|
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل السادس
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4940 - 2015 / 9 / 29 - 18:42
المحور:
الادب والفن
في اليوم التالي، قابلت ماري أمام فوهة المترو، وعرضت عليها أن تأخذ فنجانًا ساخنًا، لكنها قالت لي إن المقهى يعج بالرواد، وإنها تعبانة. عندما أشرت إلى المقهى الآخر في الوجه المقابل، اعتذرت لأنها مستعجلة. - غدًا، ربما، ما رأيك؟ - سأحاول. - سأنتظرك هنا. - ربما تأخرت قليلاً غدًا. - سأنتظرك رغم كل شيء. ابتسمتْ بفيض. صعدنا معًا شارع بيلفيل، فأشرقت الشمس في قلبي. قلت لها إننا، أنا ومارتا، نتكلم عنها طوال الوقت، ونقول إنها بنت شجاعة تتفانى في عملها من أجل أمها وأخيها أنطوان. أما أنطوان، فأمامه مستقبل زاهر، لأنه ولد ذكي، ولأن أصدقاءه الوحيدين كتبه، لا يخالط أشقياء الحي، وهو على تربية عالية. قلت لها إنني أحبه كأخي الصغير. وبخصوص أمها، قلت إن أمها امرأة عظيمة، لا تريد سوى سعادة ابنتها. تجنبت الحديث عن أخيها أندريه. لم أرغب في تعكير هذا الكابوس لأجمل خطوات خطوتها في حياتي. نسيت على طريق الجليد البرد وعصافير الشتاء والموت في قناة سان-مارتن. لم أذكر سوى حضورها إلى جانبي، هذه المخلوقة المدهشة، التي تسمع وتتبسم، تتبسم وتسمع، مائلة برأسها إلى جانب، مداعبة صليبها المتدلي من ياقة معطفها. لم أنتظر سؤالها: - هل لك أخوات؟ - أخت واحدة. - ما اسمها؟ - ياسمين. - هل يعني هذا شيئًا؟ - نعم. - ماذا يعني؟ قلت لها. أطلقت ضحكة لذيذة. - هل هي كبيرة؟ - أصغر منك بقليل. - هل تعمل؟ - كانت تعمل. - ماذا كانت تعمل؟ - زارعة لفاكهة الهوى. - فاكهة الهوى! - هي الآن في المستشفى. - هل هي مريضة؟ - لا. - هي في المستشفى وليست مريضة! - لا. - إذن لماذا هي في المستشفى؟ - لأنها جريحة. اخترقت كتفها رصاصة. - اخترقت كتفها رصاصة! - جنود الاحتلال، أنت تعرفين. كانت تتظاهر، فأطلقوا. - لهذا هي في المستشفى، أختك؟ - لهذا. أختي الصغيرة في المستشفى، وأخي الصغير في السجن. هو، كان يقذف الحجارة، فأوقفوه. - لأهلك حياة غير مألوفة. منذ وقت طويل لم ترهم؟ - نعم. - بسبب الاحتلال؟ - نعم. - ... - ولأن أمي تريد أن آتي معي بزوجة جميلة فرنسية لتربي بنفسها أولادي. قهقهت ماري. - هل معك صورتها؟ - صورة أمي؟ - أريد القول... نعم، صورة أمك، صورة أختك "جاسمين". - إن أردتِ، السبت القادم، تعالي عند مارتا، فأريك الكثير من الصور. - اتفقنا. لم أصدق أذنيّ. ونحن في الرَّدْب، لاحظتُ أن البرتغالي يراقب من وراء نافذته، بينما عيادة الطبيب البيطري تغرق في الظلام. كان علينا أن نفترق على الدرج، فقالت لي "مساء سعيد"، والابتسامة على شفتيها. - إلى الغد مساء. - إن لم أتأخر. - سأنتظرك. - اتفقنا. صعدتْ إلى الطابق الثاني، فتحتِ الباب، وأغلقتْهُ من ورائها. أغلقتُ الباب كذلك، وحملتُ مارتا بين ذراعيّ، دائرًا بها، صائحًا من الفرح. مضى جزء كبير من الليل، وأنا أحكي خلاله لمارتا قصة حبي.
