|
( تحت جسر الهولندي ) اليقظات بين الحلم وكوابيس الواقع
أحمد مهدي النجار
الحوار المتمدن-العدد: 4924 - 2015 / 9 / 13 - 02:13
المحور:
الادب والفن
( تحت جسر الهولندي ) اليقظات بين الحلم وكوابيس الواقع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في رواية ( اليقظات ) ، وهي الرواية الرابعة التي شكـّلت بناء الإصدار الجديد للكاتب محمود يعـقوب ، الموسوم ( تحت جسر الهولندي ) والمتضمن أربع روايات قصيرة ، والصادر حديثا ً عن الدار العربية للعلوم ــ ناشرون ــ تجلـــّى فيها إبداع الكاتب منيرا ً ، ساطعا ً ، مثلما تجلـــّى في الرواية الأولى ، التي تحمل اسم الكتاب ( تحت جسر الهولندي ) . يحتاج النص إلى متلق ٍ واع ٍ ، مدرك لمغزى القصد ، لكي يكشف عن جوهر المعنى المشرق الذي توحي به أغلب الثيمات التي ارتقت بالمضمون إلى الغاية المقصودة ؛ وإلا ّ ما نَفَعَ الكاتب من أن يصرف الوقت والجهد في الكتابة عن حالة مألوفة في مجتمعنا ، حالة رجل ذهب بعقله الخمر ، إذا كان لم يع ِ ذلك . وتلك البلدة ( بلدة البعشيقي ) ، لازالت طرقاتها تتحسّس خطى سكيرين ، متهورين ، من أولادها الكثر ، وعبر تاريخها المثقل بالخيبات ، و ( القاعدة على أرض مالحة ) كما يشير الكاتب ؟ . رواية ( اليقظات ) هي صرخة احتجاج ، وحالة استنكار ، وشجب لمسيرة انحراف شعوري ، أرسى دعائمها ساسة الحروب بكل قحة ، وهمجية ، مع أعلامهم الخائبين ، لقتل جميع الأحلام في الصدور ، والتطلعات التي تشرق بها حدقات العيون بالتفاؤل . وما كان ( البعشيقي ) إلا ّ نتاج حي من هؤلاء الضحايا . وقد بدا أشبه بغرسة ٍ غضـّة استنبتت في أرض مسبخة . هكذا كان يدرك ، كما لم يغب عن ذاكرته ذلك المقدار العظيم من الشعور بالإحباط ، وتوالي الخيبات ، والسعي لطلب الهروب ، كإشارة ضعيفة ، متيسرة لرفض الواقع الذي بات عليه مواصلته بقنوط ، وصمت مقنعين ؛ دون أن يكف عن انتهاز الفرصة للهروب منه ، ولو في رشفة طويلة يشعر بها ، وكأنها خطوة عريضة باتجاه يقظته . يوحي عنوان الرواية وكأنه موجز مكثف لمحتوى المضمون ، لما يختزن من إشارات ودلالات ، تستطيع أن توحي بالعديد من الصور ، والمرئيات في ذهن المتلقي قبل الشروع في قراءة النص . وبدءً من الصفحة الأولى يصدمنا الكاتب بانشغاله في إبداء ذلك الشعور بالاغتراب ، فهو يعتلج في صدر ( أبو علي البعشيقي ) اعتلاج الجمر ، ويدفعه وهو يكاد يختنق به ، أو يلقى حتفه ، إلى البحث عن أسباب البقاء في أبسط السبل . وبطريقة بارعة يشرع الكاتب في رسم لوحة رائعة لحالة اللا انسجام التي يعانيها الرجل ، وقد راح يتصوّر السعادة قريبة ً ، بل هي في متناول اليد .وهنا لجأ الكاتب إلى استخدام الظل والضوء استخدام بارع ، لما يحققه هذان اللونان من تنافر يخلق صورا ً رائعة ً في الذهن أيضا ً .