|
الطوطميّة السياسيّة في تونس
ظاهر المسعدي
الحوار المتمدن-العدد: 4919 - 2015 / 9 / 8 - 01:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لقسوة مناخ الجزيرة العربيّة وضنك العيش، كانت القبائل العربيّة زمن الجاهليّة لا تعرف الاستقرار، شديدة الترحال لتقصّي أُسّ الحياة: الماء والمرعى. وغالباً ما تتجاور عدّة قبائل في فضاء واحد على الرغم من أنّ لا مشترك يجمعها سوى الجغرافيا التي فرضتها الطبيعة. لا ريْب أنّ الديناميّة التي تحرّك المجموعة البشريّة في تلك العصور كانت مطبوعة بثقافة «البقاء للأقوى» في عالم منفلت من كلّ قانون ويسيطر عليه منطق الغلبة والعنف. لذا تلجأ تلك القبائل المتجاورة لتتوحّد تحت يافطة قبيلة جديدة، لأجل خلق كيان عسكري واقتصادي يكون صلبا ومتينا، يمتلك القدرة على صدّ الغزوات الخارجيّة. إنّما الغاية العسكريّة للوِحدة لا تكفي لتأسيس لُحمة وثيقة بين الغرباء، فسوء النوايا والغدر والنظرة الشوفينيّة تضل قابعة في ضمائر الأفراد، ولا شيء يمحو هذه الذهنيّة سوى «رابطة الدم»: المؤسسة الأعرق في ترسّبات الزمن والوعي لدى عرب الجاهليّة. هنا ينكبّ سادة القبائل الآخذة في التوحّد على البحث عن رابط دم مشترك بين قبائلهم، هذا الرابط يُسمّى «الطوطم» ويكون على شكل أب أوّلي مشترك لكافة هذه القبائل، ويكون في الأغلب أباً وهميّاً لا وجود له في مجرى التاريخ. على أنّ هذا الأمر غير مهم في نظر السادة والقادة، ذلك أنّ ما يهمّ هو الشعور بالانتماء المشترك لأب واحد: إنّه المحفّز الساحر للتعايش والتضامن ومن ثمّة الانصهار في قبيلة واحدة جديدة. آثار الطوطميّة نجدها مشخّصة في آباء عدّة قبائل: مثل «ثور» و«أسد» للتدليل على قوّة الأب المشترك؛ «كلب» و«كلاب» كرمز لحماية الأب الأوّل للقبيلة؛ «ثعلبة» للتدليل على مكر وحكمة الأب المشترك؛ وحتى «قريش» إنْ هي إلاّ تسمية طوطميّة المنشأ وتعني دابة بحريّة تأكل الغث والسمين وتخشاها جميع الكائنات. جميع هذه الأسماء تعود لآباءٍ وهميين أُضفي عليهم طابع القداسة والتمجيد للرفع من شأن «القبيلة المولودة» ولتعزيز روح التضامن بين أفرادها. على هذا النحو تكون إذن أنثروبولوجيا الطوطميّة ابداع سياسي أنتجته جميع المجتمعات البشريّة في الأزمنة الغابرة، في الحقبة اليونانيّة العتيقة كما في استراليا القرن التاسع عشر، وقد تناول إميل دوركايم هذا الموضوع بإفاضة وإسهاب شديدين. في عصرنا الراهن، لا تزال جذور الثقافة الطوطميّة تُلقي بضلالها على الركح السياسي في تونس وعموم الأقطار العربيّة، ولئن اكتست ثوب العصر لموائمة متغيّراته، فقد حافظت على عمق أهدافها وروحها البدائيّة. لذا تلاشت أسماء الآباء الوهميّة وحلّت محلّها أسماءً لذوات ماديّة حقيقيّة، كما امّحت الطوطميّة القائمة على رابطة الدم وأخذت مكانها الأُبوّة الروحيّة أو الفكريّة: نجد «حسن البنّا» الأب الروحي لجمهور الإخوان المسلمين والمؤسس لأوّل لتنظيم سياسي قائم على أسس دينيّة، وكثيرا ما رُفع من مقام هذا الأب وجرى تفخيم أعماله وتخليد ذكراه إلى درجة لامست النبوّة السياسيّة. على أنّ الأب المؤسس في هذا اللون من الطوطميّة لا يعدو أن يكون مجرّد حلقة من سلسلة طويلة للمؤسسين الذين تناوبوا على قيادة المعارك الدينيّة، وترتفع قداسة المؤسس كلما ابتعد في الزمن الماضي العتيق، وصولا إلى رأس السلسلة وأعلى مراحل القداسة مع المؤسس الأوّل صاحب الرسالة المحمّديّة. هكذا إذن دخلت حركة النهضة التونسيّة المعترك السياسي، رافعة لواء الاسلام، مُذكّرة بمعاناة المؤسسين قديما وحديثا، مُستحضرة مأثرة السجون والمنافي، مُقدّمة كل ذلك على أنه تضحية في سبيل الاسلام والمسلمين. هنا تلتحم بها الجماهير العريضة في إطار التضامن الديني ووحدة الأمة الاسلاميّة المُجسّدة في حزب حركة النهضة وفي شخص زعيمها راشد الغنوشي الطوطم الأخير من سلسلة المؤسسين: إنّها الديناميّة الثقافيّة للنوستالجيا الدينيّة على مر العصور. إنّما