|
دفاع عن كتب العهد القديم (2) قصة الخلق
سامي المصري
الحوار المتمدن-العدد: 4935 - 2015 / 9 / 24 - 00:50
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الزمن القرن الثالث عشر قبل الميلاد - عصر الأسرة 19 الفرعونية... أما المكان فهو مصر كيمي قلب الحضارة بل أم الحضارات جميعا. الديانات المصرية القديمة تقود العلم والمعرفة حيث تنتشر المعاهد العلمية الرفيعة المستوى أينما وجدت المعابد الفرعونية. عرفت مصر جامعة أون (عين شمس) الشهيرة التي قد تكون ظهرت في الألفية الثالثة قبل الميلاد أو قبل ذلك. كانت مدينة أون (هيليوبوليس) حسب الاسم اليوناني مرتبطة بعبادة أتون- رع وكانت مصدرا حضاريا وعلميا هائلا منذ الألفية الخامسة قبل الميلاد. التقويم المصري الدقيق بدأ عام 4241 قبل الميلاد، ليعلن مدى التقدم العلمي الهائل الذي كانت عليه مصر في ذلك الوقت، حيث لا يمكن أن يقارن بأي مستوى علمي آخر على الأرض.
لم تكن مدينة أون تقف وحدها في مصر القديمة كموقع هام يشيع منه المعرفة المقترنة بالميثولوجيا الدينية بل كانت منف وطيبة وأبيدوس والأشمونيين وغيرهم من المدن المصرية تعتبر مراكزا رئيسية للإشعاع الروحي والعلمي والفكري. كان لكل مدينة الميثولوجيا الخاصة بها التي تختلف قليلا، إذ كان لكل مدينة آلهتها الخاصة. كانت اِلآلهة مرتبط بشكل دائم وأساسي بمدينة ما وسكانها وملوكها المميزين عن كل العالم. ومع اختلاف مراكز المعرفة وأساطيرها وآلهتها إلا أن كل تلك الأديان كان يربطها رباطا يعكس فكرا يكاد يكون واحدا، يحمل شكلا روحيا ومعرفيا متميزا.
قصة الخلق كانت تمثل موضوعا رئيسيا جدا في كل الملاحم المعروضة. ورغم أن هناك فروقا كبيرة بين تلك القصص، لكن كان يربطها جميعا فكرة واحدة وتصورا شائعا لشكل الكون. كانت المعرفة المتاحة في ذلك الوقت عن نظام الوجود "Cosmos" وماهيته ومكوناته، هي الخلفية التي حولها صيغت قصص الخلق المتعدد عند الشعوب. فقصة الخلق تعكس وتسجل المستوى المعرفي والثقافي لأي مجتمع إنساني، ومدى الوعي والتفهم العلمي للكون المحيط بهم. فصيغت حولها الأساطير والملاحم والأشعار الدينية الطويلة.
كانت الثقافة السائدة لذلك العصر تتصور أن السماء عبارة عن قبة ضخمة جدا تتكون من مادة صلبة قد تكون مثبتة على أعمدة ضخمة فوق الأرض المسطحة، أو أنها كانت ترسو فوق قمم الجبال العالية جدا. أما التصور الأكثر شيوعا هو أن قبة السماء الضخمة تلتقي بالأرض المسطحة عند المحيطات المتسعة جدا على أبعاد كبيرة من اليابسة حيث لا يمكن الوصول لأماكن تماس السماء بالأرض لبعدها الموغل في أعماق المحيطات. كما شاع اعتقاد أن تلك المحيطات تمتد لما بعد تماس الأرض مع القبة السماوية، وعند ذلك التماس قد تعلو مياه المحيطات فوق القبة السماوية لتغطيها من أعلى. وبذلك فأن قبة السماء تحجز فوقها المياه، وهي قائمة في قلب المياه اللانهائية التي تعلوها لتسمح بظهور الأرض وما عليها من أحياء تحتها. فكل ذلك الوجود الذي نراه مع كل الأحياء يعيشون في قلب المياه اللانهائية التي تعلو السماء من فوق والمياه التي تقوم عليها الأرض من تحتها ومن حولها. وأن تلك المياه تمتد بعد ذلك لما لانهاية. فالوجود هو مجرد فقاعة في وسط الماء الممتدة لما لا نهاية له. وتوجد في السماء كوى عندما يفتحها الله تتساقط الأمطار من السماء لتروي الأرض وتثمر بالحياة. لكل ذلك كان هناك اعتقادا أن الماء هو أصل الوجود فهو الموجود الأزلي (الإلهي) قبل كل خليقة، ومن الماء صُنِّعت كل الخليقة، بل الله نفسه قد أوجد نفسه من الماء.
