والقلب يعشق سراً. ( الجزء الرابع )

فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4900 - 2015 / 8 / 18 - 18:14
المحور: الادب والفن
    

لم يعد ممكناً إقامة حفلات لفرقتنا كما كنا نفعل في السابق إذ تفككت تماماً.

فقد تزوج عصام ، وكانت زوجته تستعد لاستقبال مولودهما الأول قبيل عودة نديم، وكان المسكين يعمل ليل نهار حتى يستطيع أن يسدّ احتياجات بيته، حيث أصرّ فور تخرجه على الزواج من ابنة عمه نيفين التي كان يحبها منذ أن كان طفلاً.

ريمون حصل على منحة وسافر للحصول على الماجيستير في كندا، وكنت أنا أيضاً أعمل وأقوم باستكمال دراستي للحصول على الماجيستير.

وحتى بهاء رغم أنه لم يكن عضواً بالفرقة، ولكنه كان يساعدنا في كل الأمور الإدارية والمالية التي كنا نحتاجها، مثل استئجار معدات الصوت وتنسيق المسرح طبقاً لتعليمات نديم وما إلى ذلك، فقد سافر إلى السعودية ليعمل كمدرس للفيزياء، ولجمع بعض المال ليكمل نصف دينه على حد تعبيره . وكان يرى أنه لو تحسنت حالته المادية، فسوف يستطيع الزواج من أية فتاة يرغب، لأنها لن تستطيع مقاومة إغراء المال! كانت هذه نظرته للمرأة دوماً . ولقد حاولنا إثناءه عن السفر وإقناعه بالعدول عن الفكرة، وأن البقاء في بلده أكرم من الغربة في دولة عربية في سبيل الزواج من امرأة تحب المال أكثر مما تحبه، ولكنه لم ينصت لأي منا، وكان مقتنعاً بل ومؤمناً برأيه ولا يحيد عنه .. وكثيراً ما كان يوجه سؤاله لي قائلاً:

- طب بذمتك لو جالك عريس غني ترفضي ؟

وكنت أردّ بمزاح :

- أوافق طبعا بس بشرط يكتب لي عمارة المنيل والخمسميت فدان اللى في المنصورية.

ثم نضحك جميعنا فيقول متذمراً :

- إنتِ ما تعرفيش تتكلمي جد أبدا.

في الحقيقة بهاء لم يكن يمزح في هذا الوقت، بل كان يحاول أن يستشف شعوري نحوه وهل سأفرح لكلامه هذا !! فيما بعد .. أدركت أنه كان يقصد عرض زواج حقيقي.

أما نديم فلم أستطع طوال حياتي أن أحدد ماهية علاقتي به. فقد تزاملنا منذ سنوات الدراسة الابتدائية، وكان كل منا طفلاً وحيداً، فاعتبرته أخي منذ اليوم الأول لتعارفنا ، أقتسم معه طعامي وأقلامي وألواني وأنا أشعر بالسعادة.

أخي ؟؟

إن كنت أقصد حادثة السنة الأولى وفي الأسبوع الأول من الدراسة، فقد كان أخي دون شك ..

ذلك اليوم لا أنساه ، عندما صرخت المدرسة موجهة كلامها لي، فبكيت، فما كان منه إلا أن أتى وجلس بجواري، وأخرج منديله الأبيض الصغير ومسح به دموعي، فأخرجتُ بدوري كيساً من الحلوى وضعته أمي لي في حقيبة المدرسة، ومنحتُه إياه ، لكنه رفض وأصرّ أن نقتسمه.

نعم أفهم هذه الأخوة .. ولن أشكّ في أخوة المرحلة الإعدادية لأن بعض الشك إثم، فالمشاعر في بداية عهد الصبا لا تتوضح بعد . ولكن .. ألم يلفت نظرك كيف كانت الزميلات يتقرّبن لك من أجل نديم بالذات ؟ كان فتىً طيباً ومعطاءً وحنوناً بكل ما فى الكلمة من معنى، بالإضافة إلى وسامته ومعاملته الرقيقة مع الجميع وبالأخص البنات.. وكان يفهمني وأفهمه دون كلام ، ويعتبر نفسه حارساً شخصياً لي ، يدافع عني ضد العدوانيين من الزملاء وما أكثرهم !

يفهمني وأفهمه دون كلام ! ويعتبر نفسه حارساً شخصياً لي ! ويدافع عني ضد العدوانيين من الزملاء وما أكثرهم !

أحقاً كان أخاً أخاً بكل ما في الكلمة من معنى؟؟؟

يفهمك وتفهمينه .. مفهوم . طيب وما قصة حارسك الشخصي؟

آه ~ بدأتْ المحاكمة النفسية.. لماذا الآن بالذات ؟ لا تهربي .. تذكري تذكري هيا ~

هل تذكرين يوم اكتشفتْ مدرّسة الموسيقى موهبتنا وأخذت تشركنا في الحفلات ، ونحن بعد في المرحلة الابتدائية؟

نعم أذكر .. كيف طلبت مني المدرّسة أن أرقص وأغني على إيقاع الكستانيت، ولكن أعياني استخدامها لصعوبتها، وإذا بنديم في إحدى المرات يأخذها من يدي ويقوم بالمحاولة وينجح من أول مرة، فصفّقت له المدرسة ووجهت لي اللوم لعجزي عن استعمال الآلة.. فبكيت، فقرر نديم ألا يلمس الكستانيت أبداً، وظل كذلك حتى كبرنا ونضجنا.

في المرحلة الثانوية كنت قد بدأت أغني وأشترك في كورال المدرسة، وبعد فترة بسيطة أصبحت أنا المغنية الأولى في فريق المدرسة، وكان نديم قد بدأ عزف الجيتار، غنيت كثيراً على نغمات عزفه الخلابة.

