية التي كان يلقبها بالكوجكا(151)لأنه تكلم على كل شيء من خلالها ، وقد تكون من قصدها بقوله: ((في آخر ماكتبت فإن القصة جميعها تتشكل من خلال امراة))(152) ولانكاد نعرف عنها في البداية شيئا ثم ومن خلال الحوار نعرف أنها ابنة رأسمالي نمساوي يمتلك معملا للصابون. وهو رأسمالي مثالي ، فقد صار الكاتب يجد في هؤلاء الذين كان يهاجمهم المثالي الحق الذي يحاول أن يرسم له صورة محببة (كان يداري عماله ، يبني لهم الدور، ويوفر لهم سبل العيش ، ولم يثوروا عليه غير مرة واحدة بتحريض من الحركات العمالية التي كانت تأتي من براغ)(153) أما أمها فهي هنغارية من نبلاء النمسا والمجر معا. وكانت مدللة أبويها لأنها أصغر أبنائهما ولهذا حاول هؤلاء أن يتخلصوا منها وهي صغيرة بمحاولة قتلها. ولكنهم لم يفلحوا ، وعندما تأتي الشيوعية تجردهم مما يملكون (ولم يبق ما يدفع الأخوة الى الشر)(154) كما تقرر هي ولكنها لاترى في هؤلاء إلا ما تراه في إخوانها فهم (القساة الظلمة الذين يسرقون الإنسان ، ويسلبونه كل ما يملك ، ثم يسجنونه أيضا ولايقبلون له عذرا مادام هو وأبوه أو جده من أصحاب الأموال. إن الله سيعاقبهم كما عاقب إخوتي لمحاولتهم قتلي وأنا طفلة)(155) فهم يضطهدونها بسب ماضيها. وهنا يقع الكاتب في تناقض لأن هؤلاء لايؤاخذون (كيلدا) – إحدى شخصيات الرواية – على هذا الماضي ، بعد أن أصبحت نموذجا للعمال الصالحين المخلصين)(156) في عهد الحرية. ثم نعرف أنها تحمل شهادة دكتوراه في الكيمياء ، ولكنها اختارت التمريض عملا. متزوجة سابقا من ضابط هرب بعد تسلم الشيوعيين الحكم الى انكلترا. لها ابنان : فانيا ، وجابور. ونعرف أيضا أنها تشك في كون فانيا ابنتها ، لأنهم في نظامها يأخذون الأولاد ساعة ولادتهم ويضعونهم تحت أرقام. وربما خلطت الممرضة رقم طفلتها برقم طفلة أخرى. وليس جابور ابنها ، فهو يتيم ضحية قصة أخرى تدين النظام. ومن خلال تسلسل الأحداث نتعرف على كل تفاصيل حياتها فنعجب لهول ماقاست على أيدي الشيوعيين ونعجب من قدرتها على تحمل كل ذلك ، فهي تقص علينا القصة تلو الأخرى ، وبتتابع ملح وهي قصص لا نشك أن فيها من المبالغة والاختلاق الكثير. وهنا نرى أن الكاتب يفتعل الأحداث والمناسبات ليتم له عمله السياسي الدعائي. ولم تكن البطلة الوحيدة التي لاقت الأهوال والمصائب ، بل كل من تعرفت عليهم. وتروي لنا قصصاً عن بعض هؤلاء. ولعل اغربها واعجبها قصة العجوز (اللطيفة الوديعة) فاندراشكوفا ، المتدينة التي لاتجد سوى الصلاة ملاذا مما صادفته عائلتها الفلاحية من النظام الجديد. والتي تذبح يوما أطفالها الثلاثة لأنها تخشى أن يصبحوا (زنادقة مارقين) وعندما تنتهي من ذبحهم تركع لتصلي ، ثم تقطع شريانا في ذراعها لتموت معهم ولكن زوجها يعود (صدفة وفي غير موعده) ونلاحظ هنا كثرة المصادفات التي لا تتوانى عن تقديم أية خدمة للكاتب ليؤدي غرضه. وتنقذ الأم من الموت ، ولكنها تندب سوء حظها في النجاة ، ويحكم عليها بالإعدام أولا ثم يخفف الى السجن مدى الحياة. وتدخل السجن وتكون مثالا في الهدوء والطاعة – ولاندري كيف استطاعت أن تحتفظ بهدوئها وكأنها لم تفعل شيئا – وعندما يصدر عفو عنها بسب تقارير رؤساء السجن عنها ترفض أن تخرج لأنها لاتريد العيش وسط الزنادقة الكفار. وتتتابع القصص بتتابع الفصول ، وهي لا تقل غرابة عن هذه. ونمل ونضجر لأننا لانصدق. ويخرج الكاتب ما بجعبته مرة واحدة ، وبإلحاح يذكرنا بهجومه على (الدكتور ابراهيم) ، وكيف استقرأ جميع مواطن الانتهازية ليكلفه بها ، وكيف اختلق وتكلف ، وكلما قدم لنا قصة جديدة عن انتهازيته ، ابتعدنا عن تصديقه ، لأنه يبعد الشخصية عن نموذجها البشري ويقربها من الافكار المجردة. وهكذا هو دائما يبالغ ، ويوغل في ذلك حتى يوقع القارئ في الظنون. ولايلبث أن يوقع هذه الشخصية في تناقض في الموقف ، كأنما عرض من خلالها لتناقضه هو – وإن كان الاتجاه معاكسا – فبعد كل ما قدمت عن حقيقة الواقع ، بما نلمس معه تحاملها وكراهيتها الشديدة للشيوعيين ، نراها تقف الى جانب هؤلاء بعد أن تتقدم لخدمة اللجنة التي يشكلونها والتي اتخذت من دار صاحبها مقرا لها .. وعندما يكاشفها هذا ضاحكا بأنها في خدمة الشيوعيين ، تجيب معتزة (ولماذا لا ؟ وما العيب في الشيوعية؟)(157) وهكذا تنسى كل مالاقته على أيدي هؤلاء فلا تكاد تتذكر عيباً واحدا من جملة العيوب التي لاتحصى والتي ذكرتها سابقا. بل أصبحت تحب هؤلاء : (وشرعت تسألني عن الاشترااكية والشيوعية ، فشرحت لها النظريات بشكل مبسط يلائم عقليتها ، وعجبت حين اعترفت بعد ذلك بأن وجود أصحاب الملايين الى جانب المعدمين أمر غير طبيعي ، وأن النظام الشيوعي خير من النظام الرأسمالي)(158) ولانجد لهذا التناقض تفسيرا. وإذا قلنا ان الكاتب لم يكن – من خلال البطلة – ينتقد الأفكار ، إنما تطبيقها على أيدي النظام القائم ورجاله ، مما دعاها الى كرههم ، ومما يستوجب استمرار هذا الكره ، لكن هذا الكره انقلب الى محبة ، والكاتب أو البطل عاجز عن معرفة سر ذلك : (ولاأدري أين اختفى كرهها للنظام القائم ورجاله)(159). واستمر الكاتب يوقع نفسه وشخصياته في التناقض دون أن يراجع نفسه. ويتنبه الى أن أقواله يدفع بعضها بعضا ، ففي قصة من قصص الكوجكا تروي لنا كيف تنتهك حقوق العمال في دولة العمال ، وكيف ترهق عاملة في إحدى المستشفيات بالعمل ، في حين أن القوانين الصارمة لا تبيح لها حق الاعتراض : (وعندما رجعت الى بيتها منهوكة القوى ، أرادت أن تنيم طفلها الذي كان يشاكس ويرفض النوم ، فضربته حتى تعب من الضرب والبكاء ، فنام ونامت هي كالميتة من أثر التعب ، ويظهر ان الطفل استيقظ بعد ذلك ونهض متشبثا بحواجز مهده ، وأراد أن يلعب فركب الحاجز وسقط على أم رأسه فدقت عنقه)(160) وعندما تستيقظ الأم تسارع به الى المستشفى ولكنه يموت ويرى الدكتور ذلك من أثر السقطة ولكن الشبهات حامت حول الأم عندما يشاهد أثر الضرب في جسده ، ويحكم عليها بعشر سنين. فالعامل متعب يضج بالشكوى ، فلا يسمع ، ثم يذهب وغيره ضحية هذا التعب والانهاك .. ولكنه يقدم لنا حكاية أخرى تصور العامل بأنه لايعرف كيف يقضي وقته ، وأنه يتمتع بالاجازات الطويلة التي لايستحقها عندما يطلب البطل من إدارة المنازل أن تقوم بإصلاح عطب في الحمام ، ويأتي لهذه المهمة عاملان (بقيا طيلة اسبوع كامل يقضيان النصف الأول من النهار يقلعان أو يكسران مربعا من ذلك القيشاني الجميل ، ويقضيان بقية المدة في الدردشة وشرب البيرة .. وبعد أن تخرب نصف الحمام ظهر