|
بلاغة الغموض في رسائل الموتى / دراسة نقدية - بقلم الناقد المغربي صالح هشام
عبدالكريم الساعدي
الحوار المتمدن-العدد: 4844 - 2015 / 6 / 21 - 23:04
المحور:
الادب والفن
مقاربة نقدية : بلاغة الغموض / رسائل الموتى النص الثاني من المجموعة القصصية (ما بعد الخريف ) للقاص عبدالكريم الساعدي الناقد المغربي : صالح هشام ~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~ قبل أن يلتهمه شبق الطريق الممتدّ نحو البحر، ويسدل النهار ستار التلاشي، رمقت عيناه غيمة شاردة في اللااتجاه، خطواته التائهة ارتدت مئزر المجهول، خطوات بعثرها الخوف والحيرة، يرافقها صدى صوت منبعث من انكسار طبقة الملح المغطّية وجه الأرض، الأرض قطعة من ملح عالقة بغفوة أطلال منسيّة، مترعة بالوحشة والغياب، عيناه المكحّلتان بالضباب، الأحلام البائسة، تستحمّ بأمل العثور على وحدته العسكرية الجديدة، لا ملاذ يرتجي غير خنادق يسكر الموت فيها، كلّ شيء مفزع، وحده الطريق يرافقه والغيمة الشاردة صوب المجهول، أصوات انفجارات ودوي المدافع ليس بعيداً عن مسمعه، أصوات اختلطت بصفير الرياح الموحشة، صفير يشجيه خوفاً خانقاً كلّما أوغل في تفاصيل الاحتمالات، حفر كثيرة وعميقة منتشرة على امتداد المكان، كأنها بثور تشكّلت فوق خدّ صفعه الطاعون، حفرتها القنابل الآتية من شرق الأرض وغربها، حفرتها آلة الحرب والخراب بلا مبالاة، شقوق الأرض الملتصقة بحافة الطريق، تلوذ بأشلاء متناثرة هنا وهناك، تتشكّل جسداً يشهق بأنين الموتى، يفوح بعطر متخم برائحة الدخان والشواء، يصدح بهتاف بلّله العطش، كان الجسد جندياً معمّداً بالموت، تشكّل من أشلاء شتّى، كان طرفه الأيمن يقبع في جيب بسطال أحمر، أقصر بقليل من طرفه الآخر الذي علّق به حذاء أسود، لوّح له بيدين غير متناسقتين، كلتيهما يمين، يخيل إليه أن الجسد جحافل من رفات، تحمل رأساً ذا عيون كثيرة، قابعة في محاجرها، جسد مخيف لايشبه إلا ظلّه الزاحف سعياً خلفه، أطلق صوتاً محموماً مختنقاً بالجراح، كان الجندي يرعى براري الملح وخوفه من المجهول قبل أن يدركه الصدى، انتفض فزعاً يحتمي بخطواته المرتعشة بالرعب، الطريق يضيق، أكوام الملح تخبط عينيه، الحفر باتت مغارات تتستّر بقناع الفجيعة، كان الصوت موشّى بتمائم النسيان، تقطر منه دموع أطفأت مسامات الخوف وهشّمت الحجب الخفية، تسفح ما تبقى من سنين العمر المعلّقة على هدب، يحمل عويل المسافات، يعبر الجندي أضلع الخوف، يعانق وجه التساؤلات التي أطلقتها جحافل الرفات، المسافة بينهما ساكنة، اختزلت ضباب الضجيج، كان البوح يرتدي نشيج الشوق إلى أحلام معلّقة في الهواء، أحلام معتّقة بالنسيان، مرتبكة بظلال الدخان المتصاعد من حرائق الحسرات والندم، كانت التساؤلات تنتقل من العيون إلى عيني الجندي خبباً، عيون تلعق وجه الأرض، غائرة في زوايا من حجر، تسلّقت مرايا الموت، تؤطرها أقراص معدنية متدلّية من عنق سلسلة فضية ، موشاة بقطرات دماء جفّفها ملح أديم الأرض، أقراص تبرق بأسماء أصابها الصدأ بعدما أخذ الجسد شكل الماضي، منفصلاً عن ظلّه، تحمله جحافل من الرفات، تمترس ببقايا وطن معلّق برمش ارتجاف الأرض، وطن يبحث عن رأسه، - أيّها الجندي، تمهّل، إلى أين؟ كان الصوت مخنوقاً بوجع الهزيمة: - ارتجي دليلاً إلى وحدتي. -لاشيء غير الهاوية، بروق الموت تعبث بضفتي النهر. - لابدّ من الرحيل أو الموت، أنا مدرك أنّ فرقة الإعدام خلفي، لاخيار لي. - تمهّل، إنّك تسير على سطر من الألغام وسطر من الأجداث، الطريق يتناسل موتى ولم يعد لخطواتك معنى، كلّ الخطوات متشابهة عند شجيرات الحنّاء المتيبسة، وبساتين النخل التي أصابها الظمأ. بدأ يتقبل فكرة الانتظار، تسلّل من بين أنامل خوفه طيفاً، يلوّح له عن بعد بكركرات أطفاله، ظلّ عباءة امرأة هدّها القلق، شبح بيت تحمله أنقاض العوز والحرمان، لم يعد مواصلة الطريق أمراً مألوفاً لديه، فربما يحمله الخطو إلى مساءات مسكونة بالأمن، فيغفو كطفل تحت دثار الحكايات. تسوّرته أيدي الرفات بفرح، ألقت إليه حقائب مملؤة بالجراح، أسمالاً كان الموت معلقاً بها، رسائل توارت خلفها أسرار خفية، بلّلتها دموع الفراق، مطوّقة بالأقراص المعدنية وظلال صور، مزّقت إطارها رصاصات تائهة، تبحث عن مأوى، فكانت هي المأوى. وقبل أن يتدارك موته همست الشفاه بصوت واحد: - لاتنسَ، إنّا كنّا لعبة الموت، وبين كومة ملح وأخرى كان موتنا، وأنّ أجسادنا مازالت هنا. وبعد إن يمّمت عيناه النهايات ونطقت خطاه بألم الثّرى وعري البراري، تساءل بدهشة، " ( كيف يذعن الموت لكلّ هؤلاء القتلى؟وكيف يمضي الضجيج، بينما يبقى كلّ هذا الألم؟) "*. ومضى، تسابقه الخطوات، بيد أنّ الأسماء ظلّت هناك، تلوّح بالغياب. *عبدالعزيز موافي / ديوان شعر ( 1405 ) بغداد 1984 ~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~ التحليل النقدي للنص المعتمد بقلم الاستاذ : صالح هشام يعز علي أن آصبح آمدي النزعة وأعيد قراءة ( الموازنة) من جديد وأحييي نعرة (الطبع والصنعة) ، ولا أريد ان أكون بحتري النزعة ولا من أنصار أبي تمام ولا أريد أن أكتب عن( الواضح) و(الغامض) كما خيض فيهما في النفد الفديم في( الموازنة) أو غيرها ، فقط أريد أن أكتب عن بلاغة الغموض في مجال السرد وبالضبط في القصة القصيرة ، بعدما خرجت هذه البلاغة عن طوع الشعر ولم تعد حكرا عليه ، بل أصبحت تغزو جميع مناحي الحياة الفكرية في العصر الحديث بدء من اللوحة الزيتية إلى المشهد المسرحي أو السنيمائي ، وقد حددت سلفا هدفي ، وكنت كالجارح يختار ضحيته بكل دقة . سينصب تعليقي على النص الثاني من مجموعة ( ما بعد الخريف ) للقاص عبد الكريم الساعدي هو :"رسائل الموتى". اخترته بالضبط ، لمجموعة من العوامل والأسباب ، سواء تعلق الأمر بجانب الفكرة التي يعالجها أو بالجماليات الفنية التي يزخر بها النص ، فعلى مستوى : ◆-;- الفكرة : خرج النص من رحم فترة أجزم بأنها ، صعبة ، غنية بالمعاناة ، الإنسانية ، فترة تعرف التمزق بمختلف أصنافه على المستوى الوطني ، أو الإقليمي أو القومي ، وهذه كلها عوامل مساعدة على إنتاج هكذا نص ،وربما المجموعة القصصية كاملة والتي لا زلت لم أحظ بقراءتها ،كاملة . ◆-;- جماليات النص: النص غني إلى حد التخمة بالحمولات الدلالية التي تفرض على المتلقي ، التوقف قصد التأويل والتحليل وإمعان النظر ، أيضا لأن كاتبه ، يكاد يكون تمامي النزعة (نسبة لأبي تمام)، فهو ( يصنع) لغة السرد كما