أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عثمان بوعرفة - رؤية نقدية حول واقع المسألة الحزبية بالمغرب.















المزيد.....


رؤية نقدية حول واقع المسألة الحزبية بالمغرب.


عثمان بوعرفة

الحوار المتمدن-العدد: 4884 - 2015 / 8 / 1 - 00:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


رؤية نقدية حول واقع المسألة الحزبية بالمغرب.
لا شك أن المؤسسة الحزبية بمختلف أشكالها ومرجعياتها تشكل أحد الركائز الأساسية للفكر السياسي المعاصر وللحياة السياسية بشكل عام , نظرا لما لعبته من أدوار طلائعية وتقدمية في تأسيس وخلق المناخ الديمقراطي والممارسة السياسية السليمة ؛ والتي تؤدي في الأخير إلى خلق المجتمع الديمقراطي والحداثي الذي يؤمن بضرورة التغيير في بنيته السياسية وهياكله الحزبية وتحديث الوعي السياسي ؛ لا وجود إذن للحياة السياسية بدون حياة حزبية.
لكن الدارس للسيرورة الحزبية وكيفية تشكلها في الزمان والمكان يدرك أن فهمها ومساءلتها يعد أمرا ضروريا وملحا تفرضه ضرورات سياسية ومجتمعية برمتها؛ أي لا مجال فيها للفصل بين الظاهرة الحزبية وتفاعلاتها المستمرة مع الإنسان والمجتمع, هذا التفاعل والتجاذب يجد ضالته في إنتاج الرؤى والمواقف السياسية والإختلافات المتجددة حول ازمة المجتمع السياسي , أعني بذلك المجتمع الذي يطرح الوعي السياسي كرهان للتغيير المنشود, والذي يتجسد بالأساس عبر إحداث سلسلة من المتغيرات في العقل السياسي تنظيرا وممارسة, وكل هذا يمر عبر بوابة المؤسسة الحزبية كمجال لإنتاج الخطاب السياسي والتعبيرات السياسية المختلفة والمشاريع السياسية المتعددة . لكن الواقع السياسي وما وصل إليه من تدهور وتراجع لا يمكن فصله بالمرة عن واقع المسألة الحزبية والتي تتحمل قسط وافر من الأزمة السياسية التي يعيشها المجتمع المغربي ؛ فإذا كانت المؤسسة الحزبية قد شكلت أحد الاوراق الرابحة في حلحلة المعضلة السياسية التي عاشها المغرب بعد الإستقلال خصوصا في مراحله الإتقالية الصعبة فإنها تشكل إحدى تمظهرات المعضلة السياسية في مغرب اليوم ؛ الامر الذي يقتضي الوقوف عند مساءلتها وحلحلة معضلتها الداخلية والخارجية ,وهذا الأمر لا يمكن أن يتم إلا عبر مقاربة شمولية ونقدية وتفحصية لما آلت إليه المسألة الحزبية.
إن الدارس لتطور المسار السياسي في المغرب بكل إخفاقاته ونجاحاته سيدرك أن المشهد الحزبي كان حاضرا وبقوة ولا عبا حيويا في تشكيل الوعي السياسي وقيادة كل المراحل السياسية الحرجة التي مر منها المغرب ,وذلك منذ أن ابتدأت أول تجربة حزبية في المغرب بمعناها الحديث وهي تأسيس حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 على يد نخبة من السياسيين والمفكرين ؛ لكن رغم كل ذلك فإن المشهد الحزبي اليوم أصبح يعتبر تحديا حقيقيا وعائقا أساسيا أمام التطور الديمقراطي , نظرا لما يعانيه من أزمات متعددة خطابا وممارسة وهو ما سنحاول الوقوف عنده بالتفصيل .