العطب.. ولكن ذلك الحمام الجميل بقي مخربا مدة شهر آخر ، فقد استحق العاملان إجازة ، وكأن ذلك العمل قد هد قواهما ، وبعد عودتهما قضيا اسبوعين في إصلاح الحمام بنفس الطريقة)(161). ويروي حادثة أخرى مثلها ، ويرى أن (العمال هم الذين سيخربون هذا النظام الذي أقيم للدفاع عن مصالحهم)(162). وتناقض آخر يوقع الكاتب نفسه فيه فيما يتصل بالمعلومات التي يوردها : البطلة تقول إنها قضت في السجن سنتين ، فعندما يمران هي وصاحبها بالسجن تشير قائلة : (تلك داري سكنتها سنتين)(163) وهو يسألها : (أعجب كيف استطعت الصبر طيلة مدة سنتين)(164) .. ولكنها فيما بعد(165) تذكر أن العقوبة عليها خففت ، فأعفيت من نصف سنة ، فتكون بذلك قضت مدة سنة ونصف لا سنتين. ولعل القارئ انتبه فيما مر ، عند حديث البطل عنها ، الى غفلة الكاتب وتناقضه ، فالبطل يذكر أنه يشرح لها النظريات الشيوعية والاشتراكية بشكل مبسط يلائم عقلها ، وهي تحمل الدكتوراه. وتناقض غيره يؤكد عيبا فنيا ، فالكاتب نوّه في (البداية) بنوع العلاقة التي تربطه بصاحب المذكرات وأنها قديمة تمتد الى أيام الطفولة ، والى زمن وجودهما في براغ حيث لايفترقان حتى الثورة الثالثة ، ونوّه صاحب المذكرات هو أيضا بعلاقته بالكاتب وأنه صديقه الوحيد الذي يطمئن اليه ، فيقول له في ختام مذكراته (ولست أجد بين معارفي وأصدقائي من اعتمد عليه سواك)(166) ومع هذا لانجد للكاتب أثرا في هذه المذكرات .. فلا يظهر من خلال الأحداث ولو عرضا. وكان ذلك ممكنا لو لم يلتقيه في براغ فلا يفارقه حتى الثورة الثالثة. وهو يؤرخ لهذه المرحلة ، ومنذ مجيئه الى براغ بعد الثورة الأولى. ويذكر الكاتب أنه سمع أن صاحبه قد (أصيب بأمراض خطيرة من جملتها أمراض القلب)(167) ومع هذالا يكلف نفسه عناء السؤال عن صاحبه الحميم. وهناك مايشير الى أنه التقى البطلة (الكوجكا) أيضا، وتعرف عليها وكانت تطلق عليه (يوهانس) ترجمة لـ (ذو النون) ولكنه ليس هنالك مايشير الى هذه المعرفة من خلال المذكرات .. وهكذا يختفي الكاتب تماماً في هذه المذكرات شخصية من شخصيات الرواية ، ولايظهر الا اسما في نهاية المذكرات. وسبب ذلك واضح فكما لا يصير الواحد اثنين ، لايمكن كذلك أن يوجد (ذو النون أيوب) وصاحب المذكرات لأنهما شخص واحد. وهكذا يقع في تناقضات كثيرة وعيوب فنية عديدة ، ربما لم يبلغها في أعماله السابقة كما حدث في هذه الرواية. فهو يسخر كل شخصيات الرواية لما يريد حتى تصبح هذه أدوات يتلاعب بها ، يزج بها في الأحداث وينطقها بما يريد لتؤدي عنه أفكاره. فهي شخصيات مقحمة ، يفاجئنا بها دون تمهيد وفي اللحظة المناسبة إذ تعن له فجأة فكرة يريد أن يقولها فيأتي بشخصية آنية لتعرب عن فكرته الآنية ولذلك نجد هذه الشخصيات تختفي بالسرعة نفسها التي ظهرت بها فينتهي دورها بانتهاء المهمة التي أدتها. وتتعدد الشخصيات بتعدد جوانب الفكرة .. بتعدد مواطن الانتقاد ، وكلها أدوات محركة ، أدوات إدانة ... ولا نستثني من ذلك بطلة الرواية ، فهي أداة إدانة ، عن طريقها استقرأ مواطن الانتقاد. فشخصياته تمثل أفكاره وهو يتوزع بين كل شخصيات الرواية وهذه كلها تمثله. وكان يلبس أفكاره أشخاصا ينتمون للنظام الذي انتقده لكي يدينه من خلال هؤلاء الذين ينتمون اليه وكأنه أراد بهذا ان يدفع عن نفسه أنه يعرض أفكاره وأن أبطاله يمثلون هذه الأفكار ، وهو يصرح أنه يعرض الأمور دون أن يقول هو كلمة الحكم ، إنما يترك ذلك للقارئ(168). ولأن مهمة الرواية أن تقرر هذه الافكار ، ولأنها يسيطر عليها ما يسيطر على المقالة السياسية وهو هدف الدعاية لهذه الأفكار ، نجد ما يختاره من أحداث يتفق مع ما يريد أن يوضحه ، لذا جاءت الأحداث مفتعلة متكلفة ، وبدا بعضها محشورا مما يمكن الاستغناء عنه ، فلا ضرورة فنية تدعو اليه ، كحكاية الكوجكا الغريبة عن القس ، فهو يفتعل لها الحادث افتعالا ... فبينما البطل أرق في إحدى الليالي ، إذ تختلج الكوجكا وتنتفض في نومها وتستيقظ وتهدأ لتقص عليه قصة جديدة تقتل بها أرقه ، مفتعلة كسابقتها. ولكن إذا كانت تلك لغاية أراد ، فما نؤاخذه عليه أن هذه تخلو من ذلك. وتقطع عليه القصة في تلك الليلة لتتمها عليه في اليوم التالي. وربما اندمج الكاتب في هذا الدور وهو يقص علينا القصة تلو الأخرى ، وهكذا بعد ان نفد كل مالديه وبعد أن أحس أنه وفى ، عاد يضرب دون هدى وها هو يفتعل الحادثة ليأتي بقصة تخلو من كل غاية ، لا الغاية الفكرية فقط بل الفنية أيضا. فهي لاتقدم حدثا يسهم في تنامي احداث القصة وتطورها ، بل يعرقل هذه الأحداث ، ويقطع عليها تسلسلها .. وتأتي النهاية اكثر تكلفا فلأنه شعر أن مهمة البطل قد انتهت ، أراد أن ينفض يديه منه ، فتخلص منه بتلك النهاية. فكان مجرد أداة كغيره من شخصيات الرواية. أما الحوار فهو غاية في السذاجة ، وهو غالبا بينه وبين الكوجكا وفي تقديري أنه أدخل الحوار كثيرا في الرواية لينأى بها عن كونها بحثا موضوعيا بحتا. وما وفق في هذا ، فليست لديه القدرة على إدارة الحوار القصصي لأنه ليست لديه القدرة على كتابة القصة التي تستجمع عناصر الفن القصصي ، وتثبت له هذه القدرة في كونه باحثا ناقدا في السياسة والاجتماع . لغة الشخصيات واحدة وكلامهم واحد لأن الافكار واحدة وهم جميعا يؤمنون بها. أما هو فنراه يمثل دور المدافع عن النظام أمام الكوجكا ، لكي يدفع عن نفسه أنه يدافع عن أفكاره . لكن هذا يفضح بأن جعل حجته في دفاعه ضعيفة ، وما يكاد يلقي بها حتى تدحض فلا يملك الا أن يسكت ليترك لغيره أن يقيم عليه حجته الدامغة. فالحوار مسخر لخدمة هدفه في شرح ما يريد شرحه وتوضيحه.. ولأن الرواية عمل دعائي لأفكار الكاتب السياسية نراها تغص بالمعلومات التي تتدافع على الكاتب فيسجلها بتتابعها ويبلغ به الأمر أن ينسى أنه يكتب قصة وأن عليه أن يراعي ما يقتضيه الفن القصصي. وهكذا قد يأتي فصل كامل وهو معلومات محشورة متلاحقة ، كما هو عليه الفصل الثالث عشر(169)وهو لذلك يجور على مقومات الرواية الفنية ، فتتصف رواياته هذه بذات الخصائص التي جعلت من أغلب قصصه مقالات سياسية اجتماعية أو بحوثا موضوعية اتخذت الشكل القصصي إطارا لها فكانت (مقاصات) كما سموها ، وكانت هذه القصة التي نتحدث عنها (مقاصة أخرى)... ولأنه لايهمه الفن القصصي بقدر ماتهمه الأفكار لذلك نجده لا يدفع عن أدبه هذه التسمية ، فعندما يقولون عنه أنه يكتب مقالات بشكل قصصي ، يقول : إنهم يمتدحونني(170)لأنه لايريد غير ذلك. وهو يقرر أن غايته من الكتابة هي الاحتجاج على الأوضاع السيئة