نور العذاري
الحوار المتمدن-العدد: 1345 - 2005 / 10 / 12 - 10:32
المحور:
الادب والفن
فــي مغارة الحزن والشجون .. اجلس وحدي يا صديقتي وعيناي تحدقان إلى المجهول , كالذين ينظرون إلى سلالم الطائرات بانتظار الأحبة الذين مضوا بعيدا عن هذه البلاد التي أكلت بنيها.. أولئك الذين مضوا إلى الخارج هربا من المواجهة .. وخوفا من ملاقاة المصير .. مخلفين ورائهم تلك الأطلال الخربة .. وتلك المدامع التي تنزل على وجنات الأحبة والأصدقاء عندما يخيم الظلام على بلد لا تتراقص نجومه ..
اجلس يا صديقي وفرشاتي بيدي .. ومجموعة من الألوان أمامي كتلك الألوان البراقة التي نتلون بها نحن البشر .. امسكها لأرسم صورة لك في معبد القدر كمن يرسم لوحة أسطورية على " جدران كنيسة كاثوليكية قديمة " ..
في معبده ...اجلس لأنقش رسمك على الجدران كأولئك القساوسة الأسطوريين الذين يقدسون الجمال في أجزاء صغيرة يجعلونها بارزة كشمس الظهيرة ..أجعلك في معبده كتلك الآلهة الرومانية الرائعة الجمال .. اتحداه ..أضع أصابعي في عينيه من اجل أن أكون أنا أنا، أنا السيد في زمن انعدمت فيه السيادة ..
في معبده .. رايتهم .. اولئك اللاهثين وراء المال والشهرة .. يسجدون في معبده .. يقدمون الهدايا والنذور .. ويجلسون هناك .. كأولئك الفقراء الذين ينتظرون أدوارهم في عيادة طبيب مشهور وصل به الجشع حد الدناءة .. يجلسون وينتظرون أدوارهم في محكمة القدر .. تلك المحكمة التي تصدر أحكاما كالتي يصدرها الحكام في ألعاب كرة القدم التي تقام بين الدول الكبرى ...
لقد سئمت اللعبة .. فانا رجل اكره اللعب غير النزيه .. وامقت أولئك الذين يحاولون أن يتحكموا في مصائرنا .. اكره ذلك القدر اللعين الذي يحاول أن يفرق بيننا وبين من نحب .. لذلك قررت أن انتفض .. أن أعلن رأيي وبصراحة .. اذن ما دوري في الحياة وما سبب وجودي إن لم اتخذ القرار وحدي وبسرعة وبدون تردد .. قررت أن انتفض عليه وعلى أولئك الذين يطوفون في معبده كدابة الناعور ..
أول ما خطر لي هو أن اذهب إليه وابصق في وجهه القبيح ذلك الذي تملأ صوره المكان فأكاد أتقيئ كلما رأيت واحدة منها .. حزمت أمري وقررت الذهاب إليه .. ولماذا لا اذهب إليه ؟؟ .. وأي شيء أخشى ؟؟.. حملت فأسي في رقبتي وأخذت امشي في الممرات المليئة بالتماثيل المقيتة .. حينما ترى تماثيل روما القديمة تشعر بالسرور و اللذة وأنت تشاهد تلك الحسناوات الرائعات الجمال , ولكن حين ترى تماثيل معبد القدر .. تلك التماثيل التي يصنعها بيديه فتغدوا أصناما تعبدها الشعوب الفقيرة التي حطمتها عروش الطغاة .. حين تراها تشعر بالحيوانية المقيتة كمن يشاهد فلما أبطاله ساديون ونرجسيون ..
مسكت فأسي وأخذت اكسر تماثيله المقيتة وكنت عازما أن اذهب إليه لأبصق في وجهه بعدما ضقت ذرعا به ثم عدلت عن رأيي وقررت الانسحاب لا لأنني أخشى المواجهة , بل لأنني تعاليت عن أن انزل إلى ذلك المستوى المتردي وان اعمل أشياء يعتادها أبناء الشوارع .. لذلك كله يا حبيبتي .. حملت حقائبي المليئة بالذكريات والأوجاع ..حملت حقائبي وكلي فخر بأنني أنا الذي ربحت الجولة .. وبأنني أنا المنتصر .. كان انتصاري هو أن الجميع يرسمون في معبده لوحات لذلك القدر اللعين ..أما أنا فقد رسمت لك لوحة كتلك اللوحات الأسطورية وأنت ترقصين بذلك الفستان الليلكي المشرشح الأكمام .. وجدائلك تتدلى على كتفيك كقطع الليل المظلم يتوسطها وجه كالقمر حين يصير بدرا في ليلة سمائها صافية من الغيوم ..
