|
فول مالح .. مالح يا فول
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 4885 - 2015 / 8 / 2 - 01:25
المحور:
الادب والفن
البارحة مساءً زارتني صديقتي السورية، القادمة من مدينة روستوك البحرية الواقعة على مصب نهر فارنوف على بحر البلطيق في شمال ألمانيا .. استغرقت رحلتها أكثر من عشر ساعات بالقطار السريع لتصل بيتي في الجنوب الغربي من ألمانيا .. ترغب صديقتي بالحصول على شهادة الدكتوراه في الهندسة البحرية من جامعة روستوك .. ثالث أقدم جامعة في ألمانيا ..
درجة الحرارة تجاوزت 40 درجة مئوية بقليل .. كنت مسروراً بزيارتها التي ستضفي على المساء الحار بعضاً من نسيمها .. اتفقنا على تناول الويسكي المجنونة "جيم بيم الأمريكية" .. البلكون واسع تحيط به الأشجار الخضراء .. على مسافة خطوات اجتمع بعض الشباب والصبايا في الحديقة المجاورة يحتسون الخمر ويصغون لإحدى المغنيات الألمانيات ..
دخلت صديقتي إلى المطبخ، عادت بعدة صحون خفيفة للمازة بينها صحن احتوى على الجزر المقطّع إلى شرائح .. شممت الرائحة التي فاحت رغم الحرارة الاستثنائية .. إنها رائحة قادمة من زَارُوب الغلط .. من زقاق بسنادا الضيق .. أخذتُ رشفة قوية من كأس الويسكي، سألتُ صديقتي العابسة دوماً: عن سر الرائحة التي أيقظت فيّ الطفولة البعيدة .. سألتها عن رائحة الجزر، فأجابت: لقد مزجت شرائح الجزر بالملح والليمون الحامض والكمون، ودون أن تبتسم قالت: ألا تشبه المازة البسندلية؟ .. نظرتُ إلى الجزر وسقطتُ في الدوامة اللولبية، في لولب الذكريات البسندلية، لتصلني تلك الرائحة البعيدة في الطفولة ..
في قلب بسنادا ثمة شارع مائل إلى الأسفل عندما تستخدمه للنزول .. ومائل إلى الأعلى عندما تستخدمه للصعود .. درجة ميلانه تقارب 50 درجة .. الشارع ضيق لا يتسع لمرور سيارة أو طرطيرة .. لكنه يتسع لمرور جحشة تحمل على ظهرها شوال زيتون أبو قلم أحمر .. كنتُ قد سقتها مراراً في حالة صعود .. إنه زَارُوب الغلط ..
إذا أردت استعماله للنزول فإنه يبدأ بدكان النمورة والعوامات وينتهي بالبيدر .. تلك الساحة الرعوانية الصخرية التي تحولت إلى ملعب .. في البيدر مجموعة غرف سُميت مدرسة .. وعمودين من البيتون عُلقت في كل منهما حلقة حديدة سوداء بشبك مهتريء لممارسة كرة السلة ..
بعد دكان النمورة وعمودي الكهرباء المتعانقين برمزية مساواة زائفة بين رجل وامرأة، تأتي الخمارة وفوقها غرفة سمير الغامضة .. بعدها بخطوات وعلى الجهة اليمنى نفسها ترى بيت المختار .. بجانبه غرفة نوم، أقصد دكاناً، بل أقصد منزلاً في الليل ومحلاً تجارياً لبيع الخضار ولطحن الفليفلة الحمراء في النهار .. هناك عاشت أم وابنتها .. كلما مررت من أمامه أتذكر ودون تخطيط مسبق أو مقارنة إسقاطيه حكاية "ريا وسكينة" ..
مقابل الدكان هذا وعلى انحراف بسيط من مدخله يفترش السيد العجوز "هولا" الأرض وأمامه كيس من اللوز الأخضر وميزاناً يدوياً عبارة عن قطعة خشبية عٌلق بها بخيوط القنب صحنين من الألمنيوم .. وبضعة حجارة تُدلّل على الأوزان .. يصيح "هولا": عقابية .. لوز أخضر ..
على بعد خطوات من العجوز "هولا" يجلس طفل نحيل الجسد .. يجلس "الغانم" وأمامه طنجرة ألومنيوم مملوءة بالفول المسلوق و" الزوم" .. الماء المطبوخ والممزوج بالليمون الحامض والكمون والملح .. يصيح "الغانم" : فول مالح .. مالح يا فول .. تتجاوز ميزان العقابية وطنجرة الفول .. لتجد نفسك أمام مركز بيع الكوكائين والحبوب المهدئة .. وأنت الولد الذاهب في طريقك إلى مدرسة البيدر وفي جيبك خمسة فرنكات .. تسأل نفسك: أأشتري اليوم حبات لوز أم فول مالح؟ .. تشم رائحة الكمون .. تشتهي الزوم .. وتقرر شراء حبات الفول مع الكمون والملح والحامض .. وبيده الخبيرة يصنع "الغانم" لك مخروطاً من ورقة دفتر مدرسي .. ويضع فيه الزوم وبعض الحبات المسوسات، يخيب أمل "هولا" إذْ لا تشتري من لوزه .. تفتح حبة فول، تباعد فلقتي الحبة عن بعضهما .. ترى دودة سوس في داخلها .. تغمض عينيك وتمضغها بتلذذ .. تفرح للطاقة الصباحية وتطير راكضاً إلى مدرسة البيدر ..
إنها الرائحة التي بحثت عنها ..