وانتقادها. وأنه وجد نفسه كاتبا فجاة بعد ما اصطدم بالأوضاع العملية وأراد الاحتجاج عليها. لكن طريقة الكتابة جاءت بشكل قصصي لأنه من المولعين بالقصة غاية الولع(171). فالشكل القصصي إنما هو وسيلة أو طريقة في إخراج افكاره ، أما أن يكون غاية أو فنا له أصوله وقواعده فهذا مما لايراعيه. ولهذا نجد قصصه ببساطتها البالغة فلا يهتم كما اهتم كتاب آخرون عاصرهم بالتماس طرقا في التناول الفني جعلت أدبهم (أدبا ممتازا) كما يعترف هو. لكنه لم يتأثر بهم ولم يسع سعيهم لأنه أراد من أدبه الفكرة فقط . وهو يخطئ الذين يبعدون الأدب عن الأفكار ويجعلون همهم منه غاياته الفنية وأساليبه الحديثة المتطورة ، فيرتفعون عن المشاكل اليومية ويتسامون عليها لكي يقال عنهم إنهم أدباء يكتبون على طراز خاص أو طريقة سامية ، حتى أن بعضهم يكتب أشياء لا تفهم في الاطلاق كما يقول(172). ومن مظاهر عدم اهتمامه بالفن القصصي في روايته هذه أننا نجده لايهتم بتصوير المكان ، وإيراد بعض التفاصيل الضرورية التي تنير أبعاد الحدث. ومن مظاهر عدم اهتمامه بتطوير كتابته في القصة ، أن كتاباته يطبعها أسلوب واحد ، وطريقة واحدة في العرض فما نلاحظه على بعضها نستطيع تطبيقه على الآخر ، ومن هنا نأخذ على روايته هذه ما أخذه الدكتور عبد الإله أحمد على روايته (اليد والأرض والماء) : (إن الرواية تخلو من الحادثة الغرامية بالمعنى المعروف للحادثة شأن أغلب الروايات التعليمية ، وإن بدا أن فيها شيئا يتصل بهذه الحادثة)(173) وهو يستغل الحادثة الغرامية ليعرض لنا آراءه ، حتى لانكاد نحس شيئا من العلاقة العاطفية ، لأن هذه كانت مجرد وسيلة لإمرار آرائه. إنه قسم الرواية على أقسام كثيرة لاتتجاوز صفحات القسم الواحد في الأكثر ثلاث صفحات في حين كان عدد صفحات الرواية مائة وخمسا وسبعين صفحة. وكان أحسن لو دمج اكثر من قسم في قسم واحد ، إذ فصل من الأقسام ما لا يصح فصله لأنه يقطع الحوار ليتمه في فصل آخر ، كل ذلك لأنه شاء أن لا يتجاوز الفصل الواحد الصفحات الثلاث ، وهذا غير صحيح فنهاية الفصل (18) حوار أكمله في الفصل (19) والفصل (20) امتداد لحوار جرى في الفصل (19). وتستمر هذه الفصول الى الفصل (23) وكلها يوحدها أنها تدور عن حوادث تقع في السجن وكان يمكنه أن يوحدها في فصل واحد ولكنه لم يفعل. إنه ربما عكس شيئا من مرارة تجربته الشخصية على موقفه من النظام الاشتراكي. فكان سبب هذا موقفه الذي يختلف عما نعرفه عنه ، فشن عليه حملاته نفسها التي كان يشنها على الأفراد والأوضاع التي كان يصطدم بفسادها ، فلا ينتهي حتى يعري كل جوانب الفساد ، وحتى يرضي نفسه المستثارة فالكاتب (تبرز لديه في معارك الصراع نزعات ذاتية خاصة كانت محركة أبدا لعواطفه ومحددة لمواقفه من الفئات المختلفة حتى تجاه هذه الفئات من الفلاحين التي وقف الى جانبها في أدبه مدافعا ، نراه يناصبها العداء ، لأنه نال منها أذى وخسارة مالية كبيرة)(174) فهو يصدر عن تجربته الخاصة وعن نزعته الذاتية. ولهذا نراه يقف موقفه المعادي من النظام الذي طالما دافع عنه وتحمس له ولقي في سبيل ايمانه به كل أذى – كما يذكر- وموقفه هذا لم يأت مغايرا لموقف له قديم ... ففي (اليد والأرض والماء) ينال من الفلاحين لأنه لقي منهم أذى ، في الوقت الذي كان داعية متحمساً للأفكار التي تناصر الفلاحين. ولعله يكرر موقفه القديم هذا في هذه الرواية .. فنراه ينتقد النظام الاشتراكي ، لأنه لقي في بعض بلدانه أذى شخصيا قد يكون محركه في حملته هذه ....
8– تعدد المذاهب الأدبية واختلاطها :
في هذه المرحلة التي عاش فيها ذو النون أيوب ونزل الى ساحة الأدب وكتب أعماله القصصية تعاونت جملة من العوامل والمؤثرات والأحداث في التأثير في المجتمع والأدب العراقي , وتضافرت جميعها لإنتاج نمط من الأدب كان استجابة لما تتطلبه المرحلة وما تحتاج إليه في التعبير عنها . وقد كان أهم تلك العوامل الاتصال بالغرب و انفتاح الأمة والمجتمع على آفاق جديدة في كل مناحي الحياة والفكر والثقافة وكان هذا الاتصال انعطافة تاريخية كبيرة وسبب حركة التحول المعاصر. ولقد شهد العراق والبلاد العربية منذ العقود الأولى من القرن العشرين حركة الصراع الفكري بين القديم الذي لايريد أن يترك مواقعه والجديد المتأثر بالغرب الذي يريد ان يسيطر ويعم . وشهد الواقع الأدبي عملية الصراع هذه وتجلت عملية التجديد في الأدب بولادة أنواع أدبية جديدة لم يكن يعرفها الأدب القديم مثل القصة والرواية والمسرحية والمقالة والسيرة ، وعكس الأدب كل التيارات التي عرفها الأدب الغربي ونقل المذاهب الأدبية المعروفة التي مرت بالأدب الغربي عبر مراحل زمنية طويلة ولكن الأدباء العرب تعرفوا عليها مرة واحدة ولم تمر عندنا بالتتابع الزمني الذي مرت به في الغرب والذي عملت عليه ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية ، فوقفوا عليها كلها ونقلوها كلها الى الأدب العربي وعبروا به من خلالها وكان من آثار ذلك على الأدب العربي بصفة عامة وعلى بعض الأدباء بصفة خاصة بعض السمات والمظاهر الملاحظة ومنها ظاهرة التعدد والاختلاط في المذاهب الأدبية والتعايش بين التيارات والمدارس المختلفة التي عرفوها عن الأدب الغربي .. وهذا كان حالا عامة لوحظت في الأدب العربي وهو ما عبر عنه الأدب في مصر وفي سورية في العشرينات والثلاثينيات من القرن العشرين فكانت الكلاسيكية تتعايش وتختلط مع الرومانتيكية وهذه مع الواقعية والواقعية مع الرمزية حتى أصبحنا نجد ما أسماه النقاد بالكلاسيكية الرومانسية, أو الواقعية المطعمة بالرومانسية أو العكس, وأكثر ما لوحظ هذا الاختلاط بين الرومانتيكية والواقعية الاجتماعية, وقد أخذ بعض هذه المذاهب يتلاشى ويضمحل, وبعضها يصلب ويترسخ, وبعضها يرهص بما هو آت. وإذا كانت الظروف التاريخية التي مر بها الأدب الغربي ساعدت على ولادة ونشأة هذه المذاهب الأدبية بوصفها حاضنة لهذه المذاهب فإن طبيعة الظروف التي مرت بها البلاد العربية ساعدت على التعبير من خلال أكثر من مذهب فمثلا نجد أن ظروف نشأة الواقعية والرومانتيكية كانت متجاورة في واقعنا العربي . وكانت طبيعة الظروف التي تمر بها البلاد العربية تسمح كذلك بسيادة بعض المذاهب وغلبتها على غيرها بوصفها حاضنة لهذا المذهب أو ذاك فكانت الرومانتيكية قد برزت واضحة في خلال العقود الأولى من القرن العشرين وتناسجت مع الواقعية في هذه المرحلة حتى لم يعد من المستطاع أن يفرق بينهما, وإن كان للرومانتيكية القدح المعلى والمركز