إن تلك الصورة التي رسمتها المعرفة القديمة للوجود هي التي صيغت حولها كل الأساطير والملاحم القديمة بحسب الثقافة والمقدرة على الخيال السائد. ولا يستثنى من ذلك بدايات كتاب العهد القديم الذي يعتمد على نفس تلك الرؤية الثقافية البدائية الشائعة في ذلك الزمان، التي تختلف كثيرا عما كشف عنه العلم فيما بعد. إن ذلك المفهوم الكوزمولوجي ظل سائدا كمفهوم علمي للوجود في العالم كله حتى عصر النهضة الأوربية، حين بدأ العلم الحديث يلقي بضياء المعرفة منذ القرن السابع عشر ببطء حثيث في ظل مقاومة رهيبة وعنيفة. ويستثنى من ذلك مدينة الإسكندرية العظيمة ومدرستها الفاخرة. ففي القرن السادس الميلادي كانت علوم الكوزمولوجي والرياضيات في أوج نضجها، خصوصا على يد العالم القبطي السكندري العملاق "يوأنس فيلوبونوس" المعروف عند العرب باسم يحي النحوي. كتابات فيلوبونس الشهيرة جدا هي التي أرشدت كل من جاليليو جاليلي واسحق نيوتن في إرساء نظرياتهما، حيث اعتمد كليهما على كتبه كمراجع رئيسية ذكرها كل منهما بالتفصيل في أبحاثهما. وذلك شجع بعض العلماء الأمريكيون في تسعينات القرن العشرين بالرجوع للأصل العلمي في كتب جون فيلوبونس المصري القبطي في لغتها الأصلية اليونانية، فقاموا بترجمتها إلى الإنجليزية، ومنها إلى كل لغات العالم. كتب العالم القبطي جون فيلبوبونس من القرن السادس الميلادي كتبت في كيمي (مصر) موجودة اليوم بموقع أمازون بأغلى الأسعار، هي التي عملت على فهم الكون وتقدم الدراسات الكوزمولوجية وفجرت أهم النظريات العلمية الحديثة. لذلك لا يوجد داعي للعجب أو الازدراء الغير مبرر عندما نرى ان فكرة الخلق في العهد القديم تحوي نفس المفهوم الثقافي للعصر الذي كتبت فيه. وقد سبق لي أن أوضحت أن الكتاب المقدس لم يهدف أن يكون كتابا للمعرفة العلمية بل هو كتاب الإنسان. كما أن النص في الكتاب المقدس بعهديه هو تأليف بشري ينقل خبرة شخصية للكاتب عن الله وإرادته نحو الإنسان. كل كتاب من كتب العهد القديم والجديد كتب في ظروف مختلفة بلغة بشرية وثقافة بشرية ليوجه لبشر مختلفي الثقافة والبيئة، ويلائم ويتوافق مع ظروفهم ومستواهم المعرفي والحضاري. التعامل مع الكتاب المقدس باعتباره كتابا منزلا بنصه لا بد وأن يحدث تصادما شديدا مع المفهوم الكتابي نفسه. فليس غريبا أن يعكس كل كتاب من كتب العهد القديم المفهوم الثقافي للعصر الذي كتب فيه. بل إن تلك ضرورة يُحتِّمها الواقع حتى يمكن أن ينقل رسالته إلى جيل من الأجيال. إن ذلك لا يقلل من قدر الرسالة الحضارية التي اضطلع بها كتاب العهد القديم وأثره الإنساني العميق حيث قام بأول وأكبر ثورة في التاريخ ضد الخرافة، فكان أول دعوة في التاريخ للتفكير الحر، متحررا من أفكر الاديان المحيطة به.
الأديان المصرية القديمة صاغت فكرها وأديانها في أساطير تعتمد أساسا على المعرفة السائدة في ذلك الزمان، وعلى التصور الكوزمولوجي للكون وشكله. ومع كل الاحترام لتلك الأساطير وما قدمت من فكر روحاني قاد الإنسان نحو التحضر، فلا نملك إلا أن نعترف، أن تلك الأساطير تتعارض بشدة وبشكل كامل مع الواقع العلمي كما سجله التقدم التكنولوجي الضخم في العصر الحديث وما يقدمه من صور للكون. ومع كل احترامنا وحبنا وتبجيلنا لأجدادنا العظام وما حققوه من أمجاد فلا يسعنا إلا أن نعتبر تلك الأساطير مجرد خرافات بعيدة عن الواقع العلمي. ولذلك لا يمكن أن نغفل بأي حال دور كتاب العهد القديم كأول معترض بشكل موضوعي، على خرافات الأجداد، وذلك منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حين صدر بشكل عقلاني في قالب علمي مهذب كما سنرى!!!
