|
الصوفية والعولمة والسياسة
يوسف نبيل
الحوار المتمدن-العدد: 4858 - 2015 / 7 / 6 - 21:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الصوفية والعولمة والسياسة
في أحد الأيام قرأت قولا لأستاذًا جامعيًا شهيرًا يقول ما معناه أنه لا يوجد كافر على وجه الأرض فاعبد ما شئت، وهذا تعليقًا على الآية الكريمة: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه"... كان الكثيرون يعلقون على تلك العبارة مهللين لذلك العمق بعبارات المديح. شعرت بالجزع وتذكرت علاقتي المعقدة مع التصوف. بدأ الأمر منذ أعوام طويلة وعندما كنت مازلت في المرحلة الثانوية وقرأت مأساة الحلاج لصلاح عبد الصبور، وكانت بداية معرفتي بالحلاج. شعرت بشعور مذهل من التشابه بين كلمات الحلاج وكلمات المسيح في كثير من المواضع، ولم ألبث أن بحثت عن ديوان الحلاج وقمت بقراءته بشكل نهم. تزامن ذلك مع معرفتي الوثيقة بغاندي. كثيرون قد شاهدوا ذلك الفيلم الشهير من بطولة بين كينجسلي، ولكن ليسوا كثيرين صاحبهم ذلك التأثير الذي صاحبه أيضًا تأثير الأديب الروسي تولستوي وهو يعد بشكل ما معلمًا لغاندي حول قضية اللاعنف. كنت أنظر حولي إلى العلاقات المتدهورة بين الطوائف والشيع المختلفة وظننت التصوف حلا... طالما رغبت في أن نحقق ذلك القرب، وتجلت لي الأرض المشتركة واضحة في التصوف... فداخل التصوف لم يكن الإسلام بعيدًا عن المسيحية كل ذلك البعد، ولم تكن البوذية كذلك ديانة إلحادية... انكببت كالمجنون على قراءة كتب المتصوفة من ابن عربي والحلاج مرورًا بابن الفارض وسانت تريزا والنفري وابن الرومي وماستر إيكهارت... إلخ. ومن ثم قرأت عن لب التجربة الصوفية فلسفيًا مع الفيلسوف العظيم ولتر ستيس الذي أكمل مشروعه الفكري الصوفي في كتابيه الآخرين الدين والعقل الحديث وكتاب الزمان والأزل. أصبح مزاجي صوفيًا – كما يقولون – أستمع لتلك الموسيقى الصوفية أي كان موطنها مالئًا رواياتي بعابارات المتصوفة، وقد كان ذلك كله بحثًا عن شيء مفقود.. عن حل سحري لإزالة الاختلافات، وعن نزعة حقيقية في التغيير، فقد كانت فكرة الولادة الجديدة لا تفاق ذهني، ونص الحوار الشهير بين المسيح ونيقوديموس حول وجوب الولادة من جديد تصدر روايتي الثالثة: مياه الروح والتي كانت تناقش فكرة التغيير والولادة الجديدة لرجل دين فاسد في مرحلة عمرية متقدمة... ذهبت إلى حلقات الصوفية وجربت الصلاة الإسلامية واقتربت من اجتماعات أحد كبار المتصوفة المسيحيين ونهلت من ذلك المنبع، ولم أرتو... اشتعلت أحداث الثورة في مصر وغيرت كل شيء.. لم يبق شيئًا على حاله، وساندت الطرق الصوفية النظام الحاكم طوال الوقت، وذلك لم يكن جديدًا عليها، وقد رصد عمار علي حسن ذلك في بحثه الشهير عن التنشئة السياسية للصوفيين. لقد ساندوا من قبل عبد الناصر وهم من أطلقوا لفظة الرئيس المؤمن على السادات وساندوا مبارك والمجلس العسكري والسيسي.. ساندوا جميع عدا الإخوان المسلمين بالطبع. وكانت الإجابة عندي جاهزة.. إن الطرق الصوفية قد أفسدت التصوف، ولا يخلو ذلك من الصحة بشكل كامل، فحتى المتصوف الشهير ابن عربي عندما أتي مصر في رحلته إلى المشرق هاله كم الخزعبلات التي تحدث في حلقات الصوفية، فلم يكن الوضع كذلك في الأندلس. قررت بعدها قراءة القرآن