احمد مصارع
الحوار المتمدن-العدد: 1357 - 2005 / 10 / 24 - 10:49
المحور:
الادب والفن
كنت أتوقع له النجاح في وظيفته كمعلم متفوق , فأثناء دراسته في معهد تكوين المعلمين , برزت قدراته الفائقة , بل ومواظبته وحبه للعمل , والأهم حيويته ونشاطه , بل وفضوله في معرفة كل شيء له علاقة بالمنظومة التربوية والتعليمية , وذلك ابتداء من العناية بهندامه , وصولا الى دراسة أدق التفاصيل للأطوار النفسية التي يمر بها الطفل , للربط بين المعلومة وقابلية الطفل على التعلم التربوي , في مراحلها الأساسية الثلاث , من التأسيس السلبي للحيوية الطفولية الحركية الزائدة , فالإيقاظ في مرحلة ثانية , وبساطة الاستنتاج ومتعة الاكتشاف , وحتى مرحلة التوجيه المعقدة في الكشف عن اهتمامات وميول الطفل لدفعه نحو التوافق مع مواهبه .
كانت بداية معرفتي بالمعلم بدر , أثناء المقابلة الشفوية في امتحانات القبول , فقد اكتشفت فيه نبوغا لا يضاهى في المواد العلمية , ومما استغربت له أن يطلب مهنة التعليم , في حين يمكن له حين يكمل دراسته الجامعية في العلوم الدقيقة , فسيكون عالما بكل معنى الكلمة , وهذا من أبسط حقوقه , واكتفى بالرد المؤدب : عندي ظروف خاصة يا أستاذ .
مضت سنوات الدراسة , وجاءت وقت للتخرج والعمل , ولم يحدث شيء جديد , ومع بداية السنة الدراسية فوجئت بزيارته لي أثناء العمل , وبعد حديث قصير , كان يبشرني بتسجيله بالجامعة فرع الرياضيات , وكانت تلك أمنيته , وهي رغبة نادرة بين أبناء جيله , وفرحت له كثيرا , ولم يمض عدة أشهر حتى عاد للقاءي بنفس الطريقة , ليقرر ترك الدراسة الجامعية , فشعرت بالخيبة معه , ولكنه برر ذلك بالظروف الخاصة الصعبة التي يعيشها , ورغم مبادرتي مستعدا لمساعدته ماديا لإكمال الدراسة , أجاب باختصار , ليست المادة وحدها السبب في قراري , شكرني بلطف , وعن العمل فقد أكمل إجراءات تعيينه كمعلم في إحدى المدارس الأساسية
والتي تقع في منطقة جبلية نائية عن مركز المدينة .
كان ذلك قبل رأس السنة الميلادية , في جدع الشتاء المهيب , وهو ملتحف بعباءته الثلجية الثخينة , التي لن تتهرأ , ولن تتمزق بسهولة , وكان المعلم بدر , في مدرسته مستنفرا , فمن العادة أن تعتبر مؤسسات التعليم مثل هذه الظروف , حالة طوارئ قصوى , لأن تلاميذهم من الأطفال صغار السن , وهم لا يدركون خطورة المحيط الثلجي المحدق بهم ضاحكا , ولكنه من الممكن أن يبكيهم كثيرا فيما بعد , ولذلك كان قسمه خاويا , وكان يشرب القهوة الساخنة ويدخن سيجارة , حين حل عليه ضيف ثقيل أثقل من عتمة الشتاء , كان منكمشا من البرد , والمدفأة تتمدد بحرية أكثر منه , فوجد نفسه وجها لوجه أمام المفتش عبد القادر , بملامحه الصارمة أثناء العمل , وبقيافته المبالغ بها , يسأله بجدية واستغراب : أين التلاميذ؟!.
فرد عليه بكل برود , فقد كان منكمشا من البرد الذي لم يعد يقدر على احتماله , وخصوصا , عندما بإيصال التلاميذ الى بيوتهم , بل وبقي عرضة للبرد لأكثر من ساعة: لقد صرفتهم الى بيوتهم يا أستاذ .