وحتى نفهم الخلفية التاريخية الأسطورية التي ظهر فيها كتاب العهد القديم لزم تقديم قصة الخلق عند الشعوب وقت كتابته. وقد سبق ان قدمت فكرة عن قصة الخلق البابلية "الأينوما إيليش" Enuma Elish" ويلزم أن أقدم فكرة عن قصة الخلق عند المصريين القدماء. وقد رأيت أن أرجع في ذلك لكتاب "أسرار الحضارة المصرية" تأليف الكاتبة الفرنسية "لوسى لامى "Lucie Lamy ترجمة الكاتبة الفاضلة الأستاذة صفاء محمد لما توسمت فيه من أصالة علمية ودقة في الترجمة
الفكر المصري القديم يبدأ قصة الخلق بأن صور لحظة الأزل قبل بدء أي خليقة كما يلي [فقبل أن يكون هناك أى أقطاب، قبل أن يكون هناك سالب/موجب، فوق/تحت، نور/ظلام، حضور/غياب، حياة/موت، أرض/سماء، ذكر/أنثى، كان هناك قوة واحدة ليس كمثلها شيء كامنة داخل مياه الأزل "نون". مياه الأزل هى محيط لا متناهى ليس له سطح ولا قاع وليس له أبعاد، فهى المنبع اللامحدود الذى خرج منه كل شئ. لا يمكن سبر أغوار "نون" ولا يستطيع عقل الإنسان أن يعبر عنها بأى كلمات أو مصطلحات تنتمى للعالم المادى الذى تحكمه قوانين الزمان والمكان]. أما قصة الخلق فتبدأ بأن خلق الإله أتوم نفسه من الماء هكذا: [تصف قصة الخلق المنسوبة الي مدينة "أون" (هليوبوليس) المعروفة باسم تاسوع هليوبوليس نشأة الكون عن طريق الانبثاق. وفى نظرية التاسوع يطلق على الاله الواحد اسم "آتوم". "آتوم" هو النقطة شديدة التركيز التى انبثق منها كل شيء، وإليها يعود كل شيء. آتوم هو الجوهر اللامحدود الذى يحوى كل إمكانيات الخلق التى لم تتشكل بعد. كان أول فعل من أفعال الخلق التى قام بها "آتوم" هو أنه انفصل عن مياه الأزل "نون" وبذلك أحدث تغيرا جذريا فيها، فلم تعد كحالتها الأولى حيث لا سطح ولا عمق ولا شكل ولا شيء سوى الفوضى والظلام. لم تعد مياه الأزل ساكنة لأن آتوم أحدث بها تغيرا حين انفصل عنها وارتفع منها. تلك الصيرورة التى اعترت مياه الأزل واعترت آتوم فى نفس الوقت هى ما يطلق عليه فى مصر القديمة اسم "خبرى". عبر المصرى القديم عن تحول "خبرى - آتوم" و صيرورته من حال الى حال بطريقتين: الطريقة الأولى هى اتخاذه هيئة جعران مقدس، والطريقة الثانية هى اتخاذه هيئة تل أزلى ارتفع فوق مياه الأزل. وقد جاء وصف الطريقتين فى متون الأهرام فى اثنتين من نصوص الأهرام. يقول النص الأول : "تقدس اسمك يا آتوم ... تقدس اسمك يا خبرى... يا من خلق ذاته بذاته بأن تحول وصار من حال إلى حال ... ومن ذاته خلق التل الأزلى ... ثم تحول الى جعران مقدس يحمل اسم خبرى" ويقول النص الثانى :- "تقدست يا "خبرى - آتوم" ... يا من ارتفعت على هيئة تل أزلى... يا من ارتفعت كطائر الـ"بنو" فوق حجر الـ"بن بن" في مدينة "أون". طائر الـ "بنو" فى مصر القديمة هو طائر "الفينيكس"، أما حجرالـ"بن بن" فهو الحجر الذى سال من جسد آتوم والذى يحوى بذور الخلق جميعا (المني المقدس). فى تاسوع هليوبوليس خرج "آتوم" من مياه الأزل على هيئة تل أزلى، ثم أخرج للوجود أول زوج من الكيانات الإلهية وهم "شو" و"تفنوت" وذلك عن طريق العطس والبصق، وهو تعبير مجازى عن الانبثاق، أى أن الإله خلق من ذاته ولم يخلق من عدم أو من أى مادة منفصلة عنه. و"شو" (إله مذكر) هو رمز الهواء أو الفضاء ويحمل فوق رأسه علامته المميزة وهي الريشة. أما "تفنوت" (الإلهة الأنثى) فهي رمز عنصر النار، وتظهر فى الفن المصرى على شكل لبؤة أو امرأة برأس لبؤة تحمل فوق رأسها قرص الشمس. تعددت الروايات التى تصف كيف خلق "آتوم" من ذاته، أى كيف تحول وصار من حال الاحتجاب والخفاء والوحدة الأزلية إلى التجلي والتعدد. تصف الرواية الأولى صيرورة آتوم من حال إلى حال من خلال ما يعرف بالتل الأزلى، الذى ارتفع من مياه الأزل واتخذ شكلا وسطحا وأحدث تحولا فى مياه الأزل بعد أن كانت بلا سطح ولا قاع. أما الرواية الثانية فتصف تحول "آتوم" من حال إلى حال عن طريق الاستمناء وخروج التجليات الالهية منه على هيئة بذور أو سائل منوى فيه بذرة الحياة. وقد شبهت بعض النصوص المصرية القديمة خروج الكيانات الإلهية من "الواحد" بعملية القذف لأن الإله يخلق من ذاته وليس من عدم. أما الرواية الثالثة لتحول "آتوم"، فتقول أنه خلق من ذاته أربعة أزواج من القوى الكونية باستخدام الارادة التى محلها القلب، بأن أراد بقلبه، فتحققت مشيئته، وجاء للوجود ثمانية قوى كونية هم (شو / تفنوت، وجب / نوت، وإيزيس / أوزوريس، ونفتيس / ست). وهم يشكِّلون معا بالإضافة إلى "آتوم-رع" ما يعرف بتاسوع هليوبوليس .قوى التاسوع هى القوى الالهية التى تنظم دورات الميلاد والموت والبعث.]
