|
حركة راقصة أخيرة
مفيد عيسى أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1357 - 2005 / 10 / 24 - 04:42
المحور:
الادب والفن
الرجل الوحيد الذي يسكن البيت المغلق دائماً الواقع في وسط الحي، الرجل الصامت الذي يسكن البيت الغامض شوهد يرقص بالخنجر. لم يدم المشهد سوى ثوان و لم تكن مساحته تسمح برؤية كامل جسده، ثلثه الأعلى فقط، رأوه يرفع يده اليمنى شاهراً بها الخنجر رأسه يميل إلى اليمين قليلاً و عيناه نصف مغمضتان، دار على نفسه و يده اليسرى ممدودة ، ليس إلى مداها بل كجانح هضيم، أغمض عينيه كبوذي متأمل و هوت يده بسرعة خاطفة انزلق إلى الأسفل واختفى من المشهد استمرت موسيقى غريبة و صاخبة تنبعث من داخل المنزل. في تلك اللحظة تراجعت إلى الوراء و أغلقت البوابة ثم أعدتها مواربة، فكرت ربما تركها قصداً منتظراً قدوم أحد ضيوفه الصامتين مثله فهو عادة يغلقها فور تخطيه عتبتها وكأن ثمة من يطارده ينظر إلى القفل ليتأكد من ارتجاه و يدخل، في البداية قلت بالتأكيد نسيها مفتوحة لكن ما إن صعدت الدرجات الثلاث المؤدية إليها حتى سمعت موسيقى اعتاد أن يستمع إليها كان الصوت عالياً، وقفت على عتبتها و رأيته في حالته تلك، لم يكن أمامي مباشرةً بل شاهدته من انفراج الستارة خلف النافذة يرقص بالخنجر. لم أصدق عيني و لكن هذا ما جرى لم أكن أنوي التطفل عليه....... أراد البقال أن يكمل غير أن أستاذ المدرسة الذي كان يستمع إليه قاطعه و هو شارد قائلاً: أرجوك رجاءً شخصياً لا تخبر أحداً بذلك. - كما تريد لكن لماذا كان يفعل ذلك..؟ - لا أدري .. لا أدري. كما تغني أحياناً.. قد تكون حزيناً أو فرحاً ..لكنك لو سألت ستعجز عن الجواب. هز البقال رأسه و انصرف ليدخل دكانه توقف واستدار لينظر إلى المنزل من جديد، لم يستوعب كلام الأستاذ هل الغناء مثل الرقص بالخنجر. السور العالي يضم وحشةً و غرابة تخرج من إساره شجرتين، تفيض على حوافه و تدب من شقوقه إلى الخارج نباتات العليق بأزهارها البنفسجية الكئيبة، يحتضن البيت و يحجبه عن الرؤيا إلا جزئه العلوي حيث تظهر الحجارة الصفراء و نهايات النوافذ الطولية و الستائر الداكنة ، حديقته غير مشذبة التفت شجيراتها وورودها مكتنفة زوايا مظلمة تضطجع فيها قطط خمولة، بوابة الحديقة مصمتة لا تسمح برؤية ما في الداخل .. معالم المكان تدل على توقف تأثير الإنسان فيه منذ زمن بعيد، الرجل يشبه هذا المكان لدرجة كبيرة فهو يبدو كشجيرة من شجيرات حديقته أو كأحد أبوابه أو نوافذه، كجذع هرم انفصل عن أصله ومضى .. مظهره مشوش و مهمل .. فوديه طويلين، كاهليه ناتئان و جسده ناحل ، له عينان حزينتان بنظرة متأملة و جميلة، مشيته مميزة، قليل الكلام..