المفتش بل الحاج عبد القادر , ثارت ثائرته , وصار صيفا في الشتاء القارص , والحق كله على السيارة المكيفة التي لا تجعل المرء يحس بفظاعة البرد , وحقيقة المحيط .
وبدأت لحظة الحساب : من أنت حتى تسمح لنفسك صرف تلاميذ الصف ؟!. هذه ليست من صلاحيتك , هذا هو الإهمال بعينه , لا توجد جدية في العمل , بل فوضى وتسيب , فما هي الفوضى والتسيب ؟ إنها عدم الانضباط الصارم في أوقات الدوام المحددة , وأمام قدسية المصلحة العامة فلا بد من إنزال أقصى العقوبات بالمتهاونين .
المعلم بدر الذي وقف مرحبا به بداية كان قد جلس ثانية , والمفتش واقف وهو يغلي كقدور الضغط التي تصفر , فوجئ بالموظف الجديد يقول له : لماذا تأكل نفسك يا أستاذ , اكتب تقريرك على الصورة التي تشاء .
صرخ الحاج عبد القادر بغضب : أنت مطرود , مفصول عن العمل منذ الآن ..
بينما تناول المعلم بدر بعض أشيائه الشخصية , وهو يسأل باستسلامية قدرية بالغة : منذ الآن ؟
خرج الى الطريق , ووقف يراقب المساحات الثلجية الكبيرة , التي يبدو من معالمها سوى طرق الإسفلت الافعوانية السوداء , منتظرا مرور سيارة تقله للمدينة , وحين عاد الحاج عبد القادر لمحه واقفا خارج القرية , ولكنه تجاهله ومضى في طريقه , بينما اصطنع المعلم بدر سابقا , وضعية من لم يره أبدا .
أخبرني المعلم بدر سابقا , بما حدث معه بالتفصيل , وبادرت الى التخفيف من وقع الصدمة , ورغم أن لا توجد صلة صداقة تربطني بالمفتش الحاج عبد القادر , فقد تهيأت لمقابلته بحثا عن تسوية لائقة , ولكنه منعني من القيام بذلك , ولأول أسمعه يقول : يا أخي , أقسم عليك أن لا تفعل شيئا , وانقطع عن زيارتي لسنوات .
تردت الأوضاع الاقتصادية , وأول ضحايا الأزمات العامة هو التعليم , وزادت الفجوة مابين الطموح والواقع اتساعا , وارتفع مستوى المعيشة , في حين انه هبط الى مستويات قياسية , فالتحق قسم كبير من العاملين في التربية والتعليم بقطار فقراء المجتمع , فقد تآكلت الميزانيات واختلت المدفوعات وتقحطت , فلم تعد المعنويات عالية , فالآمال محبطة , ومن المعروف فان الأزمات حين تعلي من أقيام السلع المادية , فإنها ترخص قيمة البشر .
لقد صارت حكاية المفتش عبد القادر مع المعلم الذي طرده يوما ما من سلك التعليم , طرفة يتحدث بها معظم العاملين في سلك التربية والتعليم , بل إن معظم المعلمين , أصبحوا يتمنون لو أنهم كانوا في الماضي قد طردوا بنفس الطريقة , ولكان لهم وضع اجتماعي واقتصادي أفضل مما هم عليه الآن !.
