وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 4841 - 2015 / 6 / 18 - 16:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
اسئلة تثار دائما :
- الا يؤدي تركيز بولس على التبرير بالايمان الى اضعاف الالتزام الاخلاقي؟
- لماذا لم ينادي بولس ببرنامج لتحرير المجتمع وتغييره على اساس الهوية المنفتحة , لكي يمنح المراة كرامتها ولكي يلغي نظام الرق والعبودية؟
- هل قام بولس بخصخة الايمان؟
الاجابات:
يؤدي مبدا التبرير بالايمان عند بولس الى تغيير الانسان . الى العبور من الهوية المنغلقة والاحادية الى الهوية المنفتحة والمتعددة .ان مكانة المسيحي ليست في موقفه الاجتماعي : عبد او حر , يهودي او وثني , رجل ام امراة , بل الايمان بالمسيح , هذا الايمان المشبع بالمحبة .
يميز اللاهوت التقليدي بين التبرير والتقديس . يقوم التبرير على منح النعمة للمؤمنين .اما التقديس فهو يشير الى تحول حياة الانسان منذ اللحظة التي يؤمن فيها بذلك .
هنا يثار تساؤل : الم يراهن بولس بكل مايملك على لحظة التبرير , مهملا مسيرةالتقديس الطويلة والتي تستمر طوال حياة المؤمن ؟ بعبارة اخرى هل يستطيع الانسان الذي حصل على الخلاص ان يعيش كما يحلو له ؟ .كان هذا السؤال مطروحا بشدة ايام بولس .
يكتب الرسول بولس في رسالته الى مؤمني رومية (6 : 15) :
( فماذا اذن انخطيء لاننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة ؟ ). فهو يرد على تساؤلات وردت اليه من الكنائس التي اسسها .
الملاحظ ان الكاثوليك المتاثرين بانجيل متى , انصب تركيزهم على التقديس , اي على الاعمال , اكثر بكتير من التبرير , وان البروتستانت الذين تاثروا بتعاليم بولس , اظهروا من جانبهم ضعفا خلقيا في صياغةالتبرير والتقديس . اي انهم قللوا من التعليم الاخلاقي واكثروا من الوعظ عن الخلاص بالايمان .
قاد تعليم بولس الذي ركز على عقيدة التبرير, بحسب راي البعض , الى نوع من خصخصة الايمان . لقد ادى تعليمه الى تفضيل الانسان الباطني الذي يقلل من اهمية مسؤولية المسيحي في المجتمع , ويمكن فهم ذلك :
ليس من المهم ترجمة الايمان بالاعمال طالما لايحتاج الانسان ان يعمل اي شيء ليكون مقبولا عند الله .
لقد تحمل بولس وهو بعد حي تبعات هذه النتيجة .( راجع انتقاد بولس للمؤمنين في كنيسةكورنثوس ) .
كانت خطورة اعتبار التبرير بالايمان من جانب قسم من جماعات بولس , محطة نهائية للخلاص قائمة وموجودة . امثال المؤمنين في كنيسة كورنثوس. لقد تعرض الانجيل الذي بشر به في كورنثوس الى موجة روحانية حماسية سمحت بجميع انواع الحريات لبعض المسيحيين .
تمادى البعض بلا حدود في الممارسات الجنسية ,بينما وقع اخرون في لامبالاة مفرطة تجاه اوجاع الاخرين , مثل لامبالاة الاغنياء المسيحيين في كنيسةكورنثوس تجاه جوع او فقر طعام العبيد المسيحيين داخل الكنيسة .
لقد هلل خصوم بولس قائلين :انظروا الى اين يقود التخلي عن الناموس ؟
لقد لاقى اقتراح البعض بفرض بعض الشرائع اليهودية مثل تحريم لحم الخنزير وبعض الاطعمة والعودة الى ختان الذكور نجاحا ملموسا في كنيسة غلاطية .ملات هذه الشرائع الفراغ الذي شعر به المسيحيون . ادى هذا الى اعتراض اليهود :
بولس يبيع النعمة بثمن بخس !
لقد كان بولس مقتنعا انه بمجرد ماتصل رسالة التبرير الى اعماق الرجال والنساء , فان حياتهم تتغير آليا . لقد قبلوا في اعماقهم الخبر السار ( الانجيل ) : الله يقبلهم , فلا يمكن ان يستمروا في سلوكهم القديم .هذا الامر يوضحه بولس في رسالته الى رومية , مثلا ( رومية 6: 1- 14 ) .