سنرى عندما نخضع نصه للنفد والتحليل . ◆-;- عنوان النص : من البداية يعمد الساعدي ، إلي الانزياح في العنوان وخلخلة المألوف " رسائل الموتى" ما هي هذه الرسائل وإلى من تكون ؟! وما محتوياتها ؟! وهل الموتى يكتبون رسائل ؟! أم أنهم الأحياء الذين ليسوا إلا مشروع أموات هم الذين يكتبون رسائل الى الأحياء ؟! فعلى مستوى المعنى الحقيقي ، لا نسند خاصية أحيا ء إلى أموات فالانزياح يبدأ بمجرد ما نستعير كلمة مرصودة لكلمة أخرى ونوظفها في سياق قد يثير نوعا من الغرابة في نفس المتلقي ، فنقوم بترتيب لغوي أو طريقة نظم لخرق المألوف ومن ثم نخلق استعارات ومجازات تستوجب التأويل بطبيعة الحال حسب المقدرة المعرفية للمتلقي ، وهو ان الرسالة تفترض مرسلا ومرسلا إليه وبينهما حتما يجب أن يحصل التواصل ، لكن في هذا العنوان باعتباره محورا أساسيا في النص ، هناك خروج عن المألوف بحكم أن المرسل غير منطقي (الموتى ) ، والمرسل إليه مجهول والرسالة لم يفصح عنها لأنها أصلا على مستوى الواقع غير موجودة لأن فاعلها غير موجود ، فلا يعقل على مستوى( الواضح) كما يسميه القدماء أن نسند اسما لغير فاعله الأصلي إلا على سبيل الاستعارة ، وسنحلل هذا الانزياح ، بتفصيل وإسهاب في عرض هذه المقالة ، فقط أريد أن أبرز للقاريء الكريم مدى أهمية العنوان باعتباره عنصر الإحالة وسبب القبول او الرفض بالنسبة للمتلقي وهو المفتاح الرئيس للنص بصفة عامة ، فنجاح بيع المنتوج متوقف على جاذبية و جمال اللوحة الإشهارية. ◆-;- بلاغة الغموض : إن الغموض من المصطلحات النقدية التي خيض فيها كلام كثير ،و سال مداد أقلام الكثير من النقاد وتشكلت نزعات ومذاهب في هذا الباب ، لمعالجة هذه الإشكالية القائمة باعتبارها مركزية مؤسسة على تلك العلاقات القائمة بين النص أو الأثر الأدبي والمتلقي، باعتباره المقصود من العملية الإبداعية برمتها ، وكذلك بين هذا النص والواقع من جهة أخرى ، وقد اختلفت الأفكار والآراء في هذا الباب ،و لا نريد بأي حال من الأحوال أن نخوض فيه لأنه سيبعدنا عن الهدف اﻷ-;-ساس والذي هو بلاغة الغموض في "رسائل الموتى ". فالقاص الساعدي- ومن خلال تحليلي لنصه الأول(ليلة أليمة ) من هذه المجموعة القصصية(مابعد الخريف ) ، إتضح لي جليا أن هذا القاص ، لا يلبت ، أن يبدأ في لعبة (الغميضة) مع المتلقي منذ البداية ، أي منذ العنوان إلى آخر النص إلى أن نفاجأ بتلك الخاتمة الصادمة ، ولماذا لا؟! مادام الانزياح الجميل لا يعتبر بمتابة حجر عترة تحول دون تمرس القاريء بجماليات النص التخييلية ، وما دامت بلاغة الغموض هذه تكسر رتابة المألوف وتستبدله بكل مظاهر الغرابة ، والرقص فوق الواقع وتأبط اللاواقع والتي تثير في النفس الإعجاب والاندهاش والتفاعل التلقائي مع المضامين والمحتويات والصور والمجازات والاستعارات وكل المكونات التي تشد ترابط لحمة النص ،وأيضا لأن ذلك سيحفز القاريء ويستفز ذاكرته من أجل إمعان النظر ، لتجاوز صعوبة الإدراك والنفاد إلى عمق مرامي وأهداف القاص○-;- فالقاص الساعدي وهو يكتب النص ، يرمي الكرة في ملعب المتلقي من بداية أول جملة –كما سبق أن أشرنا إلى ذلك - ولا يترك له الفرصة لاسترجاع النفس ،اذ يجعله يهرول وراء هذه التراكيب اللغوية التي تحلق بنا في عالم الغرائب والعجائب للتعبير عن قضايا وأفكار لا تقل عن أن تكون واقعية أو افتراضية أو مجانسة للواقع . فقد تتبعت النص من أول جملة "يلتهمه شبق الطريق " .