رجب الطيب
(Rajab Ata Altayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 4926 - 2015 / 9 / 15 - 20:42
المحور:
الادب والفن
كولاج فتحية النمر : لوحة سردية مبهرة !
تقدم الروائية فتحية النمر في نصها الروائي الجديد " كولاج " عدة لوحات سردية , تشكل في مجموعها عملا روائيا متميزا , يكشف عن موهبة و كذلك عن نضج وعن احتراف لدى الكاتبة , يمنح العمل قيمة في ظل ما ينشر بكثرة هذه الأيام من أعمال سردية أو مدونات , استنادا إلى سهولة أدوات ووسائل النشر .
ولان سيمياء النص تشي به وتوحي إليه , فان أول سؤال أو تساؤل يتبادر إلى ذهن القاريء , هو حول هذا العنوان , غير المتداول في عالم الرواية , خاصة في ما ينشر حاليا من نصوصها , والذي يأخذ إلى مناخات وأجواء الفن التشكيلي أو حتى إلى عالم الشعر وما إلى ذلك . سرعان ما تتشكل الإجابة على هذا السؤال بعد أن يبدأ القاري في دخول عالم النص .
فالنص مكتوب وفق تكنيك تعدد الأصوات , أي وفق فصول روائية , مسرودة من خلال ضمير المتكلم , ضمير الأنا , والذي هو ليس ضمير الكاتب / الراوي , بل عدة ضمائر لعدة شخصيات , كانت هنا وفي هذا النص تحديدا , خمسة أصوات لخمس شخصيات , جاءت تباعا : جمعة شاهين , سلطانة , براء , زاهد , وغدير .
في البداية يمكن للقاريء أن يظن بأن السرد جاء بهذا الشكل , ليقدم مقاطع روائية , ليس بالضرورة أن تشكل زوايا نص روائي محكم البناء أو موحد البنية , بل لتنسج نصا أشبه ما يكون بالنص السردي الحديث الذي يشي بحالة التشظي القائمة في الواقع , خاصة وان هذه الشخوص , كانت تنتمي لعوالم ومجتمعات مختلفة , وان كانت تلتقي بحكم العمل المشترك أو الجيرة , لكن متابعة السرد لحركة الشخصيات إن كان عبر التداعي , أو الذاكرة التي ترتد للوراء أو عبر التنقل والسفر , مما وسع من دائرة المكان الذي يدور فيه الحدث الروائي . وان تلك الطريقة في الكتابة السردية تقترب من كتابة اليوميات أو المذكرات , لذا فان الكاتبة نفسها , والتي تعاملت مع نصها بموضوعية شديدة , رأت في هذا النص " كولاجا " سرديا , مثل لوحة متعددة الزوايا والجوانب , لكن التشابك في العلاقات بين الشخصيات الساردة أو الرواة , قدم في النهاية وحدة نصية .
رغم أن لغة الشخصيات المتعددة , الراوية كانت تقريبا واحدة , إلا أن عوالم تلك الشخصيات كانت مختلفة , وكانت كلها شخصيات مشروخة لأسبابها , لذا فقد قدم النص عالما روائيا يكاد يكون غير متخيل , أي انه كان عالما واقعيا بامتياز , فجميع الشخصيات الرئيسية بالطبع , التقت هنا , في هذا المكان , لتحقق ما كان ينقصها , وهي التقت إما بحكم العمل أو الحاجة , حتى علاقة الزواج التي كانت تربط الشخصيتين المركزيتين بالنص : جمعة شاهين وغدير , جاءت علاقة ناقصة أو غير مكتملة , لم تكن نتيجة حب , وبدأت بالغش وانتهت بالفشل !
أما زاهد فقد جاء بعد أن فشل حبه لغادة , وبحثا عما يرفع من شأنه أمام أمها لتقبل به زوجا , ولم يكن له هم سوى أن يجمع المال , وظهر كانتهازي حين زوج أخته من حميد بعد أن قارن بين حميد وجمعه , كذلك كانت براء , طبيبة النساء محكومة بعقدة فض بكارة أختها هدى على يد ابن قريتها محمد , ومن ثم هربه إلى أن جاء المدرس القاهري عدنان وتزوجها , لكنها ماتت وهي حامل منه , فتزوج منها هي , وجاءا للأمارات للعمل , وها هي تقوم مدفوعة بعقدة تلك الحادثة بعمليات ترقيع غشاء البكارة لمن يتعرضن لفقدانه بعد أن يسلمن أنفسهن لمن يحبون .
