أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد لفته محل - مدخل لدراسة علمية لفرضية الله















المزيد.....


مدخل لدراسة علمية لفرضية الله


محمد لفته محل

الحوار المتمدن-العدد: 4916 - 2015 / 9 / 5 - 20:53
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


هل يمكن دراسة الله علميا؟ أليس هو مسألة ميتافيزيقية لا دخل للعلم بها بل من اختصاص الفلسفة؟ فلماذا يتصارع الطرفان الملحدين والمؤمنين على الإثبات أو النفي العلمي لها؟ ولماذا بقيت الفرضية محصورة في هذه الثنائية المغلقة؟ ألا توجد رؤية ثالثة تتجاوز هذه الثنائية؟ كنت في الماضي أتنزه عن الدخول في هذه المجادلات باعتبار أن هذه المسالة عديمة الأهمية عمليا وان لا فرق بين وجود الله من عدمه اجتماعيا، لان عامة الناس تسعى لمصالحها الخاصة في حياتها اليومية دون أن تأبه بالخير والشر كأن الله غير موجود لديها، ولا تلجأ له إلا وقت المحنة، وان الاهتمام النظري الذي تبديه العامة تجاه هذه المسالة هو بسبب هيمنة الفكر الديني على المجتمع، لكن تبين لي خطا هذا التصور فيما بعد، ذلك أن هذه المسالة لها ثقل اجتماعي كبير يتجاوز مسالة وجود الله إلى ربط وجود الله بمرجعية أخلاقية وشرعية وجزائية، هذا وان الناس تربط نفسيا بين الله وأبوته كشيء واحد، حيث تشعر نفسيا أن الله أب يحميها ويساعدها ويعينها على الحياة، ويوفقها بالنجاح وهو ما يسمى دينيا (العناية الإلهية) بالتالي فالفاصل بين وجوده وعدمه كبير جدا يترتب عليه الالتزام والمعنى أو العبث الوجودي، لذلك ترفض الناس الصورة الربوبية والحلولية لله التي تجرده من هذه الصفات، وعليه سأخوض هذا الجدال لكن من منظور علمي جهد إمكاني اعتمادا على نتائج العلوم الإنسانية من اجتماع وأناسة (انثروبولوجيا) التي امتدت ميادينها لمجالات الفلسفة.
كيف ندرس فرضية الله علميا؟ ونبتعد عن الإنشائية والتأملية في حواراتنا عن الله، حيث لا توجد منهجية متفق عليها للقياس والتدليل على أفكارنا وتصوراتنا، وهذا الشيء لمسته من الاستماع لحوارات الملحدين والمؤمنين حين يبحث كلاهما عن دليل علمي يؤيد أو ينفي هذه الفرضية، المؤمن يحاول إثبات الله بنظام الطبيعة والسببية المنطقية، والملحد ينفي الله لكونه غير مثبت علميا، فهو لا يجده بالسماء والمؤمن غير قادر على إثباته بذاته بل بآثاره بالطبيعة كما يعتقد، فيصل الطرفان إلى طريق مغلق ويتشبث كل واحد بوجهة نظره، فهم يريدون إثباته أو نفيه بالعلم لكن طريقتهم بالإثبات هي مجرد مقارنات خاطئة، فمثلا يبرهن الملحدون بنظرية الانفجار الكبير على أنها إثبات ضد الله بينما يجد المؤمنون بإنكارها دليلا على الله أو بجعل الله علتها، في حين إن النظرية تفسر نشأت الكون ولا علاقة لها بفرضية الله، أو يكتفون بالاعتماد على العقل فقط، ومن الأخطاء الأخرى هو ربط وجود الله بالدين في حين أن الأبحاث الإناسية أثبتت أن فكرة الله مرحلة وسيطة في تاريخ الدين، حيث كانت الديانات البدائية تتوجه لقوى غير مشخصة وغير مفارقة للطبيعة تتدفق في الوجود أطلق عليها الانثربولوجيين اسم (المانا) ولازالت هناك ديانات بدائية معاصرة في استراليا وأفريقيا بلا آلهة، ناهيك عن وجود ديانات عالمية بلا الإله مثل البوذية والكونفشيوسية والطاوية، وهذا الجهل مفهوم لان اغلب الملحدين والمؤمنين يتخذون موقفهم من الدين بناءا على مواقفهم من عقيدتهم الاجتماعية، لهذا سميت هذه الطريقة بالتفكير إنشائية وتأملية كان أجدى بهم أن يطبقوا على تفكيرهم المنهج العلمي حتى يصلوا لنتائج علمية. وسأناقش أطروحات الملحد والمؤمن وانقدها لأطرح فكرتي الجديدة التي تقف بين الإيمان والإلحاد كاتجاه ثالث.