الثنائي الإلهي "جب / نوت"، الأرض "جب" (إله ذكر) ونوت السماء ( إلهة أنثى). الإلهة "نوت" تصور كامرأة محنية على شكل قوس تلامس يدها الأرض "جب" وفي نهاية القوس رجليها تقف على الأرض، وذلك لتمثل قبة السماء. وهما معا "جب / نوت" يعتبرا المعبد الإلهي الذي تتجلى فيه الآلهة بعظمتها. أتون - رع يقوم بدوراته اليومية والسنوية بل بدورات منتظمة عبر آلاف السنين. قصة الخلق في العهد القديم، رفضت كل الأساطير المعاصرة لها بشكل قاطع، كما رأينا في المقال السابق حول الأسطورة البابلية، فأرادت أن تهبط بنا من سماء الخرافة إلى الواقع العلمي حسب المستوى المعرفي في المعاهد المصرية القديمة في الألفية الثانية قبل الميلاد. قصة الخلق في الإصحاح الأول من سفر التكوين، ليست وحيا منزلا، ولا هي أسطورة، كما يري البعض، لكنها رؤية علمية يتابع فيها الكاتب مراحل نشأة الكون حسب مفهوم ذلك العصر في مصر القديمة.
"فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ." (تك 1:1-2). البدء أي في الأزل قبل الخليقة. بتلك العبارة الأولى فَصَلَ فصلا كاملا وبشكل قاطع بين الخالق والمخلوقات التي اعتبرها صناعة مادية بلا روح ولا ألوهة ولا وعي. في العبارة الثانية يقف على استحياء أمام فكر معاصريه، وباختصار شديد في التعبير عما به من حيرة. فمن ذا الذي يمكنه أن يدرك لحظة الأزل؟ وماذا كان قبل الخلق؟ كيف يمكن الإلمام بزمان ما قبل الزمن؟ هل كان هناك أرض؟ وهل كانت الأرض خربة وخالية ومغمورة بالمياه الأزلية يغلفها الظلمة؟ ظهور اليابسة في اليوم الثالث من وسط الماء محاولة فكرية للرد على التساؤل بقدر العلم المحدود المتاح في ذلك الوقت. نظرية أزلية الماء التي تغطي السماء من فوق وتحت الأرض، يواجهها بقوله "وروح الله يرف على وجه المياه". هنا المياه ليست أزلية ولا تحمل اسما إلهيا، فلا هي "نون" المصرية ولا هي "تعامة أو تياميت" البابلية، وبذلك يؤكد أن الله هو الروح الحي الأزلي وحده بينما المياه هي مجرد خليقة مادية. الكتاب يفصل بين الله الروح وبين الماء المادة، ليرفض أسطورة تزعم خروج الله وانفصاله من «المياه الأزلية». الله وحده هو الخالق بينما الخليقة مفعول به صامت وليست بفاعل.
أيام الخليقة السبعة تمثل المراحل التي نشأ فيها الكون، حسب مفهوم العصر في مصر القديمة. فمن الواضح أنها لم تكن أياما بالمعنى الزمني، فالسماء شيدت في اليوم الثاني، والأرض تم إعدادها في اليوم الثالث، والشمس والقمر والكواكب الذين يحددون الزمن وقياسه خلقوا في اليوم الرابع كما يذكر «وَتَكُونَ لآيَاتٍ وَأَوْقَاتٍ وَأَيَّامٍ وَسِنِينٍ» (تك 14:1) وبذلك يوضح بشكل قاطع أنه لم يكن هناك زمنا قبل خلقة الشمس والقمر والنجوم في اليوم الرابع. فاليوم هنا كان يرمز لمرحلة ربما من مراحل الخليقة والتكوين السديمي... مرحلة سابقة على الزمن نفسه. واضح انه يتكلم بشكل رمزي وبأسلوب علمي عن أمور لم يراها أحد، فيجرد الخليقة من أي شكل ميتافيزيقي تماما، وبذلك يتجنب أي خرافة. تلك التقسيمات الزمنية المرحلية والدورات كانت شائعة جدا عند قدماء المصريين في دراساتهم الفلكية منذ أزمنة بعيدة، ربما من قبل الألفية الخامسة قبل الميلاد، حيث رأينا ذلك في دراساتهم الفلكية العميقة التي أبدأت التقويم المصري القديم في عام 4242 قبل الميلاد.