لا شك أن هناك تطور ملحوظ على مستوى الزخم الكبير في عدد الاحزاب التي تؤثث الساحة السياسية الغربية بحيث أصبحنا أمام سوق حزبية ,وهذا التطور يؤكد على أن هامش الحرية في تأسيس الأحزاب أصبح مكفولا للجميع ؛ لكن هذا لا يمكن قياسه بأي حال من الأحوال بتطور المناخ الديمقراطي وبتطور الحياة السياسية بشكل عام ؛ لأن الأمر يتعلق هنا بالنوع وليس بالكم ولعل هذا ما نستشفه من خلال التجارب الديمقراطية العالمية ؛ ففي التجربة الدستورية الجديدة للمغرب أعطت هذه الأخيرة لجميع الاحزاب دورا مهما وكبيرا في إنتاج واقع سياسي أفضل وممارسة ديمقراطية سليمة وأكثر نضجا, حيث حدد مهمتها في الفصل السابع في تأطير المواطنين والمواطنات وتكوينهم سياسيا ؛ وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام كما تساهم في التعبير عن إرادة الناخبين والمشاركة في ممارسة السلطة على أساس التعددية والتناوب بالوسائل الديمقراطية ........
إلا أن هذه الوظيفة الدستورية التأطيرية أصبحت صعبة وفي تراجع مستمر ؛ بحيث نشهد ضعفا وعزوفا كبيرا في الإقبال على الإنتخابات وهذا ما تؤكده تقارير المندوبية السامية للتخطيط والتي أكدت أن الشباب المغربي المنخرط في الأحزاب أي في العملية السياسية لا يتعدى 1 في المائة , وهي نسبة هزيلة وسيئة الذكر في ظل التزايد الكبير لعدد الأحزاب بالمغرب والذي يبدو أننا امام سوق حزبية بدون فاعلية سياسية تذكر ؛ إلا أن هذه الإكراهات والمعيقات التي تعاني منها المؤسسة الحزبية لا يمكن فصلها بالمرة عن المشهد السياسي برمته, والذي وصل إلى الحد الذي يصعب فيه إيجاد الوصف المناسب له خطابا وممارسة ؛ ففي الوقت الذي نتحدث فيه عن دولة المؤسسات التي يبقى الحزب هو مصدرها الأساسي؛ لا زال هذا الأخير ينتج التجارب السياسية الفاشلة التي تظهر تجلياتها وإفرازاتها في قمة الهرم السياسي ,أي المؤسسات التشريعية الكبرى .
إن جل الأزمات التي لا زال يعاني منها الحزب اليوم هي أزمات مركبة ومزدوجة تتأرجح بين المشاكل الذاتية المسؤول عنها الحزب نفسه ؛ والمشاكل الخارجية نتيجة الإختراقات المتعددة التي يتعرض لها من الخارج ,وهذا ما جعل المؤسسة الحزبية في كل مشاريعها السياسية تراوح نفسها ,ويظهر ذلك من خلال عجزها المتكرر في خلق ثقافة سياسية ومشهد سياسي خارج النسق العام, أي النسق الذي تحدده الدولة أي "المخزن" ؛ وهذا الوجه يبدو أنه الحاضر بقوة في المشهد اليومي الحزبي، فالإستقلالية في المواقف السياسية وفي صياغة المشاريع السياسية التي تبقى الشرط الأساسي في العمل الحزبي أصبحت مغيبة لدرجة اللااستقلالية, وهذه مصيبة كبرى ؛ وسأحاول في هذه المقالة أن أقدم رؤيتي المتواضعة حول المسألة الحزبية بالمغرب وبعض المشاكل والمعيقات والتحديات التي تواجهها ؛ وتبقى مساهمة متواضعة في حلحلة المعضلة الحزبية والتي أفاض واستفاض فيها ثلة من الباحثين السوسيولوجيين والمحللين السياسيين ؛ لكن المسألة الحزبية تبقى متجددة ومستمرة في كل المناسبات الإنتخابية الموسمية ؛ وبالتالي فإن مساءلتها بعين متفحصة وناقدة يجب أن تبقى مستمرة, لعلها تسعفنا في فهم واستيعاب كيفية اشتغالها والكشف عن مشاكلها وعوائقها سواء الداخلية أو الخارجية, وأدوارها المستمرة في تشكيل الخريطة السياسية المغربية .