يقدم الرسول بولس في رسائله شرحا للتبرير بالايمان يعقبه بتفصيلات كثيرة لشرح التقديس . اي لتحويل التبرير الى اعمال في خدمة الاخرين , خدمة قائمة على المحبة .يؤكد بولس على اهمية الحرية في المسيح والتي لاتعني القيام بالاعمال اللااخلاقية, بل القيام باعمال روحية :
( فاثبتوا اذا في الحرية التي قد حررنا المسيح بها .. فانكم انما دعيتم للحرية ايها الاخوة غير انه لاتصيروا الحرية فرصة للجسد بل بالمحبة . اخدموا بعضكم بعضا لان كل الناموس في كلمةواحدة يكمل ( تحب قريبك كنفسك ) ( غلاطية 5 : 1 و 13 – 14 ).
وهكذا فان بولس بعد ان رفض الناموس اليهودي , اي شريعة موسى كوسيلة للخلاص , يقوم بتثبيت الناموس الاخلاقي , بعد ان الغى الناموس الطقسي , مثل الفرائض كالذبائح والتطهير والعشور ..الخ .انه يجمع كل هذا في اطار الحرية التي تدعو الى محبة الاخرين .
ان بولس لايريد وضع شريعة جديدة ولا قانون اخلاقي مسيحي . انه يكتفي بالتذكير بالتوراة : توراة بعيدة عن الاوامر والنواهي ( تحب قريبك كنفسك )( رومية 13:8 ) وغلاطية ( 5: 14 )وحرية حب مطلقة , اي انه يدعو الى ناموس المحبة وليس الى ناموس الطقوس والحدود والكهنوت والعشور .
لقد لخص القديس اوغسطينوس تعاليم الاخلاق في المسيحية في جملة واحدة ( احب وافعل ماتشاء ) . ولخصها مارتن لوثر :
( يفقد المرء كل شيء اذا فقد المسيح , ويمتلك كل شيء اذا امتلك المسيح ,حيث بقي المسيح يبقى كل شيء , ويوجد كل شيء ).
يقودنا هذا الى تساؤل :
لماذا لم يفكر بولس في وضع برنامج سياسي لتحرير المجتمع ؟ لقد اقام جماعات سادت فيها المساواة بين اليهود واليونانيين , وبين الاحرار والعبيد ,بين الرجال والنساء . فلماذا انتظرت المسيحية طويلا حتى ادانت كنيسة مسيحية الرق عام 1780 ,وشجبه البابا لاون الثالث عشر في عام 1888 , ووصفه بانه ممارسة لاانسانية ؟
الاخوة تنتصر على العبودية
اعاد بولس الى فيلمون مع اقصر رسائله , عبده الهارب اونيسموس , ولا يطلب من مالك العبد ان يحرره , بل يطلب منه ( لا كعبد في مابعد بل افضل من عبد اخا محبوبا )( رسالته الى فيلمون ). لاترد كلمة مساواة في رسالة بولس . كما انه لاثير مسالة العبودية من زاويتها المدنية , مما يؤدي الى القول ان علاقة العبد بالسيد علاقة لايدينها ولا يرفضها الايمان المسيحي .
يشارك بولس في هذا الامر راي الغالبية في عصره , حيث كانت مسالة العبودية امرا مقبولا . ولكن على الايمان ان يظهر اثاره وثماره في العلاقة بين الانسان واخيه الانسان .
اونيسموس هو عبد ولكنه اخ , عبد في المجتمع واخ في الايمان . ينفتح بذلك باب مااطلق عليه في التاريخ تعليم بولس : رافة الانسان الباطني . وهو راي اضعف من ان يغير المجتمع .
يمثل امام عيوننا صمت اللوثريين الالمان امام فظائع وظلم هتلر والنازية في المانيا , وتجاه التفرقة العنصرية التي سادت حتى فترة قصيرة في جنوب افريقيا .
لماذا يسود هذا النوع من الانقسام بين المجتمع والكنيسة التي تصمت على اشياء تقع في المجتمع , وترفضها في داخلها ؟هنالك تفسيران : احدهما تاريخي والاخر لاهوتي .
