شوقي سالم جابر
الحوار المتمدن-العدد: 4919 - 2015 / 9 / 8 - 20:54
المحور:
الادب والفن
كائن سماوي هاتفني ليلاً: ما بالُ "أم خليل" تكثر من قول "الحمد لله", قلت له: هي صابرة, ألا تعرف قصتها يا ملاك؟
قال: هي تَشكر وتَحمد بِلسانها. وطالبني بأن أنصحها تقول :أشكو بثي وحزني إلى الله , فهذا لسانُ حال قلبها.
خليل كان يعمل سائق أجره, على سيارة مرسيدس –اسماها "المحروسة"-, ينقل بها العمال إلى عملهم داخل الخط الأخضر, وينقل المُصلين للمسجد الأقصى لصلاة يوم الجمعة, وهو يُحب عمله على سيارته, التي علّق خلف زجاجها الأمامي, كف فضي تتوسطه خرزة زرقاء, وكتب على زجاجها الخلفي "صلي على النبي" درءً للحسد, وجعل "للمحروسة" ساعتين, من صباح كل سبت مشمس, فيلبس شرطا يطول ليغطي ركبتيه, ويحضر دلو ماء, وفوطه, وورق جرائد, ومكنسة مجرود, ويشرع ينظفها من الأتربة والعوالق, ويفرك إطاراتها الأربعة يُلمّعها بفرشاة خشنة, ومن ثم يتركها مفتوحة الأبواب للتهوية والتشميس, وتراه ممدداً على ظهره, مُخفياً نصفه الأعلى تحت جسد "المحروسة", يتفقدها كما لو أنهُ ميكانيكي.
وذات ليلة رأى في المنام – كما يرى النائم –رجلاً مات منذ زمن, يأتي إليه ليُبشره, بأن زوجته ستلد له غلام, وعليه أن يُسمّيه وَشتر, وإلا فسيأخذه عنده, وحاول خليل إقناع الرجل بأن هذا الاسم غير مألوف, وطلب منه أن يُسميه اسماً آخر, فلم يُعير الرجل طلب خليل اهتماماً, وأشاح بوجهه, لينصرف ببطء, وكبرياء, جاراً ذيول ثيابه البيضاء التي يلتحف بها.
وفي صباح اليوم التالي, روى الرؤيا لوالده وزوجته, فاستبشرا كلاهما, لكنهما استغربا من الاسم.
- زوجته: "هل أنت متأكد من الاسم؟ عساك لم تسمعه جيداً يا خليل؟"
- هزً برأسه: "نعم متأكد, أسماه البشيرُ وَشتر, وأنا استغربت في المنام من الاسم, وحذرني من أن أسميه بغير هذا, وإلا فسيخنقه ويأخذه منا".
وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة, جاء الغلام البكر يصرخ, لتزداد عائلته به واحدا, وقد سماه أبوه – كما في الرؤيا – وَشتر.
وكان المهنئون يستغربون من الاسم, فيقوم أبوه بشرح سبب التسمية للرجال المستغربين, بينما تتولى والدته في الغرفة الأخرى, شرح رؤيا التسمية للنساء, فاكتسب وَشتر الشهرة, في يوم ميلاده, كما لو أن اسمه الشيطان, وكان طفلا يدخل القلب دونما استئذان.
له غمازتان على كل خدٍ واحده, يُقبله أقاربه ووالداه منهما, إذا ضحك أو ابتسم, سرّ وأبسمَ الناظرين, يزهو محبوباً ولطيفاً, يلعب ويجري في الأزقة الضيقة, كباقي أقرانه الأطفال في غزة, ويجلس يستمع لجده الحاج ياسين, يستأنس بقصصه.
وَشتر متوسط الطول, ممتلئ البنية, لم يتعلم في المدرسة أزيد من خمس سنوات, وَوَرث عن أبيهِ سيء الصيت, والسمعة, ما يرثُ غَزّيٍ عن أبٍ مات موتهَ أبيه.
وبالرغم من قسوة البيئة, والحياة, إلا أن هذا لم يقتل طموحه, وأمله في أن يكون سيداً في قومه, وظل كذلك, إلى أن لطمته الحياة بموجةٍ عاتيه لطمةً, لو التطمها أي حرٍ في أي زمانٍ لأضحى ذليلا, فما بَالكم حين يتلقفها طفلٌ في مكانٍ ضيق, يعرف الناسُ فيه بَعضهُم بعضاً, ولا سبيل للخروج والفرار لطفلٍ مثلهُ من غزة.
