|
أصل العائلة وإرادة الخلود1
محمد سرتي
الحوار المتمدن-العدد: 4937 - 2015 / 9 / 26 - 00:08
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أصل العائلة وإرادة الخلود (الجزء الأول) بداية أود تنبيه السيدات والسادة القراء بأن هذه السلسلة من المقالات ستتجاوز الخطوط الحمراء للبعض، حيث أننا نشهد الآن، أمام أعيننا، شعباً كاملاً يباد من أجل حقل بترول، ولا أحد يتكلم. فلا أظن أحداً لازال يملك الجرأة للحديث عن خطوط حمراء. متى بدأ الإنسان يرتدي الملابس؟ سؤال حير علماء النفس التطوري (Evolutionary Psychology) الذين خرجوا في النهاية بنتيجة مفادها أن خجل الإنسان من أعضائه التناسلية، ومن جسده العاري بوجه عام، مسألة ليست أصيلة في الوعي البشري، بل قضية اجتماعية مكتسبة يمكن التخلص منها بسهولة. فبالتجربة على عينات عشوائية من المتطوعين الرجال والنساء الأغراب عن بعضهم تماماً، تم إخضاعهم لبرنامج تعري مدروس ومتدرج لعدة أيام، تمكنوا بعدها من التعري الكامل، وبكل أريحية، وبدون خجل أو حياء، أمام بعضهم البعض. وهي نتيجة من شأنها إحراج مدرسة التحليل النفسي فيما يتعلق بمدى تجذر عقدة أوديب في اللاوعي البشري، فخصلة ارتداء الملابس هي التعبير الأكثر أنطولوجية عن التابو الجنسي، وظهورها من خلال التجربة كمجرد عادة يمكن التخلص منها بطريقة أسهل من ترك التدخين؛ يمنح الإصلاحيين قدراً لا محدود من الأمل بتخليص البشرية من التابو الجنسي بشكل عام. إن ظهور هذه الخصلة لدى الإنسان يرتبط بديهياً بالتغير الاجتماعي الذي أفرزه ظهور الأسرة النووية، وهو ظهور لم يتمكن أحد حتى اليوم من الكشف عن أسبابه، اللهم عدا تكهنات ماركس وإنجلز التجريدية. إلا إن انعكاساته النفسية والاجتماعية بلغت من الخطورة بحيث تمحورت حولها كافة نظريات التحليل النفسي انطلاقاً من عقدة أوديب التي تعزو كافة الأمراض النفسية إلى التابو الجنسي. ولكن –بطبيعة الحال- لا تعترف مدرسة التحليل النفسي بمنشأ آخر للتابو الجنسي سوى عقدة أوديب. ولدحض هذا المفهوم؛ ربما يجدر الاستعانة بدراسات دوركايم حول ظاهرة الانتحار، حيث أثبتت أن الأمراض النفسية الخطيرة التي تدفع في النهاية إلى الانتحار؛ تزداد بأضعاف مضاعفة لدى الرجال عنها لدى النساء، سواء المتزوجين منهم أو غير المتزوجين. وهو أمر يطعن في عقدة أوديب كسبب رئيسي للأمراض النفسية. بمعنى أن الأنا العليا ككينونة لاشعورية تتمظهر من خلالها عقدة الذنب الأوديبية سيكولوجياً؛ يجب أن لا تعمل بنفس الدرجة من الحدة لدى الرجال والنساء على حد سواء. وبناء عليه؛ من المفترض أن نجد الرجل أكثر تشبثاً بالأسرة النووية (باعتبارها رمزاً للتعفف الجنسي) من المرأة، ولكن الواقع عكس ذلك! ما يدل على وجود كينونة لاشعورية أخرى، لافرويدية، تتحكم في الدوافع النفسية الذكورية بشكل أساسي، وتقع خارج نطاق عقدة أوديب. يميل الشاب –عادة- في علاقاته الحميمة إلى الاشباع الجنسي، والجنسي فقط، مع التهرب –قدر الإمكان- من الالتزامات المترتبة على ذلك، وهو ما يجعله أكثر تحرراً في تعاطيه مع الجنس بشكل عام. فهو الذي يبادر في طلب العلاقة، ويتحدث عن الجنس عادة دون خجل، ويتفاخر بتعدد علاقاته الجنسية المتزامنة، في الوقت الذي يحاول التهرب قدر الإمكان من الارتباط النهائي بأي من الصديقات. فبالنسبة للشاب الأعزب، خصوصاً المراهق، لا تكاد عقدة أوديب تعرب عن نفسها إلا في الأوساط الاجتماعية المحافظة، أي إنها تفرض عليه فرضاً من الخارج أكثر من كونها فطرية المنشأ. أما الفتاة فهي على العكس من ذلك تماماً، حيث تبدأ من الوهلة الأولى بتركيز جل قدراتها على محاولة الإيقاع بالشاب واستدراجه إلى قفص الزوجية، ومن