إن الملحد يتخذ من عدم الإثبات العلمي دليلا على نفي الله، وعدم الإثبات ليس دليلا على النفي فالأشياء التي لم يثبتها العلم لا يعني أنها غير موجودة بل يعني مجرد فرضية وما أكثر الفرضيات بالعلم، بل أن من مقدمات التفكير العلمي هو الفرضية، فنظرية الأوتار الفائقة التي لم يستطيع العلم إثبات وجود الأوتار بسبب تناهيها بالصغر لازالت نظرية محترمة تنتظر الإثبات من عدمه، ثم أن العلم لا يستطيع اختبار فرضية الله أصلا لأنه ليس ظاهرة طبيعية فكيف سيصدر حكما على شيء لا يستطيع اختباره؟ إلا إذا تحيز العلم أو تأدلج فتنتفي عنه الصفة الموضوعية، ذلك إن الله ظاهرة إنسانية من اختصاص العلوم الاجتماعية وليس العلوم الطبيعية فلا يحق للعلم أن يعطي موقفا أو رأيا منها وهذا خطأ الملحدون عن الله، أما المؤمن حين يدّعي أن الله مثبت علميا فهذا يعني انه ظاهرة طبيعية تخضع لقوانين الفيزياء وهذا ما يرفضه العلم والمؤمن نفسه لأنه يعتقد أن الله ظاهرة فوق طبيعية! فكيف إذن للعلم أن يثبت الفوق طبيعي بالطبيعي؟ وهو متخصص بالظواهر الطبيعية؟ كذلك أن المؤمن غالبا ما يدمج بين الاستدلال المنطقي والدليل العلمي، والفرق اليقيني بينهما واضح، فالمنطقي أقل موضوعية من التجريبي والعلمي، فالنظرية النسبية وميكانيكا الكم كسرت بديهيات منطقية كثيرة في حياتنا كتباطؤ الزمن وحركة الالكترونات الاحتمالية الغير سببية وشبحية الطاقة الخ وهذا الخلط نسمعه بادلته المنطقية التي يسميها (علمية)، فهو يتخذ السببية المنطقية دليل علمي! وقانون السببية هو قاعدة عقلية اثبت العلم قصوره في الفيزياء مادون الذرية، وهذا القانون يقود إلى اختراقه في فرضية الله، إذ ما هو سبب وجود الله إذا كان لكل شيء سبب كما يقول المؤمن؟ سيجيب إن الله علة ذاته! عندها لا يبقى معنى لعبارة (لكل شيء سبب) والمؤمن غالبا ما يلجأ إلى طريقة منطقية أخرى للإثبات وهي إثبات الله ليس بذاته بل بربطه بعلاقات منطقية خارجية مفترضة وأشهرها اعتبار نظام الطبيعة وتكوين الإنسان دليلا على وجود الله! لنفكك هذه الطريقة بالتفكير والاستدلال بدقة ونستخدمها في حياتنا فمثلا حين أريد أن اثبت وجود الإنسان فسأقول أن الكومبيوتر دليل عليه، لكن هناك من سيفترض انه قد يكون روبوت أو قرد أو كائن فضائي من صنع هذا الجهاز؟ وهذه الاحتمالات متساوية الإمكانية ما دام لا دليل على إثبات الصانع بذاته؟ كذلك أن النظام الدقيق في الطبيعة قد يدل على وجود قوانين ذكية، أو آلة ضخمة أو عقل أو الله وهي احتمالات متساوية الإمكانية إلا إذا أثبتنا احدها، وحتى لو افترضنا وجود الرابطة المنطقية بين شيئين أو مفهومين لا يعني وجود تماهي بينهما، إذ يبقى كل منهما مستقلا عن الآخر له وجوده الذاتي، ثم أن هذه الطريقة بالتفكير تفترض ضمنا وجود ثلاث أشياء هي وجود النظام ووجود الله ووجود قدرة على الخلق! وهي ثلاث قضايا تحتاج كل منها إلى إثبات على حده، ولو افترضنا جدلا وجود نظام فلن يقودنا حتما إلى وجود الله، واثبات وجود الله لا يعني امتلاكه القدرة