|
موت السلطة اللاهوتية في العقل الجمعي العراقي
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 4881 - 2015 / 7 / 29 - 09:17
المحور:
الادب والفن
لا يقتصر كتاب "الأسلمة السياسية في العراق . . رؤية نفسية" للباحث فارس كمال رمزي على مفهوم الأسلمة السياسية وإنما يتعداها إلى مجموعة من المقالات والأوراق الفكرية التي تتمحور حول الحرية الفردية، والاستلاب، والاغتراب، ودراسات معمقة للشخصية العراقية بمختلف ألوانها الفكرية ومشاربها الثقافية المتعددة التي تُؤمن بأسبقية الوطن على الدين، وتُقدّم الهُوية الوطنية العراقية على كل الهُويات الفرعية التي يتكوّن منها النسيج الاجتماعي العراقي المتعايش منذ آلاف السنين. لم تسعَ الأحزاب الإسلامية العراقية إلى أسلمة السلطة والدولة حسب، وإنما اندفعت بكل ما تملك من قوة وجبروت لأسلمة الفرد والمجتمع العراقي برمته مستعينة هذه المرة بصناديق الانتخابات خلافًا لنظريتهم القائلة بحتمية الحكم للشريعة الإسلامية الأمر الذي أفضى بهم إلى "التناشز المعرفي" القائم على تبنّي مفهومَين متناقضين يجمعان بين القيم الغربية الديمقراطية المؤمنة بتداول السلطة وحتمية الحكم للشريعة الإسلامية وحدها. وإذا كانت تركيا وماليزيا قد حافظتا على الهُوية الإسلامية مقابل الإبقاء على علمانية الدولة والسلطة فإن "العراق الجديد" قد فرّط بهذه العلمانية وألحقَ مصير البلاد والعِباد بقوى ما وراء الطبيعة وجرّد العراقيين من مهمة التفكير والاجتهاد وإعمال الذهن وأنتجَ في خاتمة المطاف نموذجًا مقيتًا لـ "الطائفية السياسية" التي نقلت المسلم من ذاته الاجتماعية المتسامحة والمتعايشة مع الآخرين المغايرين له إلى ذاته المنغلقة المتصادمة معهم حتمًا مع سبق الترصّد والإصرار. يتخذ فارس نظمي، وهو الباحث المتخصص في سايكولوجيا الشخصية والمجتمع والسياسة،من علم النفس مرجعًا علميًا للتحليل النظري القائم على الرصد والمقايسة العقلانية والاستنتاج من دون أن يتبنّي أي منظور أو مُعتقد ديني أو مذهبي أو آيديولوجي. وقد كشفت أبحاثه ودراساته عن رؤية علمية ثاقبة تسمّي الأشياء بمسمياتها وتضع الأمور في نِصابها الصحيح ويكفي أن نشير إلى مقاله القيّم "سايكولوجيا المنطقة الخضراء" الذي يحلل فيه شخصية السياسي المُعوْلَم الذي يتصف بالنزعة الديماغوجية، والنظرة البراغماتية، والتبعية العُصابية لمراكز القرار وما إلى ذلك. ثم يعرّج على السياسي الطائفي المُعولَم في العراق تحديدًا ليكتشف أنها "شخصية سايكوباثية، فاسدة، تفتقر إلى التحليل الجدلي، ولا تمتلك هُوية سياسية فلاغرابة أن تلوذ بالهوية الطائفية سدًّا للنقص المروّع الذي تعاني منه"، وأكثر من ذلك فإنها تستعين بالمليشيات والدروع البشرية والكونكريتية كي تحميها من غدر "الآخر" أو تقدم على تصفيته استباقيًا بوصفه "العدو" والشريك في العملية السياسية في آنٍ معا. تُرى، لماذا أدارَ الأميركيون وجوههم للعلمانيين والليبراليين واليساريين العراقيين وعقدوا قِرانهم المؤقت على النخب الطائفية المتأسلمة؟ ولماذا صمَتَ اليسار العراقي إلى حدّ التغافل والإهمال فاسحًا المجال للمتأسلمين الذين أعادوا العراق إلى عصور التبعية والتخلّف والظلام؟ كشفت استطلاعات الرأي التي قام بها الباحث غِبّ سقوط النظام السابق عام 2003 أن نسبة %69 من وسط وجنوب العراق يؤيدون قيام نظام حُكم إسلامي ونسبة %31 يؤيدون قيام نظام حكم علماني، لكن هذه النسبة ستنقلب رأسًا على عقب عام 2010 فغالبية العراقيين يؤيدون قيام دولة علمانية تتقدم فيها هوية الوطن على كل الهويات العِرقية والدينية والمذهبية والطائفية. يصف فارس نظمي العراقيين بـ "المجتمع الرهينة" وهم كذلك لأنهم مُرتهَنون للأنظمة المُستبدة والحروب والحصارات، واللامعيارية المجتمعية، والفساد السياسي والإداري والأكاديمي، والفوضى المرورية، وانهيار الخدمات، ومُحاصرة الجمال بفايروسات القُبح التي شوّهت بلاد الرافدين برمتها، الأمر الذي يدفع الباحث إلى طرح تساؤل مشروع مفاده: "لماذا نحن العراقيين سلبيون إلى هذه الدرجة وخانعون إلى هذا الحدّ؟" ويأتي الجواب شافيًا بأن الشخصية العراقية "هي شخصية مازوشية تنزع إلى استعذاب الألم، ومرّد ذلك هو طقوس التكفير عن الذنوب سواء أكانت فردية أم جماعية وتوجيه اللوم إلى الذات لتسويغ المظالم. كما أنّ هناك منْ يفكِّر بالنيابة عنّا مثل البعثيين سابقًا أو عناصر الاحتلال لاحقًا ثم المتأسلمين وأدعياء الوصاية الإلهية على عقول الناس. على الرغم من أنّ الشخصية العراقية انفصامية حيث نرى آلاف العراقيين يلعنون بعض مرشحي قوائم المتأسلمين لكنهم يهرعون لانتخاباهم تحت وطأة مشاعر الذنب وخوفًا من عقاب الآخرة لأن هذا البعض ما يزال مرتهنًا لسلطة المتأسلِم الذي يلعب دور الوسيط المقدس بين الإنسان وربّه. يعتقد الباحث أن هذا النهج الخاطئ لن يطول فسوف تشهد السنوات القادمة بطلان فكرة الرهينة، وعدم أحقيتها، كما سينتهي الابتزاز الطائفي التعصبي لأن الرهينة بدأت تشكِّك وتطرح الأسئلة. يعتقد الباحث بأن الشخصية العراقية بدأت بالتحول الجذري ولم تعد تشعر بعقدة "الذنْب الجمعي" ولا تمارس جلْد الذات لأنهم بدأوا بممارسة الاحتجاجات الشعبية فيما أطلق عليه بـ "انتفاضة الكهرباء" التي ألقوا فيها اللوم على المسببين لهذه الأزمة ولم ينتقصوا من ذاتهم العراقية ويبخسوها حقها وهي إشارة واضحة إلى انعتاق المظلوم من وهم تبرير مظلوميته مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الإنسان مجبول على البحث عن اللذة وتفادي الألم. لا يمكن مسخ الهوية البغدادية القائمة على النخبة الثقافية والصفوة السياسية اللتين أنتجتا التكنوقراط والأكاديميين ورجالات السياسة، وأكسبت الشخصية العراقية خصائص التذوق الجمالي، وغلّبت قيم التمدن والحضارة، وشجعت على الاستعانة بالقانون المدني بدلاً عن الولاءات العِرقية والعشائرية والطائفية. وبما أن مُهيمنة "البدوية السياسية" قد زالت، وأن الاحتلال قد رحل، فإن اللاهوتية السياسية لن تدوم طويلاً وأن الهُوية البغدادية باقية كمفهوم نفسي يحّرك العراقيين صوب هويتهم الوطنية التي لا يمكن الاستغناء عنها لأنها ببساطة تُشبه الماء أو الهواء! لا شك في أن تحليل الشخصية العراقية سواء أكانت شيعية أم مسيحية أم شيوعية هي من أغنى مقالات الكتاب على الرغم من أن هذا الغنى لا يقلل من أهمية المقالات الأخرى التي ترصد الاحتجاجات الجماهيرية، واليقظة العراقية، وموت السلطة اللاهوتية في العقل الجمعي العراقي. ما الذي يريده شيعة العراق تحديدًا؟ أيريدون الاستمرار في اجترار المأساة الكربلائية، أم يريدون تقويض أركان الظلم الاجتماعي لاستعادة حقوقهم الطبيعية في وطنهم؟ يمكن الاستنتاج بسهولة بأن العقل الشيعي متناقض وإتكالي يعوّل على ظهور المهدي المنتظر ليملأ الأرض عدلاً فلاغرابة أن يظل هذا العقل متقاعسًا ومُنتظرًا الفرج على يد إمام قد لا يظهر أبدًا! كما تكشف الطبيعة البشرية عن قدرتها على التكيّف مع الفواجع والأحزان أو تهدئتها والتخفيف من حدّتها في الأقل، غير أن العقل الشيعي مسكون بهاجس جلد الذات واستعذاب الألم للتخلص من عقدة الذنب الموروثة التي ارتكبها الأجداد في الماضي البعيد. يصف الباحث الشخصية الشيوعية بأنها مُغرمة بتغيير العالم بالأساليب السياسية والثقافية والاجتماعية وأن نقاط القوة لديها هي الإيثار والزهد والنخبوية والعاطفة الإنسانية ولا يمكن تصور حكومة عراقية رشيدة قادمة من دون الشيوعيين. أما الشخصية المسيحية العراقية فهي مسالمة، ومتسامحة، وانبساطية، ومتزنة، كما أنها الأكثر تحضرًا وانفتاحًا على الآخر. ويخلص الباحث إلى القول بأن العراق ليس عراقًا من دون المسيحيين الذين تركوا بصماتهم الواضحة على المنجز العراقي برمته منذ أكثر من ألفي سنة وحتى الوقت الراهن. إذا كانت الثورة المصرية قد وُصفت بأنها "ثورة الطبقة الوسطى" فإن الثورة التونسية هي "ثورة عقول لا بطون" إلا أن الاحتجاجات العراقية تجمع بين العقول والبطون في آنٍ معًا على الرغم من ترجيح هذه الأخيرة التي تطالب بتعزيز البطاقة التموينة، وتوفير الخدمات، وإيجاد فرص العمل للمتظاهرين الشباب الذين ضحّوا بالغالي والنفيس لكن قِطاف ثورتهم قد ذهب إلى سلّة اللاهوتيين الذين لم يشتركوا في الثورات والاحتجاجات إلاّ بنسبٍ ضئيلة لا تستحق الذكر.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معاناة المسلمين الأيغور
-
فيلم امرأة من ذهب لسايمون كيرتس
-
الخامسة علاوي ومقترح الأدب الجغرافي
-
-الولد الشقيّ- الذي يحمل مفاجآته معه أينما حلّ أو ارتحل
-
الولد الشقيّ الذي يحمل مفاجآته معه أينما حلّ أو ارتحل
-
انهيار الجلاد وانتصار الضحية في ثاني أفلام المخرجة أنجلينا ج
...
-
تجنّب عادة الاستظهار واللجوء إلى تحليل القصائد
-
فنّ الشارع بين الدعاية والتحريض
-
الرحيل تحت جنح الظلام 1
-
حُب وعنف في المتاهة الملحيّة
-
بناء القصة السينمائية
-
امرأة صينية تدجِّن شراسة الصحراء
-
أطفال كورد يحلمون بالوصول إلى الفردوس المفقود في المحار المك
...
-
اصطياد اللقطات اللونية المدهشة في صحراء نيفادا
-
التطرف الفكري في رواية -الأشباح والأمكنة- لذياب الطائي
-
تكريس الدعاية الرأسمالية في فيلم-صُنع في الصين- لكيم دونغ-هو
-
الرسم بالضوء لاصطياد اللحظات الهاربة
-
كُتّاب بريطانيون يعيشون على حافة الفقر
-
هشاشة البناء الدرامي والرؤية الإخراجية المشوشة
-
قدحٌ من الدموع المجففة إلى أوديت
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|