أولا : الحزب : واجهة سياسية بجذور قبلية
إن الدارس للأدبيات الحزبية مغربيا لا بد وأن يجد نفسه مضطرا للعودة إلى ذلك السياق التاريخي الذي تشكلت فيه المؤسسة الحزبية , حيث عملت هذه الأخيرة على توجيه مختلف المسارات السياسية والإجتماعية لأغلب التنظيمات والنظم السياسية والعمل على رسم المعالم الكبرى للمشهد السياسي مستقبلا ؛ وهذا السياق هو ما يمكن أن نصطلح عليه "بالقبيلة" . فالبدايات الاولى للمسألة الحزبية خرجت من الطبيعة القبلية للمجتمع المغربي في مراحله الأولى والذي شهد وجود تنظيمات سياسية تقليدية قبل وجود الحزب كالزاوية وجماعات التجار والحرفيين ... لكن ما يجب التأكيد عليه هنا هو أن الحزب مغربيا لم يتكون نتيجة مطلب اجتماعي مدعوم من قبل شرائح وطبقات اجتماعية, بل جاء نتيجة ضرورة وطنية أملتها ظروف التخلص من الإستعمار والتبعية من أجل التحرر والسيادة الوطنية . وهذا قد يفسر إلى حد بعيد اليوم كيف أن المؤسسة الحزبية بعيدة عن المواطن وغير قادرة على التغلغل والتأثير في الطبقات الهشة في المجتمع ,لأنها لم تتكون في أحضان المواطن وهمومه ومشاكله ولم تكن معبرة عن طموحاته وتطلعاته ؛ الأمر إذن له جذور تاريخية يصعب التخلص من إفرازاتها وتأثيراتها على العملية الحزبية اليوم, التي تنسج مشاريعها وخطاباتها السياسية بعيدة عن روح مبدأ تمثيلية المواطن في المؤسسات السياسية الكبرى .
إن التشريح السوسيولوجي التاريخي للظاهرة الحزبية في المغرب يقودنا مباشرة إلى الإعتراف وبدون تردد أن المؤسسة الحزبية خرجت من رحم القبيلة والزاوية ,حيث عملت هاتان المؤسستان على اختراق المشهد المجتمعي برمته أفقيا وعموديا ,وبالتالي لا يمكن فهم أي تنظيم خارج السياق الذي ترسمه المؤسستان معا والتي تنحث معالمه الكبرى , نظرا للإمتداد والإختراق المتواصل لأبسط مظاهر الحياة السياسية ؛ فقد تتحدث الدولة اليوم وكل من يدور في فلكها من أن العملية السياسية قطعت أشواطا كبيرة من أجل الوصول إلى ما يمكن أن نسميه ب " الحداثة السياسية " لكن هذا المفهوم يصبح أكثر هشاشة إن لم نقل إضمحلالا كلما بدأنا الحديث عن كيفية اشتغال المؤسسة الحزبية في المحافل الإنتخابية, وكيفية إفراز نخبها السياسية بحيث لم تستطع بعد التخلص من علاقات الدم والقرابة والمصاهرة, ويظهر ذلك جليا في كيفية الإعداد للمؤتمرات والهياكل الحزبية والتي تبنى بالأساس على استغلال علاقات القرابة والوساطات الإجتماعية, وليس على أساس الكفاءة السياسية والإستحقاق الإنتخابي , بل إن الوصول إلى قمة الحزب لا يمر بدون استحضار الوزن والنسب القبلي والعائلي ؛ وبالتالي لا بد من حضور شبكة معقدة من العلاقات التي تفرز في الأخير نخبا سياسية بدون مبادئ سياسية الأمر الذي يوحي أننا أمام قبائل حزبية . فالنخب الحزبية التي تصل الى هرم العملية الحزبية يتم تصويرها كذلك الزعيم القبلي الذي يتمتع بشخصية كاريزمية غير قابلة للتفاوض ولا التنازل عن بعض صلاحياتها , نظرا لما تتمتع به من رأسمال مادي وما تمتلكه من وسائل الضغط والإكراه والذي يتم به تطويع كل المعارضين السياسيين من داخل الحزب ؛ وبالتالي يصبح المال هو القوة المحركة والقاهرة من أجل الحصول على الزعامة السياسية من داخل الحزب وكل هذا يتم على حساب الكفاءة والحنكة السياسيتين, الأمر الذي يفضي إلى تكريس التبعية والولاء كمثله الذي شهدته القبيلة في مراحل تاريخية معينة , وكل هذا يؤدي في الأخير إلى إفراغ المؤسسة الحزبية من القيم الديمقراطية . لكن السؤال الإستنكاري الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو ؛ كيف للحزب أن يحمل مشروعا ديمقراطيا وهو لا يستطيع أن يكون ديمقراطيا حتى مع أعضائه ومكوناته الداخلية؟ إذ أن الإيمان بالديمقراطية يقتضي التعبير عنه داخليا مع من يشاركك في الخط الإيديولوجي والسياسي للحزب ؛ ولعل ما يعزز هذا الطرح هو غياب الآليات الأساسية لتدبير الخلافات الداخلية داخل الحزب والتي كان آخرها الأزمة السياسية التي انفجرت مؤخرا من داخل حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية الذي يعتبر الأب الشرعي للفكر السياسي اليساري بالمغرب , والتي لا زالت مخلفاتها إلى حد اليوم والمهدد في أي لحظة بالتفكك والإنفصال ؛ وكل هذا يؤكد أن المؤسسة الحزبية لا زالت لم تنضج بعد لكي تتبنى الآليات الديمقراطية لحل مشاكلها وأزماتها ,وهو ما ينعكس بشكل كبير على مستوى السلوكات والممارسات الإنتخابية والتي تبدو أنها مغرقة في القبلية وإن كانت بواجهة سياسية .