الرئيس وكانت تسود في أوقات المحن والملمات . وقد لمسناها في أعقاب الحرب الأولى وبعد نكبة فلسطين ثم بعد نكسة حزيران الذي صبغ الأدب بلون حزين , في حين أخذت الواقعية سمتها المستقلة وخصوصيتها المتميزة مع التحول الواقعي ثم الاشتراكي في الخمسينيات(175) . ولقد اعترى هذا الاختلاط والتداخل الأدب في أوروبا ولم تبق بعد الحرب العالمية الثانية مذاهب أدبية واضحة المعالم وشاملة ومرتكزة إلى فلسفة أو نظرة إلى الحياة كما عهدنا في المذاهب الأدبية الكبرى بل بقيت شذرات من المذاهب القديمة متمازجة مع مذاهب واتجاهات صغيرة. فظهرت التعددية في الأعمال الأدبية وأصبح الكاتب يخلط في كتاباته بين مذاهب مختلفة من واقعية إلى رمزية إلى عبثية أو لامعقول . واستعين بالأساطير والتحليل النفسي ولم يلتزم بالشروط الأساسية في تكوين الأنواع الأدبية . لذا بات من غير الممكن القول في (سيطرة مذهب واحد على مرحلة واحدة أو عمل أدبي واحد، فصفاء أي مذهب من شوائب المذاهب الأخرى، هو صفاء نسبي) . فأصبح من الممكن أن يلاحظ في النص الواحد تعددا لمذاهب مختلفة ، ولهذا جاءت ظاهرة الاختلاط والتعدد في الوطن العربي أكثر وضوحا منها في الأدب العالمي وذلك لأن الكاتب العربي، وكما قلنا ، لم يعرف المذاهب الأدبية منذ نشأتها الأولى وتعاقبها وتطورها التدريجي، إنما اطلع عليها كلها في فترة زمنية واحدة وذلك عن طريق ترجمة الكثير من الكتب النقدية والأعمال الأدبية التي تنتمي الى عصور ومراحل ومدارس مختلفة فتأثر بها جميعا. لقد تأثر الكاتب العربي بالكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية وغيرها وبتيارات القرن العشرين وفنونه الأدبية المختلفة دون أن يعيش في زمن هذه المدارس أو ينتمي إلى أية أمة من أُمم هؤلاء الكتاب ولم تكن له جذور في هذه الفنون تعصمه من الانبهار، لهذا كانت تتراكم في نص واحد من نصوصه تأثيرات مختلفة متعددة متناقضة . وإذا تذكرنا أن كل كاتب من هؤلاء الكتّاب الأجانب، الذين تأثر بهم الكاتب العربي، ينتمون إلى مذاهب شتى وأساليب مختلفة أدركنا مدى الاختلاطات التي كانت تتم عند كل واحد من كتّابنا ، وتلك هي الورطة التي وجد الكاتب العربي نفسه فيها وهي تعدد المذاهب في أغلب النصوص التي يكتبها وأصبح الكاتب العربي الذي تأثر بمختلف المذاهب والتيارات الأجنبية -القديمة والحديثة – مضطراً الى أن يصوغ من مجمل ماتأثر به من هذه المذاهب المختلفة التي اطلع عليها والأعمال المختلفة التي قرأها، أسلوبا فنيا خاصا به، مقنعا لعصره، ومتناسبا مع الواقع الذي يعيش فيه .لذا برزت ظاهرة التعددية في كثير من النصوص، التي حاول كُتّابُها أن يُعالجوا من خلالها قضايا اجتماعية، وسياسية مختلفة (176). وقد انعكست هذه الظاهرة على الأدب العراقي وكان من هؤلاء الكتاب العراقيين (ذو النون أيوب) الذي كانت ظاهرة التعدد والاختلاط في المذاهب الأدبية, ظاهرة ملاحظة لديه ، وسوف نتحدث عن أقوى مذهبين طبعا أدبه وحسب قوة ظهورهما لديه ..
أ-: الواقعية هي المذهب البارز والظاهر في أدب (ذو النون أيوب) ، وهو ما يسم كل أدبه ، وإن لاحت هناك مذاهب أخرى لديه فهي تأتي من خلال هذا المذهب السائد في قصصه وتختلط به . وكان هناك من الظروف الموضوعية ما دفع (ذو النون أيوب) وغيره إلى كتابة القصة الواقعية ، فالحرب العالمية الثانية كانت (أبرز حدث في تاريخ القصة الواقعية في العراق .. فقد شجعت ظروف الحرب ، وحرية الرأي التي أعقبت الحرب في العراق على كتابة القصة الواقعية بعد أن اكتسبت حقائق جديدة وجودة الإتقان الفني بسبب الاطلاع على القصص التي أخذت تكتسح الأسواق العراقية)(177) وليس معنى هذا أن القصة العراقية بصورة عامة وقصص(ذو النون أيوب) بصورة خاصة كانت تخلو من جذور الواقعية قبل الحرب الثانية ولكن هذا الاتجاه أصبح أكثر تبلورا فيها وأصبحت هي أكثر وعيا بماهية هذا الاتجاه ، فأخذت تركز على أبراز الشخصية العراقية وتصوير البيئة العراقية ، وتعبر عن الإنسان العراقي بمشكلاته وتطلعاته ، كما عنوا بتصوير آثار الاستعمار في فساد الحكم واستغلال النفوذ وسوء التوزيع)(178) .. فهي تستقي مادتها وموضوعها من حياة الشعب العامة ومشكلاته ، وتتناول قضايا المجتمع العراقي ومظاهر البؤس والفاقة التي ترزح تحتها الطبقات العاملة من الشعب)(179) ومن هنا جاءت القصة من (نتاج مكافحين سياسيين اعتبروها مجرد أداة من أدوات الكفاح السياسي)(180) وربما أختلف في تسمية واقعيته هذه ، فهي واقعية اشتراكية في نظر بعض الباحثين أو واقعية جديدة كما يسميها الدكتور عمر الطالب وهو قد يعني الواقعية الاشتراكية أيضا لأن هذه (موقف من مواقف الحياة)(181) ترى أن على الأديب أن يشارك في الأحداث التي تجري ويخوض فيها ، لأن (الأدب نتاج اجتماعي والأديب نفسه وليد البيئة التي نشأ فيها وترعرع في أحضانها ، وصور الأديب وخياله ومشاعره ومزاجه الفكري تستمد من واقع المجتمع الذي نشأ فيه ، فالأديب وليد المجتمع الذي أثر فيه ثم عاد هو ليؤثر فيه بدوره عن طريق الكتابة .. وهو بهذا فرد له فلسفة ونظرته إلى العالم والعصر الذي يعيش فيه والمجتمع الذي نما في أحضانه بما في ذلك طبقاته المختلفة والصراع الذي يعتمل في أعماقه صراع الشعب ضد أعداء الحياة)(182) وهذا ما آمن به (ذو النون أيوب) وعكسه في أدبه وعنده أن الأدب (الذي لا يستهدف بكل ألوانه انهاض المجتمع ودفعه صعداً في مدارج الرقي هو قشور وزخارف لاطائل تحتها ، بل هو عرض فان لايقاوى الزمن وكم يضحكني ، أن يردد بعض السذج إن الأدب الواقعي الذي يعالج المشاكل الاجتماعية الآنية ليس راقيا ولا خالدا ، إن ما يؤثر في الحياة خالد خلود الحياة فعلى الذين يعشقون الخلود ألا يترفعوا عن حاضرهم ومشاكلهم وليتذكروا أن من اخترع العجلة البسيطة خالد خلود الفن الميكانيكي وله فضل عظيم على مخترعي المكائن الهائلة الشائعة اليوم . إن الأدب الواقعي الطبيعي هو في نظري أرقى أنواع الأدب وأثمنها فمن أراد تقدما في الأدب ورقيا فليدرس هذا الأدب ويمارسه ، والقصة الواقعية أجمل فنون هذا الأدب)(183) ومن هنا جاءت كتابات (ذو النون أيوب) تستهدف (الفكرة السياسية والاجتماعية وقد حصر أمانيه في مستقبل أفضل للطبقات العاملة وللشعب العراقي قبل كل شيء)..