على الخلق بالضرورة، فهو مبدئيا علة أولى فقط، بالتالي فإننا ملزمون بإثبات الشيء بذاته وليس بأشياء أخرى خارجة عنه، وعليه فان هذه الطريقة بالتفكير والاستدلال ذات نتائج عقيمة واحتمالية يجب الاستغناء عنها، فأما أن يثبت الله بذاته أو تتغير طريقة الاستدلال، وهي بالنهاية تدل على وجود مشكلة في إثبات الله وإلا لما التجأ إليها المؤمن ولاختصر الوقت علينا بإثبات الله بذاته، ومن الأساليب الأخرى للمؤمن اعتبار المقارنة هي دليل علمي! فهو يتخذ من مقارنة صنع الإنسان لمخترعاته دليل على خلق الله للإنسان فكما أن الآلات من صنع الإنسان كذلك فان الإنسان من خلق الله والمقارنة ليست دليل ما لم تكن متماثلة بالصفات والظروف، ثم أن هذه المقارنة تفترض وجود المسبب فقط، والمشكلة تكمن في ما هو المُسبب؟ الذي يفترض المؤمن انه (الله) فقط! وهذا الفرض نابع من ميراث ثقافي وليس فرض علمي، بينما العلم يحتم طرح أكثر من فرض لحين إثبات المسبب بذاته، إذ يجب أن نفترض أن أصل الحياة قد تكون جائت عبر مخلوقات فضائية أو تطور المادة أو بالانقسام الذاتي لخلايا أولية أو الله، وهذه الفروض أيضا متساوية الاحتمالية، ثم أن هذه المقارنة خاطئة أصلا فمخترع الآلة كائن ملموس بالحواس ومن السهل الاستدلال عليه في حين أن الله ليس كذلك باعتراف المؤمن نفسه وهو عاجز تماما عن إثباته بذاته، كذلك أن الكومبيوتر والإنسان جزء من وسط هما نتاج له، في حين أن الله لا علاقة له باختراعه! وليس هناك وسط أصلا ينتمي إليه حيث لازمان ومكان! عندها يستوفي المثل كل شروط الفشل. وهكذا ينتهي المؤمن والملحد إلى طريق مسدود في نتائجهما عن فرضية الله.
إن أكبر خطأ يرتكبه المؤمن والملحد هو إخضاع ظاهرة إنسانية لقوانين الظواهر الطبيعية، لان الله ليس ظاهرة طبيعية ولو كان كذلك لدخل ضمن قوانين الفيزياء وانتهى الجدل حوله من زمان، ولو كان مسالة ميتافيزيقية لأصبح جدلهم بلا معنى لأنه من اختصاص الفلسفة وليس العلم، لكنه ظاهرة إنسانية يعتقد بها الإنسان وحده، ويجب التوجه إلى العلوم الإنسانية وليس العلوم الطبيعية نتوجه إلى علم الاجتماع والنفس والأناسة وليس إلى الفيزياء أو الفلك أو الكيمياء، حتى نضعه في سياقه الصحيح، فهذه الفرضية ليست فطرية أو موحاة من السماء كما يظن المؤمنون وليست ناتجة عن الجهل أو الخوف أو الوهم كما يظن الملحدون بل هي نشأت تاريخيا عن عبادة الأسلاف كما أثبتت الدراسات الأناسية، فالآلهة كانوا بشرا بيننا ويعيشون معنا من زعماء وسحرة وحكام(1) نكن لهم الاحترام والتقدير والطاعة لأوامرهم ولم يكونوا نتاج الوهم والحاجة، ولازالت صورة الله في الذهن الإنساني شيخ مسن أشيب اللحية والشعر يجلس على عرش، وهي بقايا من صورة الأجداد الأسلاف في الذاكرة السلالية، ثم بعد فترة زمنية صعد هؤلاء المؤلهون الى السماء كما لاحظ الباحثون في الثقافات الغابرة(2) وعندها امتزجت قدراتهم بالظواهر السماوية(3) فظهور الاعتقاد بالآلهة لم يكن من التأمل العقلي والسببية المنطقية بل من تغير اجتماعي