العبارة الأولى "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ"، يتم شرحها وتفصيلها في أربعة أيام الخليقة الأولي بحسب النصوص التالية: "وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ (تك 3:1) يبدأ اليوم الأول بأن يخلق الله النور، وهنا نفاجأ برؤية فريدة ليس لها مثيل في كل أديان العالم، تحمل رؤية علمية بالغة الأهمية، حيث أن الطاقة هي أصل كل الوجود المادي، فبالتأكيد الطاقة ظهرت أولا قبل المادة والضوء يشكل عنصرا رئيسيا في التكوين السديمي. ومن حقنا أن نتساءل عن مصدر هذه المعلومة العلمية الدقيقة. لم يكن ذلك إعجازا علميا كما يمكن أو يحلو للبعض أن يُصوِّر، لكنه كانا مستوى علميا ومعرفيا متقدما جدا في ذلك الوقت. ولا بد أن نُرجِع مصدره إلى المدارس المصرية القديمة التي كانت على مستوى علمي بالغ التقدم. لم يحاول الكاتب أن يضفي على النور شكلا ميتافيزيقيا أو اسما إلهيا مثل الأديان المعاصرة له، مع أن النور مغري جدا لإضفاء عليه السمة الإلهية. فمن الواضح أن الكاتب كان يتجنب أي خرافة في زمن شاعت فيه الخرافات بوفرة.
من اليوم الثاني حتى الرابع الكاتب يقف في مواجهة مع كل أديان العالم بشكل مهذب وفي عبارات شديدة القوة والأثر رغم انها مختصرة جدا. بالرغم من أن المستوى العلمي للكاتب يخضع لنفس الرؤية الكوزمولوجية القديمة المعاصرة له عن مكونات الكون؛ السماء القبة الصلبة، والأرض المسطحة، والماء من تحتها الذي يمتد إلى ما فوق السماوات، ومع ذلك فهو يُجرَّد الخليقة تماما من أي معنى ميتافيزيقي ويقصر الألوهة على الإله الواحد الخالق لكل شيء والمتعالي جدا عن تفاهات وسخافات الفكر البشري الذي أضفى على الألوهية صورا عجيبة بلغت لصور مخيفة وبشعة وقذرة. وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ». فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذَلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً ثَانِياً. (تك 6:1-8) وَقَالَ اللهُ: «لِتَجْتَمِعِ الْمِيَاهُ تَحْتَ السَّمَاءِ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ وَلْتَظْهَرِ الْيَابِسَةُ». وَكَانَ كَذَلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْيَابِسَةَ أَرْضاً وَمُجْتَمَعَ الْمِيَاهِ دَعَاهُ بِحَاراً. وَرَأَى اللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. (تك 9:1-10) وَقَالَ اللهُ: «لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَتَكُونَ لآيَاتٍ وَأَوْقَاتٍ وَأَيَّامٍ وَسِنِينٍ. وَتَكُونَ أَنْوَاراً فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأَرْضِ». وَكَانَ كَذَلِكَ. فَعَمِلَ اللهُ النُّورَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ: النُّورَ الأَكْبَرَ لِحُكْمِ النَّهَارِ وَالنُّورَ الأَصْغَرَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ وَالنُّجُومَ. وَجَعَلَهَا اللهُ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأَرْضِ. وَلِتَحْكُمَ عَلَى النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَلِتَفْصِلَ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَرَأَى اللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً رَابِعاً. (تك 14:1-18). أي طالب في المدارس الثانوية يقرأ هذه العبارات عن تلك الثلاثة أيام للخليقة، لا يسعه إلا أن يعترض على ما بها من أخطاء تتعارض مع كل ما تعلمه في الجغرافيا!!! أي محاولة للتغطية على ما بها من خطأ علمي بإضفاء عليها الشكل الروحي الرمزي لن يكون مُوفَّقا فالطالب مُحِق في اعتراضه. ليست المشكلة في الطالب ولا في النص. لكن المشكلة في انتزاع نصا من سياقه التاريخي وظروف كتابته في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، لنضعه في منظور القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد بفارق زمني 34 قرنا دون أن نشرح السياق التاريخي للنص!!! ابننا الصغير لم يعرف أن كاتب سفر التكوين كان يواجه حربا فكرية بالغة الضراوة مع ميثولوجيا الأساطير القديمة محاولا تخليص الفكر من الخرافة. جلد السماء الذي خلقه الله ليكون القبة السماوية بحسب المستوى المعرفي في القرن 13 قبل الميلاد كانت تمثله في الميثولوجيا المصرية المعاصرة له الإلهة الجميلة الرقيقة "نوت" ذات الأوصاف والأعمال الباهرة وما يحاك حولها من أساطير بديعة. "نوت" السماء كانت تشكل ثنائي مع زوجها "جب" الأرض، قام بخلقهما الإله "آتوم - رع" من ذاته عن طريق العطس والبثق!!! وفي قول آخر عن طريق الاستمناء والقذف. فكانت النتيجة خلق أربعة أزواج من الآلهة من مياه الأزل "نون" ومن بين الأربعة أزواج كانتا السماء (الإلهة الأنثى) والأرض (الإله الذكر)!!! كاتب سفر التكوين لا يناقض المفهوم الكومزمولوجي لذلك الزمان لكنه يحاول فقط أن يخلصه من الخرافة برفض كل أشكال الألوهة عن السماء والأرض التي اعتبرها مخلوقات مادية بلا روح أو حياة. فالسماء مجرد جلد أي مادة صلبة وأظهر الله اليابسة بتجميع المياه في مكان واحد تحت السماء، فهو يتكلم بشكل موضوعي. بينما في الملحمة المصرية القديمة كان ظهور "التل الأزلى" بدءاً لظوهر اليابسة نتيجة لتدفق المني الإلهي في مياه الأزل!!!