أخذتُ رشفة ثانية من كأسي، أكثر جنوناً من الأولى .. سألتُ صديقتي عن موضوع بحثها ودراستها المتمحورة حول إحدى الطرق المستخدمة في تصميم الوصلات اللحامية .. ثم حدثتها عن أحد زملائي الذي يكبرني سناً .. والذي كان يعمل في جامعة اللاذقية بعد أن عاد إليها من بلد الإيفاد العظيم "مصر" دون أن يحصل على شهادة الدكتوراه المطلوبة منه في مجال الهندسة البحرية ..
حين التقيته، طلبَ مني بلطفهِ المعهود مساعدته لتأمين قبول في جامعة روستوك لمتابعة دراسته، يومها هزأ منه رئيس القسم، وتغامزت من خلف ظهره بضعة عيون، وَعدته بالمساعدة ووفيت بوعدي، لكن الرئيس لم يوافق على إيفاده من جديد! .. سقطتْ دمعة حزنٍ لتخففَ من حدة عبوس وجهها وقالتْ: يؤسفني أن أخبركَ أن قلب زميلك لم يتحمل طويلاً إساءات الرؤساء، لم يتحمل عيون الغَمْز وإشارات الهَمْز واللَّمْز فتوقف عن النبض، لقد مات ..
تمتمتُ في سري، رحمه الله، كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ، لم يظفر المسكين حتى بشهادةٍ سيئة من مصر!.. ردّدتُ مثل أبله يكلم نفسه، يجترُ كلمات لامعنى لها: ظفر فهو ظافر، ذائقة فهو ذائق، رائق، .. إنها اللغة العربية .. ودون أن أدري سألتها: هل تعرفين شخصاً اسمه ظافر اللائق!؟ .. لا أعرف كيف خطر في ذهني، كيف تذكرته فجأةً!؟ .. هل هي الحاسة السادسة؟ .. أجابتني: لقد مات أيضاً، لقد كان مظلوماً حتى في موته، لقد قتله خطأ جراحي ..
ذَكّرني موته وطعم الليمون الحامض بعلب السردين والتُّوَنَّة وحبات العيطون، إنها من مكملات المازة البسندلية، طالما تذوقها "ظافر" في سهراته الطويلة عند أصدقائه في بسنادا، قلتُ مبتسماً وبصوتٍ عال: ينقصنا هنا صحن من التُّوَنَّة بالليمون الحامض، أترغبينَ أن أحضّرهُ لكِ!؟ حدّقت في وجهي وسألتني عن سر ابتسامتي؟ ..
تعود بي الذاكرة إلى ذلك المساء، الساعة تجاوزت الحادية عشرة ليلاً، تصفر الريح في الشارع، الدكاكين مقفلة، المطابخ فارغة .. كنا خمسة شباب جائعين للنقاشات، كؤوس العرق، السجائر والمازة .. بحوزتنا زجاجة عرق كبيرة والتبغ البلدي، لم ينقصنا إلا شيئاً للتغميس والتمزَّز ..
فتشنا في جيوبنا العشرة فلم نجد أكثر من عشر ليرات، نظرنا بعيوننا الثمانية الراجية لعيني صديقنا "سمعان"، يملك أبوه دكاناً في الحارة، فهم رجائنا، دخل غرفة نوم والده خلسةً، سرق المفتاح، فتح الدكان، أحضر علبة التُّوَنَّة ورغيف خبز للتغميس .. مضينا إلى أراضي "صلولين" على تخوم بسنادا ..
جلسنا على الصخرات، نشرب وندخن ونتناقش، فتحنا علبة التُّوَنَّة الصغيرة للتلحيس، كنا سعداء إلى أن راحَ "سمعان" الذي لم يشرب تلك الليلة معنا بتقطيع رغيف الخبز البائت وبدأ يغمّسه في علبة التُّوَنَّة ليأكل فعلاً بهدف الشبع، بعد لقيمات ثلاث فرغت علبة التُّوَنَّة، نظرنا إليه مقهورين مدهوشين سائلين: ما الأمر يا رجل؟ .. يلعن سماك .. هالعلبة للتغميس، للتلحيس ولكنها ليست للأكل حتى الشبع! ..
جحظت عينا "سمعان" الجاحظتين أصلاً، قال وبقايا لقمة ماتزال في فمه: أيلي أيلي .. أنا جوعان، دعوني وشأني، ألستُ من سرقها من دكان والدي ..
أعارنا صديقنا الرسّام ظهره، تبّول وراح يعوي مثل ذئب بريّ كعادته حين يفرح أو يغضب .. أما صديقنا الأشقر عازف العود فقد عوج فمه ومال بعنقه مقلداً "سمعان" وقال: "صحيح أنني لا أعجبكم في الشرب لكني أعجبكم في المازة" .. ضحكنا وضحك "سمعان" ..
رويت هذه الذكرى لصديقتي العبوس أبداً، انفرجت أساريرها وضحكت أخيراً فهي تعرف "سمعان" ..
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -37-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -36-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -35-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -34-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -33-
-
غري إكسيت و غري إمبو
-
الغَضَارَة البسندلية
-
جنزير من ذهب
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -32-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -31-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -30-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -29-
-
أيكون اسمها العنقاء؟
-
وعندما يكبر الضَّجَر
-
سيدة محلات ألدي
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -28-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -27-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -26-
-
حين يعانقك الكر في بسنادا
-
الهِجْرَة مَرّة ثانية يا مَنْتورة
المزيد.....
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|