نشأ في بيت بسيط سقفه من الصفيح, يقع بالقرب من شاطئ غزة, فكانت مُلوحة البحر المحمولة عبر الهواء الرطب, والندى, تُذيب صفيح بيتهم لتثقبه, فيتسلل مطر الشتاء على رؤوس الساكنين, وهم نائمون, وَشتر كان يحزن على أختهِ صفية, التي تصغره بست سنوات, وقد سماها أبوها, على اسم والدته, دون تدخل من ملائك أو شياطين الرؤيا, وكان المهنئون, بميلاد صفية يتهكمون "إن كان أبوها رأى رؤيا لاسمها, ثم يحمدون الله, أن خليل لم يَرَ الرؤيا الوَشتريه" فالطفل الذكر لا يعيبه شيء -في نظرهم-, أما الأنثى فأي خدش يعيبها, حتى وإن كان المخدوش منها, هو اسمها, وعليها أن تبقى سليمة من الخدوش, حتى تتزوج, برجل ربما يكون مخدوش كوَشتر, وكانت هذه ثقافة من حلّ الطفلان, في بيئتهم ضيوفاً, فَسَرَت قوانين المُضيف على المُضاف جبراً, لحظة الميلاد.
وَشتر كان شديد التألم على والدته, التي تَرَّملت في ربيع شبابها, فقد قُتل أبيه, على يد أحد فصائل المقاومة, أثناء التحقيق معه, بتهمة العمالة لجيش الاحتلال الصهيوني عام 1989م, أي في بداية انتفاضة الحجارة, حين كان وَشتر في سن الثامنة, وقد أصابت أمه عقدة نفسية, بعد مقتل زوجها, سِيّما أن شقيقها الأكبر قُتل على ذات الخلفية سابقا, فساءت نفسية أرملة العميل –المزعوم- والتزمت بيتها, ولم يأخذها أحد لطبيب نفسي للعلاج, فهي لم تطلب ذلك, ولم يفكر أحد في ذلك, وكانوا يُطلقون على مستشفى الأمراض النفسية والعقلية, "مستشفى المجانين" حتى أن البعض كان يعتقد أن الأطباء العاملين بالمستشفى, هم من المجانين أيضا. ولا يذهبون بأحد للمستشفى إلا إذا وصل لمرحلة الجنون التام, بغرض حبسه في سجن المجانين -كما يعتقدون-, فالعلاج النفسي لم يكن مقبولا ودارجا في تلك الأيام, في هذه الطبقة المسحوقة اجتماعياً واقتصاديا, والمقتولة معنويا .
تقدمت الأيام بالطفلين, يَكبُران ويكبُر معهما همهما, وبدأت تنزاح ستارة الطفولة البريئة, لتتكشف على عيونهما وإدراكهما, عيوبهم التي ألبستها لهما قوانين المجتمع القاسية.
صفية كانت على قدرٍ من الجمال, تلبس, وتأكل, مما يشتري وَشتر, ويفيءُ به المُحسنون, وقد كانت تُحب ربيع شقيق زميلتها في المدرسة تمام, وكانت تمام تنقل بين العشيقين, الهدايا المتواضعات, وأشرطة الأغاني, وكانت تُساعد العاشق ربيع على كتابة رسائل الغرام. فهي تعلم, ما يدغدغ فؤاد الأنثى, من معسول الغزل والكلام.
عائلة ربيع رفضت طلبهُ, للتقدم لخطبة صفية, وتسرب السبب, وانتشر في الحي كما الغاز المُتسرب بعد انطفاء شُعلة المَوقد بريحٍ خفيفة.
هذا التسرب أدمع وقَرّح عيون ربيعِ وصفية, وحرّق قلبيهما, دونما الحاجة لعود ثقاب, فكان سؤال العواذل واستفسارهم أقوى الشرر.
أصحيحٌ يا صفية أن أهلَ ربيع رَفضوا التقدم لكِ بسبب سُمعة خالك ياسين, وأبيك رحمهما الله؟
هُم سيتزوجوكي يا صفية أم سيتزوجون الميت؟ الميت مات حسابه عند ربه, وربنا لا يُحاسب أحد بجريرة غيره. تتسائل وتُجيب الجارة الخبيثة أم العبد.
وما أغاظ قلب صفية, أنها تُدرك, وتعلم علم اليقين, أن أم العبد -التي جاءت تواسيها-, لا تقبل بها زوجة لأيٍ من أبنائها, فهي تُمجد النسب, والحسب, بما لم تُمجد به غيره, وكانت تُكثر الحديث هذا, أمام صفية المحرومة, إلا من عِفّتِها والشقاء.