يبدو إذن أن النزعة القبلية حاضرة في أبرز تجلياتها وتمظهراتها في المشهد الحزبي المغربي ؛ لكن ما يمكن تسجيله هنا هو أن المؤسسة الحزبية لم تستطع بعد التخلص من تلك القيم والسلوكات السياسية التقليدية التي رسختها الزاوية طيلة قرون من الزمن ,أي أن حتى مجرد الإستعداد والقابلية لتغيير الخطابات والممارسات السياسية غير موجودة ؛ وهو ما يوحي أن صفة الأزمة هي الملازمة للمشهد الحزبي على طول الخريطة السياسية .

ثانيا: المؤسسة الحزبية : حصن منيع واختراقات متكررة
إن الدارس للمشهد السياسي برمته والظاهرة الحزبية بشكل خاص, سيخلص إلى أن التناقض المريب والإزدواجية المشوهة هما السمتان البارزتان في انشغال واشتغال العمل الحزبي ؛ فإذا كان الحزب يقدم نفسه دائما بأنه الحصن الحصين أو الراعي الأول لكل المشاريع النهضوية والسياسية فإنه ينسى دائما أنه لم يستطع بعد الخروج من السياج أو السياقات العامة التي ترسمها الدولة ؛ لأنه إذا كان المجتمع المدني في الغرب قد رفع لمدة طويلة شعار "كثير من المجتمع المدني وقليل من المجتمع السياسي " فإن الحزب المغربي اليوم يكرس عكس المقولة ,بحيث إن تغلغل الدولة بأنيابها الحادة في كل الأنساق المجتمعية جعل أول ضحايا هذا التغلغل هو الحزب باعتباره المنافس الأول على صلاحياتها وشرعيتها ؛ لذلك فإن أغلب الأحزاب المغربية لا تتمتع حتى بلغة جريئة ولا تعلن عنوان التحدي في مواجهة شطط الدولة, وهو الأمر الذي خلق لنا ارتباكات كبرى في المشهد السياسي برمته خاصة على مستوى رسم الحدود وخطوط التماس بحيث لم نستطع ان نحدد بدقة متى تنتهي الدولة ليبدأ الحزب ؛ إلا أن هذا الإلتباس يعود بدرجة أكبر إلى التداخل الكبير والغير واضح لمفهوم الدولة مع مفهوم المخزن ؛ لكن يبدو أن مفهوم المخزن هو الأكثر حضورا نظرا للإمتيازات الكبيرة التي يحظى بها ,وبالتالي كانت سياسة الإحتواء الإختراق هما الورقتان الرابحتان في كيفية تجسيد القبضة الحديدية على المجتمع برمته وعلى العملية الحزبية بشكل خاص, وهو ما أدى إلى بروز المخزن كمؤطر وكمرجع للمشاريع ولكل التحركات الخفية والمعلنة للمؤسسة الحزبية ؛ فرغم أن هناك اختلافات كبيرة من حيث الأساس والمبادئ العامة في كيفية الإشتغال (الحزب يعتمد على كل ماهو سياسي ومدني في تحقيق أهدافه ,عكس المؤسسة المخزنية التي تجسد مبدأ العنف وسياسة التطويع ) إلا أن هذا لم يمنع من وجود تناغم وانصهار بين المؤسستين ؛ والسؤال الإستنكاري الذي يطرح نفسه هنا : كيف تستنجد بغير الديمقراطي وتطلب منه أن يكون ديمقراطيا ؟ لذلك لا غرابة ان تجد القيم الديمقراطية ضائعة بين لغة السياسة ولغة العنف والقمع وكلاهما لا يجتمعان حتى في ذهن الإنسان, فكيف سيجتمعان واقعيا وممارسة ؟؛ ولا غرابة أن تجد كذلك في أحسن الأحوال ديمقراطية مشوهة ومعاقة عند بعض الاحزاب لكن قد يتساءل أحدهم مستغربا : أليس من الخطأ تصويرهم أكبر من حجمهم ؟ أو لماذا نحملهم أكثر من طاقاتهم ؟.