ثم الإبقاء عليه في الأسر قدر الإمكان. وهو ما ألمح إليه إنجلز في أصل العائلة بأن المرأة هي التي تتحمل مسئولية الانتقال للأسرة النووية. ومن الواضح أن ازدياد شدة التابو الجنسي الذي يفرضه الرجل على زوجته بعد الزواج لا يرتبط كثيراً بعقدة أوديب بل بنقاء السلالة، فالشاب لا يتأثر عادة بخيانة صديقته له قبل الزواج بقدر تأثره بعد أن تصبح زوجته، وخصوصاً إذا أنجبت له طفلاً. وكذلك الطريقة التي يتعاطى بها الشاب مع بائعة الهوى؛ فهو يمارس معها علاقة حميمية كاملة، ربما تزيد في حميميتها عن علاقته بزوجته، ولكنه لا يشعر بالغيرة حين يجدها مع صديقه في اليوم التالي، كتلك التي يشعر بها لو وجد زوجته في نفس الوضع. فالتابو الجنسي –إذاً- ليس ناتجاً عن عقدة أوديب بقدر كونه أحد تبعات التحول إلى الأسرة النووية. ما يفسر ارتفاع معدلات الانتحار لدى الرجال عنها لدى النساء رغم التحرر الواضح من عقدة الذنب الأوديبية في اللاوعي الذكوري مقارنة بالأنثوي. فحسب هرم ماسلو؛ تتموضع دوافع تحقيق الذات Self-Actualization في قمة الهرم الغرائزي، بمعنى أن كافة الدوافع البيولوجية (بما فيها الجنس) تتسخر وتتضافر لخدمة، أو إشباع، الدافع القمة. وتحقيق الذات دافع إنساني صرف، لا يتمتع به –أو لا يعاني منه- الحيوانات. وعدم إشباع "تحقيق الذات" لا ريب ستكون له ارتداداته النفسية، ولكن إلى أي مدىً يشتد وقع هذه الارتدادات على الرجال أكثر من النساء؟ بل وإلى أي مدىً قد تتفوق وطأة عدم تحقيق الذات سايكاترياً على وطأة عقدة الذنب الأوديبية (إن وجدت) لدى الرجل لحد الدفع به إلى الانتحار؟ إن تحقيق الذات لا يبدو دافعاً موضوعياً صرفاً، فالذات كينونة ميتافيزيقية غامضة، يصعب فهمها فلسفياً فضلاً عن تحقيقها وجودياً. وهذه الفجوة الإدراكية بين الإنسان وفهمه لذاته قد نتج عنها ما يوصف بالنقص الوجودي (existential lack) والذي عزاه كيرجارد Kierkegaard إلى أن خلق (تطور) الإنسان لم يكتمل بعد، ولذلك فإن الإنسان منذ ولادته يعيش حالة من التطلع نحو الكمال، تستمر معه طيلة حياته، ويعاني منها على شكل قلق وجودي anxiety يحاول الإنسان مقاومته (أو الهروب منه) عادة بالتحامي بالمجتمع، خصوصاً بالأفراد الذين يشبهونه في طريقة تعاطيهم مع هذا القلق. ولكن كيرجارد يعتبر هذا النوع من المقاومة خطيئة وجودية تؤدي للانحراف عن المسار الطبيعي (الإلهي) للخلق، باعتبار القلق الوجودي دافعاً نفسياً إيجابياً يعمل على الدوام لتحفيز الإنسان كي يتعامل مع الوجود بطريقة تتناغم مع الإرادة الإلهية، وأي محاولة لمقاومته أو التهرب منه سينتج عنها اضطراباً نفسياً يدفع في النهاية نحو الجريمة. وهنا يربط كيرجارد بين الانحراف الوجودي –إن جاز التعبير- وبين سيكولوجيا الحشود crowd التي تتخذ من التحامي ببعضها سبيلاً لتجاوز الشعور بالقلق الوجودي عند فشلها في فهم طبيعة هذا القلق وحتمية التعايش معه ثيولوجياً، وبذلك عادة ما تتكون الحشود من كتل بشرية منحرفة نفسياً، مشوهة الوعي، وميالة للعنف. وبصرف النظر عن وصفة كيرجارد للتعامل مع القلق الوجودي، وفيما لو كان تحقيق الذات يقدم وصفة أفضل؛ إلا إن دراسات دوركايم حول الانتحار تعيد لتؤكد على التفاوت الكبير بين المرأة والرجل في درجة المعاناة من هذا القلق، وهو ما يعيدنا بدوره للتركيز على نقطة التحول نحو الأسرة النووية كنقطة مركزية لدراسة طبيعة هذا القلق. يعود تاريخ تقديس النسب الأبوي إلى مرحلة ما قبل الإنسان، أي قبل تجارب مندل بملايين السنين، حيث أودعت الطبيعة (الله) في الحيوان دافعاً فطرياً للانتقاء التطوري النوعي يجعل من مواسم الإخصاب مواسماً للحروب الأهلية بين أبناء الفصيلة