احمد مصارع
الحوار المتمدن-العدد: 1343 - 2005 / 10 / 10 - 10:09
المحور:
الادب والفن
جدي فلاح عتيق ، أصابه الشلل من شدة العمل ، فلا تستمع أبداً إلى ما يقوله أنه يضع اللوم كله على ممرض البلدة فماذا تصنع الإبرة ؟ لاشيء .. لاشــيء .. أبداً أنها المرة الأولى التي تدخل الإبرة بين عضلاته ... وأي عضلات ؟ لقد تحول إلى عضلة واحدة وهنا يختصر تاريخ العالم إلى مجرد إبرة .
لم يعد جدي يظهر على الملأ فقد ترك العمل مضطراً وكارهاً ، اعتزل الظهور أمام الناس في القرية إلا نادراَ ، فكم كان يشق عليه أن يراه أحد متكئاًً على عكاز تين يتنقل من مكان لآخر , في غرفته الكبيرة أشياء كثيرة تجعله مستقلا عن الجميع .
كنا أطفالاً حين صارت الأسرة تجتمع سوية في الليل والنهار ,وذلك أيام غادر جدي الحياة إلى العالم الآخر, كان عمي أبو حسين يردد من حين لآخر على مسامع أبي :
- أبو حسن ولا يهمك .. أنا أخوك الكبير.. طالما كنت على قيد الحياة فالثقيل عليك خفيف عليَّ , ولا تحزن ولا تخف أبدا .
عمي أبو حسين ببساطة ، صار عميد الأسرة لم يعد هناك أحد يهتم بشؤون الأسرة سواه بعد أن انخرط أبي في مسلك الجيش مساعداً ولا أحد منا يعرف تفاصيل حياته في مدينة بعيدة ,بينما ورث عمي عميد الأسرة الجديد كل أخلاق الفلاحة من أبيه .
لا يكل ولا يمل من الحرث والبذر والقطاف والجني ،صحيح أن الأرض مجرد دونمات جبلية قليلة المساحة ,
ولكن مع وجود النبع , وحيوية عمي أبو حسين ,فكل ما يتمناه المرء من الخضار والفاكهة , كما في موسم الزيتون ، كل شيء من حولنا يضحك كربيع دائم ,البقرات والدجاجات والمعزات , شحم ولحم ..
ومن حين لآخر نسمع عمي أبو حسين يردد بأبوية لا ينضب معينها:
- كلوا يا أولاد , الخير كثير والدنيا بستان , والله يحفظ لنا هذا النبع .
أنا وحسين وخلال سنوات نقطع الطريق الجبلي من القرية إلى المدينة مشياً على الأقدام ثلاث كيلو مترات متواصلة لم ننفصل عن مقاعد الدراسة إلا حين فرقنا القسم العلمي عن القسم الأدبي والسنة الأخيرة لنا حلت ونحن نحضر للبكالوريا .
حقيقةً كان حسين ابن عمي عمدة الأسرة ، اشطر مني بكثير وفي المواد العلمية لا نظير له حتى في البلدة ، موهوب حقاً ، يحب العلوم ويدرس ليل نهار , كم تمنيت لوكان عندي الجزء القليل من حب الدراسة واقتربت أيام الامتحانات ، واشتد التحضير لها . لقد اكتشفت ببلاهة أنَّ خير طريقة للحفظ هي المسير مابين الحقول ، وترديد المحفوظات ولذلك كنت محظوظاً برؤية عمي كثيراً .
وفي الصباح الباكر كان يراني منهمكاً بالحفظ فيصرخ بي مشجعاً
- ابن أخي .. يا حسن .. شد .. زيد شد حيلك على الدراسة .
- أهلا عمي .. حاضر يا عمي ..
ويسألني عادة نفس السؤال ) شوعم تدرس يا ابني ).
وأجيب حقاً على السؤال :. ادرسُ التاريخ يا عمي .
وبكل روح طيبة يسألني .
- إن شاء الله موصعب ابني حسن, وأرد تقديراً له .
( - لا .. مو صعب عمو .. بس التاريخ بدو حفظ كثير .. حفظ تواريخ )
ويشجعني عمي .... أنه يفهمني تماماً .
( - عمو .... بس تكون تحب التاريخ تحفظهُ من أوله إلى الآخرة . )
لقد أحببت أن أشارك عمي في هم حفظ التاريخ . معناه وضرورته ولذلك رددت على مسامعه أكثر من مرة
- طبعاً يا عمي ، لقد قال نابليون : لا أحب أي علم كما أحب التاريخ )
التاريخ يا عمي يزيد في عمر الإنسان ، فيكبر الإنسان حتى يصير عمره آلاف السنين .
ياإلاهي كم يزد هي عمي أبو حسين ولكنه لابَّد أن يسألني بأبويه
( - كيفوا خيك حسين . ؟ حلال عليك يا حسن ... كيف رأيت دراسته ؟ . )
إجابتي قطعيه على الدوام ؟
- والله يا عمي ، أنا لا أشكل نقطة في دراسة حسين ، حسين رجل علوم يا عمي ، لذلك يقرأ ليل مع النهار من الديك إلى الديك ....
( - بلا والله يا حسن . )
ما الفائدة .... حين خرجت نتائج البكالوريا تفاجأنا واندهشنا حين نجحت ولم ينجح ابن عمي أبو حسين عمدة الأسرة .
كان شيئاً لا أطيق احتماله أن أرى عمي أبو حسين بعد هذه التضحيات التي لاتعد ولا تحصى ، فرحاً وحزيناً في آن معاً . هكذا شاءت الظروف كان عمي صامتاً لا يتكلم ، يهنئني من أعماق قلبه . في حين كان حسين مضطرباً مصفراً حيث كانت الدماء قد جفت في عروقه , وحين عانقه أبي عائداً من الجيش في إجازة خاصة . دمعت عيناه وبكى ..
لكن والدي صرخ به مع وجود عمي عميد الأسرة الساكت ولا يتكلم .؟
طز من الدراسة ، ومن الشهادة ، إذا لم تنجح هذه السنة ففي السنة القادمة ، أنا متأكد يا حسين أنك انتحرت بالدراسة ا لفرع العلمي صعب وأهدافك ليست سهلة ، إذا لم تنجح هذه السنة .فالسنة القادمة .. أو التي بعدها .. أين المشكلة ؟
وكانت المفاجأة ، فعمي أبو حسين يتحدث بألم لأول مرة :
( - والله أنا في الفلاحة ، أحرث الأرض كلها بدل الثور والبقرة . يا ابني يا حسين لو كنت قرأت التاريخ مثل ابن عمك حسن . والله ، والله لكنت نجحت بالدراسة ... فكلما سألتك ماذا تدرس ؟ ترد علي : رياضات , تركت دراسة التاريخ ، ولا مرة قلت لي بأنك تدرس التاريخ ، التاريخ هو النجاح في الحياة التاريخ هو الذي يكبر عمر الإنسان . )
حسين يلتزم الصمت التام ، حزين ومحبط وأنا مذهول منتصر يمتلئ صدري بأوسمة لا معنى لها ، لأنَّ ضميري يؤنبني ....
إلا الضحكات .. ضحكات أبي وعمي أبو حسين يُسُّر كثيراً حين يرى أخيه ضاحكا .
- يا أخي ... دراسة حسين علمية وليست أدبية
عمي يسأل متناسياً همه الخفي .
- لماذا لم يدرس التاريخ مثل أخوه حسن ، أريد أن أفهم .
من بين الضحك ... ضحك يعقب الضحك كان أبي كرجال الإطفائية يناضل لإطفاء النيران القلبية المشتعلة لعمي أبو حسين عمدة الأسرة : حسين يا أخي يدرس الرياضيات والفيزياء ، ولا علاقة لدراسته بالتاريخ .
قال عمي أبو حسين – إذن كيف سينجح ؟
ضحك والدي ... وكلما ضحك نثر الحب والأمان في قلب عمي أبو حسين . وحين راح والدي بصبر وأناة يشرح لأخيه ما معنى العلوم والأدب بدون تاريخ ، واسمعه يقول له: والذي يدرس كمحامي ليس كالذي يدرس طبيبا ,في السنة القادمة ... انتظر الموسم القادم فقط .سيكون كلاهما في الجامعة يدرسان معاً الطب والقانون , وكان عمي أبو حسين قد انزاح عن صدره ثقل كابوس مريع .
حقاً ، هذا ما حدث ففي السنة الثانية ، كنا معاً بالجامعة . أنا أدرس القانون ، وابن عمي حسين يدرس الطب وانقضت سنوات الدراسة الجامعية وعمي أبو حسين عميد الأسرة يرعانا سنة بعد سنة وأنا اليوم رئيس محكمة البلدة وابن عمي طبيبها الناجح ، الذي يضرب به المثل ومن حين لآخر يزورنا عمي ولاانسى وصيته المعتادة :يا حسن .. يا حسين ..انتبهوا للفقراء والمساكين .. العدل يا أولادي .المحبة .. ردوا بالكم على الناس .. لا تخلوا أحداً منهم يلعننا .
وعاد والدي ذات يوم مكفهراً ، حزيناً لم يضحك منذ مدة بعيدة . إنه ضائع ... ضائع حقاً مابين القرية والبلدة والمدينة , لم يتكلم أبي حتى اجتمعنا جميعاً .
كان أبي منزعجاً وناقماً على الحياة العسكرية , العسكرية: نظام وانضباط .
- العسكرية أوامر..نفذ ولا تعترض , راوح مكانك , مزاج هو الذي يحكم .. كل العسكريين أصبحوا في مراتب أعلى .. وماذا بعد ؟ إلا أنا فقد بقيت أرواح في نفس المكان . ؟
جدية أبي تستحق الضحك منا جميعاً , حين توسل أبي : قولوا شيئا ,
فقال عمي على حين غرة :
-الله ، والله لوكنت قرأت التاريخ لما انتسبت إلى الجيش .
هذه المرة ضحك عمي من أعماق قلبه ،وكانت الدموع ضاحكة هي الأخرى حين علق عليه ساخرا :
- اسمع يا أخي .... لا أنت علمي ولا أنت أدبي ,ما الذي جعلك تقفز فوق القرية والبلدة ؟.
لم يجد أبي ما يصنعه غير مجاراة عمي , لقد كان عمي من البراءة ما يكفي لأمان بلد بأسره وهو يقول :
طز .. طزين من العسكرية فقط كن معنا ... الله يلعن حياة العسكر, لقد مضى عليك ربع قرن تزرع بالعسكرية , بدون موسم , وبدون حصاد ؟
كان منظر أبي كما لو كان قد فشل في امتحان البكالوريا ..
ضحك أبي و هو الذي تعلم عادة العبوس , في السنوات الأخيرة , حين قال له عمي
- إيه .... كلك شقفة مساعد بدون " تواريخ ",أنت والأعلى منك , فزرعكم لا حصاد فيه.. اقعد اليوم مع الأولاد فلا عسكرية بعد الآن .
أريد أن أقول ... فربما كان عمي لم يقرأ التاريخ وكتابه الوحيد هو الأرض والنبع والموسم , وفصول السنة ولكن أبي لوكان قرأه أو أجبر على قراءته ,فانه لم يفهمه .
احمد مصارع
الرقه - 2005
#احمد_مصارع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