شوقي سالم جابر
الحوار المتمدن-العدد: 4915 - 2015 / 9 / 4 - 08:33
المحور:
الادب والفن
الحاج ياسين وجاره أبو العبد, كانا يذهبان للمسجد معا لكل صلاة, بلحيتيهما البيضاء من غير سوء, يتوكأ كلٌ منهما على عكازه الغليظ, وكانا يجلسان ضحىً وعصراً وبين المغرب والعشاء, يتبادلان الحديث في الأخبار السياسية, وكانا يختلفان في تحليلاتهما أكثر مما يتفقان, كانت حانتهم هي بقالة صغيرة, يعتاش منها الحاج ياسين.
وكان الأطفال الذين يبتاعون الحلوى, يذهبون يأخذون ما يريدون عن طاولة خشبية قديمه, ومن ثم يدفعون النقود للحاج ياسين, لأنه لا يقوى على القيام والجلوس, وهو يُصلي على كرسي مخصص له في المسجد, و النساء تُوصي أبنائها بالشراء من الرجل الطيب.
الحاج ياسين يستمع الأخبار عبر مذياعه الأحمر, الثقيل, الياباني الصنع, القديم.
وكان مذياع أبو العبد أسوداً وأقل جودة.
وإذا جاء الحاج ياسين بخبر, لم يسمعه أبو العبد, على الفور يبدأ الحاج ياسين بامتداح مذياعه الأحمر, وتشتعل الخلافات, والعكس صحيح.
فقد كان أبو العبد يتنقل بين محطات الإذاعة, علّه يلتقط خبراً لم يتناهى لمسمع الحاج ياسين, ليطعن في مصداقية مذياع صديقه.
لكن أبو العبد كان يدرك أن مذياعه الصيني, ليس بجودة المذياع الياباني حقاً, فاستغل فرصة توتر الأجواء العائلية في بيته, وزج بنفسه طَرفاً في الخلاف, وتظاهر بالغضب, فحمل مذياعه الأسود وضربه في الأرض, ومن ثم بعكازه, أخذ يبعثر حطامه, حتى يصعب إصلاحه, معلناً ضمناً أنه فعل ذلك احتجاجاً على خلافات أبنائه, وحلف بالطلاق ثلاثاً على ابنه البكر عبد العظيم, أن يشتري له مذياعاً كمذياع الحاج ياسين لأنه- عبد العظيم- كان سببا في تحطيم مذياع والده.
عبد العظيم اجتهد ليبر بقسم أبيه, فكان بعد انتهاء عمله في مدرسته, يذهب لمحلات بيع الأجهزة الكهربائية, والالكترونية, يبحث عن مذياع مثل مذياع الحاج ياسين, وسأل زملاءه المعلمين دون جدوى, فأعياه البحث ولم يجد ضالته.
أبو العبد حين حلف الطلاق, كان يظن أن المذياع الياباني الأحمر متوفر بالأسواق, وإلا لما كان حلف بالطلاق من أم العبد.
عاد عبد العظيم للحاج ياسين, يسأله من أين اشترى المذياع, فأخبره أنه وجده في إحدى حاويات القمامة في القدس الغربية, حيث كان يعمل في البناء عام 1981م - وأكد على عام المذياع وكأنه يريد فحص ذاكرته بأنه العام الذي سبق عام اجتياح بيروت- وأحضره وعمل له صيانة بسيطة لخيط مؤشر الموجات, فصلح حاله, ليُتابع به أخبار بيروت, واستبسال المقاومة العربية هناك, ويستمع للبيانات العسكرية, وخطابات ياسر عرفات, ومن يومها وهو يصدح في أُذُنَي الحاج ياسين, يستمع القرآن على تردد إذاعة القرآن الكريم من القاهرة, والأخبار على تردد هيئة الإذاعة البريطانية, وأغاني أم كلثوم على تردد صوت إسرائيل باللغة العربية.
عبد العظيم ساوم الحاج ياسين, على بيع المذياع بأي مبلغ يريد, فرفض, معللاً أن له ذكريات جميلة مع المذياع, حين كان يستمع, للحاجة أم كلثوم هو والمرحومة زوجته أم خليل.
وفي الواقع كان الحاج ياسين يدعو الله, أن لا يجد عبد العظيم المذياع, حتى يقع الطلاق على أبيه, ويصبح بلا امرأة مثله.
كان أبو العبد بعد صلاة العشاء بساعة يستفز الحاج ياسين, بأنه ذاهب لام العبد, لأنها تغضب إذا تأخر عنها, فتأكل الحسرة قلب الحاج ياسين, ويتذكر الأيام الخوالي مع زوجته ام خليل, وقد جاء اليوم للشماتة بأبي العبد, بعد حلف الطلاق.
عبد العظيم, الذي لم يجد نُسخة عن المذياع الياباني الأحمر, سأل عن طلاب من غزة يتعلمون في اليابان, حتى يُرسلوا له المذياع من هناك, فلم يجد, وبدت لعينيه الأبواب تُوصد باباً بعد باب, حتى دلّه صديقه على شيخ أزهري غير ملتحي يُدعى أبو إسلام, فشرح له قصته, فقال له الشيخ: "يمين أبيك يلزمه كفارة يمين عادي, وعقد زواج جديد, مع تعهد والتزام من والدك أمامي, بأن لا يستخدم يمين الطلاق مُستقبلاً".