(184) ومن هنا ينبع مفهوم الالتزام في أدبه .. فالأدب ميدان للنضال الاجتماعي والسياسي .. وهو يعمل لا للكتابة نفسها ، وإنما بجعل منها وسيلة لغاية أخرى ينحاز تجاهها في الحياة (إن الفنان غير الموجه لا يساوي أكثر من منظر خال من الحكمة والعقل وإن المعاني وما تستهدفه من سمو هو ما يخلد الفنان ، إن الأساليب تتغير وتفنى ولكن الآراء الصائبة هي الأحجار في بناء الحضارة في العالم والفنان الذي غايته المتعة المجردة والتسلية الفجة لا يختلف كثير ا عن مرقص قرد أو دب)(185) .. فهو ينطلق من مفهوم الواقعية الجديدة في أدبه لأن هذه (حين ترى الأدب إنه فن له رسالته الاجتماعية ترى إذن أن له دورا خطيرا في تنظيم المجتمع يؤثر في تطوره الإنساني وذلك يعني إن على الكتاب مسؤولية اجتماعية وطنية إنسانية وإن هذه المسؤولية تفترض الإخلاص والصدق في العمل الأدبي).(186) وقد تكون واقعية (ذو النون أيوب) هذه ، واقعية إنتقادية ، في نظر بعض من الباحثين وقد تكون لونا آخر منها عند آخرين ، وهكذا تختلف التسمية باختلاف من يطلقونها ولكني أتفق مع الدكتور عبد الإله أحمد عندما يحددها بالواقعية السياسية الساذجة ، منطلقا من أن هناك سمة عامة بارزة تحدد أدبه ونعني بها السياسة وهو لا يرى الأدب إلا من خلالها .. يقول:(والذي حدد اتجاه (ذو النون أيوب) الواقعي هو بالذات الحافز الذي ساقه إلى كتابه القصة في منتصف الثلاثينيات ولم يكن قبل ذلك قد فكر أن يكون قصاصا حين أصطدم بالحياة اصطداماً نبهه بل أيقظه وأقنعه بأن الكثير من المتناقضات في المجتمع وفي منطق رجال الحكم يرجع إلى عوامل جذرية تكاد تنتظم كل نواحي الحياة فأثاره ذلك ووجد رغبة في التعبير عن آرائه وخلاصة تجاربه وانتقاداته بأسلوب قصصي ولم يكن أمامه لتحقيق هذا الهدف غير تحري حقيقة هذه العوامل الجذرية التي تنتظم كل نواحي الحياة في المجتمع والسعي إلى إذاعتها بين الناس مهما كلفه أمر إذاعتها من نصب وأذى ، لذلك كان تحري الحقيقة وإذاعتها بين الناس هو هدف (ذو النون أيوب) الأساس من اتجاهه إلى الكتابة وهو في الوقت ذاته المنطلق الذي حدد مفاهيمه الأدبية وحدد بالتالي مسار اتجاهه القصصي ... وقد كان واضحا في ذهنه دائما إن هذه الحقيقة التي يسعى إلى كشفها وإذاعتها ترتبط بالنواحي الاجتماعية ذات الاتجاه السياسي ارتباطا وثيقا ، لذلك جاءت قصصه وهي تتناول نواحي من نواحي حياتنا الاجتماعية ذات رابطة وثيقة بالنواحي السياسية كما عبر عن ذلك في التحذير الذي نشره في ختام مجموعته القصصية الخامسة برج بابل عام 1939 . وقد أوضح في مناسبات متعددة طبيعة هذا الترابط فكان مما قاله تحديدا لـ(لواقعية) وهو يتحدث عن أدب القصة في العراق (الواقعية تتطلب ارتباط الأدب ارتباطا وثيقا بالظروف الملابسة له من اجتماعية واقتصادية وسياسية وكلما ازدادت هذه الصلة برز الطابع الخاص طابع الوسط الذي نشأ فيه ، والقصاص اقدر الناس على ذلك في نظري خصوصا إذا كان واقعيا إذ إن هذه الصفة فيه تتطلب منه إن يجعل المجتمع الذي يعيش وسطه مادة ما يكتب وأبطاله من بنيه ، فإذا ما كان وطنيا مخلصا وضرب بسهم في الفن استطاع أن يخلق شيئا مستساغا يقبل عليه الناس اقبالا يشجعه ويدفعه إلى الإجادة والتكامل) ... وإذا كان لا يحق للأديب (أن يخضع لمفاهيم سياسية حزبية خاصة تستعبده وتحدد وجهات نظره وتضرب حوله نطاقا لا يمكن تخطيه) فإن ذلك لا يعفيه (من مهمة النضال السياسي حينما يكون في أمة مستعمرة مضطهدة يحكمها الطغاة والخونة وإن عليه في مثل هذه الحالة أن يكرس قلمه لرفع الحيف وفضح الظلم وإثارة الناس على الطغيان) وإذا كان يبدو أن (ذو النون أيوب) في مفهومه هذا للأدب القصصي الواقعي يقترب من جوهر الواقعية الحقة ، فإنه قد ضيق من مفهومه هذا حين فهم إن وظيفة الأدب السياسية هي معالجته بشكل مباشر لمشاكل سياسية معينة قائمة فعلا في بلاده ولم يفهمها كما فهمها كبار الواقعيين على نحو يبعد بها عن هذه المباشرة الآنية ويعطيها قيما إنسانية أرحب .. كما إن (ذو النون أيوب) وقد تملكه هذا المفهوم الضيق للأدب الواقعي وأهدافه لم يدرك أن الأدب الواقعي الحق لا تأتي قيمته من محتواه الاجتماعي والسياسي فحسب وإنما تأتي قيمته بالضبط لأنه يعالج هذه النواحي الاجتماعية والسياسية على نحو يوفر له قدرا من النواحي الجمالية والفنية لا غنى لأدب يستحق هذا الاسم عنه ) (187) . فـ(ذو النون أيوب) يرفض الاهتمام بالشكل الأدبي ناسيا أن الواقعية الحقة (تهتم بالشكل الأدبي على قدر اهتمامها بمحتواه وموضوعه ذلك لأنها ترى أن الشكل لا ينفصل عن المحتوى فكل منهما مؤثر في الآخر ومتأثر به ، وانه لا يكتمل جمال الفن الأدبي ولا تؤدى رسالته الاجتماعية إلا إذا تناسب جمال الشكل وقيمة المحتوى والموضوع تناسبا طرديا إيجابيا)(188) . وهو لا يصور الواقع تصويرا تسجيليا بخيره و شره وإنما هو يأخذ من الواقع ما يتفق ووجهة نظر يريد تأييدها ، يرى الحياة من خلالها .. وواقعية (ذو النون أيوب) لا تخلو من ذاتية ، فهو ينقل لنا الواقع من خلال تجاربه الخاصة هو .. وهناك من يرفض أن يتخذ الأديب تجاربه الخاصة موضوعا للأدب الواقعي ، (لأن الحياة تزخر بالتجارب المتناقضة والعواطف المتباينة ، وتجربة كاتب من الكتاب هي نقيض تجربة كاتب آخر)(189) .. بل أن أبرز خصائص أدب (ذو النون أيوب) ، هو هذه الذاتية الصارخة .. ولكنها ليست الذاتية المنغلقة المفصولة عما سواها .. بل ان ذاته تتوسع حتى تشمل كل ما يحيطها .. وحتى تذوب في ذوات الآخرين ، فتعرض همومهم وآلامهم وكأنها همومها وآلامها .. أنها الذات الاجتماعية ، إن صحت التسمية .. وهو يخضع في كتاباته لنظرية مسبقة ومتخيلة سلفا عن الواقع .. يؤمن بها ، ويريد أن يفسر من خلالها الواقع .. فهو يفترض افتراضات ، منها ما هو سياسي ، واجتماعي واقتصادي ثم يبحث عن نماذج واقعية وأمثلة حياتية تطابق تلك الافتراضات. وكل كتاباته تنطوي على عنصرين رئيسين : ( الأول : إن لكل حدث أو موقف دلالة اجتماعية أو دلاله ذهنية كالصراع الطبقي... اتجاه الفلاح للكفاح ضد الإقطاعي في سبيل حياة أفضل كما فعل سليم في رواية (اليد والأرض والماء) وتكتل الشعب حول شعارات مكافحة الاستعمار والتحرر والعدالة الاجتماعية كما في (اليد والأرض والماء) وأما العنصر الثاني فهو العنصر الرومانسي الذي يكتشف صفات الفروسية والبطولة والنبل في الإنسان العادي ، فهي تلغيه كإنسان واقعي لتنفذ إلى ما تعتقد إنه جوهره ، ولذا يكشف لنا فلاحون متعبون مرهقون عن قلوب بيضاء نبيلة شجاعة مثل سليم في (اليد والأرض والماء) .. وعمال مضيعون إلى أبعد حد عن مكافحين متماسكين واعين))(190). وعندما أراد (ذو النون أيوب) أن يكتب عن شخصيات خارج طبقته ، إذ ينتمي إلى الطبقة الوسطى انتزع شخصياته