تمثل بتقديس الأفراد البارزين اجتماعيا الذين خلدوا بعد وفاتهم، وحتى التوحيد لم يكن نتيجة تطور عقلي من التعدد إلى الوحدة بل من تغير سياسي حصر السلطة بيد حاكم واحد انعكس على الدين بدليل أن التوحيد ظهر على يد الملك (اخناتون) وبدل البحث في السماء عن الله ينبغي البحث عنه في المجتمع والنفس، فهذا التأثير الذي يمارسه الإله على الجماعة حيث يحلل ويحرم، ويشرّع ويجازي ويتوجه الجميع له بالعبادة وتدور حوله الطقوس وتقدم له القرابين وهي ممارسات اجتماعية عامة في جميع الحضارات، هل يعقل أن كل هذه الحضارات جاهلة؟ وإذا كانت الحضارات القديمة جاهلة بماذا نفسر بقاء هذه الممارسات بالحضارات الحديثة المتطورة؟ ولماذا تشابهت الممارسات حوله من عبادة وطقوس وقرابين من الماضي حتى الحاضر؟ هل الصدفة خلقت هذا النسق العام في علاقة البشر بالله؟ ولماذا هذا التشابه بين معظم الفلاسفة والمتصوفة والأنبياء في توصيف الله كالإحساس بالرهبة والخشوع، وقدرته الكلية على الخلق والتأثير، ومرجعيته الأخلاقية والتشريعية والجزائية، وأبويته على البشر؟ هل يعقل أن تشابه هذه الأوصاف صدفة؟ أو أنها أكاذيب تصادفت أن تشابهت؟ وهم من طبقة النخبة المجهزة بالمعرفة والذكاء؟ لا يمكن لأي عاقل أن يجب بالإيجاب لأنه سيغدو الحديث عن التفكير العلمي مجرد مزحة لا أكثر، ويجيب عالم الاجتماع (أميل دوركهايم) على هذا السؤال (أن الإحساس الواحد لجميع المؤمنين على مدى العصور المختلفة لا يمكن أن يكون وهما أو خيالا)(4) وإذا كان الجواب خلاف ذلك فمن أين جاءت أوصاف الله إذا لم تكن بالسماء؟ وهذا السؤال المهم بتصوري سيقودنا إلى الطريق الأثري إلى فرضية الله.
من أين تأتي هذه المشاعر التي تشكل نسقا إنسانيا عاما؟ لابد أن لها مصدر واحد في كل الحضارات اوجد هذا التشابه، فما هو المشترك بينها إذن؟ إن الدين ظاهرة اجتماعية بالأساس وكل الحضارات تتكون من مجتمعات، وإذا تفحصنا المشاعر التي تخالجنا عند الإحساس بالله كما تمر بنا أو كما عرضها الفلاسفة نجد أنها تشبه علاقتنا بالمجتمع وأول من انتبه لذلك عالم الاجتماع (أميل دوركهايم) (بشكل عام ليس هناك شك بأن المجتمع من حيث قوة تأثيره، يلبي كل المتطلبات التي تثير لدى الخلائق الشعور بالالوهيته، ذلك إن المجتمع بالنسبة لأفراده يشكل ما يشبه الإله للمؤمنين) (إن الله والجماعة ليست إلا شيئا واحدا) (وإذا تمعنا في أثرها على أفراد الجماعة، لرأيناه شبيها إلى حد كبير بتأثير الله على المؤمنين به. أنها تأمر وتنهي، وتتطلب من الأفراد الطاعة العمياء)(5) ونحن نتصور الله كما يقول (دوركهايم) (على انه قوة عليا أسمى منه كثيرا، ويوقن (الفرد) انه متصل بها ويتعلق وجوده بوجودها) وهو (يشعر في أعماقه انه أنما يفعل ما يفعله، ويقوم بما يقوم به، لان مبدأ ألهيا يدفعه ويسيطر عليه. كذلك الجماعة أنها تغرس فينا الإحساس بارتباطنا الدائم بها، وتعلقنا تعلقا لا انفصام له بوحدتها)(6) (الله قبل كل شيء هو كيان يتخيله الإنسان على انه أفضل منه بنواح عدة، ويخيل