و من الغريب حقاً أن يرى وهو يرقص بالخنجر. الرجل الغريب لا يليق بهذا العمل، كثيرون قالوا لا يمكنه أن يفعل ذلك فهو وقور و هادئ و هزيل إلى حد يبدو وكأن سيتفكك عند أي حركة قوية و هذا عمل أولاد ثم من أين أتى بالخنجر...؟ ربما هي سكين مطبخ أو سكين مكتب يفض بها المغلفات ، و لم يرقص بالخنجر في الداخل .. ما غايته من ذلك .. حي عجيب...أهله بارعون بتلفيق الأكاذيب، هل من المعقول أن يرقص رجل عجوز بالخنجر؟. في هذه المدينة لا يعرفون الرقص بالخنجر. قد يكون تعلم ذلك في مدينته التي قدم منها إلى هذا الحي في زمن لم يعد يذكره أحد، زمن هامشي إما أن الناس كانوا فيه نياماً أو أنه دخل في غفلة عنهم، صار من شخصيات الحي بعاداته اليومية، يخرج صباحًا يغيب ساعتين ثم يعود و لا يخرج ثانيةً إلا مساء ليبدأ جولته المعتادة يمشي بتحفظ من طرف الكورنيش الجنوبي إلى طرفه الشمالي ثم ينعطف شرقاً باتجاه بساتين الليمون ثم جنوباً لينتهي في منزله من جديد، كل شيء كان رتيباً في حياته ، جولاته اليومية، جلوسه للقراءة، طعامه و بيته الطافح بالكتب من المدخل و حتى المطبخ و الحمام، قالوا أنه كان كاتباً أو صحفياً و قالوا ان زوجته توفيت و أولاده هاجروا إلى أوربا، و انه لم يتزوج قط .. لم نر اسمه في جريدة...ماذا يكتب .. ربما هو شاعر ..فشكله و عيشته و ملامحه كلها توحي بذلك. أستاذ المدرسة هو الوحيد الذي يزوره من وقت لآخر يبقى عنده وقتاً قصيراً و يخرج متأبطاً كتاباً أو مجلة، عندما سمع كلام البقال رجاه ألا يخبر أحداً، مضى وهو تمتم: لا يعقل أن يفعل ذلك، هناك خطأ في الأمر و إن فعل كان يجب ألا يراه أحد، فهذا الحي يحول الألم العميق إلى هذر. بالتأكيد هو حزين جداً، في الفترة الأخيرة بدا ككتاب مهشم و ممزق، جولته الأخيرة استغرقت وقتاً أكثر من المعتاد كان يمشي خطوتين ثلاثة و يتوقف يتأمل ما حوله ويكلم المارة يسألهم أسئلة لم يفهموها ثم يتابع سيره، الرجل العجوز ظهر عليه الإنهاك بشكل واضح مؤخراً، مشيته غدت أبطأ، خطواته قصيرة، يتلفت حوله بتمهل ساحباً مع تلفته نظرة كسولة، بدأ يجوب شوارع و أزقة الحي، يحي كل من يصادفه .. يصر على شراء جريدة ويعود، لكنه لم يعد يقرأها أبداً يستلقي على سريره و يفتحها، ما إن يقرأ عدة كلمات حتى يغفو، تسقط الجريدة وتبقى أحياناً تغطي وجهه. الرجل الغريب لم يعد يغلق بوابة البيت، يدخل منزله ويتركها مفتوحة من المحتمل أنه ينتظر أحداً لأنه كان يبقى خلف النافذة و قد أزاح ستارتها قليلاً ينظر إلى المدخل من وقت لآخر، هناك شيء أحسه كل من يراه حتى نباتات الحديقة أصبحت تتمايل بارتباك و القطط صارت قلقة و عصبية، لعدة أيام كان يشتري ما يكفي طعام وحاجات عدة أشخاص استأجر امرأة نظفت له البيت قالت: كل شيء مرتب لكن لا يمكن إزالة رائحة الأشياء العتيقة. البقال قال: لم أنتبه أنه كان يترك البوابة مفتوحة إلا في ذلك اليوم الذي رأيته فيه يرقص