أما موقف سفر التكوين من خلقة الشمس في اليوم الرابع فهو يعتبر تجاسرا وتحديا وتجديفا على الإله أتون - رع أو الإله أمون أو الإلهة البابلية شمش وزوجها القمر.. بأن يعتبرهم مجرد مخلوقات جامدة بلا حياة!!! بل يقرر انهم مجرد أنوار خلقها الله في جلد السماء للإنارة وتنظيم الوقت. إن ذلك الموقف من سفر التكوين في القرن الثالث عشر قبل الميلاد يعتبر تجديفا بالغ الكفر، بل ثورة فكرية وسبقا خطيرا ودعوة لاستخدام العقل والرؤية العلمية في وقت مبكر جدا كان فيه العالم كله يرزح تحت فكر الملاحم الخرافية والتي كانت تدور حول الشمس كأعظم الآلهة. الأعجب والأسوء من ذلك جدا الخرافات البابلية عن قصة خلق السماء والأرض في الأسطورة الشعرية ذات الـ 1100 بيت شعر "الأينوما إيليش " Enuma Elish"... الآلهة موجودين منذ الازل قبل خلق السماء والأرض وأقدمهم جميعا الإلهة الشريرة جدا "تياميت أو تعامة" التي تمثل الماء المالح الذي بلا قرار حيث تمثل الفوضى وتشيع الشرور، بينما زوجها "ابسو" الماء العذب!!! صنعا أولادهما المشاغبين فيحدثون الضوضاء وكل المصائب والإزعاج والأعاصير وكل مظاهر الطبيعة الغاضبة الذي لم يحتمله الزوج المسكين فقتله الإله الحكيم "أيا" وصار بدلا منه إله الماء العذب... إلا من عجب من أن الماء العذب والماء الماح يتزوجان كإلهين!!!! الضوضاء والفوضى زادت جدا بسبب تياميت وأولادها الأشرار فلم تحتملها الألهة الأخرى. أخيرا ظهر اللإله مردوخ وعمل خطته الرهيبة للتخلص من تياميت!!! وكما ذكرت التفاصيل المضحكة جدا التي لا يمكن لطفل في أيامنا أن يستسيغها «أمض وأسلب تعامة الحياة ولتحمل الريح دماءها للأماكن القصية .. واستعد مردوخ للمعركة .. فعلق على جنبه القوس والجعبة ملأها بالسهام المسنونة .. كما حمل البرق أمامه .. وكسا جسده بشعل ملتهبة .. وصنع شبكة ليوقع بها تيامات .. وجمع الرياح الأربع ليتصدى لها .. كما صنع ريحًا خبيثًا وعواصف دوامية .. وركب العربة المرعبة والزوبعة التي لا تقاوم .. واحتدمت المعركة الرهيبة» ثم دارت المعركة بشكل أكثر هزلا التي انتهت بأن قتل "مردوخ" "تياميت" الإلهة الشريرة ...
كل ذلك الهراء لا يمثل عجبا بقدر النتيجة الأخيرة الخطيرة حيث تقول الملحمة [ثم عاد مردوخ إلى تيامات .. فصنع الكون من جسد هذه الإلهة الأم المندحرة .. حيث شق جسدها نصفين .. رفع النصف الأعلى .. فكانت السماء .. وبسط النصف الأسفل فكانت الأرض .. ثم عاد إلى تعامة (تيامات) المقهورة .. وقف على جزئها الخلفي .. وبهراوته العتية فصل رأسها .. شقها نصفين فانفتحت كما الصدفة.. رفع نصفها الأول وشكل منها السماء سقفًا!!! وصنع تحته العوارض وأقام الحراس .. أمرهم بحراسة مواتها فلا يتسرب.] هذه هي قصة خلقة السماء والأرض في الملحمة البابلية!!! إنها الملحمة التي يزعم كتابنا العظام في شرقنا المقفر من الرؤية الصادقة، أنها المصدر الذي اقتبس منه سفر التكوين العبري فكره !!!!! ويا للهول من كم الافتراء والكذب والغباء أو الاستغباء أو الجهل المتعمد والمغالطة التي تلاك حول هذا الموضوع !!!