- فرح عبد العظيم, ورتب لقاء بعد صلاة المغرب, لوالده مع الشيخ في بيت والديه, وحضر الشيخ يحمل دوسيه أوراق, ويلبس ملابس علماء الأزهر الشريف, ومنها "العمامة الأزهرية", رحب أبو العبد بالشيخ, وأمر عبد العظيم بإكرام الضيف, طعاماً, وشراباً, وهديه.
- جلس الجميع على الأرائك ينظرون, يستمعون وينظرون إلى الشيخ, ويتهامسون.
- أم العبد تقف عند باب غرفة الضيوف, ترقب التطورات عن كثب, وقد لَفّت وجهها, ورأسها, بشاشة بيضاء كبيره.
- وبناتها ثلاثتهن, ساره, وفاطمه, ونهى مزويات عن مرمى بَصر أبيهن يتأملن عمامة الشيخ, ويستمعن.
- أوقف تحريك حبات سبحته, وتنحنح الشيخ, فسكت الجميع.
- فاطمة أوسطهنّ تكلمت.
- ضربتها شقيقتها الكبرى ساره على فمها, ونهرتها قائلة: "كل الوقت ساكتة, ولما الشيخ بدأ يحكي, صرتي تحكي".
- نهى وضعت سبابة يمينها على شفتيها وقالت: "هُسسسسسسسس".
- فاطمة تتنقل بعينيها الغاضبتين بين وجهي سارة ونُهى, تنتظر نهى حتى تضحك, لتنقل اللطمة لوجهها.
- نهى أخذت حذرها, ولم تبتسم أو تتشفى في فاطمة, لكن قلبها يُقهقه مسرورا.
- وبدأ الشيخ حديثه: "فحمد الله, وصلى على النبي, ثم قال: إن أبغض الحلال عند الله الطلاق, وأوصاهم أن لا يتخذوا الأيمان عُرضه بينهم, وشدد على أبو العبد أن يُنفق كفارة يمين, وأن يعد الشيخ بعدم الحلف مرةً أخرى", وعمل عقد زواج جديد بين أم العبد وأبو العبد بمهر قدره دينار واحد".
- فرح أبو العبد وأم العبد والحضور, وشكروا الشيخ.
- أبو العبد يعد الشيخ بأن لا يُقسم بعد الآن: " عليّ الطلاق من ام العبد, في حياتي ما أحلف بالطلاق " وجذب رأس الشيخ إليه يُقبله.
- الشيخ نظر للجالسين مبتسماً.
- الجميع يضحكون من قسم أبو العبد, وظنوا أن يلغي الشيخ عقد الزواج الجديد فورا.
- لكن الشيخ سأل عن العشاء, وقد أعدت أم العبد وبناتها, أطباق السمك المشوي والسلطات, وبدأ الجميع يتناولون العشاء, يغمرهم السرور, بسبب يمين الطلاق الذي حلفه أبو العبد على مسمع الشيخ, شكر الجميع الشيخ مرةً أخرى.
- ابن ابو العبد "لؤي" وهو يهم أن يُشعل سيجارته, واللهب مشتعلاً من ولاعته: "يا ريت كل المشايخ مثلك يا شيخ, أنت أحلا شيخ شفتو بحياتي"
- طلب الشيخ من لؤي سيجاره, وأمرهُ أن يُشعلها.
- لؤي أشعل سيجارة وقدمها بيده اليُمنى, ورأسها للأعلى قائلاً أحلى سيجارة لأحلى شيخ.
- بنات ام العبد يتلصصن النظر.
- دعت فاطمه للشيخ على السيجارة: "بالهنا والشفا"
- نهى دعت: "ريتها صحتين وعافيه على قلب الشيخ"
- فاطمه صفعت نهى: "هو الدخان طعام تقولين صحتين وعافيه"؟
- نهى صفعت فاطمة: " هو الدخان دواء بتقولي بالهنا والشفا"؟
- وانصرف الشيخ وهو ينفث الدخان, ليوصله عبد العظيم لبيته بسيارته.
- ساره: "أول مرة أشوف شيخ يدخن".
- عبد العظيم اعتذر من الشيخ عن تصرف أبيه.
- الشيخ وهو يربت على كتفه:" لا يا أستاذ عبد العظيم, كل غزه مثل أبوك, وأبوك أحسن من غيره كثير, ربنا يكون في عون الناس, ظروف الناس صعبة" وأضاف ممازحاً: " كل ما يقع عليه يمين الطلاق أنا جاهز, بس بتقول لام العبد تطبخ لنا كُرش خرفان المرة القادمة وضحك".
- عاد عبد العظيم, وعبس في وجه أبيه, قائلا فضحتنا يا حج, تحلف طلاق قدام الشيخ؟, منيح ما تراجع ومزق العقد.
- أبو العبد: "إخرص يا حمار, أنت شو فهمك؟ انت ما بتعرف الحمار من وين يظرط. عليَ الطلاق من أمك إذا ما تنخمد بطردك انت وامرأتك من البيت.
- يا فاشل بدل ما تجيب الراديو جبت الشيخ, انت والا الشيخ, التقى المتعوس على خايب الرجا, اتفووو على هيك خلفه, وعلى هيك زمن".
- والبنات كل واحده تُمسك بدقنها تلويها وأم العبد تعض على شفتها السفلى, في إشارة لعبد العظيم أن يسكت حتى لا يتمادى أبو العبد في الصراخ.
تحياتي,, شوقي جابر
#شوقي_سالم_جابر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