وكلما توغلت في النص كلما حاصرتني تلك الانزياحات وأحاطتني تلك الاستعارات الجميلة ، التي تقدفني خارج المألوف ، فاغوص ، في هذا الخضم من التلاعب بمواقع الكلمات ليس من حيث محلاتها الإعرابية وإنما من حيث السياق المعنوي ، وإعادة تشكيلها في قوالب غاية في الجمال ، تفرض عليك ان تضع الأصيبع على الصدغ وتفكر عميقا وطويلا وتضغط قويا (على الصدغ طبعا )لتعرف مقاصد القاص من الكلام ، هذه المعاني التي تكون في حقيقة الأمر بسيطة وسهلة ولو عبر عنها بالواضح من الكلام لما أعارها القاريء اهتماما ولكن التعبير بالمرموز هو الذي يشد انتباه المتلقي إلى التركيب اللغوي الذي وظفه القاص ، في سياقه السردي . ماهي الصور التي يمكن أن نستنتجها من هذه التعابير ،التي وظفها القاص أو التي أختار بعضها لاعتبارها أمثلة في هذا التحليل النقدي ، فوجدتني عاجزا عن تفضيل عبارة عن أخرى أو صورة عن أخرى فلكل واحدة جمالها وانزياحها وخرقها للمألوف ، لهذا تجدون أني تجاوزت توظيف هذه الأمثلة وتركت الحرية للقاريء للوقوف على حقيقتها أثناء قراءته النص ولكن لاضرر من الإتيان ببعض هذه الصور البلاغية على سبيل الاستئناس ، (الأرض قطعة ملح عالقة بغفوة أطلال منسية / الأحلام تستحم بالأمل / وحده الطريق يرافقه / إنها بثور تشكلت فوق خذ صفعة الطاعون / تشكل جسد يشهق بأنين الموتى / كان الجسد جنديا معمدا بالموت /الجسد جحافل من رفات تحمل رأسا ذا عيون كبيرة .،،،)هذه فقط بعض الأمثلة من ذلك الكم الهائل من الانزياحات الواردة في النص . عندما نقول بلاغة الغموض، لا يجب أن ننظر إليها من الجانب السلبي للغموض ،ولا يجب أن نخلط الغموض هنا بما يرادف من إبهام أو تعقيد إذ غالبا (ما يرتب لفظه ترتيبا لا تحصل من خلاله الدلالة وبالتالي يعوق فهم المتلقي ) حيث اعتبر ذلك في مفاهيم القدماء النقدية من العيوب ،فقد قال الجاحظ : "أحسن الكلام ماكان معناه في ظاهر لفظه ". يميل القاص الساعدي (من خلال ما سبق نقاشه ) وفق النقد القديم إلى اعتماد رأي الجرجاني الذي يقول :"من المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له ،والاشتياق له ،كان نيله أحلى ".وهذه مسألة عادية حتى في حياتنا اليومية ، نجد أن كل معروض مرفوض ، وأن كل عزيز مطلوب ، أن تكدح للحصول على المعنى والاستمتاع به يختلف عن أن يكون المعنى متوفرا لك ودون أن تبدل فيه أي جهد يذكر ،وهذا ينطبق حتى على عملية التحصيل الدراسي في الفصول . لكن قد نقول إن هذا كان يتعلق بالشعر ، لكن بلاغة الغموض و الإمتاع والانزياح لم تعد حكرا على الشعر كما سبق أن ناقشنا في مستهل هذه المقالة النقدية ، بل أصبح الاعتماد على الصورة واضحا في جميع مظاهر التفكير البشري مسألة عادية بل أصبح الانزياح حتى في الإعلانات الإشهارية ، وأصبحت خاصية من خصائص النصوص السردية ، بل أصبح الانزياح من أبرز الشروط التي يجب احترامها إذا أردنا أن يحصل التكثيف الواجب توظيفه في القصة القصيرة على وجه الخصوص . يعمد القاص عبد الكريم الساعدي إلى الانزياح من خلال إعادة ترتيب كلماته ومقولاته اللغوية بشكل تحصل فيه الدلالة كما يحصل الإدهاش والاندهاش والإعجاب ، ولعمري يكون ضرب عصفورين بحجر واحد .