تلك من العمال ، والفلاحين .. ولم تأت أغلب هذه النماذج معبرة عن سمات ومعضلات هذه الطبقات .. فلم يستطع أن يهبها الحياة .. فلم تكن نماذج واقعية تماما .. فهذا التعاطف والحب للشعب من قبل الكاتب ودفاعه عنه ، وتعبيره عن واقعه المرير لن يكفي ما لم يصاحبه الفهم العميق لذات النموذج المطروح. وهو دائما يستمد أبطاله وحوادثه من الواقع لا يتجاوزه حتى ((أخذ الكثير من القراء يقرئون أحداث قصصه بحوادث واقعة معروفة في بلده وبأشخاص معينين بالذات وزادوا على ذلك أنهم استغلوا شخوصها فتنابزوا بأسمائها عند الشجار .. وقد حمله ذلك على أن يحاول أن يدفع عن نفسه تهمة أنه يقصد فيما يكتبه حادثة معينة أو شخصية بالذات))(191) وبالرغم من نهجه الواقعي فإن شخوصه يبدون ((مثاليين لا ينتمون إلى بيئة نعرفها حقا))(192) فهو يستمد الحادثة والموضوع من بيئته .. وفي هذه أشياء تستثيره، وتكون لديه انطباعا وفكرة محدودة فيبدأ يكتب عن تلك الفكرة أو الرأي متخذا الأسلوب القصصي وسيلة ، فتأتي كل أدوات هذا الفن وسائل هي الأخرى .. الشخصيات .. الأحداث ، الحوار ، الخ .. فهذه مجرد وسائل عنده .. ولهذا تأتي شخوصه مطلقة لأنها تمثل أفكارا مطلقة ... وفي غمرة انهماكه في تفصيلات فكرته ينسى إنه يكتب عن الواقع ، فيجور على هذا الواقع ويذكر عنه ما ليس فيه كما تحدث عن سلوك الدكتور حسام وخطيبته الدكتورة هيفاء ، فإن هذا السلوك وطبيعة العلاقة بينهما (تبدو كما صورها المؤلف غير منطقية في واقع اجتماعي كالعراق .. فهما متصلان أبدا ، لا نرى أحدهما إلا ومعه الآخر، وكأن حياتهما خلت من الناس وكأن لا حسيب على سلوك امرأة لا يربطها برجل إلا رابط الخطبة ، وكأن ليس هناك في عالمهم المتخلف من التقاليد التي تحول بين صلة لا يمكن أن تكون على النحو الذي صوره المؤلف في مجتمع كالعراق إلا بعد الزواج ) (193) .. فهو يكتب خادما فكرته فقط وهو ربما جار على فكرته ، إذ يجوز على ما هو معقول ومنطقي ، فتأتي في إطار غير صادق للواقع ، فهو لا يهمه أن يضطرب كل شيء ليخلص له الشيء الواحد ، الأثير ، الفكرة المحددة .
ب – الرومانتيكية : الرومانتيكية مذهب يلمس في أدبه ، لكنه لا يمثل حالة كبيرة في أدبه .. فهي تأتي من خلال المذهب الأكبر في أدبه .. من خلال المذهب الواقعي وقد تختلط بهذين مذاهب أخرى.. المهم إنها ليست بالمذهب البارز في قصصه.. ونلاحظ أنه كتب بها في مراحل محددة في حياته .. مراحل كان يشتد عليه فيها الاضطهاد والضغط الخارجي يصاحبه أحساس بالعجز عن مواجهة ذلك .. ثم فشله وخيبة أمله المتكررة .. كل هذا قاده إلى مرحلة الهروب من واقعه ليخلق له أجواء جديدة علها تخلصه من واقعه المرير ذاك ..ونلاحظ أنه اتخذ هذا الأسلوب في مجموعته (قلوب ظمأى) في أكثر من أقصوصة ، ذلك لأنه كان يعيش حالة نفسية تضيق عليه بعد فشله في الانتخابات .. فقصة سراب من هذه المجموعة (تذكرنا بقصص المنفلوطي المسرفة في عاطفيتها)(194) .. وكذلك قصة (وجه صبوح) حين تتحدث بصراحة عن مشاكله وتنتهي نهاية رومانسية .. والقصة الثالثة في هذه المجموعة (أسير وأسيرة) التي تتخذ هذا الاتجاه الذي يسميه الدكتور عبد الإله أحمد بـ(الرومانسي الساذج) (ومهما يكن من شيء فأن هذه الرومانسية الساذجة التي تجلت في هذه القصص العاطفية الثلاث وتنسحب أيضاً على بعض قصص المجموعة الأخرى مثل قصة ، (زهرة في الرغام) التي تقدم لنا المضمون الرومانسي المألوف.. ولكننا نريد أن نقول إن قصص هذه المجموعة عامة لما شاب ماطرح فيها من أحداث وأفكار من مثالية وعاطفية ، ساذجة أقرب في روحها العامة إلى الرومانسية منها إلى الواقعية الخاصة التي عرف القاص بها ، فالذاتية فيها تبرز بأشد صورة ، وتسطح رؤيته سمة لكل الأقاصيص وقارئها لا يكاد يجد ما يميز قصصها التي كتبت في أوائل الأربعينات عن تلك التي كتبت في أخرياتها ، فكلها قصص يشيع فيها جو كئيب حزين متشائم بحيث يكتسب الإحساس بالألم فيها قيمة خاصة ، إذ نرى البطل فيها يبحث عن مفر يستعصى عليه وهو في ذلك في بعض الأحيان تساوره أفكار تتصل بالموت قد يفلح في أبعادها ، كما في قصة (وجه صبوح) ، وقد تسيطر عليه فتقوده إلى الانتحار كما في قصة (لماذا انتحر) لا فرق في ذلك بين ما يقرؤه في هذه القصص الرومانسية الساذجة التي تعالج الظمأ القلبي إلى الحب أو تلك التي تحدثت عن أنواع أخرى من الظمأ القلبي لصيقة بما يثير القاص من الحياة .. وقد تعد بعض أقاصيصها لوناً جديداً في أدبه لكنها إذا قيست بمعيار من الفن دقيق ، عدت قصصاً رومانسياً ساذجاً في أحسن الأحوال، وإذا أردنا الدقة أكبر صوراً قصصية رومانسية، لا تخلو من روح المقالة لذلك أصبح من المتعذر للدارس تقريبا أن يلمس فيها ما يلمس في القصص الفني الناضج من عناصر بناء ..)(195) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش البحث ـــــــــــــــــــــــــــ
1)القصص في الأدب العراقي الحديث ، عبد القادر حسن أمين ، مطبعة المعارف بغداد ، 1956 ص 53 . 2) ينظر: نشأة القصة وتطورها في العراق ،1908 – 1939 مطبعة شفيق , بغداد ، 1939 ص 259 –264 . 3) ذو النون أيوب يصر على الاستمرار بالتأليف والترجمة حتى يموت ،لقاء أجراه جليل حيدر ، مجلة ألف باء ، العدد 488 ،السنة العاشرة ، 25 كانون الثاني ، 1978 ، ص 47. 4) الأدب العربي الحديث في معركة المقاومة والحرية والتجمع ، أنور الجندي ، 1959 ، ص 316 5) ينظر : ذو النون أيوب يصر على الاستمرار بالتأليف والترجمة حتى يموت ، ص 47 .. 6) ينظر: ذو النون أيوب ، قصة حياته بقلمه ، القسم السادس قبيل الصبح بين فجرين / فيينا 1985 ، ص 48 – 49 ، 87 ، 94 . 7 المصدر السابق ، ص’ 92 . 8) نفسه ، / القسم الثالث / مع الحياة وجها لوجه /الطبعة الاولى – فيينا 1982 ص9 . 9) نفسه ، ص 6 . 10) ينظر : نشأة القصة وتطورها في العراق ، ص 257 – 258 ، 264 - 266 . 11) ينظر : في الريادة الفنية للقصص العراقي (نقد) الجزء الأول ، أشياء تافهة لنزار سليم ، تأليف د. علي جواد الطاهر ، دار الشؤو ن الثقافية العامة ، بغداد – العراق ، ص 21 – 25 . 12) ينظر : نشأة القصة وتطورها في العراق ، ص 284 – 286 . 13) القصص في الأدب العراقي الحديث ، ص31. 14) أنا كاتب محتج وحين لا أجد ما أحتج عليه لا أكتب ، حديث مع مجلة آفاق جامعية ، العدد الثالث ، السنة الأولى ، 1977 ، ص 55 . 15) القصص في الأدب العراقي الحديث ، ص 27 . 