ستكون هذه الأسئلة مشروعة لو كان للحزب الإرادة القوية للتخلص من سطو المخزن والرغبة في تحصين وحماية نفسه, ولقلنا حينذاك أن المؤسسة الحزبية لا تعاني من فائض في الهجوم وإنما من عجز في الدفاع ؛ لكن يبدو أن حتى عملية الدفاع هاته غير موجودة وأن المصاهرة والتناغم والصداقة هي العناوين البارزة في هذا السياق ,والتي ثم تحقيقها عبر سلسلة طويلة من الصراع الذي حسم في الأخير لمصلحة القوي بقوة القوة, فما كان للحزب سوى الخضوع والرضوخ لأمر الواقع والدخول في مساومات جعلته يحتضر تحت رحمة المخزن؛ ورحمة المخزن هنا لا تتجسد إلا عبر تقديم تنازلات كبرى عن العديد من المواقف والمبادئ التي ناضل من أجلها جيل من السياسيين الكبار.
إن الأمر يتضح جليا في كل عملية انتخابية بحيث لا تجد أدنى اعتراض أو تحفظ من قبل المكونات السياسية في أن تصهر وزارة الداخلية على العملية الإنتخابية بدل لجنة أو هيئة مستقلة ومدنية كما في التجارب الديمقراطية العالمية ؛ وهذا يوضح أننا أمام عملية تواطؤ تتم بشكل أكثر لطفا وأكثر سلاسة لا تظهر للعيان, بل هو زواج عرفي خفي بلغة القانون , وهذا الزواج لا يتم بدون ضحية بل إن ضحيته الأولى هو تلك العلامة في الورقة التي توضع في الصندوق والتي تذهب في مهب الريح .
لكن ومع كل هذا نجد الخطاب الحزبي اليوم أكثر تعصبا وإنكارا لهذه الحقائق ,ولا زال يقدم نفسه كذلك الحصن الصلب والقوي الغير قابل للإختراق وهذا التناقض والإزدواجية هو ما ينعكس بشكل كبير على مستوى السلوك السياسي والوفاء بكل الشعارات السياسية ؛ فتارة يسوق الحزب نفسه مستقلا في قراراته وتصوراته ,وتارة يستنجد بالخارج لحل أزماته ومعضلاته ؛ وهذه الإزدواجية لا يمكن قياسها بأي حال من الأحوال بمعنى الإستقلالية الحقيقية ؛ والسؤال الاكبر من هذا وذاك , هو كيف تطالب باستقلال كل شيئ (استقلال القضاء؛ فصل السلط ....) وأنت لست مستقلا؟ إن ما ينطبق على الحزب اليوم هونفسه الذي ينطبق على ذلك المناضل الثوري الذي يريد أن يغير كل شيء إلا نفسه ,وهذه مصيبة كبرى .
ثالتا : المؤسسة الحزبية : قبضة نخبوية بدون إنتاج نخب
إن التشريح التاريخي للمسألة الحزبية ببلادنا يقودنا مباشرة إلى كون هذه الأخيرة كانت هي المحتضنة لكل النخب السياسية والفكرية في مشهد يتسم بالإنسجام والتأثير المتبادل ؛ بل إن النخب الفكرية كانت هي من ترسم الخط السياسي والإيديولوجي للخريطة الحزبية ببلادنا, وهو ما قاد في الأخير إلى خلق حزب أكثر هيكلة وأكثر عقلنة وأكثر ارتباطا بأسئلة الإنسان والمجتمع, فكانت المؤسسة الحزبية بحق خير معبر عن روح الوطن وروح المواطن وخير معبر كذلك عن التجارب السياسية والقيم الديمقراطية المرتبطة بشكل وثيق بالقيم الوطنية , فكان حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية في بداية تأسيسه خير معبر عن كل هذه القيم وكل هذا لا يمكن فصله عن دور النخب في رسم الخطوط العريضة والمعالم الكبرى للعملية السياسية . فهل لا زالت تلك الصورة الناصعة لنموذج النخب السياسية والفكرية حاضرة اليوم في مشهدنا الحزبي ؛ أم أن الأمر يتعلق بحزب نخبوي بدون نخب ؟ .