وهذا هو بيت القصيد ،من عملية الكتابة برمتها .وما دامت هذه الحرية في الانزياح لم تعد محصورة في مجال الشعر ، ولم تعد بلاغة الغموض من خصائصه فقط والوضوح (المعاني على متوى الحقيقة )من خصائص النثر كما يذهب إلى ذلك" إبراهيم بن هلال الصحابي "لماذا لا يمتع القاص قارئه على مستوى اللفظ والمعنى ، كما كنا نقول في النقد القديم . يقول الساعدي":خنادق يسكر الموت فيها " على المستوى النحوي ، ليس هناك أي مشكل فقد احترمت القواعد النحوية ، على اعتبار أن مواقع الكلمات من الناحية الإعرابية في وضع سليم ،فهناك فعل وفاعل وزوائد كشبه الجملة ، وربما هذا أبسط تركيب على المستوى النحوي ، ولكن على مستوى الدلالة اللغوية ، عليك أن تربط حزام السلامة ، فأنك ستكون مردوفا مع الساعدي ، في جولة غير مألوفة ، كيف ،يسند فعلا وظيفته أن يسند" لحي عاقل ، نام ، متغد ، فان ،،،،،الخ .." إلى اسم مبهم ، مجرد ،لا ندركه بواسطة الحواس ، سنقول إنه محسوس ، فأقول محسوس عند الذين ذاقوا مرارته ، أما بالنسبة للأحياء ، فهو مجرد لا يدرك إلا بالعقل ، من هكذا نوع من الترتيب اللغوي يحصل الإمتاع كما يحصل الإدهاش وتحصل الدلالة اللغوية .أما المعنى على المستوى الحقيقي: فإن هذا الخندق ،" لا يوجد فيه إلا الموت" ألا تري عزيزي القاريء أن التعبير بواسطة الانزياح أكثر إمتاعا وأعم فائدة ، وأكثر جلبا للإدهاش والإعجاب ،من التعبير العادي ، فمع من إذن سنكون من النقاد القدماء مع" الحرجاني أم مع الجاحظ " وإن كان لكل منهما مبرراته الموضوعية الخاصة، فالنص اذن :"رسائل الموتى " أشبه بالمنجم الذي يعج بكم ضخم من الدلالات حيث يعمق الوظيفة الجمالية للخطاب السردي في النص . فكل تركيب لغوي أو جملة في النص ، إلا وتشد انتباهك وتخلق فيك روح التساؤل والاعتماد على النفس في تحصيل معرفة المعاني التي يستهدفها القاص من كتاباته ، وبالتالي يبعدك عن الابتدال واللغة المباشرة ،التي غالبا ما تجعل تفاعل المتلقي سلبيا مع النص ، وتجعله يسير أفقيا ، وتقتل فيه الطموح للتحليق في سماء جمال الكلمة . فبلاغة الغموض في نص عبد الكريم الساعدي إذن ليست خرقا لقواعد نحوية ،كما كان يحصل في الشعر ، وإنما الخرق يقع على مستوى التركيب وطريقة الإسناد ، الذي كان يسميه الجرجاني " بالنظم" . اللغة هي البؤرة التي تجمع بين الملقي والمتلقي وهي القاسم المشترك بينهما ، فباللغة يتفاهم الانسان ويفهم بعضه بعضا ومنها يمكننا أن ننطلق في دراستنا لهذه الخصائص السردية للنصوص • من خلا ل هذه التراكيب يخلق القاص الصورة الرائعة التي تحلق بالقاريء في عالم الجمال ، لأن هذه الصورة تصبح انزياحا عن المعيار أو خروجا متعمدا عن القواعد المعتادة وتحويل الألفة إلى غرابة ، كما يرى "جون كوهن" فهذه الصورة التي نستنبطها من النص ، تحويل من لما هو مألوف ومستعمل من الكلام إلى لغة مجازية واستعارية وبلاغية خارقة لما هو عاد. وتخضع لمبدأ المماثلة والتشابه بين الأشياء على مستوى