ولذلك استطاع أن يجسد الصورة الحية لما يعانيه ( البعشيقي ) في نضاله الغريب ، وهو يستغرق في تأمل حديقة ( النادي ) بأطيارها المزقزقة ، ونسائمها الرقيقة ، وخيوط شمس الأصيل المتراقصة في الأغصان ، وكأنه يرسل ضوءً مقابل الظل الكثيف الرازح في صدر ( البعشيقي ) ،، فكل ما حوله فرح وسرور ، إلا ّ هو مكث يعاني الحرمان ، والشعور بالاستلاب ، وهو أمر يستنكره ، بل ينحفز للتمرد عليه ، وكأنه سيدفعه ( الحرمان ) عن صدره المتباهي ، الذي وصفه الكاتب وصفا ً جميلا ً ، غنيا ً ، وثريّا ً بالمعنى .. إنه أشبه بصدر بجعة .كما وصف مجمل هيئته لتنسجم تماما ً مع ما يوحيه تأمل صدر البجعة ، وهي في الماء ، وكأنه يتصدّى لما كان يلم به من معاناة ، وقهر ( قميص أبيض فضفاض ، ووجه حليق ..) . ولكن أنـّى له تحقيق حلمه ، وها هو يرى نفسه يشقى بدفع العربة الحديدية الثقيلة ، متأملا ً أرض الحديقة النديّة ، التي أخذت العربة الحديدية تخدّها بقسوة . وكأنه بإشارة ٍ بارعة ٍ من الكاتب يشير إلى ذلك الشعور العميق بالتمزق ،والحرمان .. فتأمّل ْْْْْْْْْْْ هنا مفردة ( تخدّ ) ، هنا يعطي الكاتب ، بكل حرارة ، لعجلة العربة دلالة فاعلة ، وهي تخد ّ ، وكأن خدودها هي الجراح الداخلية التي تمزق أحشاء ( البعشيقي ) بمدي مشحوذة ، ولا يراه إلا ّ وحيدا ً ، ضعيفا ً معها .. إنها جراح لا تتوقف عن النزف ، مصحوبة بألم ٍ متواصل ، نازف على الدوام ! .. وفي نقلة حسّية بارعة ينتقل الكاتب ، وكأنه يتم الضربات الرشيقة بفرشاته ، الضربات المتممة لتلك الصورة الرائعة ، فتراه يدعه يبلغ مستوى ً عال ٍ من ذلك الشعور بالألم ، بل بالفساد ، والخراب الذي يعيث بداخله . حتى نراه في وقفة ٍ ذاهلة ٍ ( بدأت روائح الشراب تتضوّع في أركان جسده أيضا ً .. ) حتى تبعث ( في روحه الحنين الدفين ) الدائم ، المكتمن في صدر البجعة للطواف بين الأفاق ، واكتشاف عوالم أكثر صفاء ، وألق ، حتى يراها ( تمتزج مع الرائحة امتزاجا ً لذيذا ً ) فيدركه المزيد من الشعور بالعذاب ، والانفصال عن عالمه الذي يهدّده بالاختناق ، والذي تحمله الرغبة في الفرار عنه ، إنه ينبذه ، ويكرهه ..
أهاجت الرائحة هنا كل شعور مكتمن في أركان جسده . وهنا أعطى الكاتب للرائحة مكانتها ، وتأثيرها النفسي في تأجيج حالة ( البعشيقي ) الشعورية حتى أحسّ حقا ً أن السعادة قريبة منه ، ولكنه محروم منها . ولذلك نراه وكأنه تحت تأثير حالة العجز ، والإعياء يشكو ناعيا ً نفسه ( أي حظ ساقني إلى هذا المكان ! ) ، أي في حديقة النادي التي حملت الريح إلى أجوائها رائحة الخمر . وهنا حققت الرائحة تأثيرها فيه . إنها لم تكن الرغبة في العبث واللهو ، ومشاطرة الآخرين الانغماس في الشراب والقصف ، ولكنها الرغبة في تحقيق الانعتاق من خلل الشراب ، فهو النافذة الأقرب ، والأوسع ، التي يمكن أن يتسلل منها إلى عالمه الفسيح ، باتجاه الفضاء الذي يراه فيه راضيا ً ، سعيدا ً ، وكأنه بلغ مراده ، وحقق ذاته ، ووجوده ، واطمأن إلى بلوغ كينونته ، وقد بلغ المعنى ، والكمال ، والتوازن ، وصفاء النظر ، والبال ، وكأنه حقق وجوده فوق أرض أكثر تماسكا ً تحت قدميه ، وحاــّق تحليق بجعة ، بعيدا ً عن الواقع المليء بالمرارة .