ذات مساء كنا نجلس في المقهى نتحدث في شؤون التعليم , وهي أحاديث ساخنة وذات شجون , فقد صار التطرف سمة شائعة , الأمر الذي يندفع فيه الجدال الدائم بين المتقابلين , الى درجة الانقسام السياسي مابين السهل والصعب , لا يكون الاعتدال عادة حميدة أو سائدة , وكأن روح الشباب قد وضعت وجها لوجه مع الكهولة الصارمة , وقد ربت على كتفي برفق الأستاذ الذي يجلس بجواري , ونحن نستدير حول طاولة صغيرة لاتستوعبنا وهامسا بأذني : انظر الى هذا الداخل , فان له قصة طريفة سأقصها عليك بعد قليل , سألته : من هو ؟ , فأجاب : انه المفتش الحاج عبد القادر , وسأل : هل تعرفه ؟ فأجبت بالنفي , ثم التزم الصمت حين رآه يجلس معنا , ومن شدة فضولي لمعرفة قصة زميلي في العمل , فقد دفعته بعد قليل دفعا لنخرج سوية , وقد تركناه وهو يتحدث بكل ثقة عن ضرورة الانضباط والصرامة في العمل , بوصفه الشرط الذي لابد منه للنجاح .
قال : بالأمس كان الناس يتحدثون عن مصادفة طريفة , وقعت له أثناء زيارة تفتيشية في إحدى القرى , وكما تعلم , فالمفتش لم يعد له سيارة كما كان في الماضي , في الطريق أثناء انتظاره الطويل لمركبة تقله , بدأت الثلوج بالتها طل , حين وقفت سيارة فاخرة لتنقذه من الانتظار طويلا , وربما الانجماد , وعند استراحة سياحية في منتصف الطريق , توقف صاحب السيارة داعيا المفتش للنزول لاحتساء القهوة , وبدون أي تأخير أوصله للمدرسة , وتواعد معه على اللقاء للعودة معا , عند انصرافه , وهذا ما حدث , وعند العودة طلب من المفتش الحاج عبد القادر أن يقبل دعوته للغداء , فاعتذر لانشغاله , ولكنه أصر على معرفة السيد المحترم , وقد حاول مضيفه التهرب من الإجابة , ولكنه حلفه أن يخبره من هو ؟ وفوجئ المفتش , بشخص يحتفظ له برد الجميل , لالشئ سوى أنه - المفتش - كان سببا في طرده من المدرسة , لأنه لولا ذلك كان سيبقى معلما فقيرا ولما كان أصبح من رجال الأعمال , ويقسم الحاج عبد القادر أنه كان صادقا في دعوته , ولم يقم بذلك تشفيا , لأنه سأله بكل وضوح , هل أنت اليوم ناقم علي يابني ؟. فقد رد عليه : أبدا والله , ليسامحنا الله جميعا , ولم يزد عليه شيئا .
قلت له هل تعرف من هذا المعلم السابق ؟
قال كيف لا اعرفه , لقد كنا زملاء في الدراسة الثانوية , وكان عبقريا في المواد العلمية خاصة , وبما أنه كان يعاني من ظروف خاصة قاسية لا داع لذكرها , فقد تخلف عن الدراسة الجامعية .
قلت له مازحا : إذا قلت لك الحرف الأول من اسمه ؟ هل تؤكده لي ؟. قال جازما نعم , قلت : بدر , ضحك وقال بل هذا اسمه , وراح يشك بمعرفتي للقصة قبله , وحين ضحكت , قال الآن عرفت لقد كان احد طلاب المعهد , علقت : ولكنه لم يكن طالبا عاديا ولكننا خسرناه في التعليم بسب الصرامة والانضباط .
علق مستغربا : ولكنك من جيل تميز بالصرامة والانضباط , قلت نعم , أنت على حق , ولكنني لست من النوع الذي يجعل من الصرامة والانضباط قناعا يخفي وراءه ضعف الضمير وقلة الوجدان .
أضاف : على كل حال فقد ربح وحقق لنفسه نجاحا ماديا كبيرا .
قلت : لا, فقد خسر نفسه أولا, وخسره العلم ثانيا , وخسره التعليم ثالثا , والأنكى من ذلك حين يصبح الربح المادي قيمة عليا في المجتمع , بل ودالة في النجاح , أم أن لك رأيا آخر ؟!.
قال : نعم , فإذا بقيت الظروف السائدة البائسة , هذه الأيام , فإننا إذا لم نجد من يطردنا , فسنضطر لطرد أنفسنا !.
وتواد عنا على الضحك المرير ..
#احمد_مصارع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