التركيب البلاغي في حين تكون متنافرة وبعيدة كل البعد عن بعضها البعض على مستوى الألفاظ، "فالصورة إذن عملية تحويل وتغيير واستبدال " حسب "ياكبسون" قد يقول قائل :" لماذا كل هذا الاسهاب في بلاغة الغموض " أقول لسببين وضحتهما في بداية هذا التحليل : 1 -تمعنت النص جيدا فوجدته زاخرا بالصور البلاغية ، وهذا مكسب جميل على مستوى اشتغال القاص على اللغة إلى جانب الفكرة ،فلم يؤثر احدهما عن الآخر ، لغة انزياحية جميلة جدا تبهج وتمتع و فكرة الوضع العام الذي تفوح منه رائحة الموت في موطن القصة أو محيطها العام" 2- أرى أن أغلبية كتاب القصة القصيرة لا زالوا لم يستوعبوا فكرة الإشتغال على بلاغة الغموض ، وتضمين نصوصهم على سبيل التناص كل ما من شأنه الرفع من مستوى النص كما فعل القاص الساعدي الذي اقتبس من شعر عبد العزيز موافي وهذا في منفعة النص . إن هذه الصور البلاغية الجميلة تساهم في تكثيف نصوصهم ،نظرا لكون النص السردي يبقى فنا قائما على التكثيف والإيحاء والرمز خصوصا فن القصة القصيرة ، أيضا لأن بنيات النص السردي الأسلوبية ذات طبيعة إيحائية ومجازية مؤسسة على التكثيف والاستعارات والمجازات ، ولعل أفضل ما يمكن الإستشهاد به في هذا البا ب القرآن الكريم الذي فيه الواضح وفيه الغامض ، لكن الغامض يفسر بالواضح ، حتى يصبح واضحا :" هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ".صدق الله العظيم . فنص الأستاذ الساعدي مشحون بالمحسنات البلاغية ،والجمالية الموسعة ، وإن كان هناك نوع من المبالغة التي أرى أن الكاتب عليه ، أن يتجاوز الإسراف في توظيفها فما دامت من جماليات التوظيف اللغوي فإن الإسراف والتكثير من هذه الصور البلاغية قد ينعكس سلبا على تحصيل القراءة وحصول متعة المتلقي . إذ يمكن أن تصرف هذه الصور انتباه المتلقي عن القراءة ، وبالتالي العزوف عن إتمام النص ككل ، فلا تحصل متعة القراءة ، فتضيع مجهودات الكاتب سدى ، وإن كانت هذه وجهة نظري فإن الصور البلاغية يمكن اعتبارها التوابل والملح في الطعام ، فلا طعام بدون( توابل وملح) ، ولا (توابل وملح )بدون طعام ، (والشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده )كما نقول في المثل السائر . والله موفقك في مسيرتك السردية ~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~صالح هشام الرباط ~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~السبت 20/يونيو/2015
#عبدالكريم_الساعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
( مدارج العتمة )
-
( الرفيق ديونيسوس )
-
في قباء الكوابيس
-
رفيف التجلي
-
عند منعطف النسيان
-
لمّا أوغلَ فيَّ الفراغ
-
في مُقام التجلي
-
بيادق محنّطة بالغياب
-
للهذيان قامة
-
حين أعياهُ العدّ
-
ماذا بعد انتخابات 2014
-
ترنيمة انتظار
-
( محجر رقم 1 ) - قصة قصيرة -
-
اللمسة الأخيرة - قصة قصيرة -
-
قلبُ أمّي لم تخنْهُ النظرة - قصة قصيرة-
-
خطوة على الطريق - قصة قصيرة-
-
فلنرجم كلّ الفاسدين بإصواتنا
-
إنّهُ يرتّلُ أنفاسي - قصة قصيرة -
-
ليلة احتضار النور - قصة قصيرة-
-
ذاكرة معلّقة بصلعة الجحيم _ قصة قصيرة _
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|