لم يكن ( البعشيقي )سكيرا ً ، عاشقا ً للخمر ، أو مدمنا ً يذهب بعقله شربها .. بل هو في جرعة ٍ واحدة يراه منتشيا ً محلقا ً باتجاه أمنتيه تكون موطأ قدم خارج حدود الواقع المعاش .. واقعه الذي يستهجنه ، ويرفضه ، فيراه وكأنه عتق من أسر ه ، محققا ً مكاسبه البسيطة من خلال النشوة ، والانفلات بعيدا ً عن غربته .. ليطمأن إلى شواطئ أخرى تنعم بالدفء ، والمرح ، وبذلك صرّح ( ليتهم يدركون كيف أرى الحياة .. الحياة التي أهواها ) .
على تلك الوتيرة من المثابرة ، يواصل الكاتب بحرارة السرد لحالة ( البعشيقي ) ، فأراه وكأنه يكتب بقلم من الماس على ورق ( ستينسل ) إذا جاز التعبير ، إنه يحفر في الروح ، ويلمس الجراح بمبضعه ، ويكشف عن مقادير ما سببته تلك الجروح من ألم .. إنها الجروح التي لا تظهر للعيان ، ولا يدركها البصر ، ما دام ( البعشيقي ) يبدو مهيبا ً بصدره الشبيه بصدر متباه ، وبقميص أبيض فضفاض ، ووجهه الحليق ، بل تدركها بكليتها تلك المشاعر ، لأنها الجراح التي نالت من الروح وليس الجسد ، وكأن الكاتب يعيد إلى بالي قول ( يسوع ) ( لا تخشوا من يقتل الجسد ، بل أخشوا من يقتل الجسد والروح معا ً .. ) . نعم على هذا المنوال يواصل ( البعشيقي ) شكواه معانيا ً هزيمته الذاتية ، مبدّدا ً الوقت في العثور على جرعة ليلقاها بيسر ( سعادته ) بلونها الخاص الذي يعرفها به ، وهو يعلن بلا تردّد ( أحبها بشغف .. التي أراها كما تراها عيون السماء ) .. أجل ، هذا هو شكل السعادة التي يريدها ، ويرغبها على سجيته ، سماوية ، لا تلوثها يد قذرة ، أو تعكر مياهها ، سعادة ترسم حدودها ، وتحكمها عدالة السماء ، لا السعادة التي ألحق بها الآخر الضرر ، والتشويه . ولم ينفك الكاتب يضع ( البعشيقي ) فوق منضدة التشريح ، وهو يشير إلى أدق الجراحات ، وأكثرها إيلاما ً ، فأدرك مشاعر الإحباط التي تحتشد في صدر الرجل ، والتي لا يتكلف من إعلان رأيه الصريح فيها من خلل ردّه على من يسأله من معارفه الكثيرين عن الحال ، فيجيب بلا تحرّج ( والله أنا عائش ) .. وكان لا ينسى ، في كل آن ، أنه عائشا ً في خرائب الروح .. عائشا ً بين أنقاض ضياعه ، كما يشير الكاتب ( إنه ، بلا شك عائش كما تعيش الزواحف مطمورة في رمال الصحارى ) . أما عن ابتسامته المبتسرة ، فيصفها الكاتب ( على شفتيه القاحلتين تنام ابتسامة غير مفهومة ، ابتسامة متكسرة ، شديدة السمرة ) لقسوة انضغاطها على بعضها ، وكأنه يشير إلى قسوة معاناته ، ورفضه الذي يتوقف للواقع الذي يعيشه على مضض أوصابه ، ومرارة أدامه ، فهي ابتسامة قلقة ، يوحي ظلها بذلك القلق ، والبرم ( تبقى تتهزهز فوق شفتيه كما يتهزهز ظل شجرة فوق الرمال ) .. وهذا تعبير تتجلى فيه روعة الوصف ، حيث كل ما هنالك يوحي بعدم الثبات والاستقرار ، إنها روعة الكشف عن حالات القلق المتواصل ، المستعر في صدر ( البعشيقي ) ما دام يعاني ألمه ، وعلـّته ، وتبقى ابتسامته شاحبة ، حتى تبدو كسحابة في آخر الأفق ..