الواحدة، فتقعد الأنثى على المدرجات تتفرج على الذكور يقتلون بعضهم البعض كي يحظى الفائز منهم بها كجائزة. فظهر الإنسان كثورة أنثروبولوجية نوعية أحدثت نقلة دراماتيكية لمسيرة التطور البيولوجي نحو بعد وجودي جديد يحكمه العقل أكثر من العضلات، فاختفت بذلك مباريات مواسم الإخصاب، ليحل محلها مجتمع حميمي خالص، تسوده المحبة واللحمة والألفة، والمشاعية الكاملة التي وفرت على الإنسان الكثير من الوقت والجهد اللازم بذلهما لإشباع الحاجات البيولوجية، وبالتالي أتاحت له مساحة كبيرة لتطوير قدراته ومهاراته العقلية والفكرية. وربما يمكن لمجتمع الموسو تقريب هذا التصور لأذهاننا. إذاً فطريقة الانتقال نحو الأسرة النووية كانت بمثابة ردة إنسانية نحو عالم الحيوان مرة أخرى، طفرة سلبية حدثت نتيجة خطأ اجتماعي ما، لم يعطل فقط مسيرة التطور نحو الحرية الكاملة، بل أحدث فيها قدراً من التشوه لم تعان منه الحيوانات. فعاد ذكر الإنسان لمرحلة التصارع في موسم الإخصاب للحصول على أنثى، وعادت الأنثى لتتحول إلى جائزة للمنتصر. ولكن بما أن صراع الإنسان لا يمكن مقارنته بصراع الحيوانات، وبما أن موسم الإخصاب لدى الإنسان يمتد لطيلة العام، بالإضافة لطول فترة احتضان أنثى الإنسان لطفلها مقارنة بأنثى الحيوان، الظاهرة التي أسس عليها روهايم نظريته حول رهاب الانفصال، كل هذه الأمور مجتمعة جعلت من تحول الإنسان للأسرة النووية كارثياً. ولكن كيف قبل الإنسان بهذا التحول من الأساس؟ ثمة حدث أثار لدى مجموعة/مجموعات من البشر قدراً من الزهو بالنفس دفعهم للاعتقاد بأنهم ليسوا بشراً كبقية البشر، وأنهم ينحدرون من نسل إلهي مميز. وعلى الأرجح كان حدثاً عسكرياً كتحقيقهم انتصاراً ساحقاً في حرب كبيرة أو مجموعة من المعارك استطاعوا بعدها اجتياح مساحات هائلة من الأراضي وأخذ أهلها عبيداً، وهو ما ظهر جلياً في تصرفات الآريين بعد اجتياحهم الهند. وهو أيضاً ما تؤكد عليه كافة الأساطير القديمة ابتداءً بالأساطير السومرية وانتهاءً بالتوراة من خلال رموزها ابتداءً بجلجامش وانتهاءً بإبراهيم. ولكن المثير أن اعتقادهم في السلالة الإلهية المختارة انصب فقط على النسل الذكوري، ربما لأن النصر تحقق فقط بسواعد الرجال دون النساء، ما أثار في أرشيف اللاوعي التراكمي ذكريات مرحلة ما قبل الإنسان، وخصوصاً تلك المتعلقة بمباريات مواسم الإخصاب حين كانت الأنثى تستثنى تماماً من المنافسة التي تنحصر فقط في الذكور بغرض اصطفاء أفضلهم، وأفضلهم فقط هو من تستحق سلالته الخلود. ........يتبع
#محمد_سرتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
للخروج من مأزق الرافعة... الإلحاد هو الحل
-
تحطيم الحدود...دعاية داعش الكبرى
-
هرطقات صوفية: هل القرآن كلام الله أم الشيطان؟
-
من قال إن الله لا يحب الملحدين؟!
-
قوم لوط
-
الشعب السعودي
-
التاريخ الإسلامي وصناعة الكذب
المزيد.....
-
لا تقللوا من شأنهم أبدا.. ماذا نعلم عن جنود كوريا الشمالية ف
...
-
أكبر جبل جليدي في العالم يتحرك مجددًا.. ما القصة؟
-
روسيا تعتقل شخصا بقضية اغتيال جنرالها المسؤول عن الحماية الإ
...
-
تحديد مواقعها وعدد الضحايا.. مدير المنظمة السورية للطوارئ يك
...
-
-العقيد- و100 يوم من الإبادة الجماعية!
-
محامي بدرية طلبة يعلق على مزاعم تورطها في قتل زوجها
-
زيلينسكي: ليس لدينا لا القوة ولا القدرة على استرجاع دونباس و
...
-
في اليوم العالمي للغة العربية.. ما علاقة لغة الضاد بالذكاء ا
...
-
النرويجي غير بيدرسون.. المبعوث الأممي إلى سوريا
-
الرئيس الكوري الجنوبي المعزول يتخلف عن المثول أمام القضاء
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|