وبدأت الدنيا تبصق في وجه صفية, ولا أمل في جفاف البُصاق, لأنه شتاءٌ دائم على وجه المسكينة البريئة, وصارت تَحسُد الموتى, وتتمنى لو كانت شاباً فتُهاجر عن طريق البحر, وكادت أن تلعن أباها, لولا أنها تَذكرت أنه مات قبل أن يعترف, وأنها مجرد شُبهات, واحتمال كبير أنه بريء, ولكن عليها أن تنتظر يوم القيامة, لترفع رأسها.
لكنها تلعن الاحتلال, لأنه لولاه لما صار عُملاء, ولا فصائل مُقاومة, ولبقي لها أبوها تتزين بهِ ويتزين بها, وتناست أنه قضاء وقدر.
لم يكن لبيتها شُرفةً, تقف عليها, لترى العابرين, ومنهم سيد العابرين ربيع, فكانت تسترق النظر من ثقوب صاج باب منزلها المتهرئ الصدئ.
صفيه تطبخ وتغسل, لأن والدتها عجزت عن هذا الدور "الأنثوي", وتتمنى لو صار أخيها مثل الشباب الأبطال, يمسح عار العائلة, فيأتي لها الخاطبون, كما قريناتها, أو على الأقل, يتوقف الزمن عن البُصاق, على وجهها المُدور كالبدر, ليلة الرابع عشر من رمضان.
هَرب وَشتر للإدمان على نوعٍ من المخدرات, وسُجن على ذلك. وكان يسرق كل صاحب عمل يعمل لديه, وساءت سمعته أكثر, ولم يكن يُبالي بنظرة الناس إليه, لأنه عرف, أن لا سبيل لكسب وُدّهم, فصار زاهداً في كل شيء, أما عقله الذي يعتصره الألم, فكان دائم البحث عن حل, ينقله من بين هؤلاء الناس الذين وَسمُوه.
جدهما الحاج ياسين, يلبس اللباس الشعبي الفلسطيني, الذي وَرِث ثقافته والاعتزاز به, عن أجداده, جيلاً بعد جيل, الحطة, والعقال, والسروال, والقمباز, والعباءة, والحزام الثخين, وكان يحتفظ باليرغول خاصته, الذي كان يعزف به النغم الفلسطيني الجميل, الذي يؤمّل للمُهَجّر الفلسطيني, قرب عودته الحتمية لموطنه, ويُذكّره أن له قدماً راسخة, في عالم الموسيقى الشرقية الخلابة, فكانت القلوب تتراقص, بنفثه يرغوله المُطيع لهوى صاحبه, وكانت أصابع الحاج ياسين تتراقص على اليرغول, تراقُص وجدان السامعين طرباً ب "زريف الطول" و " يا زارعين السمسم" ولي أن أقسم لكم, بأن جبل الجرمق, لو استمع ليرغوله, لفرح قلب الجبل واهتز طربا بكتفيه, محاولاً رمي نير الغاصبين عنهما.
فكان يُوصي ورثته خيراً باليرغول, وكأنه يُوصيهم بفلسطين, وملامحه السمحة, تُحذرهم من فتوى تُحرم عليهم الدبكة في الأفراح.
الحاج ياسين, فقد زوجته أم خليل بعد عامين من فقدانه لولده خليل أي في عام 1991م وقد استشهدت بعد استنشاقها كمية كبيرة من الغاز, أطلقتها دوريه لجيش الاحتلال, وكانت في الأصل تُعاني من مشاكل في القلب والتنفس, وتفاقمت حالتها منذ مقتل ابنها الوحيد.
ولا زال أبوخليل يُكثر الحديث للأطفال عن فلسطين قبل الاحتلال, جمالها وطيب أهلها وبساطتهم, يُحدّثهما عن العنب, والرمان, والجميز, وعن الأفراح القديمة, وكيف خطبوا لهُ زوجته, وذكر أنه رآها لأول مره, وهي تحملُ جرةَ ماءٍ مع والدتها, عائدتين من نبعٍ قريبٍ من بيسان, لكنه لم يَعيب على نعناع غزة في حزيران, فهو عادل القول ولا يقول إلا ما يُرضي الله, ويُصِرُ على براءة فلذة كبده, مُدللاً على ذلك بأنه لم يُطعم أبنائه إلا الحلال, وعليه "فقط" أن ينتظر يوم القيامة للحصول على البراءة, وهو لا يفتأ يرثي فلسطين في أشعاره وزجله.
#شوقي_سالم_جابر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