كان ( البعشيقي ) يرى نفسه منذ البدء في وسط غريب ، وكأن روحا ً حالمة لا تكف تجمح به ليبحث عن المكان الذي يراه فيه حالما ً حلم طائر البجع وهو يعود إلى شواطئ آمنة . لقد تضاعف شعور ( البعشيقي ) بالإحساس بالغربة ( alienation ( وتمكنت منه بعد أن وجد نفسه في ساحة الحرب ، فلم ير بدّا ً غير اللجوء إلى الخمر ، وكأنها أسهل السبل ، وأيسرها ، ولذلك رأيناه ( وكان يقاتل ، وزمزميته مملوءة بالنبيذ الأحمر الرديء ) ، ولمّا تم أسره في معركة الطاهري الشهيرة كان ( يضحك ضحكات مشرقة ) كما يصفها الكاتب ، بينما كان ( الدوار الذي خلـّفه ذلك النبيذ يعصف برأسه ) .. على تلك الشاكلة بدا ( البعشيقي ) عليلا ً ، وقد تحوّل داءه النفسي إلى داء عضوي لا يستكين ألمه إلا ّ بعد اللجوء إلى الشراب ، وقد تعاظم أمر علــّته بعد وقوعه في شباك الأسر إثر معركة الطاهري ، التي أنجز فيها الإيرانيون انجازات كبيرة لا مجال للخوض فيها .. وتتساءل عينا ( البعشيقي ) عمّا بقي له ، بعد عودته من الأسر . وها هي أعوام الحصار ، والجوع أهلكت الضرع والزرع ، وعليه أن يعيش على الكفاف كما يعيش أغلبية من أبناء جلدته في ( هذه المدينة الغبراء ، القاعدة على أرض مالحة ) ، وينتظر نهايته وقد استنفدت أعوام الحرب والأسر أحلامه ، وقواه ، وقضت على نظراته المتطلعة ( والله أنا عائش ) وقد عاد أشبه ببجعة مهيضة الجناح إلى نقطة البداية ، إلى الصفر ، ليبدأ دورة ً جديدة ً أكثر بؤسا ً ، وهلاكا فيتعاظم شعوره بالغربة ، ويتحول إلى شعور بالغربة عن المكان والزمان معا ً .. اليقضات لوحة رائعة ، وإنموذج حي استطاع من خلله الكاتب أن يجسد الحالة المؤلمة التي عاش مقاساتها المرّة المجتمع بكل شرائحه ، والتي أوجدت البطل المأزوم ، بل زرعت بذوره في كل موطن ، حتى قعد مطمئنا ً ، بانتظار القوى الغاشمة ، لتطيح بالكابوس ، وتدمّر بعد ذلك كل المرافق الجميلة ، وما سلم من الأحلام .. أحمد مهدي النجار / الناصرية .
#أحمد_مهدي_النجار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جحيم الموانيء
المزيد.....
-
-نقطة فارقة-: كيف غير عدوية تاريخ الغناء الشعبي في مصر؟
-
-طيور مهاجرة- لإبراهيم السعافين تفتح صندوق الذكريات وتؤكد: ا
...
-
“حليمة تعطي ترياق السم لــ علاء الدين“ مسلسل المؤسس عثمان ا
...
-
البلاغي المغربي سعيد العوادي يكشف عوالم جديدة لحضور الطعام ب
...
-
الكريسماس .. قائمة أفلام رأس السنة الميلادية 2025 الجديدة
-
مصر: وفاة أحمد عدوية أحد رموز الغناء الشعبي عن عمر 79 عاما
-
الغرافي يرصد مظاهر البلاغة الجديدة في الخطاب البلاغي الحديث
-
الممثلة الأسترالية ريبل ويلسون وزوجتها رامونا أغروما تحتفلان
...
-
مؤرخ أميركي للمقابلة: واجهت الرواية الإسرائيلية لحرب 48 من م
...
-
وفاة الممثلة دايل هادون بسبب تسرب غاز قاتل في منزلها
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|