16) الرواية في العراق تطورها وأثر الفكر فيها ، يوسف عز الدين ، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، معهد البحوث والدراسات العربية ، مطبعة الجيلاوي ، القاهرة ، مصر، 1973 ، ص293. 17) القصص في الأدب العراقي الحديث ، ص27. 18) نشأة القصة وتطورها في العراق ، ص262. 19) المصدر السابق ، ص263. 20) نفسه ، ص263. 21) نفسه ، ص274. 22) نفسه ، ص279-280. 23) الرواية في العراق ، ص293. 24 -إحدى أقاصيص مجموعته (صور شتى). 25) الأدب المعاصر في العراق ، الدكتور داود سلوم ، ساعدت وزارة المعارف على نشره ، بغداد 1962 ، ص 74 . 26) الأدب ومجالات الأديب ، المجلد الثاني من آثاره الكاملة ، ص 194 . 27) المصدر السابق ، ص 194 . 28) نفسه، ص 194 . 29) نفسه، ص 194 . 30) نفسه ، ص 194 . 31) القصص في الأدب العراقي الحديث ، عبد القادر حسن أمين ، ص 54 . 32) المصدر السابق ، ص 54 . 33) نفسه ، ص 54 . 34) التحذير الذي كتبه في مقدمة المجموعة السابقة (العقل في محنة) المجلد الأول من : الآثار الكاملة لأدب ذي ، بغداد ، وزارة الاعلام 1977 ، ص97. 35) الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية ، عمر الطالب ، دار العودة، بيروت ، ١-;-٩-;-٧-;-٦-;-. ، ص 163 ــ 164 . 36) الفن القصصي في الأدب العراقي الحديث ، عمر الطالب 1971، مطبعة الأندلس، بغداد ، ج 1 ، ص 285 37) المصدر السابق ، ص 285 . 38) نفسه ، ص 286 . 39) نفسه ، ص 229 40) نفسه ، ص 229 41) القصص في الأدب العراقي الحديث ، ص 72 42) الفن القصصي في الأدب العراقي الحديث ، ج 1 ، ص 305 ــ 306 43) المصدر السابق ، ج1 ، ص 299 . 44) أقصوصة إنسان قادر ، مجموعة (صور شتى) ، الآثار الكاملة لأدب ذو النون أيوب، المجلد الثاني، ص228. 45) الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية ، د . عبد الإله أحمد ، بغداد ، منشورات وزارة الإعلام ، دار الحرية للطباعة ، ، ج 1 ، ص 221 . 46) أقصوصة ( عظمة السيد أفضل ) من مجموعته ( عظمة فارغة ) . 47) القصص في الأدب العراقي الحديث ، عبد القادر حسن أمين ، ص 74 . 48) المصدر السابق ، ص 72. 49) فن القصة ، محمد يوسف نجم ، بيروت ,1955 ، ص 108 . 50) المصدر السابق ، ص 109 . 51) نفسه ، ص 101 . 52) ذو النون أيوب يصر على الاستمرار بالتأليف والترجمة حتى يموت ، مجلة ألف باء ، العدد 488 ، ص 46 . 53) القصص في الأدب العراقي الحديث ، ص 74 . 54) المصدر السابق ، ص 74 . 55) المجلد الثاني من آثاره الكاملة ، ص 76 . 56) ص 100 . 57) ص 154 . 58) ص 228 . 59) ص 304 60) ص 260 61) ص 272 62) ص 289 63) ص 51 . 64) ص 94 . 65) ص 108 ــ 109 . 66) ص 106 . 67) ص 186 . 68) ص 207 . 69) ص 204 . 70) القصص في الأدب العراقي الحديث ، ص 76 ــ 77 . 71) الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية ، ص97. 72) المجلد الثاني من آثاره الكاملة .. ( ملاريا ) ص 11 . 73) صيد البشر ، ص 220 . 74) الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية ، ج 1 ، ص 221 . 75) الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية ، ص 38 . 76) الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية ، ج 1 ص 221 . 77) المصدر السابق ، ص 221 . 78) الفن القصصي في الأدب العراقي الحديث ، عمر الطالب ، ص 288 . 79) ( عظمة السيد أفضل ) من أقاصيص مجموعته عظمة فارغة. 80) القصص في الأدب العراقي الحديث ، ص 75 ــ 76. 81) المصدر السابق ، ص 75. 82) نفسه ، ص 76. 83) نفسه ، ص 74 ــ 75 84) الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية ، د . عمر الطالب ، ص 141 . 85) المصدر السابق ، ص 143. 86) نفسه ، ص 142. 87) نفسه ، ص 161 . 88) نفسه ، ص 143. 89) نفسه ، ص 153. 90) نشأة القصة وتطورها في العراق ، ص 263. 91) المصدر السابق ص 274. 92) نفسه ، ص 279. 93نفسه ، ص 273 . 94) الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية ، جـ1، ص 229 . 95) المصدرالسابق جـ1 ، 229. 96) اقصوصة (لماذا انتحر) مجموعة قلوب ظمأى .. الآثار الكاملة لأدب ذي النون أيوب .. ص 176 . 97) المصدر السابق ، ص 175. 98) نفسه ، ص 175 . 99) نفسه ،. ص 174 . 100)نفسه . ص 178 . 101) المصدر السابق ، ص 177 . 102) نفسه ، ص 174 ــ 175. 103) نفسه ، ص 175. 104) الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية ، د . عمر الطالب ، ص 172. 105) المصدر السابق ، ص 152 . 106) نفسه ، ص 145. 107) القصص في الأدب العراقي الحديث ، عبد القادر حسن أمين ص 67 . 108) المصدر السابق ص ، ص67. 109) نفسه ، ص67. 110) نفسه ، ص67. 111) من مجموعته (العقل في محنة) ص 505 من المجلد الأول لآثاره الكاملة. 112) الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية ، ، جـ1 ــ ص 212 . 113) من مجموعته (العقل في محنه) ص 517. 114) من المجموعة السابقة ، ص 553 . 115) الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية ، ج 1 ، ص 212 116) المصدر السابق ، ج 1 ، ص 257. 117) نفسه ، ص 256. 118) نفسه ، ص 257 . 119) نفسه ، ص 242 ــ 243 . 120) نفسه ،ج 1 ، ص 249 . 121) نفسه ص 250 . 122) ، نفسه ، ص 255 . 123) نفسه . ص 255 . 124) نفسه . ص 257 ــ 258 . 125) نفسه ، ص 215 . 126) فعل ذلك عندما نشر أقصوصة (العبء العظيم) ، في مجلة المجلة ، باسم حسين علي .. ولقد أشير إلى هذا في نفس المصدر السابق . ص 216 . 127) المصدر السابق ص 229 . 128) من وقف عندها لا يرى إلا هذا الظاهر.ينظر .. (القصص في الأدب العراقي الحديث) لعبد القادر حسن أمين، ص64. والأدب المعاصر في العراق لداود سلوم ص75. والأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية لعبد الإله أحمد جـ1 ، ص219 ويلاحظ ما مكتوب في الهامش عنها. 129 -130 -131) هذه الاقتباسات فقط من تمهيد (العقل في محنة) وما يأتي من اقتباسات محصورة بين الأقواس فمن الاقصوصة نفسها. 132) من تمهيد مجموعته (العقل في محنة) . 133) - ينظر : ذو النون أيوب : يصر على الاستمرار بالتأليف والترجمة حتى يموت ، ص 46. 134) - ينظر : ( أنا كاتب محتج.. وحين لاأجد ماأحتج عليه لا اكتب) حديث مع (مجلة آفاق جامعية) العدد الثالث/ص55/ السنة الأولى ، 1977. 135) - أستطيع أن أقول إنه تأثر بقصة تورجينيف ((بطل من هذا الزمان)) التي تعتمد هذا الأسلوب في كتابة روايته ((الرسائل المنسية)) وتأثر بموضوعها أيضا. وتأثره بالأدب الروسي واضح وهو يؤكده ، وكان قد طبق هذا الأسلوب في رواية ((الدكتور ابراهيم)). 