هكذا ولدت غدير , ابنة لسلطانة البنت المولودة لأب عربي / إماراتي وأم باكستانية , ابنة حرام نتيجة علاقة حب بين سلطانة وابن عمها محمد , الذي فعل فعلته وهرب إلى أن غرق ببركة المزرعة فتزوجها أخوه سلطان على امرأته خديجة التي كانت عاقرا , وغدير حدث معها ما حدث مع أمها , حيث فقدت بكارتها هي أيضا مع أبن خالتها علي , وحين تقدم لخطبتها جمعة خشيت أن لا يكون متحررا كفاية ليتفهم حالتها , فذهبت إلى براء !
نحو خمسة عشر عاما قضتها غدير مع جمعة , بدأتها بذلك الغش , فعاقبها الله بالعقم , لكنها لم تكتف بهذا , بل إنها واصلت استهتارها بأن أقامت علاقة مع زاهد , وجمعه نفسه لم يكن بريئا فهو أيضا لديه مزرعته كذلك يذهب إلى حميد الذي تزوج بالسر من ناهد أخت زاهد , على زوجته , أي أن هذا العالم تربطه علاقات هشة , إما مبينة على مصلحة مرتبطة بالعمل وجمع المال , أو بالبحث عن المتعة , ولا شيء غير هذا .
مجتمع متعدد في الواقع كما هو في النص , لكن هذا التعدد , لم يجمع المفردات التي ظلت تجتمع في علاقات عابرة أو غير سوية , مما يشي بانهيارها في أية لحظة , كما حدث مع العلاقة المركزية في النص , علاقة الزواج التي تربط بين جمعة وغدير !
كان جمعة يحب غدير جدا , لدرجة أن يفضلها على أمه , ولم تشك هي يوما في حبه الكبير لها , لكن إلقاءه بكلمة الطلاق لها في آخر النص , جاءت كوقع الصاعقة على رأسها ورأس القاريء بالطبع , وكأن في ذلك ما يوحي بالإشارة إلى سقوط مجتمعات بكاملها , هكذا فجأة كما يبدو لمن لا يتمعن في الأمر , لكن كنتيجة لمقدمات مؤكدة لمن يقرأ ما بين السطور .
رغم أن البناء النصي ارتكز على خمس فصول سردية , جاءت كمونولوجات لخمس شخصيات إلا أن النسيج أنبنى على شخصيات عديدة أخرى , حضرت ولم تسرد بلسانها , مثل أم جمعة وحميد , عدنان , مريم , فاطمة , أم زاهد , غادة , بسام , كذلك تعدد الأماكن وإن كانت الكاتبة غير مولعة بسرد تفاصيل المكان , باستثناء بعض ملامح البيوت التي هي أشبه بالقصور أو الفيلات , كذلك المزارع , ورغم أن الفصول السردية جاءت كمونولوجات أو كيوميات للشخصيات , إلا أن الوصف كان خارجيا أكثر , مما يكشف أن الراوي الحقيقي أنما كان هو الكاتبة , التي تخفّت وراء أبطال روايتها حين جعلت منهم رواة أو ساردين .
والحقيقة أن لغة النص , وإن كانت قد كتبته امرأة , إلا انه لم يكن جندريا , أي لم نشعر بانحياز للمرأة , التي لم تظهر كمضطهدة , وفق عادة أو طريقة أو أسلوب متبع هذه الأيام , ولم يكن النص " مؤنثا " أي أن عالم البطولة فيه لم يكن للنساء فقط بل كان متوازنا بين الجنسين, وكانت اللغة متوافقة مع مناخات وعوالم النص , وإن لم تتعدد اللغة بتعدد الرواة , وقد كان يمكن أن يكون ذلك لو أن مفردات لغة براء مثلا الطبية ظهرت هنا , أو أن مفردات البزنس ظهرت في سردية زاهد ,, .