إليه أن هناك علاقة تبعية تربطه به. هذا الإله من الممكن أن يكون شخصية ذات وعي وإدراك مثل "زيوس" أو "يهوه" ومن الممكن أن يكون قوة مجردة ومبسطة كما هو الحال في الطوطمية، في كل هذه الحالات، يعتقد المؤمن أن عليه أن يسلك سلوكا معينا يفرضه عليه المبدأ المقدس الذي يرتبط به. كذلك المجمع يثير لدينا إحساسا من علاقة التبعية الأبدية) وإذا قارنا بين مشاعر الفرد مع الجماعة ومع الله، فسنجد أن كلاهما نحتاج للارتباط به لتحقيق الأمن والانتماء والتكامل النفسي وهي ذات المشاعر التي يحسها المؤمن تجاه الله ويحسها الفرد تجاه الجماعة، وكلاهما من يعلمنا ويلزمنا الحلال والحرام والخير والشر، وكلاهما باقيان ونحن فانون، وهما موجدان قبلنا وباقيان بعدنا، ونحن نحتاجهما وهم لا يحتاجانا، وكلاهما لديه الحق بالجزاء (الاجتماعي أو الإلهي)، وهذه السلطة تفوض للأفراد البارزين الذين يكونوا آلهة بعد موتهم وتقديسهم، وعلى نفس النهج يلاحظ عالم النفس (سيغموند فرويد) (والأخلاق الدارجة، العادية، تنطوي بذاتها على تقييد صارم وتتصف بطابع تحظيري شديد. وهنا بالتحديد يرسي جذوره ذلك التصور القائل بوجود كائن أعلى يعاقب ويقاصص في غير لين ولا رحمة.)(7) وهذا هو التصور الموضوعي الأول للإحساس بالإله والذي يفسر تشابه الأوصاف العامة بين المجتمعات والنخب إنها كامنة في المجتمع، لكن هذه المشاعر حول الله يمكن الإحساس بها بالعزلة أيضا وفي تضاد من المجتمع في بعض الأحيان فكيف نفسر ذلك إذا كان المجتمع هو مصدر الالوهة؟ هنا يجيبنا التحليل النفسي حيث يرى زعيمه (سيغموند فرويد) أن هناك تشابها بين صفات الله وبين صفات الأب (أن الله بديل عن الأب، أو بتعبير أدق أب مبجّل، أو صورة عن الأب كما يراه المرء ويحس بوجوده في طفولته)(أو النوع البشري في الأزمنة السالفة بوصفه أبا العشيرة البدائية)(8)(أن إله كل إنسان هو صورة أبيه، وأن الموقف الشخصي لكل فرد إزاء الإله منوط بموقفه إزاء أبيه المادي، ويتنوع ويتبدل طردا مع هذا الموقف، وأن الإله ليس في صميمه سوى أب ذي مكانة أكثر رفعة. وينصحنا التحليل النفسي هنا أيضا، كما في حال الطوطمية، بأن نصدق المؤمن عندما يتكلم عن الإله كما لو عن أبيه، تماما كما صدقناه حينما كان يتكلم عن الطوطم كما لو عن جده الأول)(9) (وفي زمن لاحق نظر الفرد إلى أبيه غير هذه النظرة، فرآه متضاءل الأهمية بنوع ما، لكن تلك الصورة الطفلية الأولى لبثت قائمة وانصهرت مع البقايا المتوارثة لذكرى الأب السالف لتؤلف التمثيل الفردي عن الله)(10) وهذا الأب سيكون قوة نفسية داخل الفرد تراقب الأنا هي الأنا الأعلى الرقيب الأخلاقي الذي نسميه الضمير والذي نحس به حينما نشعر بالذنب والندم والتوبة، (ويتولى الأنا الأعلى تمثيل وظيفة الحماية والأمان عينها التي كان يمثلها الأب فيما سلف، والتي ستمثلها في وقت لاحق العناية الإلهية أو الأقدار.)