الكريم، وقد أفادني في ذلك فائدة شديدة أني لم أكن قد قراته أية قراءة منتظمة منذ الصغر وبالتالي لم أكن أحمل بداخلي مرض الاعتياد الذي يفسد النص.. كل ما كان يبقى لي هو تدريب نفسي على استعمال الفينومينولوجيا جيدًا بمعني أن أهتم بتوصيف النص كما هو وإبعاد كل الأحكام المسبقة وإيقاف الحكم – ولو حتى بصورة مؤقتة، ولم يكن ذلك سهلا لكني مررت بمدة جيدة من التدريب مكنتني من فعل ذلك إلى درجة كبيرة. والغريب الذي بدا لي أن الإسلام ليست ديانة صوفية على الإطلاق – مع أنها أشهر ديانة أخرجت متصوفين – وحينما أنهيت المرحلة التوصيفية كان على أن أحكم، وحين تحكم يجب عليك تبني المعيار، وقد كان في ذلك حلا للمشكلة، ونسف لها من الأساس.. كرر المتصوفة دومًا أن العقل ليس المعيار، وقد كان في خضم تجربتهم الصوفية وتجربة وحدة الشهود ووحدة الوجود – حسب اتجاه المتصوف – مبررًا لأن العقل لا يمكنه الحكم في تلك القضايا المصيرية، ولقد قنعت بذلك مدة طويلة حتى شاهدت كل سفه ممكن... شاهدت النصوص الدينية تُفسر بشكل بعيد عن النص إلى درجات مفزعة حتى أنها تناقض النص في كثير من الأحيان، وشاهدت الناس تفعل الشيء وعكسه، وكان التصوف دومًا مبررًا، ففيه تلتقي المتناقضات. ذلك القول للأستاذ الشهير الذي بدأت به المقالة حينما أنظر له الآن أضحك من سفاهته... وهذا ما يحدث للإنسان عندما يتخلى عن العقل، فإما العقل أو العبث ولا خيار آخر، وللأسف ليس لدى الإنسان أي معيار آخر. في أحد الاجتماعات الدينية تنبأ أحد المتصوفة المسحيين - وقد كان ذلك إبان الثورة وبداية صعود نجم الإخوان المسلمين – بأن الحركات الإسلامية ستسيطر كاملا على مصر والوطن العربي بأكمله وأن حربًا ضروسة ستحدث بين مصر وإسرائيل فالعداوة المستحكمة مع اسرائيل تمتلك الإسلاميين كاملا. بعدها حكم الإخوان المسلمين مصر ورأينا الرئيس محمد مرسي يخاطب صديقه الوفي بيريز، ومن بعدها عودة حكم المجلس العسكري مرة أخرى وإقصاد الإسلاميين وقمعهم الكامل سواء كان ذلك مبررًا أو غير مبررا. لم يكن في الإمكان وقتها مناقشة ذلك الصوفي أو التشكيك في كشفه، فالأمر لا يخضع للعقل ولا يمكن مناقشته بالعقل، وحينها تجد أنه ليس بالإمكان سوى تصديق كل شيء حتى تلك الأمور الكاذبة... ما الذي يحدث عندما تتنازل عن عقلك... إما أن تكون صوفيًا أو عبثيًا.. لا خيار آخر، ولكن العبث لا يخلط نفسه مع الدين. إن التصوف مع عدم وجود تعريف لفظي واضح له إلا أنه يمكن فهم جوهره الفلسفي في تجربة الكشف الصوفي الفلسفية والتي يشعر فيها المتصوف بالاتحاد مع الله أو الخالق أو الكون – أي كانت مرجعيته الدينية والفكرية – وقد رصد ولتر ستيس التشابهات الضخمة بين أوصاف المتصوفة من كافة الأديان والأزمان المختلفة... هذا هو جوهر التصوف، أما فعل التصوف الواقعي ستجده في تعمد الغرابة والذهاب إلى مقهي صوفي بالزمالك، وعدم التقيد بأية محرمات أو مباديء صارمة، وسماع موسيقى هشام نزيه وتكرار بعض جمل جلال الدين الرومي كالببغاء... قد يظن البعض أن هذا الفرع ليس له صلة بالأصل المقدس، ولكن هذا ما يحدث عندما تقوم بتنظير اغتيال العقل كمعيار... إنه اغتيال للإنسانية، فتلك الأرض التي تتلاقي فيها المتناقضات لا يمكن لإنسان أن يحيا فيها... إنه سفه التصوف.
يقول المستشرق الإيطالي الكبير جوزيبي سكاتولين عن عصر العولمة أنه يتميز بملامح خاصة من أهمها العملية التسويقية التي تهدف آخر أمرها إلى توحيد البرية جمعاء في كتلة ثقافية موحدة تسمى بالثقافة التسويقية، ويبدو أن هذه الثقافة التسويقية تسعى إلى إلغاء كافة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية الأخرى التي ظلت لقرون طويلة عصب الحياة لشعوب العالم عبر تاريخهم الطويل المليء بكنوز من الحكمة والمعرفة. وهذه الثقافة التسويقية تؤدي لتكتل ثقافي تذوب فيه كل الخصوصيات الثقافية التي كانت تمثل دومًا غنى روحًا عظيمًا للبشرية. وما القول إن كانت التجربة الدينية واحدة فعلا؟ أو إن كانت التجربة الصوفية واحدة حقًا؟ أهذا يمكن أن نطلق عليه عملية تسوية كاملة للأديان والقيم؟ أعتقد أن الإجابة بالنفي... إن الخطر ليس في وحدة التجربة الصوفية على مر الأزمان، ولكن الخطر هو في المنهج الذي يقفز من اختبار تجربة روحية شديدة الخصوصية إلى استبدال للعقل بدلا من السمو عليه. إن الدين بطبيعته يتجاوز العقل في كثير من المناطق، ولكن الخطورة ليست في التجاوز بل في التناقض، وشتان بين الإثنين. فإن آمنت بان هناك حياة بعد الموت فهذا يتجاوز الحس – لا العقل – وقد يتجاوز بعض التصورات العقلية ولكنه لا يناقضها.. لا يناقض تلك الملكة النظرية التجريدية.. إن العقل لا يمكنه الحكم بشكل مباشر هنا على الأمر إلا بعد التفافات أخرى ولكنه لا يمكنه تكذيب الأمر... ولكن عندما أخبرك أن المسيحي الذي يؤمن بالتجسد والمسلم الذي يؤمن بالتوحيد المطلق، والبوذية التي تهدف إلى الوصول إلى النرفانا وهي تجربة تسبغ كل صفات التأليه الإسلامي والمسيحي على الإنسان هم في النهاية ذو أصل واحد ولا خلاف حقيقي بينهم، فهذا كذب وتضليل.. وهذا المعني يوقله ابن عربي في بيته الشهير: قد صار قلبى قابلاً كلَّ صورةٍ فمرعى لغزلانٍ ..وديرٌ لرهـبانِ وبيتٌ لأوثانٍ ..وكـعــبـةُ طـائـفٍ وألواحُ توراةٍ ..و مصحفُ قرآنِ أديـن بدينِ الـحــبِ.. أنى توجـَّهَـت ركائبُهُ فالحـبُ ديــــنى ..و إيـــماني في تلك الأيام يتحد التصوف مع الاستبداد مع العولمة... جميعهم يهدف لنزع كل الاختلافات الحقيقية سواء بحسن نية رغبة في التلاقي أو بسوء نية – وهو الاحتمال الأكبر بالطبع – من أجل تحيق أهداف السيطرة. ليست مصادفة إذن أن رحل زمن المتصوفة المحاربين ضد الاستعمار، وأتي زمن سفهاء الاستبداد، وليس من المصادفة أن يتحالف النظام السياسي دومًا مع الطرق الصوفية والمتصوفين... إنها تجربة نزع العقل وتسطيح العمق وروبتتة الإنسان – أي جعله كالإنسان الآلي- من أجل سهولة قيادته.. يمكن لأي توصيف فينومينولوجي أن يسخر تمام السخرية من كتب يعدها البعض عظيمة لابن عربي، وان يضحك ملء شدقيه من ذلك السفه الغير الإنساني، ولكن تكرار الأفلام والمسلسلات التي تطلق عليها صوفية واستخدام كلمات المتصوفة في الكثير من المسرحيات والإيحاء بأنه الحل الوحيد من قبل مجموعة من الغير ملتزمين عقليًا أو أخلاقيًا هو ما يسيطر على الوضع... إنه زمن الاستبداد والسفه!
#يوسف_نبيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كل رجال الباشا... عن الباشا والسلطة والخداع..
المزيد.....
-
المدافن الجماعية في سوريا ودور -حفار القبور-.. آخر التطورات
...
-
أكبر خطر يهدد سوريا بعد سقوط نظام الأسد ووصول الفصائل للحكم.
...
-
كوريا الجنوبية.. الرئيس يون يرفض حضور التحقيق في قضية -الأحك
...
-
الدفاع المدني بغزة: مقتل شخص وإصابة 5 بقصف إسرائيلي على منطق
...
-
فلسطينيون يقاضون بلينكن والخارجية الأمريكية لدعمهم الجيش الإ
...
-
نصائح طبية لعلاج فطريات الأظافر بطرق منزلية بسيطة
-
عاش قبل عصر الديناصورات.. العثور على حفرية لأقدم كائن ثديي ع
...
-
كيف تميز بين الأسباب المختلفة لالتهاب الحلق؟
-
آبل تطور حواسب وهواتف قابلة للطي
-
العلماء الروس يطورون نظاما لمراقبة النفايات الفضائية الدقيقة
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|