|
الحالة الثقافية ضحية فوضى (الربيع العربي)
ابراهيم ابراش
الحوار المتمدن-العدد: 4890 - 2015 / 8 / 8 - 11:49
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
الثقافة والمثقفون مسألة إشكالية ،سواء من حيث التعريف أو من حيث الدور والوظيفة في النسق الاجتماعي ، هكذا كانت في البدء وهكذا تفاقمت في ظل التحولات المتسارعة للفضاء السبيرنيتي . وإن كان من الممكن تعريف الثقافة حتى في ظل تعدد المقاربات والمداخل الابستمولوجية ، أو على الاقل حصر العناصر الدالة عليها سواء على مستوى الثقافة الوطنية – العالِمة والشعبية - أو الثقافة الإنسانية العالمية ،إلا أن تعريف المثقف بات أكثر صعوبة مما كان عليه سابقا ،في ظل تداخل الصناعات الثقافية ،والاعتمادية المتبادلة بين كل صنوفها ، وفي فضاء سبيرنيتي مفتوح للجميع ليعرض بضاعته دون ضوابط تُميز بين الغث والسمين ،إلا ثقافة المتلقي ذاته ومنظومته المعرفية للحكم على الأشياء . في الحالة العربية يمكن رصد ظاهرة بمثابة المفارقة ، فبالرغم من كثرة عدد الأشياء والأشخاص الذين يمكن إدراجها / إدراجهم في الإطار العام لـ (الثقافة والمثقفون) ، وبالرغم مما يوفره الفضاء السبيرنيتي من فرص وإمكانيات للتواصل والتفاعل بين البشر ، إلا أن ذلك لم يُنتج حالة ثقافية ذات حضور وتأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية ،بل نلمس تراجعا عما كان عليه الحال في النصف الثاني من القرن العشرين ،بل عما كان عليه الحال في بدايته حيث تشكلت حالة تم تسميتها بعصر النهضة العربية . اليوم حَلَ مُفتّون ودعاة ورجال دين محل المثقفين والمفكرين والمبدعين الحقيقيين ،وحل الإتباع محل الإبداع في كل المجالات ،بحيث بات الأولون يُفتَون في كل شيء من الوضوء ومُبطلاته والنكاح وأنواعه ، إلى الاقتصاد والذرة وعلوم الطبيعة ، مرورا بالفن والفكر ، هذا ناهيك عن الحلول محل الله في التحريم والتحليل وفي العقاب والثواب ، ومحل الدولة وقوانينها ودساتيرها في إدارة شؤون الامة ، بل باتوا يُكَفِرون ويُرهِبون كل من يخالف فتواهم وأحكامهم . كما أن ضغط الحياة اليومية والمتطلبات المرتفعة للمعيشة دفعت كثيرا من المثقفين لتأجير أو بيع نتاجهم وفكرهم لفضائيات ومراكز أبحاث رسمية ، أو الدخول في منافسة أو صراع غير متوازن من أجل البقاء مع أشباه مثقفين مدعومين ماليا ومحميين رسميا . كان من المفترض أن يُنتج ما تم تسميته زورا وبهتانا بـ (الربيع العربي ) المثقف العضوي الذي يتفاعل مع الثورة ويدافع عنها وعن حقوق الشعب بفكره المتميز ، بل كان من المفترض أن هذا الصنف من المثقفين هم مفجرو الثورة وفي طليعتها ، إلا أن الملاحظ أن هذا النوع من المثقفين وإن برز البعض منهم في بداية الحراك الشعبي إلا أنهم أخلوا مكانهم ، أو أُجبِروا على ذلك ، لرجال دين وطلاب سلطة ومغامرين ،ملئوا كل الفضاءات مدعومين بالفضاء السبيرنيتي من فضائيات وانترنيت الخ ، وبمال سياسي بعض مصادره معروفه وأخرى مجهولة للعامة حتى الآن. لم تقتصر ظاهرة تراجع الحالة الثقافية وغياب المثقفين العضويين على دول (الربيع العربي) بل امتدت للدول الأخرى ،حيث كل فئات المجتمع باتت مشدودة ومستنفرة خوفا من الانفلات الأمني والإرهاب . خطورة ما يجري في العالم العربي وخصوصا في دول فوضى الربيع العربي ، ليس فقط تدمير الدولة الوطنية ومقدَّراتها ،وتفكيك المجتمع والضمير الجمعي ،وإثارة كل النزعات الطائفية والعرقية والعشائرية حتى البشرية الهمجية ، بل أيضا تدمير الثقافة والهوية الوطنية دون القدرة على انتاج ثقافة وهوية بديلة محل إجماع أو توافق أغلبية المجتمع أو الشعب ، وكيف يتأتى ذلك والشعب أو المجتمع لم يعد مُعَرَّفا ومحددا ـفلكل فئة مقاتِلة تصورها الخاص للمجتمع أو الشعب أو الأمة ، فالعيش المشترك في حدود جغرافية لم يعد كافيا أو يتماهى مع مفهوم المجتمع . في ظل أنظمة ما قبل (الربيع العربي) وبالرغم مِن كل ما قِيل عن استبداد الانظمة وفسادها إلا أنه كانت توجد حالة ثقافية واعدة متفاعلة مع مجتمع مدني حقيقي قيد التَشكُل ،يمكن المراهنة عليها ، حالة ثقافية انتجها العيش المشترك ،والصراع ضد الأنظمة الاستبدادية والتخلف والهيمنة الخارجية في نفس الوقت ، لأن الثقافة الوطنية لا تعني تماهي مكوناتها أو تماهيها مع النظام السياسي ،بل هي فضاء الاختلاف ولكن في إطار الوحدة الوطنية . صحيح أيضا أن الحالة الثقافية كانت محل خلاف من فئات إثنية ومذهبية ،ولكن لم تكن تصل لهيمنة أو تَسّيِد نزعات إقصائية أو استحواذية ،كما أن الاستقرار النسبي للدولة والمجتمع والنضال من أجل المواطنة بالرغم من الثمن الباهظ الذي كانت تدفعه الفئات المظلومة والمناضلون من أجل الحرية ، كل ذلك كان يُبشِر بإرهاصات تحوُّل متدرج أو مخاض صعب للديمقراطية . استباحة الدولة وتفكيك المجتمع وتذرر الثقافة والهوية ،يدفعنا للتساؤل إن كان الهدف من إثارة الفوضى في الدول العربية وعملية الإقصاء للثقافة والمثقفين التنويريين والديمقراطيين - خصوصا في مصر وتونس وسوريا – هو الانتقال نحو الديمقراطية والقضاء على أنظمة فاسدة ؟ أم كان الهدف قطع الطريق على حالة استقرار كانت تزعج مَن كانوا يخططون لتجزئة المنطقة واستنزاف خيراتها ؟ صحيح أن تلك الانظمة لم تكن ديمقراطية بمقاييس الغرب ، ولكن هل أنتج (الربيع العربي) حالة ديمقراطية أو كان مَن يقف وراء الفوضى يريدون الديمقراطية ؟ . وأخيرا نقول ،إن مسؤولية وطنية وأخلاقية كبيرة تقع على عاتق المثقفين الوطنيين المتنورين ،سواء مثقفي ما قبل فوضى الربيع العربي أو المثقفين الجدد الذين شكلت الأحداث ثقافتهم ، مسؤولية تشكيل حالة ثقافية وطنية جامعة ،تواجه حالة الرداءة السياسية والأخلاقية التي تهيمن عليها التعصبات الحزبية والمعتقدات الإقصائية ، وتواجه أشباه المثقفين من ،متأسلمين ،مُتَكَلِمة ،وكَتبَة رجال المال والسلطة ، والمثقفون يستطيعون ذلك . إن كان الفضاء السبيرنيتي مفتوحا للفاسدين وأصحاب الأجندة المشبوهة ،فهو مفتوح أيضا للمثقفين والوطنيين الاحرار إن أحسنوا توظيفه ، وإن كانت فوضى الربيع العربي سمحت لشرائح وفئات ومعتقدات فاسدة أن تظهر وتحاول توجيه الأمور لصالحها ،فلماذا لا يحاول المثقفون انقاذ أكبر قدر من القيم والأخلاق والثقافة الوطنية وتشكيل حالة يمكن البناء عليها ، وخصوصا أن الشعب بدأ يستفيق من صدمة (الريع العربي) ويكتشف حقيقة ما يجري . إن سقط وتخاذل المثقفون فلا أمل باستنهاض الأمة. [email protected]
#ابراهيم_ابراش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السكوت عن الفساد ... فساد
-
أمِن المستوطنون العِقاب فأوغلوا في الدم الفلسطيني
-
ما يجري في القدس يفضحهم .. ويفضحنا
-
المثقفون ضمير الشعب وحُماة الهوية والثقافة الوطنية
-
الفساد لا يقل خطورة عن الاحتلال
-
بيان توضيحي ردا على بيان وزارة الشؤون المدنية
-
الانقسام لا يبرر الفساد ولا يُسقط المسؤولية
-
اكثر من اتفاق نووي واقل من مؤامرة
-
خطورة المراهنة على ثورة او تمرد على حماس
-
إدراك متاخر أم تواطؤ مُسبق؟
-
السياسة لا تعرف الفراغ
-
تحديات ومخاطر علم الاستشراف في العالم العربي
-
من سيناريوهات حل الصراع إلى سيناريوهات إدارته
-
هل غزة مقبلة على الانفجار بالفعل ؟ وفي مواجهة من ؟
-
التباس الموقف المصري من القضية الفلسطينية
-
حركة فتح : شرعية وديمومة الفكرة وتعثر التنظيم والممارسة
-
صحوة خليجية متاخرة : الاتفاق النووي سينقل (الربيع العربي) إل
...
-
اللاجئون الفلسطينيون من الريادة إلى التهميش والتصفية
-
ما بين د.عصام السرطاوي ود.احمد يوسف : عقلانية الفكرة ومنزلقا
...
-
مبادرات تتوالى ، فهل نحن مستعدون؟
المزيد.....
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|