(11) فالسلطة الأبوية المتمثلة بالأب (ذلك الكائن الكلي القدرة والمتمتع بسلطة المعاقبة والتأديب، تحث الفرد وتحفزه على إنكار دوافعه الغريزية الجنسية، وتحدد ما هو مباح وما هو محظور. أما الأعمال التي تجعل الطفل يوصف بأنه "عاقل" أو "شيطان" فإنها ستنعت، في زمن لاحق، حين يحل المجتمع والانا الأعلى محل الأهل، بأنها "صالحة" أو " طالحة"، فاضلة أو مرذولة.)(12) وهذا ألانا الأعلى هو حصيلة المجتمع الرجالي الذي منح الأب سلطة على الأسرة حتى غدا ربها (رب الأسرة) والمهيمن عليها، وهذا الأنا الأعلى هو نتاج المربون والمعلمون ورجال الدين والقيم الاجتماعية أيضا بالتالي هو المجتمع داخل الفرد يراقبه ويعاقبه فيحس بالشعور بالذنب وتأنيب الضمير ويحس بالسعادة والرضا حين ينفذ تعاليمه (راحة الضمير)، وهو يعني أن المجتمع في الحالتين حاضرا فينا يمنحنا الشعور بالإلوهية من الخارج أو من الداخل عبر الأنا الأعلى، الأولى حين يكون وسط الجماعة والثانية حين ينفرد مع نفسه مع أناه العليا، ومن هنا سبب التفسير الخاطئ لفطرية الاعتقاد بالله، فهذا الإحساس جاء من الغرس الثقافي والتنشئة الاجتماعية التي وضعها المجتمع داخل الفرد عبر الأسرة الأبوية والتعليم حتى أصبح كأنه فطري، فالمناجاة التي نحسها بوحدتنا مع الله والاتحاد الذي تحدث عنه المتصوفة، ومشاعرنا بأنه في قلبنا، ويعلم ما فيها، ونحس بالخوف والرهبة والأبوة تجاهه ما هو إلا موقف الأنا تجاه الأنا الأعلى التكثيف النفسي للمجتمع وكما يصفه فرويد (وعندما يقارن الأنا نفسه بمثاله، فإن الحكم الذي يصدره على تقصيره الشخصي يولد ذلك الشعور بالتواضع والخشوع الديني الذي عليه يكون تعويل المؤمن في ورعه وتوقه. وفي مجرى التطور اللاحق يتابع المعلمون والسلطات دور الأب؛ فتبقى أوامرهم ونواهيهم قائمة بتمام قوتها في الأنا المثالي)(13). والسؤال إذا كانت سلطة المجتمع الأخلاقية والشرعية والجزائية هي ذاتها سلطة الله الأخلاقية والشرعية والجزائية، من أين يا ترى جائت سلطة الله على الطبيعة وتحكمه بالظواهر الطبيعية؟ هل يوجد عاقل يعتقد أن المجتمع يتحكم بالظواهر الطبيعية؟ والجواب بتصوري أن للمجتمعات البدائية اعتقاد بالتأثير بالظواهر الطبيعية عبر الطقوس الجماعية كطقوس التي تحث على المطر والخصوبة والصيد وغيرها وهذا مبدئيا يعني أن الجماعة لها قدرة على التأثير بظواهر الطبيعة وبما أن أصل الآلهة هي الجماعة ذاتها مشخصة بأرواح الأسلاف البارزين الذين صعدوا الى السماء لاحقا فإن سلطتها على الظواهر الطبيعية منطقية جدا، وهكذا فأن أرواح الأسلاف تحكمت بظواهر الطبيعة فظهرت آلهة المطر والهة الظلام والهة الخصب والهة النور الخ، وما كان من ظهور التوحيد إلا أن يجمع جميع هذه الظواهر في يد اله واحد، ونحن اليوم لازلنا نعتقد بصلاة الاستسقاء التي يصليها المسلمين جماعيا لتحث الغيوم على المطر، وكان الناس لفترة قريبة يمارسون طقوس جماعية للكسوف، ولازلنا نعتقد إن بعض الأموات المقدسين تغيم الدنيا من اجلهم أو تحل الكوارث الطبيعية بسببهم، فالرابطة بين أرواح الأسلاف والظواهر الطبيعية وثيقة عند الإنسان البدائي وليست غريبة علينا إلى الآن.