لقد تعرفنا على جل النخب الفكرية والسياسية مغربيا من داخل الحزب أكثر من غيره خاصة في المراحل السياسية الإنتقالية التي مر منها المغرب ,خصوصا في فترة الإحتكاك العنيف مع الإدارة الإستعمارية, حيث هيمن على هذه النخب الهم الوطني أكثر من غيره في محاولة الحفاظ على الوحدة الوطنية خصوصا مع الحركة الوطنية والأمر يبدو أكثر جلاء مع تجربة حزب الإستقلال بقيادة علال الفاسي؛ وحزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك بقيادة المهدي ابن بركة والتي انتقلت به إلى الإغتيال الغامض ؛ لكن هذا لم ينفي وجود نخب فكرية أخرى سنقف عندها , فشخصية علال الفاسي بالإضافة إلى وزنه السياسي, فإن له وزن فكري وإرث ثقافي لا يمكن تجاهله بالمرة كفقيه وكرجل سياسي خلف كتابات ومؤلفات عدة , والأمر ينطبق كذلك على التجربة اليسارية الأخرى خاصة مع التيار الإتحادي الأول , فقد أفرز لنا حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نخبا فكرية وأهراما من الفكر العربي المعاصر , وكلما تذكرنا ذلك إلا وتبادر إلى أذهاننا شخصية مرموقة وهي شخصية المفكر محمد عابد الجابري , فرغم خروجه من تلك التجربة الحزبية بسبب بعض الاختلافات الداخلية إلا أنه لا يمكن إنكار فضل هذا الحزب في التأثير على المسار الفكري لهذه الشخصية , وهذه الحقيقة لم يستطع إنكارها الجابري حتى في آخر يوم من حياته, والأمر ينطبق كذلك على شخصية وازنة خصوصا في الفكر السوسيولوجي وهي شخصية الدكتور محمد جسوس , والتي بصمت بقسط وافر على مسار الدرس السوسيولوجي سواء من داخل الجامعة أو من خارجها والأمر ينطبق كذلك على شخصيات أخرى ...
كل هذا يقودنا مباشرة إلى أن أي تشخيص للمعضلة الحزبية اليوم لا يمكن أن يتم خارج معضلة إفراز النخب الفكرية والسياسية , فالخريطة الحزبية اليوم تعج بالخطابات السياسية أغلبها يسيطر عليها الخطاب الشعبوي , لكنها تفتقد للخطابات الثقافية والفكرية المتزنة وهو ما يلاحظ بشكل كبير في المناسبات الانتخابية وفي كل المشاريع السياسية , فالخطاب السياسي اليوم أصبح ما يشبه سوقا استهلاكية همه الأكبر هو استهلاك الأفكار والمفاهيم والخطابات, بدون إنتاج أو تأسيس لخطاب صلب ومتماسك. وهو ما يفسر أننا أمام أزمة فكرية وليست سياسية بالدرجة الاولى , فعندما يتقهقر الخطاب السياسي إلى مستوى التراشق بالمفاهيم النابية الغير مقبولة حتى شعبويا فهذا يعني أننا أمام ثقافة سياسية منحطة مصدرها نخب سياسية هشة لم ترتقي إلى مستوى النخب بالمعنى الحقيقي, وهو ما يفسر كذالك أننا أمام انعدام القيم الديمقراطية التي تؤمن بالاختلاف السياسي , وكل هذا ينعكس بشكل مباشر على السلوك السياسي المجسد للخطاب السياسي المشوه , لكن الجزء الأكبر من هذه الازمة يتجسد في كون الحزب اليوم لا يستند إلى شرعية فكرية وغير قادر على إنتاج نخب فكرية تؤطر العملية الحزبية , فالفرق بين الماضي والحاضر لا يمكن أن يفهم بالمرة خارج هذه المقاربة , أي مقاربة النخب , فالحزب كان قريبا من المواطن لأن النخب الفكرية كانت هي من تنسج الخطاب السياسي والاجتماعي كذلك , ولذلك لا غرابة أن نجد ازدواجية في الخطاب والممارسة لأن له ما يبرره موضوعيا اليوم ,فعلى طول الخريطة الحزبية لا يمكنك أن تعثر على مثقف له وزنه الفكري على الساحة العربية , حتى وإن وجد فإنه لا يمتلك زمام المبادرة وصناعة القرار السياسي, لأن القرار يكون لمن يمتلك القوة وليس لمن يمتلك الفكرة,وهذه مصيبة كبرى.