* * *
لم أر ماري أبدًا منذ ذلك المساء. طبعًا، ذهبت إلى العمل في الغد، وبانتظار موعدي، كنت في حالة من الثَّمَل والفرح. لم أهتم بما يقوله زملائي، بخصوص حركة عمال المتعة. لاحظ جورج الأشقر ذلك، وسألني إذا كان كل شيء على ما يرام، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم! أجبته إيجابًا. قال إن لي سحنة غريبة اليوم. أكدت له أن كل شيء على ما يرام، لكنه أجاب أنه يعرف السر، فما هذه سوى أمارات العاشق! ضحك عمال الشهوة من حولي، وقال المارتينيكي ليناكدني: - ربما لأنه طاهر كالعذراء، يا رجال، مثلكم كلكم، يا مومس الحياة، وهذه هي معشوقته الأولى، يا ماخور! ضحك عمال الشهوة من جديد، وأنا أضحك معهم محرجًا. لاحظ بيير ذلك، فطلب منهم أن يتركوني وشأني، لأن لا شيء تَبدل فيّ. قال إنه يجدني ككل يوم، وغمزني، بلا علم أحد، فتبادلنا ابتسامة مديدة. مضى الوقت بطيئًا، وأنا أشعر بالحب لأول مرة فعلاً، كما ادعى الأصحاب. فكرت، ورسمت الخطط: ماذا سأفعل وماذا ستفعل؟ ماذا سأقول وماذا ستقول؟ متى ستضحك ومتى سأضحك؟ غبت مع أفكاري، وتسارعت أحلامي: رأيت ماري عارية في أحضاني. اغترفت الحب من جسدها، وتنشقت المِسك. ومن جديد، خِلتني، وأنا ألفها بذراعي على ضفة نهر السين، وأنا أقطف شفتيها. خلتها كذلك، وهي تركض، وتعلو بصوتها العذب، وأنا أركض من ورائها، ثم وأنا أحملها، وأمددها على رمل الصيف: ذراعها شراع أبحر نحوه. في المساء، كمنت لها أمام المترو، وأنا أرتدي أنظف ثيابي، بعد أن خلعت ثيابي الزرقاء، واغتسلت، وتمشطت. بصق المترو كل أنواع العمال، وشممنا كل أنواع الروائح. قرأت على الوجوه السأم والتعب، وبعض الوجوه تتحرك بآلية. تقوس الناس، لينسكبوا في الأزقة الضيقة، ولينغرسوا في البؤس. كانت امرأة عجوز تتدثر من الرأس إلى القدم، وهي تبيع الجرائد في كشك صغير أصفر يتدلى منه مصباح غاز، يضيء ويسخن الكشك في آن، وكان معظم الناس يشترون جريدة المساء ليعرفوا آخر خبر تافه، أو آخر تكهنات سباق الخيل. قرأت العنوان الكبير لليومية، بحروف غامقة: "الجليد يبيد المحاصيل، الخضروات أكثر غلاء." نعم، طبعًا! والعنوان الصغير، بحروف عادية: "الحكومة تتخذ التدابير الضرورية، لكن الجليد أقوى من كل شيء." انتظرت طويلاً، وأنا أرتعد من البرد القارس. تباطأ النشاط في الحي تدريجيًا، حتى مات تمامًا. ذهبت بائعة الجرائد، بعد أن أطفأت مصباحها، وأغلقت كشكها. أصبحت الأرصفة خالية، ولم نعد نسمع صياح المهربين، ولا السكارى، ولا المجانين. لاحظت بعض التجمعات أمام مقهى مطلع الفجر، كانوا لاعبي القمار. تحت الضوء الشاحب، رأيت عقارب الساعة الزاحفة كدبابة مهزومة، لتشير إلى التاسعة. تأخرت ماري أكثر مما اعتقدت، فاخترقني القلق. رأيت ولدًا يركض نحو لاعبي القمار، ويزلق في آذانهم بعض الكلمات. وفي الحال، يختفي لاعبو القمار في المقاهي أو في الأزقة. فهمت السبب مع وصول رجال الشرطة، المسلحين بالمطارق وبالمسدسات المعلقة تحت معاطفهم الجلدية. ابتعدت عنهم، أولئك الشياطين الذين لا قلب لهم! ابتعدت أكثر ما يكون عنهم. جحيمهم جليد ونار! حوالي الساعة العاشرة، وجدت نفسي وحيدًا، في صدد الانتظار، في الضباب الذي تجمد ماؤه، وأصبح سميكًا. جَمَدَ الدم في عروقي تقريبًا، فقطعتُ إلى الرصيف المقابل، وأنا أتحاشى الوقوع في