ماذا فعل سفر التكوين العبري بهذه الخرافات في حديثه المختصر جدا عن أيام الخليقة الثلاثة من اليوم الثاني حتى اليوم الرابع... في كلمات وسطور قليلة جدا، وفي أدب وكتابة وقورة مهذبة، جمع كل الآلهة التي ظهرت عبر التاريخ في الشرق والغرب ووضعها في أكياس سوداء خاصة بالقمامة وركنهم بجوار الحائط... تركهم لهواة البحث في الزبالة من كتابنا الشرقيين الأفاضل ليخرجوا منها كل بدعة وغش للحقيقة !!! وكم من ثروات صنعها البشر من تدوير القمامة !!!
وماذا بعد من قصة الخلق في سفر التكوين إنها لم تكتمل بهذه الملحمة التي صرعت كل آلهة الأرض فأسقطتهم لما تحت الأرض... بل قصة الخلق المختصرة جدا اكتملت بعرض علمي بديع لمراحل ظهور الحياة على الأرض. الحياة الواقعية، ليست حياة تلك الآلهة الخرافية المجنونة، بل الحياة بمعناها الموضوعي الرزين، والشكل العلمي المحترم التي بدأت بظهور النبات على الأرض. وَقَالَ اللهُ: «لِتُنْبِتِ الأَرْضُ عُشْباً وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْراً وَشَجَراً ذَا ثَمَرٍ يَعْمَلُ ثَمَراً كَجِنْسِهِ بِزْرُهُ فِيهِ عَلَى الأَرْضِ». وَكَانَ كَذَلِكَ. فَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ عُشْباً وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْراً كَجِنْسِهِ وَشَجَراً يَعْمَلُ ثَمَراً بِزْرُهُ فِيهِ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى اللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً ثَالِثاً. (تك 11:1-13)
وَقَالَ اللهُ: «لِتَفِضِ الْمِيَاهُ زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ وَلْيَطِرْ طَيْرٌ فَوْقَ الأَرْضِ عَلَى وَجْهِ جَلَدِ السَّمَاءِ». فَخَلَقَ اللهُ التَّنَانِينَ الْعِظَامَ وَكُلَّ نَفْسٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ الَّتِي فَاضَتْ بِهَا الْمِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا وَكُلَّ طَائِرٍ ذِي جَنَاحٍ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى اللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَبَارَكَهَا اللهُ قَائِلاً: «أَثْمِرِي وَاكْثُرِي وَامْلإِي الْمِيَاهَ فِي الْبِحَارِ. وَلْيَكْثُرِ الطَّيْرُ عَلَى الأَرْضِ». وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً خَامِساً. (تك 20:1-23).
وَقَالَ اللهُ: «لِتُخْرِجِ الأَرْضُ ذَوَاتِ أَنْفُسٍ حَيَّةٍ كَجِنْسِهَا: بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَوُحُوشَ أَرْضٍ كَأَجْنَاسِهَا». وَكَانَ كَذَلِكَ. فَعَمِلَ اللهُ وُحُوشَ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا وَالْبَهَائِمَ كَأَجْنَاسِهَا وَجَمِيعَ دَبَّابَاتِ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا. وَرَأَى اللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ». فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. َبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ وَأَخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ». وَقَالَ اللهُ: «إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ كُلَّ بَقْلٍ يُبْزِرُ بِزْراً عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ وَكُلَّ شَجَرٍ فِيهِ ثَمَرُ شَجَرٍ يُبْزِرُ بِزْراً لَكُمْ يَكُونُ طَعَاماً. وَلِكُلِّ حَيَوَانِ الأَرْضِ وَكُلِّ طَيْرِ السَّمَاءِ وَكُلِّ دَبَّابَةٍ عَلَى الأَرْضِ فِيهَا نَفْسٌ حَيَّةٌ أَعْطَيْتُ كُلَّ عُشْبٍ أَخْضَرَ طَعَاماً». وَكَانَ كَذَلِكَ. وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً سَادِساً. (تك 24:1-31)