بالخنجر. الزبال قال: البوابة ظلت مفتوحة أيام عدة، كان يخرج يغيب ساعة ساعتين ويتركها مفتوحة، لكن لم يتخطاها أحد حتى أستاذ المدرسة الذي اعتاد زيارته لم يفعل لانشغاله، الأولاد الفضوليون الذين كثيراً ما جذبهم ذلك البيت و جعلهم يتسلقون سوره ليروا ما في الداخل، كانت تخيفهم الزوايا المظلمة فيهبطوا جزعين، لم يخطر لهم أن يتخطوا البوابة المفتوحة أيضاً. بدأت تتناهى من داخل البيت أصوات موسيقى، و أغان قديمة تستمر حتى الفجر، لكن قلة هم الذين سمعوها، دورية الشرطة و الزبال الذي سمعها في هداة الليل قالوا منذ زمن لم نسمع هذه الأغاني الجميلة، من النادر أن تجد من يملك تسجيلات لها و أنها ذكرته بمطربين لم يعد يسمعهم. الرجل الغريب تصرف كأنه كان نائماً و نهض ليرتب فوضى ما حوله، بدا بالمنزل من الداخل ثم الحديقة فقد سمع المارة أزيز منشار و طرقات فؤوس ثم أخرجت مخلفات تقليم الأشجار و تشذيب الورود إلى رصيف الشارع، جذوع مشققة و أغصان هرمة كوم من أوراق الأشجار الصفراء و أخرى متعفنة، علب صفيح صدئة، أكياس ممزقة، وقطع زجاج و أحجار كان يقذفها الأولاد، رحلت كلها بشاحنة صغيرة نظف الحديقة كلها بشكل أتاح لكل نبتة و حبة تراب أن تتنفس، أعاد طلاء بوابتها باللون الأزرق، شوهد عدة مرات يجلس في الشمس. أو يسقي نباتات زرعها حديثاً، أصبح يخرج إلى الشارع أكثر و قد حلق ذقنه و شعره، يجلس على درجات بوابة المنزل و يكلم الذاهب والآتي يسأله عن اسمه و ابن من وعمله يمشي ببطء، نظراته كسولة و موزعة، يبتسم ويتأمل الأشياء حوله، كان يخلع عن بيته و عن نفسه تلك الكآبة و الغموض الذي فصله عن الناس لكن ما الذي دفعه لذلك؟ في أيام الصيف الأخيرة، اعتراه قلق ربما نتج عن تلفً أمل بزغ في روحه مخلفاً ضيقاً مبهماً، بدأ الرجل يتململ ثم شرع يعود إلى سابق عهده، اعتكف في بيته أياماً أغلق بوابة الحديقة وباب منزله، ثم عاد يخرج بجولته القديمة، بعد أن يتخطى عتبة بوابته يدخل إلى البقالية يقول لصاحبها : إذا أتى أحد لعندي ولم يجدني أرجو أن تبقيه إلى أن أعود . مظهره كان بائساً ذقنه طويلة و شعره منكوش عيناه غائرتان، كأنه صورة ألحت عليها النار فشحبت ملامحها، يمشي خطوة ..خطوتين ثم يتوقف ليسأل أحد المارة ..هل تعرف ابني هشام ؟ ثم يقصد مبنى البريد ليسألهم سؤالاً آخر: هل أتتني رسالة من ابني هشام. كان السؤال يحير موظفي البريد لكنهم اعتادوا الأمر و صار جوابهم جاهزاً إيماءة من الرأس تعني لا. بدأت المسافات تطول عليه ، قدماه قصرت عن رغباته، أصبح يسري فيهما خدر يزيد يوماً إثر يوم، في رأسه تتزاحم أحداث مشوشة و مبعثرة، يجلس لفترة طويلة على مقعد من مقاعد الكورنيش ثم يعود إلى منزله يمشي بانكسار يمر أمام البقالية يرفع يده بتحية ذابلة و يسأل البقال بصوت منخفض و بلهجة رجاء: هل أتى أحد أثناء غيابي. يجيبه البقال بالنفي . تباعدت أسئلته يوماً بعد يوم، لم يعد يوجهها لأي كان ينتقي أشخاصاً متقدمين في السن و يسألهم، هل تعرف ابني هشام ... هل رأيت ابني هشام ...