البرك القذرة الموحلة. رأيت نادل مقهى عازفة الأرغن، وهو يُخرج صناديق القمامة تحت المصابيح. وما أن دخل حتى هجمت كل أنواع القطط والكلاب المهجورة على الغنيمة، وكلمات أغنية نائحة: هناك شمس على فرنسا ولا أهمية لما تبقى. ردد السكارى اللازمة، فابتسمت بمرارة، وأحسست بالحزن. لأن ماري لم تأت، ولأن الأغنية تقول هناك شمس على فرنسا، بينما لم نر أو نذق طعم الشمس منذ أيام وأيام، لكن أيضًا لأن بين من يغني هناك أفارقة وعربًا وشيليين. كم كان ذلك حزينًا! أحسست فجأة بأنني في الغائط، رغم أن لا علاقة لي بهم. وأنا أفكر في كل هؤلاء الأفارقة، وفي كل هؤلاء العرب، وفي كل هؤلاء الشيليين، وحتى في كل هؤلاء الفرنسيين الذين يدندنون الأغنية في مقهى الأرغن، كنت مكروبًا تمامًا. دفعت باب المقهى، ووجدتني بينهم. طلبت كأس بيرة خلف المشرب، وشربتها على مهل، أمام لامبالاة كل تلك الوجوه المُغَشَّاة بالكحول وبالدخان. ثم كلما فَرِغَت كأسي كلما التفوا حولي، في الدخان، وهم يغنون: هناك شمس على فرنسا... أخذتُ أغني معهم، محاولاً تقليد أصواتهم الخشنة. ضحكنا، وحكينا لست أدري عن ماذا، وشربنا نخب بعضنا. طلبتُ كأسًا ثانية، ثم ثالثة. ولو لم أتذكر ماري، ورغبتي في رؤيتها، لما خرجت. كنت ثملاً مع شمسي الخيالية، ومومس عيشة الأعزب السعيد! على باب المقهى، رأيت جان يأتي في الضباب، وسألني أين ماري. استغربت في البداية، ثم أوضح لي أن مارتا قالت لأم ماري إنها معي، فأرسَلَتْهُ الأم في طلب ابنتها، لأن أنطوان مريض.
يتبع القسم الأول الفصل السابع
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الخامس
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الرابع
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثالث
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثاني
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الأول
-
الغِربان2: واقع المهاجرة
-
الغِربان1: واقع الهجرة
-
المرأة العربية5 وأخير: حركة تحرير المرأة العربية
-
المرأة العربية4: المتعة
-
المرأة العربية3: المرأة والجنس
-
المرأة العربية2: الخمار ليس الحجاب
-
المرأة العربية1: الوضع العام
-
الحريات9 وأخير: الخطوط العريضة لسلطة التنوير
-
الحريات8: المغرب
-
الحريات7: الجزائر
-
الحريات6: العراق
-
الحريات5: الأردن
-
الحريات4: مصر
-
الحريات3: البحرين
-
الحريات2: قطر
المزيد.....
-
سوريا.. انتفاضة طلابية و-جلسة سرية- في المعهد العالي للفنون
...
-
العراق.. نقابة الفنانين تتخذ عدة إجراءات ضد فنانة شهيرة بينه
...
-
إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025
...
-
بينالي الفنون الإسلامية : مخطوطات نادرة في منتدى المدار
-
ذكريات عمّان على الجدران.. أكثر من ألف -آرمة- تؤرخ نشأة مجتم
...
-
سباق سيارات بين صخور العلا بالسعودية؟ فنانة تتخيل كيف سيبدو
...
-
معرض 1-54 في مراكش: منصة عالمية للفنانين الأفارقة
-
الكويتية نجمة إدريس تفوز بجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربي
...
-
-نيويورك تايمز-: تغير موقف الولايات المتحدة تجاه أوروبا يشبه
...
-
رحيل أنتونين ماييه.. الروائية الكندية التي رفعت صوت الأكادية
...
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|