لكن التشويق كان حاضرا بقوة , كذلك الإيحاء , ورشاقة السرد , لم تكن جملة النمر إنشائية مملة , وهي لم تطارد اللغة ولم تبحث عنها , بل جاءت لغتها متدفقة , بسبب تدفق الأحداث , ولم نشعر بأية هنات في النص , حتى انه انتهى بنفس الدفق الذي بدأ به , مما يعني بان فتحية النمر إنما هي ساردة بامتياز , وأنها كاتبة روائية مقتدرة , تمتلك أدواتها تماما , وتكتب دون وجل أو تردد , بتدفق وعفوية واحتراف !
كان السرد نفسه وتتابع الأحداث نقطة تبئير النص , ومركز قوته , ورغم انه جاء على شكل السرد الحلزوني , أي أنه تم تقطيع التتابع السردي وفق التقطيع الأفقي من خلال فصول الرواة , إلا أننا كنا نلاحظ وكأن كل واحد من الرواة يقوم " بتسليم الدور " لزميله , وفق شكل حكواتي موروث , أي أن تتابعا زمنيا كان يلاحظ من خلال تكامل القصص وتوالي الأحداث , خاصة تلك التي " ربعت " الحكاية , فبعد أن نشرت الكاتبة حروفها على صفحات نصها , قامت بجمع حصادها في الصفحات الأخيرة , الفصل الذي تحدثت فيه غدير , وكشفت فيه أسرارها وأسرار النص , منذ تزوجت جمعة وهي لم تكن بكرا , إلى عملية الترقيع مع براء , إلى علاقتها طوال نحو عشر سنوات مع زاهد !
زمن النص , الذي امتد مكانه من الشارقة إلى حلب مرورا بمصر , كان نحو خمس عشرة سنة , وهي فترة الزواج بين جمعة وغدير , مع إضاءات تبتعد أكثر من ذلك لكشف المزيد عن الشخصيات التي شكلت أبطال النص , واعتمدت الكاتبة على الفلاش باك , التذكر والتداعي , لتهرب من السرد التتابعي الممل , فقد كان يكفي للشخصية أن تعود لمكان ما , لتتذكر ما كان يدور فيها من حوارات ومواقف وأحداث في سنين سابقة .
كذلك اعتمدت كثيرا على عنصر التشويق , فما كانت تسرع خلال السرد إلى كشف دواخل الشخصيات أو ما لديها من أسرار , حدث هذا حين وشت , منذ أن تولى زاهد السرد في الفصل الثالث , وكان اكبر الفصول ( نحو ثلث النص ) حيث وشت بوجود علاقة بينه وبين غدير ولم توضح طبيعتها أو البعد الذي وصلت إليه , كذلك حين قدم بسام المفاجأة لزاهد وكانت امرأة مكتنزة , لنعرف لاحقا أنها كانت غادة , وهذا احترام شديد لوعي وذكاء القاريء .
حتى أن النص انتهى ولم يكشف كل أسراره بعد , فلدى أم عاصم ( أم زاهد ) سر تعرفه أم غادة , كان حائلا دون أن توافق أم غادة على زواج زاهد من غادة .
بقي أن نقول بان شخصيات النص كانت شخصيات درامية بكل معنى الكلمة , فرغم كثرتها , وربما لأن النص اهتم بكشف النسيج الاجتماعي الذي يتحدد شكله وفق طبيعة الشخصيات التي تكونه , إلا أنها كانت مكشوفة , وقد رسمتها الكاتبة بكل دقة , رغم انه يمكننا أن نرجح بان مواصفات الشخصيات كانت خارجية أكثر منها داخلية , ربما لان طبيعتها كذلك , تمتاز بالسطحية , أكثر من تميزها بالعمق , لكن حالة التفكك التي يظهرها النص , كانت هي مقولته وهدفه , أي أن يعلق الجرس ليقول بان علاقات قائمة على المصالح وعلى العبث لا بد أن تنهار , وان المجتمع العربي يتفكك من تلقاء نفسه , لتلك الأسباب وليس بسبب أي شيء آخر , وهكذا يقدم النص مشهدا دراميا يصلح لمعالجة درامية , تقدم تجربة المرأة قبل الزواج للنقاش العام , وهذا موضوع هام للغاية .
( رجب الطيب )
رجب أبو سرية
[email protected]
#رجب_الطيب (هاشتاغ)
Rajab_Ata_Altayeb#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