*************************
حملت حقائبي المحملة بالهموم والأحزان .. تلك الأمور التي أصبحت معتادة في حياتنا اليومية كالطعام والشراب .. آه يا صغيرتي .. كدت أنسى أوقات سعادتي التي عشتها معك وأنا في اشد حياتي عسرا ومرارة .. تلك الساعات التي تمر لحظة ثم تنثني كشمس القارة القطبية !!..لذلك عمدت إلى تخبئتها في محفظة نقودي وربطتها على محزمي كما يفعل الحجيج في مواسم الحج!! .. خرجت من معبد القدر اللعين لأجوب الأزقة والطرقات بحثا عنك في مدينة تلوكها أنياب الحزن والدمار .. تطحنها رحى الحروب كما تطحن امرأة عراقية مستعبدة الحنطة برحاها وهي تنشد ( المجرشة ) .. أجوب الطرقات والشوارع المزدحمة بالرذيلة.. والمزروعة بالقنابل والمفخخات.. والمنقوشة بدماء الأبرياء التي ترسم أروع لوحة أسطورية يعجز فنانو العالم عن رسمها ..
أجوب الأزقة والطرقات ليلا والقمر يخفق بضوئه الفضي اللامع على سماء هذه المدينة التي ألفت الظلام , بينما أنت ترقصين " حافية القدمين " عن سطحه كأنما ترقصين على بقايا صدر صار أطلال هشيم بعدما سحقته العروش التي عواميدها من الجماجم .. وشعرك الغجري الأطراف يخفق في أفق الكون ليرسم لوحة ما أروعها .. تأخذني معها إلى عوالم غريبة لم آلفها ولم اعتد عليها .. وفجأة .. وإذا بصوت يشدني من أعماقي .. يجذبني بقوة كنسر يجذب فريسته الصغيرة .. التفت ورائي لأجدها مرمية غارقة في دمائها تنازع الروح .. لا اعرف .. مالذي دفعني لأركض إليها .. أنا لا أعرفها من قبل , ولم أفكر في امرأة إلا محبوبتي الأزلية .. تلك التي ابحث عنها بين أطلال هذا الوطن كما يبحث منقبوا الآثار عن احد جثامين الفراعنة القدماء .. لا اعرف مالذي دفعني إليها .. هل هي الشفقة والرأفة بحالها ؟؟.. أم ماذا ؟؟.. مهما تكن الأعذار والمبررات فاني قد ذهبت إليها .. حملتها بين ذراعي كطائر يحمل طعامه .. إنها تتأوه " كنجمة أرهقها السفر " ..وهي ممدة بين ذراعي .. اعرف يا صغيرتي .. اعرف جيدا إن يديّ خشنتان لدرجة أنهما يؤلمانك كأشواك الصبير .. ولكن ماذا افعل ؟؟.. فانا لم اعتد الجلوس في السراديب المكيفة ..لم اعتد الاختباء في الجحور .. لم اعتد أن يقدم لي احدهم طعامي بعد أن يبدي لي فروض الولاء والطاعة كما يفعل بعض الساذجين والمتملقين إزاء أولئك المتشحين بالقداسة ,أصحاب البروج العاجية المبنية على دماء الفقراء ...
آه .. يا صغيرتي ..لا تتألمي من جراح يدي .. فهذه جراح خلفتها تلك العروش الجبارة التي تحاول أن تبقينا تحت أقدامها ..
لا تزال تتلوى بين ذراعي وأنا احكم القبضة جيدا كصياد محترف .كانت ترتدي ثوبا احمرا منزوع الأكمام , يكشف عن بياض كتفيها .. وجزء من صدرها .. وساقيها ..إنها تنزف بشدة ..ذراعاي تمتلئان بالدماء .. ما باليد حيلة .. اضطررت إلى حملها نحو اقرب مستشفى رغما عني .. لم أكن راضيا عما حدث ذلك إن لي هدفا واضحا خرجت من اجله ..
دخلت إلى المستشفى التي كانت مزدحمة بالمرضى كما تزدحم موانئ السويس بالبضائع..ملك الموت مع جماعته ينتظرون شحن من انتهت حياتهم إلى الملأ الأعلى ..