وقد يستغرب القارئ لذلك العنوان المتناقض الذي وضعته, وهو أن الحزب اليوم نخبوي
ولكن بدون إنتاج نخب , فالملاحظة التي يمكن تسجيلها هنا هي أن غياب النخب الفكرية فسح المجال أمام بروز النخب الاقتصادية التي تمتلك وسائل الإكراه والخضوع , والتي تعتبر اليوم من أبرز مظاهر الأزمة الحزبية ,حيث لا زالت تتخبط تحت رحمة النخب الاقتصادية الممتلكة للقوة المادية , لذلك من الصعب جدا أن نعثر اليوم عن حزب إلا وتجد فيه أن من يمتلك المناصب المؤدية إلى نموذج الاستوزار, لابد وأن تجد وراءه مؤسسات اقتصادية كبرى إما يمتلكها أو مستعارة بأسماء أخرى , فيتم استبدال السلطة السياسية بالسلطة المالية أو الإقتصادية , وهو ما ينتج لنا في الأخير مواقف سياسية قابلة للبيع والشراء .
إن الأزمة الحزبية اليوم هي أزمة نخب بالدرجة الأولى , تتداخل فيها عدة عوامل وحيثيات تنتج لنا في الاخير خطابا سياسيا شعبويا ,ومشاريع سياسية مشوهة , وديمقراطية معاقة , وبين هذا وذاك قبائل سياسية لا أقل ولا أكثر , يهيمن عليها الإقتصاد والتجارة , وتحصنها السياسة , ويقننها الدستور ,وكل هذا وذاك ضمن سيناريو سياسي عنوانه الأبرز "إذا كنت تخاف من الملاحقة والمحاسبة والمتابعة فالحزب يضمن لك الحصانة".
على سبيل الختام
إن ما يمكن استخلاصه من خلال ما قيل سابقا ,هو أن المؤسسة الحزبية مغربيا لا زالت تتخلف عن الموعد ولم ترتقي إلى مستوى الحدث المطلوب , فكانت ولازالت إما هشة البناء , وإما سهلة الإختراق ,وإما قبلية الإنتماء , فأصبحت مدرسة لإنتاج الأعطاب والأزمات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا, تحت عنوان عريض " الفشل السياسي يناديكم".


- عثمان بوعرفة
- طالب في علم الاجتماع



#عثمان_بوعرفة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سؤال الثقافة في ظل العولمة
- سؤال الدولة الإسلامية في ظل الربيع العربي


المزيد.....




- تحليل: رسالة وراء استخدام روسيا المحتمل لصاروخ باليستي عابر ...
- قرية في إيطاليا تعرض منازل بدولار واحد للأمريكيين الغاضبين م ...
- ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل لمواصلة المجازر في غزة؟
- صحيفة الوطن : فرنسا تخسر سوق الجزائر لصادراتها من القمح اللي ...
- غارات إسرائيلية دامية تسفر عن عشرات القتلى في قطاع غزة
- فيديو يظهر اللحظات الأولى بعد قصف إسرائيلي على مدينة تدمر ال ...
- -ذا ناشيونال إنترست-: مناورة -أتاكمس- لبايدن يمكن أن تنفجر ف ...
- الكرملين: بوتين بحث هاتفيا مع رئيس الوزراء العراقي التوتر في ...
- صور جديدة للشمس بدقة عالية
- موسكو: قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا أصبحت على ق ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عثمان بوعرفة - رؤية نقدية حول واقع المسألة الحزبية بالمغرب.