بتنا نقضي أوقاتاً أطول سوياً في البروفات، وخاصة قبيل الحفلات، التي كانت المدرسة تعتمد في نجاحها على ما يقدمه الطلاب من فنون وإبداعات. عصام في ذاك الوقت كان صديقنا الصدوق والمقرب لكلينا، وكان موهوباً في العزف على الأورج، فكانت الفرقة تتكون من ثلاثتنا والباقي يتغيرون.

أما ريمون فقد جاء إلى مدرستنا في المرحلة الثانوية منقولاً من كلية فيكتوريا بالاسكندرية، وكان هو آخر من التحق بالفرقة كعازف للدرامز. فأصبحنا ندرس في الصباح، ونقوم بأداء البروفات بعد انتهاء موعد المدرسة، وقرّبت الفرقة بيننا بقوة وأصبحنا لا نفترق.

بقوة .. ولا نفترق !؟

في أحد الأيام كانت هناك حفلة آخر العام، وكنا قد قررنا أن نقوم ببروفات أغنية شهيرة في ذاك الوقت ناطقة باللغة الانجليزية عنوانها " معاً نكون أقوى " Together we are strong كانت تغنيها مغنية فرنسية الأصل تدعى ميراي ماتيو ، بصحبة مغنّ أمريكي وسيم يدعى باتريك دافي .. تدور معانيها حول تكامل شخصين رغم اختلافهما، فتقول هي:

أنت الليل وانا النهار

أنت النجم الذي يدل على الطريق

أنت الآلة التى أعزف عليها

أنت الكلمة التى طالما قلتها

فيرد عليها المغني قائلا:

أنتِ الأرض وأنا البحر

أنتِ الأنغام المصاحبة لي

وقد اتفقنا على ألا نتفق

ثم يردد الاثنان معاً :

لا حاجة للكذب

وتستمر الأغنية يتبادل فيها المغني والمغنية أبيات الشعر، المعبرة عن حبهما وقوتهما لو بقيا سوياً وتنتهي بكلمات:

هناك عدة طرق للنظر للأشياء

كل منا له حلمه

ربما حلمك ليس هو حلمي

لكن معاً نستطيع أن نجعلهما يصبحان حقيقة

أحدهما يردد الأبيات السابقة والآخر يصحبه بكلمات " معاً نكون أقوى".

قمت بأدائها مع عصام ولم ننجح . ورغم أن عصام يجيد الغناء، لكن كان هناك شيء ما غير مريح في أدائنا معاً وطلب مني نديم أن أؤديها وحدي فلم تفلح المحاولة، لأن الأغنية مكتوبة وموضوع لحنها بحيث يتم غناؤها بواسطة شخصين، كحوار يدور بينهما.

أخيراً بعد إلحاحنا وافق نديم أن نؤديها معاً وكانت النتيجة مبهرة ! لدرجة أدمعت عيوننا، عصام وريمون ونديم وأنا.

أنتَ كذا ، وأنتِ كذا ، ويردد الاثنان معاً : لا حاجة للكذب ! جميل يا سلوى ! ثم ماذا؟ ماذا حصل ؟ تابعي ~

في نهاية الأغنية أفقْتُ على كفي بين كفيه وكأنه يحتضنني وعيناي معلقتان بعينيه ، فكأن شعوراً غامراً بالحب اجتاحنا دون استئذان بعد أداء هذه الأغنية الرائعة..

يا للبراءة يا سلوى !

ولا أعرف لماذا أحسست أننا كنا نعني كل كلمة فيها، ونوجّه الكلمات لبعضنا بعضاً، وكأنه حديث شديد الخصوصية دائر بيننا.. وسرعان ما أفاق نديم وترك يدي، وحاول تجاهل الموقف بالكامل كأنه لم يحدث، وانبرى في إصدار التعليمات لأعضاء الفرقة !

صرنا فيما بعد نغني سوياً ، إذ أدركنا بعد هذه الحفلة أن هناك تناغماً وانسجاماً بين صوتَينا، ونستطيع أداء الأغاني بصورة ممتازة، وحتى بعد أن التحقنا بكلية العلوم وقمنا بتكوين فرقتنا من خلال أسرة الكلية، ظللنا نغني مترافقَيْن وكأنه قدرنا.



في تلك الأيام، كنت أعرف أن نديم التحق بالكلية رغماً عنه، وحقيقة الأمر أن والده كان يرغب في أن يلتحق ابنه بكلية الهندسة، أو أية كلية يمكن أن تؤهله لإدارة المصنع وفهم تقنيات الصناعة، وقد كان في ذلك الموقف ظلم كبير لنديم.

كثير من الأوقات كنت أشعر بضيقه من دراسة المواد العلمية الجافة، وتفضيله الجلوس في مسرح الكلية ليعزف حتى لو بمفرده، ولم أكن أراه متحمساً أبداً إلا حين يكون لدينا حفلة نستعد لها، أو مسرحية عليه أن يخرجها.

كنت أشاكسه بقولي:

- يابنى أنت أخطأت الطريق لكلية العلوم، انت فنان مكانك مش هنا في كلية الهمّ والغمّ دي، إنت مكانك فى السينما أو على المسرح، بس على شرط أكون معاك.

فيضحك بكل طيبة فأبادره:

- بتضحك ؟ طبعا لازم أكون معاك.. رجلي على رجلك هاتروح مني فين !! أنا قدرك.



أيواا ~ رجلي على رجلك وأنا قدرك ؟

وفوقها شرط .. أن تكوني معه !

أصدقيني القول، ماذا كنتِ تعنين بهذه الكلمات يا سلوى؟



يتبع غداً

#فاتن_واصل (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات