|
تُركيا: عِبْرِةُ التَّصْوِيتِ العِقَابِي!
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 4846 - 2015 / 6 / 23 - 01:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(1) سواء في الدُّول الدِّيموقراطيَّة، أو في تلك التي تنتحل أنظمتها الحاكمة ديموقراطيَّة شكلانيَّة، من باب الرِّياء والنِّفاق، يذهب النَّاس، عادة، إلى صناديق الاقتراع، بأمل انتخاب حكَّام قد يحقِّقون لهم شيئاً من تطلعاتهم إلى الحياة الطيِّبة، والعيش الكريم، من النَّاحيتين المادِّيَّة والمعنويَّة. فلئن كانت تلك هي القاعدة، فإنهم قد يذهبون، استثناءً، لغرض مختلف تماماً، وهو أن يحجبوا أصواتهم عن حكَّام الأمس، ويمنحوها لغيرهم، عقاباً لأولئك على ما قد يكون ثبت في حقِّهم من فشل ذَّريع في تحقيق ذلك الهدف، ولقطع الطريق، على الأقل، أمام تمكينهم، بالغاً ما بلغت منعتهم، من العودة الطليقة لتجريع النَّاس ذات العلقم القديم في دورة حكم جديدة. ذلكم هو ما يُعرف بـ "التَّصويت العقابي" الذي رأينا كيف مارسه الشَّعب التُّركي، مؤخَّراً، مع "حزب العدالة والتَّنمية" برئاسة رجب طيِّب أردوغان، بعد ثلاثة عشر سنة بوَّأه، خلالها، السُّلطة، منفرداً، دورة في إثر دورة!
(2) هكذا تمخَّضت تلك الانتخابات التَّشريعيَّة عن فشل هذا الذِراع السِّياسي لحركة الأخوان المسلمين التُّركيَّة في حصد الأغلبيَّة المطلقة التي ظلَّ يحلم بأن تخوِّله تدعيم رئاسة الجُّمهوريَّة، جرياً على تطلع الأخوان المسلمين التَّقليدي، في كلِّ المنطقة، إلى أوسع سلطة يمكن أن يتمتَّع بها من يتبوَّأ، نيابة عنهم، مقعد الرِّئاسة! وفي مقالته بالغارديان، تحت عنوان "النَّاخبون يعاقبون سياسات جنون العظمة"، عرَض سايمون تسدول لهذه المسألة "العقابيَّة"، حيث أشار إلى "أن أردوغان قطع تركيا، طولاً وعرضاً، في حملة انتخابيَّة ليضمن فوز حزبه بأغلبية 330 مقعداً، على الأقل، كي يتمكَّن من تعديل الدُّستور، والحصول على سلطات أوسع. لكنه لم يفلح في إحراز أكثر من 267 مقعداً، ليفشل في الحصول حتَّى على الحدِّ الأدنى الذي يمكِّنه من تشكيل الحكومة منفرداً". وحدَّد الكاتب أسباب هذا التَّراجع الكبير في "البطالة، وتباطؤ الاقتصاد، والمساس بالحقوق المدنيَّة، وتعثُّر عمليَّة السَّلام الكرديَّة، والمخاوف من إعطاء أردوغان المزيد من الصَّلاحيات التي تحوِّله إلى ديكتاتور". وذكر أن أردوغان "كان قد وجَّه، قبل الانتخابات، إهانات، وتهديدات، واتِّهامات للمعارضين، والنَّاشطات السِّياسيَّات، والإعلام، وغير المسلمين، والأقليَّات العرقيَّة والثَّقافيَّة في تركيا، واصفاً حزب الشَّعب الجُّمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، بأنه حزب كفرة وشَّواذ"! كما شاعت أحاديث عن اعتزامه "القيام بحملة لقمع الصَّحفيِّين والمنتقدين"، علاوة على حملة سابقة كان قد اتَّهم، من خلالها الإعلاميين، عموماً، بأنهم "جزء من مؤامرة على تركيا"؛ وعلى الرُّغم من أنه، كرئيس للجُّمهوريَّة، كان ملزماً بالوقوف بين خنادق الأحزاب على الحياد، إلا أنه خالف ذلك وشنَّ حملة لدعم حزبه الحاكم وحده؛ ولهذا فإن نتائج الانتخابات بدت، على نحو ما، كهزيمة شخصية له، حيث عاقبه النَّاخبون الذين رفضوا سلوكه السِّياسي، ونهج حزبه، فتقلص حجمهما، وتراجع تأثيرهما ونفوذهما (الغارديان؛ 8 يونيو 2015م).
(3) الشَّاهد أن "حزب العدالة والتَّنمية" لم يحصل في هذه الانتخابات على أكثر من 42% من الأصوات، بما لا يتجاوز 267 مقعداً برلمانيَّاً بدلاً من الـ 400، أو حتَّى الـ 330 التي كان يتوقَّعها على أقلِّ تقدير، في حين أن "حـزب الشـَّعب الجُّمهوري" الذي لطالما أشبعه أردوغان ذمَّاً وشتماً، ولم يتورَّع حتَّى عن رميه بالكفر، حصل على حوالي 26%، بما يؤهِّله لشغل 132 مقعداً، كما حصُل "حزب الحركة القوميَّة" على قرابة 20% تؤهِّله لـ 82 مقعداً، و"حزب الشُّعوب الدِّيموقراطي"، المؤيِّد للأكراد، على ما يفوق 12%، مِمَّا يخوله دخول البرلمان، لأوَّل مرَّة، بأكثر من 78 نائباً، ويشعل شوارع ديار بكر باحتفالات مستحقَّة لهذه الجَّماعة القوميَّة المناضلة ضمن منظومة التَّعدُّد والتَّنوُّع التركيَّين! من زاوية أخرى فإن هذه النتائج تمثِّل، دون شكٍّ، أسوأ كابوس بالنِّسبة لرئيس الوزراء أحمد داود أوغلو الذي خاض هذه الانتخابات كزعيم للحزب، لأوَّل مرَّة، وإنْ بدعم كامل من أردوغان، فإذا بها تحرم هذا الحزب، لأوَّل مرَّة أيضاً، من تشكيل الحكومة منفرداً، مِمَّا سيضطره، حسب أرجح التَّحليلات، إمَّا للبحث عن شريك في حكومة ائتلافيَّة، وتلك كأس مُرَّة، أو لإفساح المجال لتشكيل حكومة أقليَّة، وتلك كأس علقم، أو لإجراء انتخابات مبكرة، حسب الدُّستور التُّركي، في حال ما إذا انقضت 45 يوماً دون التوصُّل إلى حل، وتلك مغامرة غير مأمونة العواقب، أخذاً في الاعتبار بالنتائج المشار إليها!
(4) بإزاء هذه الخيارات غير المرغوب في أيٍّ منها، بالنِّسبة لهذا الحزب، توقَّعت كثير من القراءات أن يقود أوغلو، الذي اعتُّبر الخاسر الأوَّل، عمليَّة تخليص سياسات "العدالة والتَّنمية" من هيمنة أردوغان، وسيطرته، وغروره، وميوله الاستبداديَّة التي شكلت، ضمن عوامل أخرى، مشهد هذا الفشل الكبير. سوى أن أوغلو ربَّما كان راغباً، لأسباب كثيرة بالطبع، في أن تقع هذه الإصلاحات السِّياسيَّة بموافقة ومشاركة أردوغان نفسه، وعن طِيب خاطر، لولا أن ما ظهر من سلوك الأخير المكابر لا يشي بأدنى رغبة في مجرَّد الإقرار بالكارثة، دَعْ إجراء الإصلاحات المطلوبة. بل إن صحيفة الحزب "ستار" ذهبت، تحت تأثيره المباشر بطبيعة الحال، ووسط دهشة المراقبين، إلى إلقاء اللوم على النَّاخبين، كونهم، على حدِّ تعبيرها، قد "صوَّتوا لعدم الاستقرار!"، الأمر الذي فُسِّر برغبة أردوغان في استخدام "فزَّاعة" الأزمة الاقتصاديَّة باتِّجاهين: الأوَّل إرغام الأحزاب الثَّلاثة على خيار الانتخابات المبكِّرة، أملاً، من ناحية، في أن "يصحِّح" الشَّعب "خطأه"، هذه المرَّة، فيمنحه الأغلبيَّة المطلقة التي يحتاجها، ومعوِّلاً، من ناحية أخرى، على أن المقدرات الماليَّة لهذه الأحزاب لن تمكِّنها، في الغالب، من تحمُّل كلفة معركة انتخابيَّة جديدة، مقارنة باستناد حزب الإسلامويين إلى مقدرات الدَّولة (!) أمَّا بالاتِّجاه الآخر فإن أردوغان يأمل في استخدام هذه :الفزَّاعة"، أيضاً، لمجابهة أيِّ شروط قد تطرحها هذه الأحزاب، ولتخفيض سقف أيِّ توقُّعات محتملة لديها (العربيَّة سكاي نيوز؛ 8 يونيو 2015م).
(5) أمَّا إذا أضحت "الحكومة الائتلافيَّة" هي الخيار الرَّاجح، فمن المستبعد أن يقع هذا الائتلاف مع "حزب الشَّعب الجُّمهوري"، رغم حصوله على 26 بالمئة من الأصوات التي تهيئ له 132 مقعداً، وذلك لعدَّة أسباب، على رأسها، بلا شكٍّ، شراسة خصومته، من مواقعه العلمانيَّة، مع "حزب العدالة والتَّنمية". وإذن، فعلى الأخير أن يختار ما بين "حزب الحركة القوميَّة" و"حزب الشُّعوب الديموقراطي". فإن فشل في استمالة الأوَّل بمقاعده الـ 82، فسيجد نفسه مضطراً، من كلِّ بُدٍّ، لمحاولة استمالة الثَّاني، واتِّخاذه حليفاً، رغم عداوته له، هو الآخر، كضرب "من نكد الدُّنيا على المرء"، وفق حكمة بيت الشِّعر الشَّهير! بؤس هذه الخيارات كافٍ لتجسيد مدى الورطة التي ألفى حزب "العدالة والتَّنمية" نفسه فيها نتيجة للانتخابات الأخيرة. وهي، في الواقع، ليست ورطة مستجدَّة، لكن الحزب كان غافلاً، طوال السَّنوات الماضية، عن أنه ظلَّ ينسج خيوطها بنفسه حول نفسه، حتى أفاق، في النهاية، على حقيقة خسارته الفادحة. وبعكس ذلك تبرز دلالة الكسب الكبير لـ "حزب الشُّعوب الدِّيموقراطي" بتجاوزه، لأوَّل مرَّة، حاجز الـ 10% من الأصوات، بما أهَّله لدخول البرلمان. وإذن، فبعد أن كان حزب الأكراد بلا حول انتخابي ولا طول، ها هو ينتزع نصيباً من سلطة البرلمان قابلاً للزِّيادة مستقبلاً، بل ويتأهَّل، الآن، لاحتمال أن يخطب حزب أردوغان ودَّه طالباً أن يتعطف، ويتكرَّم، ويقبل مشاركته في حكومة ائتلافيَّة! أما حزب أردوغان نفسه، فبعد أن كان يحلم بتدعيم حكمه برئاسة تضارع الرِّئاسة الأمريكيَّة، ها هو يخسر حتَّى القدر من السُّلطة التي كانت له قبل الانتخابات! وفي الحالين جرى ذلك بقرار من الشَّعب التُّركي، وبتصويته "العقابي"! حقَّاً ما أكثر العِبَر، وما أقلَّ الاعتبار! ***
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شُبُهاتٌ حَوْلَ العَلمَانيَّة!
-
خَرَاقَةُ السِّياسَةِ: دَارْفُورْ وتَقْرِيرُ المَصِيْر!
-
شَلْ .. ضِدَّ العَالَم!
-
للمَرَّةِ الأَلْفِ: بِدُونِ تَعْليمِها حُقُوقِ الإِنْسَانِ ف
...
-
أَنْدرو مُوينْدا: خِطابُ الاسْتِفْزِازِ الأَفريقِي!
-
الدِّينُ والعَلْمَانِيَّةُ بَيْنَ السِّيَاسَةِ والثَّقَافَة!
-
محمود!
-
مُؤْتَمَرُ الشَّارِقَةِ .. السُّودانِي!
-
إِنْتَبِهْ .. أنْتَ مَوْعُودٌ بِتَخَلُّفٍ عَقْلِي!
-
قِيَامَةُ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ 26 مَارِس!
-
مَرحَباً بِجَهدِ شَبَكةِ صَيْحة الاستِنَاري!
-
عَلِي عُثْمَانْ وَالحِقْدُ الطَّبَقِي فِي السُّودَان!
-
مِن نِيو دَلْهِي إلَى الخُرْطومِ إلى بُوغُوتَا: العِلمُ لأجْ
...
-
بِانتِظارِ المِيلادِ الثَّالِث: مَنْ هُوَ -دَاعِشُ- اتِّحَاد
...
-
فَارُوق وأَمِين: إِطلاقُ سَراحٍ أَمْ تَحْريرٌ بِالقَتْل؟!
-
مَرْحَبَاً بِمحمَّد بَنيس وأَسئِلَتِهِ الشَّائِكَة!
-
جُوزيف كُونِي: التَّقَرُّبُ إلى اللهِ زُلْفَى .. بِالسَّكاكِ
...
-
شَمْلَلَةُ الدُّستور!
-
ستيلا: صَفحَةٌ ماجِدةٌ فِي أَدَبِ الحَربِ الصَّافِع!
-
أَرَبُ التُّرابِي!
المزيد.....
-
لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء
...
-
خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت
...
-
# اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
-
بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
-
لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
-
واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك
...
-
البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد
...
-
ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
-
الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
-
المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|