هل مر من هنا.قلت زياراته إلى مبنى البريد لم يعد يسأل أحداً عن رسائل، فقط يمر في بهو المبنى و يخرج بهدوء ليعود إلى منزله يدخل ولا يخرج ثانية. في اليوم الثاني لرؤية الرجل يرقص بالخنجر .. عرج أستاذ المدرسة ليزوره، هاجس ما دفعه لذلك بعد أن انتبه إلى التغييرات التي اعترت المنزل ، مضى و هو يفكر بغموضه، حاول مراراً أن يجس ذلك الدفق الخفي لحياته الماضية و الذي ما زال ينز إلى الآن حزناً و تشتتاً دون جدوى، اجتاز بوابة الحديقة المفتوحة ، توقف فجأة وقد رأى خيط دم متخثر يخرج من تحت باب المنزل تكاثر عليه الذباب، كانت القطط تموء و تتمسح بالباب و الأشجار ترتعش بقنوط ..الورود مائلة وذابلة، وستارة النافذة المقابلة لبوابة الحديقة ما زالت تنحسر عن فراغ صغير لا يبدو خلفه أحد. الرجل الوحيد في البيت الغامض الذي فتح بوابته أخيراً للدنيا منتظراً أن يأتي أحد ما، شوهد يشهر خنجراً بيده اليمنى و يمد اليسرى كجانح عليل، يغمض عينيه ومسحة يأس وتسليم على وجهه، دار نصف دورة، هوت يده إلى الأسفل، وانزلق من وراء النافذة، استمرت الموسيقى الحزينة بصوت عال. الرجل الغامض الحزين لم يكن يرقص.
#مفيد_عيسى_أحمد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حاسر الرأس 4×4
-
أكتوبر المصري .. و تشرين السوري .... العراقيون يبنون بلدهم و
...
-
عبقرية الجمع بين محمود درويش و......نانسي عجرم
-
فيلم أمريكي طويل ...العرض مستمر ...لبنان جديد ..كنتاكي ....م
...
-
ثلاثة نداءات و ثصبح نجمة
-
اخلعوا رؤوسكم تنامون بهدوء
-
انقسامات الحزب الشيوعي السوري ، من زاوية ليست فكرية
-
زبيدة و نسيم البحر
-
دعونا نجرب
-
عندما يحب عادل إمام الجميع ...!
المزيد.....
-
مجلس أمناء المتحف الوطني العماني يناقش إنشاء فرع لمتحف الإرم
...
-
هوليوود تجتاح سباقات فورمولا1.. وهاميلتون يكشف عن مشاهد -غير
...
-
ميغان ماركل تثير اشمئزاز المشاهدين بخطأ فادح في المطبخ: -هذا
...
-
بالألوان الزاهية وعلى أنغام الموسيقى.. الآلاف يحتفلون في كات
...
-
تنوع ثقافي وإبداعي في مكان واحد.. افتتاح الأسبوع الرابع لموض
...
-
“معاوية” يكشف عن الهشاشة الفكرية والسياسية للطائفيين في العر
...
-
ترجمة جديدة لـ-الردع الاستباقي-: العدو يضرب في دمشق
-
أبل تخطط لإضافة الترجمة الفورية للمحادثات عبر سماعات إيربودز
...
-
الأديب والكاتب دريد عوده يوقع -يسوع الأسيني: حياة المسيح الس
...
-
تعرّف على ثقافة الصوم لدى بعض أديان الشرق الأوسط وحضاراته
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|