هنا نجد تتابع علمي في غاية من الدقة لظهور الحياة على الأرض يبدأ بالنبات ثم بالأحياء المائية حيث تخرج الزواحف من الماء إلى اليابسة وكذلك الطيور. "فَخَلَقَ اللهُ التَّنَانِينَ الْعِظَامَ وَكُلَّ نَفْسٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ الَّتِي فَاضَتْ بِهَا الْمِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا"، وذلك يمثل ظهور الديناصورات الضخمة كزحافات خرجت من الماء. وفي المرحلة التالية تظهر الحيوانات والبهائم والوحوش على الأرض ويختتم كل ذلك بظهور الإنسان الذي يعتبره تاج الخليقة بعكس ما جاء بالأساطير المعاصرة. ثم يتوقف الخلق عند هذه المرحلة التي عبر عنها . إن مراحل ظهور الأحياء على الأرض بهذا الترتيب الدقيق الذي يتفق مع العلم بشكل مذهل، لم يظهر في أي كتاب آخر سابق للعهد القديم، أو معاصر له، أو حتى بعده، إلا ما جاءت به العلوم الحديثة. ومرة أخرى اكرر أن ذلك لم يكن إعجازا علميا بل هو مستوى علمي متقدم جدا في القرن 13 قبل الميلاد، ولا يمكن أن يصدر مثل ذلك المستوى العلمي بأي حال إلا عن المعاهد المصرية الفرعونية العملاقة. وسأكتفي بذلك لنكمل الحديث عن الإنسان وخلقه في مرة قادمة، حيث انه الموضوع الرئيسي لأسفار كتاب العهد القديم. في هذه العجالة الشديدة الإيجاز، في إصحاح واحد فقط وضع كاتب سفر التكوين رؤية علمية لقصة الخلق، بحسب ما كان معروفا من علم في مصر، خلال الألفية الثانية قبل الميلاد، بعد أن جرده من كل خرافات الأديان وآلهتها الكثيرة جدا. هادما الفكر المعاصر له، وقد تأيد ذلك بالعلم الحديث. موضوع الخلق لم يكن الهدف من الكتاب لكنه يضعه بإيجاز شديد كمقدمة كزمولوجية لحديثة الرئيسي عن الله والإنسان. ولقد كان مضطرا أن يبدأ به الحديث لأسباب عدة، منها أنه كان لا بد له قبل أن يبدأ حديثه الرئيسي عن الله والإنسان، أن يزيل التشوهات التي تعرضها الأديان الأخرى في كل الأرض عن الآلهة، وذلك حتى يفصل أولا بين الإله الخالق الروح الحي، وبين كل المخلوقات المادية التي بلا روح أو حياة، وذلك ليزيل الخلط الشديد بين الله الروح والمادة الغشيمة. فكان لا بد له من أن يبدأ الحديث بهذه المقدمة القصيرة جدا. في الواقع مقدمة الكتاب تتكون من الـ 11 إصحاح الأول بينما الإصحاح الأول هو مقدمة للمقدمة. وبذلك الإصحاح وضع الكاتب المخلوقات المادية في موقعها الطبيعي كخليقة الله لتؤدي وظائفها وتحقق إرادة الله . كما وضع كل شيء أمام الإنسان تحت الدراسة العلمية وتحت الفحص العقلي المادي بعيدا عن الخرافة. كل ذلك كان تجاسرا شديدا وتحديا غير مسبوق لمعتقدات جميع شعوب الأرض قام بها الإصحاح الأول من سفر التكوين في عبارات قليلة، وبالرغم من إيجازها الشديد فقد حققت أهدافها بقوة.
ملاحظات هامة مرة أخرى بهذا المقال بدأت الحديث الذي يناقش الإصحاح الأول من سفر التكوين فقط. وفي حدود هذا المقال فقط الحوار مسموح. وللحديث بقية طويلة في مقالات قادمة أي حوار سيخرج عن المنطق العلمي الموضوعي سيكون مرفوضا أي حوار سيحمل الفكر العنصري المتعصب سواء كان لدافع ديني أو إلحادي سيكون مرفوضا
مع كل التقدير للمحاور المثقف
#سامي_المصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دفاع عن كتب العهد القديم (1)
-
«الإخوان المسلمين» هل هم فصيل وطني أم تنظيم إرهابي دولي
-
بيان إلى الشعب القبطي المكلوم
-
الموقف المصري المزدوج «موقف غائم وغامض»
-
الله والإنسان (1) الخطأ والشر
-
الشعب المصري «يتحدى العالم ويغلب Contra La Mondom» (1)
-
قصة نصر أكتوبر كما عشته (1) «اليوم الأول»
-
لوبي الأساقفة الأقباط ولجنة الخمسين لكتابة دستور مصر
-
ماذا جرى لعالم الإنسان وماذا يحدث في مصر اليوم
-
يا شعب مصر البطل لقيانا اليوم مع التاريخ
-
يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟
-
الثورة المصرية والمتأمركون المتصهيونون
-
فيلم «الراعي» بين الجمال والقبح
-
أنا الشعب ... أنا الشعب «لا أعرف المستحيل» (2)
-
أنا الشعب .. أنا الشعب 1- «لا أعرف المستحيل»
-
«ديمقراطية أولاد السفلة» تسحق مصر
-
الفصل الثاني من السيرة الذاتية للأنبا شنودة الثالث
-
«الشرف العسكري» كما يراه العوا والإخوان
-
«عام جديد 2012»... آه لو يعود.. ليعود الفرح والحب وحرية الرو
...
-
«العدوان الثلاثي» الجديد على مصر
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|