وجوه الحاضرين , أرضية المستشفى , ملاءات الأسرة التي يموت البشر عليها ويحيى وهي باقية في مكانها .. كلها رمادية اللون تميل إلى الصفرة فتشعرك بالموت القريب ..تعيدك إلى مواطن الجياع حيث ينهش الفقر لحوم الضعفاء فتسيل دمائهم صفراء لزجة!! ..
وضعت صغيرتي على أول سرير صادفني ثم أخذت أنادي على الأطباء الذين بدا بعضهم كأولئك الجزارين الذين يعملون في مذابح المواشي!! .. جاء احدهم ليعالجها , قلبها كما يقلب جزار محترف ذبيحته ,وبعد إن جس مكانا وغمز أخر كضرير يكتشف طريقه ..ضغط على بطنها بيديه ثم وضع سماعته على قلبها وأطال التنصت كلص يحاول فتح خزانة سرية .. وأنا انظر إليه , يملؤني شعور خليط مابين الإعجاب والاشمئزاز .. أخيرا التفت إليّ هذا الجزار!, عفوا اقصد ( الطبيب ) ليخبرني أن حالتها استقرت ولكنها تحتاج فورا إلى متبرع بالدم , يعطيها من دمه ..آه , يا للكارثة .. أسأعطيها من دمي ؟؟.. رباه .. أنا أؤمن أن الدماء لا تعطى إلا للوطن والمحبوب فكيف سأعطيها من دمي ؟؟..
أنا اشعر أن قدمي بدأتا تنزلقان إلى الهاوية .. ولازالت هي ممدة أمامي كحورية البحر، تلك التي تغري الصيادين بإتباعها , تأخذهم إلى تلك المجاهيل التي لا نعلم عنها شيئا .. وحورية البحر هذه بيضاء كصغيرتي التي تلف ساقيها على بعضهما كذيل السمكة ..
إنها تنظر إلي .. عيناها غائرتان إلى الأعماق , وبريقهما يكاد ينطفئ .. أما أنا فأحاول الفرار ولكن من دون جدوى .. سامحيني يا حبيبتي, سامحيني إذا توقفت قليلا عند إحدى المحطات .. فانا كبدوي يسافر عبر الصحراء في رحلة طويلة , وقته ضيق جدا وهدفه واضح لكنه يتوقف قليلا في إحدى الواحات ليشرب ما يبل به ريقه .. وأنا كذلك .. لكن الأمر مختلف هنا .. فانا سأعطي , سأعطي تلك الصغيرة دمي , سأسكب عصارة روحي في شفتيها الذابلتين .. اسمحي لي يا حبيبتي أن أتصرف كالمراهقين ولو لمرة واحدة ..لكي اقبلها .. لكي ارشف فاهها كفنجان قهوة إيطالية عند الصباح .. آه , إنها لا تزال بعد صغيرة جدا لا تفقه شيئا عن الحب .. أما أنا , فانا العجوز الهرم الذي يجوب البلاد بحثا عن وطن وحبيبة .. كم هي رائعة تلك الشفتان اللتان تبدوان كتينتين حان وقت قطافهما .. إنها تتأوه .. اعرف يا صغيرتي إن لظى شفتي يؤلمك .. انه لهيب الحب والفراق ..مازالت شفتاها ذائبتين في شفتي وأنا أتذوقهما، ارشفهما كمن يرشف كأس نبيذ أسباني , اشعر أن روحها بدأت تنساب بين شفتي .. لا، بل إن عصارة روحي , ذلك اللهيب الذي في صدري بدأ ينساب إليها , بعثرت شعرها .. قبلت كتفيها و شممت مجرى العبير بين نهديها حيث يستقر قلب ذهبي يتدلى من عنق كجيد الغزال ..في ذلك القلب الذي بين النهدين رأيت حبيبتي وهي ترقص السامبا وتناديني لأضع لها زهرة غاردينيا على شعرها الغجري الأطراف .. سامحيني يا صديقتي .. سأطبع على جبينك قبلة وداع وأغادر .. فانا رجل قدر له أن يسافر كالشمس بحثا عن وطن لم يبق منه إلا أطلال هشيم علّه يستطيع حفظ ما تبقى منه وعن محبوبة لم تبق منها إلا صورتها المعلقة على حائط الجدار ورسمها المحفور في القلب , اسمها المنقوش على سطح القمر، علّه يستطيع أن يبعث الروح فيها من جديد .. فإن لم يستطع ذلك فقدره أن يتحطم على ارض وطنه كالبلور ليصبح هشيما في أطلال هذا الوطن .
#نور_العذاري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