136) - ينظر (أنا كاتب محتج) ، ص55. 137) - الرواية في العراق/يوسف عز الدين /ص292. 138) - أبو هريرة وكوجكا (المخطوطة) ص4. 139) – المصدر السابق ص 4. 140) – الرواية ص 4 . 141) - (أنا كاتب محتج) ص52 -55. 142) - الرواية ص1. 143) – المصدر السابق ص 1 . 144) - نفسه ص 2 ، ويلاحظ أن ما وصف به البطل ينطبق عليه في حياته وكتابته. 145) – نفسه ص 2 . 146) –نفسه ص 2 . 147) – نفسه ص 2 . 148) - نفسه ص 4. 149) – نفسه ص 4 . 150) - الفصل السادس من الرواية ، ص 26. 151) - تعني بالجيكية : القطة. 152) - ينظر : (أنا كاتب محتج ..)/ص54. 153) - الرواية ص16. 154) االمصدر السابق ص21. 155) – نفسه ، ص23 156) - نفسه . 157) – نفسه ، ص85. 158) –نفسه , ص86 . 159) –نفسه ، ص 86 . 160) –نفسه ص78 . 161) – نفسه ، ص89-90. 162) – نفسه ، ص91. 163) - نفسه ص72. 164) – نفسه ص72. . 165) - نفسه ، ص79. 166) - نفسه ، ص173-174. 167) – نفسه ، ص4. 168) - ينظر (أنا كاتب محتج)/ص54. 169) - الرواية ص51. 170) - ينظر (ذو النون أيوب يصر على الاستمرار بالتأليف والترجمة ..) مجلة ألف باء/ص46-47. 171) - ينظر (أنا كاتب محتج) ص53-54. 172) - المصدر السابق /ص55. 173) - الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية ، ج1 ص226. 174) - المصدر السابق ص226- 227. (175) ينظر : معجم البابطين(للشعراء العرب المعاصرين) الجيل الثاني البناة 1935 – 1948 http://www.albabtainprize.org/encyclopedia/. (176)ينظر :تعددية المذاهب والاساليب والتيارات المسرحية في النص المسرحي العربي الواحد / اسماعيل الياسري almothaqaf.com/jupgrade/index.php 177) الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية ، الدكتور عمر الطالب ، ص 6. 178) المصدر السابق ص 7. 179) نفسه ، ص 5. 180) ، نفسه ، ص 77. 181) ، نفسه ، ص 82. 182) نفسه ، ص 83. 183) مختارات ذو النون أيوب ، 1958 ، ص 67. 184) الفن القصصي في الأدب العراقي الحديث ، عمر الطالب ، ص 294. 185) مختارات ذو النون أيوب ، ص 72. 186) الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية ، ص 86. 187) الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية ، ، جـ 1 ، ص 197 ـ 202 .. 188) الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية ، ص 95 . 189) المصدر السابق ، ص 13. 190) نفسه ، 93 . 191) الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية ، ج 1 ، ص 208 . 192) المصدر السابق ، ص 222 . 193) نفسه ، ج 1 ، ص 222 ــ 223 . 194) نفسه ، ج 1 ، ص 233. 195) نفسه ، ج 1 ، ص 234 - 235 .
المصادر :
*- الآثار الكاملة لأدب ذي النون أيوب ، المجلد الأول والثاني ، بغداد ، وزارة الاعلام 1977 . * - أبو هريرة وكوجكا ( مخطوطة ) . *- الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية ، عمر الطالب ، دار العودة ، بيروت ، ١-;-٩-;-٧-;-٦-;-. *- الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية الجزء الأول والجزء الثاني ، د . عبد الإله أحمد بغداد منشورات وزارة الإعلام دار الحرية للطباعة 1973 . *- الأدب العربي الحديث في معركة المقاومة والحرية والتجمع .. أنور الجندي ، 1959 . *- الأدب المعاصر في العراق ، الدكتور داود سلوم ، ساعدت وزارة المعارف على نشره ، بغداد 1962 . *- الدكتور ابراهيم ، ط 2 ، شركة التجارة والطباعة ، بغداد 1960 . *- ذو النون ايوب / قصة حياته بقلمه / القسم الثالث / مع الحياة وجها لوجه /الطبعة الاولى – فيينا 1982 . *- ذو النون ايوب / قصة حياته بقلمه / القسم السادس قبيل الصبح بين فجرين / فيينا 1985 *- الرسائل المنسية الآثار الكاملة لأدب ذي النون أيوب ، المجلد الثالث . *- الرواية في العراق تطورها وأثر الفكر فيها ، يوسف عز الدين ، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، معهد البحوث والدراسات العربية ، مطبعة الجيلاوي ، القاهرة ، مصر، 1973 . *- فن القصة ، محمد يوسف نجم ، بيروت ,1955 . *- الفن القصصي في الأدب العراقي الحديث ، عمر الطالب ، 1971 ، مطبعة الأندلس، ببغداد . *- في الريادة الفنية للقصص العراقي (نقد) الجزء الأول ، أشياء تافهة لنزار سليم ، تأليف د. علي جواد الطاهر ، ( الموسوعة الصغيرة ) دار الشؤو ن الثقافية العامة ، بغداد – العراق . *- القصة في العراق ، يوسف عز الدين - جذورها وتطورها ،1974 . *- القصص في الأدب العراقي الحديث ، عبد القادر حسن أمين ، بغداد ، مطبعة المعارف ، 1956 . *- نشأة القصة وتطورها في العراق 1908 - 1939 ، د . عبد الإله أحمد ،مطبعة شفيق ، ببغداد . *- مختارات ذو النون أيوب ، 1958 .
المجلات: *- أنا كاتب محتج.. وحين لاأجد ماأحتج عليه لا اكتب.. حديث مع (مجلة آفاق جامعية) العدد الثالث/ص55/ السنة الأولى ، 1977. *- ذو النون أيوب يصر على الاستمرار بالتأليف والترجمة حتى يموت ،لقاء أجراه جليل حيدر ،مجلة ألف باء ، العدد 488 ،السنة العاشرة ، 25 كانون الثاني ، 1978 ، ص46 . من الإنترنيت : -*تعددية المذاهب والاساليب والتيارات المسرحية في النص المسرحي العربي الواحد / اسماعيل الياسري almothaqaf.com/jupgrade/index.php/. *-معجم البابطين(للشعراء العرب المعاصرين) الجيل الثاني البناة 1935 – 1948 http://www.albabtainprize.org/encyclopedia/... .
#بتول_قاسم_ناصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التفكيكية والديمقراطية الرأسمالية
-
الحوار المتمدن مع اسحاق الشيخ يعقوب
-
اللاعقلاني في حركة الحداثة
-
3 - بين ملحمة كربلاء وملحمة كلكامش
-
2 - ملحمة كربلاء
-
ملحمة كربلاء والفن الملحمي
-
في الأسس الفلسفية للسميولوجيا جدل المربع والدائرة
-
السرطان : جدل الوجود بالقوة والوجود بالفعل
-
ثورة الرابع عشر من تموز ، إرادة شعب وإنجاز بطل
-
الحياة الخلوية : أي المركبات العضوية فيها أسبق في الوجود
-
المرأة : سر ظهور الخلق
-
الحزب الشيوعي والانتخابات
-
دعوة متكررة الى مشروع ثقافي لإنقاذ العراق
-
من ذكريات 8شباط الأسود - جارتنا أم عباس -
-
تداخل الأجناس الأدبية في (المقاصة) / أبو هريرة وكوجكا - انمو
...
-
مع الفلاسفة الإلهيين في استنباط القانون المطلق
-
دفاع عن هيجل
-
دور المرأة في تحقيق الوفاق والتلاحم الوطني
-
الفلسفة التربوية وأهدافها ومناهجها - رأي في بعض ما يكتب فيها
...
-
التشريعات الثقافية
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|