|
جنزير من ذهب
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 4870 - 2015 / 7 / 18 - 10:27
المحور:
الادب والفن
باحة الدار ليست بالكبيرة، باحة تُظَلِّلُها شجرة توت، باب الدار الحديدي يُفْتَحُ إلى الشارع الرئيسي مباشرة، ثَمَّة "تنكات" حبق وياسمين على الحائط، الباحة نظيفة وباردة، شَطَفَتها العَمَّات بعناية وفرشوها بالحُصُر الصفراء والبُسْط الملونة، اِفْتَرَشَوها أولاد وبنات بأرجلٍ وسخة ومتعرقة، بأفكارٍ حائرة، أولاد وبنات يتحرَّكون بحَذَر، يجلسون بتأهّب، يَتَوَشْوَشون فيما بينهم بخجل، بعضهم يقرقش بسكويتاً رخيصاً تحت أضراسه، بطون البعض الأخر تتنافس بالقرقعة ..
وزوج العمة بنظارته السوداء وعصا الخيزران، بشملته الحمراء والحذاء الأسود الملمّع، بجاكيت الجوخ وبطحة عرق في جيبها الداخلي، زوج العمة بغموضه العشائري يشرف على الوشوشات الصامتة والحركات الحذرة للصبيان والبنات .. إلا هو، يجلس مُتكوِّراً على نفسه يضم ركبتيه الصغيرتين بين يديه، يُطأطِئ رأسه، ينظر حوله من خلف نظارته، يبحث عن إخوته، لا أثر لهم! ويخجل بلا وعي مما يحدث، مما سيحدث! ..
يأتي الرجل الغامض إليه، يقف أمامه، يضرب الأرض بعصاه آمراً: "عيب عليك"، انهضْ من هنا وتسلى مع الأولاد. ينهضُ متأففاً مما لا يستطيع القيام به، يهرب باتجاه مطلع الدرج، لديه رغبة بالأكل والنوم فقط! متى يأتيه صحن طعام؟ هناك من يَعّدُ طعام المساء في المطبخ الصغير، الرائحة غريبة عن المكان وعنه، تطبخها أَيْدٍ غريبة .. متى تأتي؟ قالوا: أنّها في الطريق إلى المنزل!
قبل بضعة أشهر سافروا جميعاً إلى منزل أهلها في الضيعة البعيدة، اجتمعت نسوة ورجال حول طاولات خشب بسيطة وُضِعَتْ على السطح بلا ترتيب، حول الطاولات تشكلت مجموعات صغيرة من صبية وبنات للعب والغزل، فرشوا الطعام على الطاولات وعلى بُسط مُدت على السطح ..
إلا هو، كان متعباً وحزيناً، ذهبَ إلى الزاوية المعتمة من سطح المنزل، أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ قبل أن يضع شيئاً في بطنه، سقط في النوم ليستيقظ في اليوم التالي فيجد نفسه في فراشه مُبَلَّلَ الثِّيَابِ، يومها تمت خطبته عليها ..
أخوها هو نفسه صديق خطيبها، يعملان سويةً في شركة المرفأ، سويةً يحملان رزم قضبان الحديد، يُقبّنوها، يربطوها جيداً بأيديهم القوية، يجهزوها للسيدة الرافعة التي لا تغادر مكانها، كلاهما في منتصف العقد الخامس، جسداهما قويان كقضبان الحديد .. ينظرُ أخوها لجسد صديقه المتين كرخام أبيض، إلى يديه الملوثتين بالصدأ، إلى لحيته الشابة التي افترسها الحزن الأبيض قبل الآوان، يضع يده على كتفه ويقول: إنه وقت الاستراحة، دعنا نشرب الشاي ..
في الطريق إلى مستودع الاستراحة يسأل صديقه: أما حان الوقت لترتدي ثوباً من فرح؟ رحم الله زوجتك الجميلة، كانت امرأة جديرة بك .. يجب أن تبحث عن امرأة تهتم بك، تخدمك حتى لو لم تشبهها! .. يجيبه بحزن: أين سأجدها في هذا العمر وأنا الأب لسبعة أولاد!؟ .. يربت على كتفه: أعرف صبية طيبة ستوافق على رجولتك، إنها أختي: سمراء، قوية تحمل الحطب من الوادي إلى قمة الجبل، تسبح في النهر العميق طويلاً، تقطعه من جهة إلى أخرى و لا تُنْهَك ولا تغرق، امرأة يُعْتَمَدُ عليها! ..
في اليوم نفسه وبعد انتهاء الدوام، غيرا ملابسهما، غسلا يديهما ووجهيهما، أدارَ الأخُ موتوره، ركب الصديق خلفه وسافرا بعيداً إلى تلك الضيعة الحزينة لرؤية العروس النصيحة ..
واليوم، لعله بعد دقائق معدودات ستأتي، إنهم يطبخون لأجلها، غسلوا الشارع لأجلها، جمعوا الأولاد لأجلها، إنها تأتي، زوج العمة الغامض يصيح بالنسوة في المطبخ: يا فهيددددددة .. أحضريْ فنجان القهوة وصحنه، صوت محرك الميكروباص يهدر أمام البيت .. إنها تصل ..
ينزل "هو" درجات السلم و يَسترِق النظر إلى مدخل باحة الدار، يعلو صوت امرأة بشعة بالزغاريد، يفتح زوج العمة باب الدار على مصراعيه، يدخلُ الأب خجولاً وعلى يساره ثمة سمراء، نحيلة، قوية، بعيون غائرة وعظمتي وجنتين بارزتين .. على يساره امرأة بفستان قروي عفني اللون دون أكمام، جاءها الضوء، لمحَ شعر إِبْطها الأسود، يلمح ذراعيها العلويين المفتولتين، في معصمها أساور من ذهب، في عنقها جنزير من ذهب ..
تقترب فهيدة من العروسين، تُناولُ الغريبة صحن القهوة والفنجان، تأخذهما العروس بيدها اليسرى، تنظر حولها متوترة، ترميهما بقوة النهر وسرعة جريانه إلى أرض الدار، يَتَشَظَّيا، تسقط من عينيه دمعة خجل ..
يدفعه زوج العمة آمراً: سَلّمْ على خالتك .. يقتربُ منها بحذر شديد، تطبع الخالة قبلة قروية على خده، يُبعد رأسه، تسقط نظارته أرضاً! تَتَشَظَّى بدورها، تلك النظارة التي اشترتها له أمه .. تدخل المرأة الغريبة البيت لأول مرة ..
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -32-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -31-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -30-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -29-
-
أيكون اسمها العنقاء؟
-
وعندما يكبر الضَّجَر
-
سيدة محلات ألدي
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -28-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -27-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -26-
-
حين يعانقك الكر في بسنادا
-
الهِجْرَة مَرّة ثانية يا مَنْتورة
-
سينما في بسنادا
-
صباحك جميل أيها الرجل الأسود
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -25-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -24-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -23-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -22-
-
جميلة هي أمي
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -21-
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|