فالله ليس حقيقة طبيعية أو ميتافيزيقية كما يظن المؤمن، وليس وهما أو غير موجود كما يظن الملحد، بل هو حقيقة إنسانية نحسها بداخلنا وخارجنا في المجتمع المفوضة للسلف الأبوي، نتأثر بها ونتفاعل معها كحقيقة اجتماعية موضوعية في الأرض وليس في السماء، وكما يقول فرويد (بأن الحل الذي يقترحه المؤمنون صحيح تاريخيا لا ماديا) (أي أننا إذا كنا لا نؤمن بوجود إله أعلى كلي القدرة اليوم، فإننا نعتقد بالمقابل انه وجد في الأزمنة البدائية شخص تجلت فيه سيماء العملقة، فرفع في وقت لاحق إلى مصاف الآلهة)(14) ومن الخطأ الاستدلال على الله بأشياء ومقارنات أخرى أو البحث عنه بالطبيعة والكون والفيزياء، الله ندركه بمشاعرنا وعواطفنا وأحاسيسنا انه السلطة الروحية والأخلاقية للجماعة المسقطة على الله، وهذه الحالات تشاركنا فيها جميع الأمم حتى أصبح الله واحد لكل البشر له نفس الأوصاف وتسلك الناس تجاهه نفس الممارسات. ذلك لأنها ميراثا تاريخيا من المجتمع البدائي لازال يمدنا لاشعوريا بالخبرة.
ـــــــــــــــــــــــ
1_ فراس السواح، دين الإنسان، منشورات علاء الدين، دمشق 1998 ، ص206، 207.
2_مرسيا الياد، المقدس والعادي، ترجمة عادل العوا، التنوير، ص153.
3__علي سامي النشار، نشأت الدين، النظريات التطورية والمؤلهة، دار النشر الثقافة بالإسكندرية، 1949، ص223.
4_عبد الله الخريجي، علم الاجتماع الديني، سلسلة دراسات في المجتمع العربي السعودي، الطبعة الثانية 1990، رامتان_ جدة، ص95.
5_علي سامي النشار، نشأت الدين، ص157.
6_نفس المصدر، ص158.
7_ سيغموند فرويد، الأنا والهَذا، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، ص59.
8_سيغموند فرويد، أبليس في التحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، ص21.
9_ سيغموند فرويد، الطوطم والحرام، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، ص192.
10_سيغموند فرويد، أبليس في التحليل النفسي، ص21.
11_سيغموند فرويد، الأنا والهّذا، ص63.
12_ سيغموند فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، ص166.
13_ سيغموند فرويد، الأنا والهّذا، ص37.
14_ سيغموند فرويد، موسى والتوحيد، ص179.



#محمد_لفته_محل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملاحظات في علم الاجتماع الإسلام
- علم اجتماع انتفاضة التحرير العراقية
- التحريف النوعي للجماعة الداعشية
- رؤية اجتماعية لزنا المحارم
- مفهوم الروح في المجتمع العراقي
- موجز الدراسات الإنسانية للظاهرة الدينية
- التفسير الاجتماعي للإلحاد والإيمان
- مفهوم الموت في المجتمع العراقي
- القوى الغيبية في المجتمع العراقي (الحظ، البخت، الكرفه)
- العلاقة العلم بالدين
- العراقي وامريكا
- الفرق بين الطائفة والطائفية
- ملاحظات اجتماعية على الحشد الشعبي
- سلاّب الأموات العراقي
- العلاقة بين العنف والحق
- مدخل نفسي وانثربولوجي لأصل فكرة الله الشعبية
- صورة المرأة في المجتمع العراقي
- مدخل إلى فهم علاقة العلم بالدين
- التحريف النفسي للحرب الأهلية الطائفية بالعراق
- العراقي والطعام


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد لفته محل - مدخل لدراسة علمية لفرضية الله