شخصيّة الرئيس الراحل «الحبيب بورقيبة»، رائد الحداثة وأبرز مؤسسي الجمهوريّة الأولى بالبلاد التونسيّة، فقد خبت وأفل نجمها من سماء الإعلام لفترة طويلة من الزمن، ولم تعاود الظهور بدرًا كاملاً إلاّ مع رحيل خلفه زين العابدين بن علي من سدّة الحُكم. وما كان لهذا المارد أن يستيقظ من قمقمه السرمديّ، لو لا بلوغ البلاد منعرج خطير من الانحدار في الثقافة المجتمعيّة. كانت هذه المرحلة مطبوعة بالغوغاء وظاهرة التعصّب والتكفير الديني والتصفية الجسديّة لرموز الحداثة، مع انتشار معسكرات التدريب القتاليّة للجهاديين على قارعة الطريق، وشيوع أنواع من اللباس الدخيلة على الثقافة التونسيّة، وبات خطاب دولة الخلافة يصدح في أرجاء المجلس التأسيسي والمنابر الاعلاميّة والفضاءات العامّة، وأضحت الحدود الدنيا من قيم الحداثة قاب قوسين أو أدنى من الاندثار. وسط هذا الجو الضاغط والمشحون بمشاعر الهلع، وأمام تشتّت صفوف أنصار الحداثة، سطع نجم الباجي قائد السبسي رافعا لواء الطوطميّة البورقيبيّة، متقمّصا لشخصيّة بورقيبة، مرتديا لباسه ونظاراته، مردّدا لبعض كلماته، مستحضرا لأهم منجزاته: تحرير المرأة، بناء الدولة المدنيّة، إرساء المؤسسات، نشر التعليم ومحاربة الجهل والأميّة، القضاء على الثقافة القبليّة، وإلى غير ذلك من المآثر التي يقرّ بها السواد الأعظم من الشعب والتي لا تزال آثارها ماثلة إلى يومنا هذا. إنّ الكاريزما التاريخيّة للزعيم الحبيب بورقيبة، فضلا عن المكانة التي يُحض بها لدى الذاكرة الجماعيّة لشرائح واسعة من الجمهور، جعلت منه الأب الروحي لجموع الحداثيين بلا منازع، وهو ما يُفسّر القوّة التجميعيّة الخارقة تحت صولجان الباجي قائد السبسي في وقت قياسي مُعجز. حتى أنه لمن المُدهش والمثير للتعجّب أن تنتصر الطوطميّة الوضعيّة على نظيرتها الدينيّة. إنّه بحق المشهد الأكثر إثارة وغرابة في تاريخ الصراعات السياسيّة العربيّة. صحيح أنّ الثقافة الطوطميّة لدى عرب الجاهليّة ليس بمقدورها أن تجمع الأعداء تحت طوطم واحد، إنّما الركح السياسي لا يعترف بهذه المعادلة في عالمنا المعاصر. فها نحن نشهد اليوم جهود حثيثة للعثور على أب مشترك بين قطبيْ الحكم في تونس، ونعني بذلك حركة نداء تونس وحركة النهضة، قطبيْن مختلفين شديد الاختلاف في الرؤية المجتمعيّة والمرجعيّة الأيديولوجيّة. في هذا المضمار يجري الترويج لشخصيّة «عبد العزيز الثعالبي» (1874 ــ 1944) كطوطم مشترك للحركتين، ذلك أنّ شخصيّة الثعالبي تحمل وجهين مزدوجين، أحدهما ديني والآخر سياسي. فهو من ناحية مُصلح ديني من العيار الثقيل وله عديد المؤلفات مثل "فلسفة التشريع الاسلامي" وكذلك "تاريخ التشريع الاسلامي"، ومن ناحية ثانية هو مجاهد سياسي ضد الاستعمار الفرنسي ومؤسس لأوّل حزب سياسي بالبلاد «الحزب الحر الدستوري» عام 1920. على هذا بدت شخصيّة الثعالبي الورقة الأنسب لتلعب دور الطوطم أو الأب الروحي المشترك بين ألدّ خصوم الأمس، ولذلك بات يروّج لخطاب المنبع الواحد والمنشأ الواحد للحركتين، مع التعريف بتاريخ الأب المشترك بعد أن تم إيقاظه من غياهب الماضي. هذا النمط الساحر من الخطاب السياسي ــ الديني سينفذ مع مرور الوقت إلى الوجدان ويطبع القلوب ثم يسيطر على عقول الأتباع والأنصار لدرء كل أشكال الانقسام والانشقاق. إنه انتاج سياسي طوطمي ذو درجة رفيعة من المكيافيليّة، فالسلطة تبرر التحالف مع أيّ كان، ولو كان ذلك قائما على جمع المتناقضات. وبعدُ، من البيِّن أنّ الذهنيّة العربيّة لا تزال مرتبطة ارتباطا وثيقا ببُنية الطوطميّة وثقافة الأب الأوّل، وبالتالي ليس من المدهش أن تنشأ أحزاب عملاقة على هذه الأرضيّة وتحصد نصيب الأسد في المعارك الانتخابيّة لتصبح القوى السياسيّة الضاربة داخل حلبة الصراع السياسي.
#ظاهر_المسعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فجوة المسيحيّة بين الاسلام واليهوديّة
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|