من الناحية التاريخية لم يكن للجماعات المسيحية في حوض البحر الابيض المتوسط اي وزن تجاه سطوة وقوة الامبراطورية الرومانية . ان قدرة هذه الجماعات المسيحية الصغيرة على تغيير نظام المجتمع وقوانينه والغاء العبودية , يشبه تصور امكانية اعلان حقوق الانسان في القرون الوسطى .
اما من الناحية اللاهوتية فقد كان بولس مقتنعا بان نهاية العالم قريبة جدا . وقال هذا الكلام لجماعته :المسيح على الابواب
( 1 تسالونيكي 4 : 13 -17 ).
لذلك فان الوقت غير مناسب لتغيير العالم مادام المسيح قادم ( فكرة الانتظار السلبي , كما نجدها عندالشيعة قبل ولاية الفقيه –كاتب المقال ).
وعت المسيحية بعد بولس ان فترة الانتظار ستطول وعليها ان تجد لها مكانا في المجتمع حتى المجيء الثاني . ان مااعاق بولس عن وضع برنامج سياسي ضد العبودية هو ذاته مركز الثقل في فكره :التبرير بالايمان . واليكم منطق الرسول بولس :
اذا كان الله يقبل الانسان ,واذا كان الانسان يقوم على هذه الهوية التي لاتقهر , فما هي اهمية راي المجتمع ؟
مسك الختام :
يعتقد كاتب المقال ( وليد يوسف عطو )ان الرسول بولس لم يقم بخصخصة الايمان ,بل ان الكنائس الانجيلية حولت التبرير بالايمان الى خطاب اعلامي وعظي يقوم على تبشير المؤمن المسيحي بالخلاص الفردي وليس الجماعي , بعكس لاهوت التحرر في كنائس اميركا اللاتينية .الذي اسهم في الانتقال بالمجتمعات في اميركا اللاتينية من الدكتاتورية الى الديمقراطية .والهدف واضح :وهو تهيئة الارضية الفكرية عن طريق الارساليات التبشيرية والتي تقوم بعملية غسيل ادمغة قبل استعمار الدول الغربية لشعوب العالم .
لذا تم التركيز لدى الكنائس الانجيلية على الخلاص الفردي والنظر الى المسيح ك ( مخلص شخصي ). انه خطاب ليبرالي في زمن العولمة , ذراع اعلامية ضاربة للراسمالية الغربية والذي سيقوم باستعمار دول العالم الثالث استعمارا مباشرا او غير مباشر.
لم يقترح بولس تغيير النظم الاجتماعية . ولا نستطيع اليوم, نظرا لوزن المسيحية في المجتمع , ان نكرر مافعله بولس من صمت تجاه هذا الامر .
لم يعد احد يجهل ان الصمت امام الظلم الاجتماعي تكريس له .لقد كان بولس يعتبر الكنيسة مجتمعا مصغرا . يعيش فيه المؤمنون معا بطريقة مختلفة عن المجتمع .
انه تحدي قوي ان تكون الكنيسة مكان عيش مشترك وارضية الهوية المنفتحة .
يدعو بولس المؤمن ان يرى في وجه الاخوات والاخوة في الكنيسة مايجريه الله فينا دون ان ندري :
جسد المسيح في تعدديته الرائعة .
في قراءة نقدية معمقة لرسائل القديس بولس , نكتشف انه لم يكن عدوا للمراة بل نصيرا للمراة وكان تقدميا في نظرته الى المراة . وتشهد رسائله بالعدد الكبير من النساء .
لم يكن رجلا متسلطا , ولم يكن شخصا غير مبال بالاخلاق . انه بعيد كل البعد عن سيل الاتهامات التي وجهت اليه عبر التاريخ .ان اعتكافه في المنطقة العربية , ربما في البتراء عاصمة النبطيين,تعني تاثره بديانات الاسرار المستقلة كالاسينيين .حيث يدخل الاعضاء الجدد في فترة اختبار تستمر لمدة ثلاث سنوات .
ونلاحظ تكرار كلمة ( سر )في رسائله دلالة على تاثره بديانات الاسرارالسائدة وقتها في ارجاء الامبراطورية الرومانية .
لقد كان بولس انسانا تقدميا سبق عصره وانسانا واقعيا , عرف ان رفع السلاح بوجه الدولة الرومانية في كبريات المدن سيؤدي الى فوضى مجتمعية وتفكك الدولة الرومانية وسيادة البربرية فيه.
لقد استبدل بولس في كنائسه العبودية بالاخوة , حيث انتصرت المحبة والحرية في المسيح على الكراهية والتقسيم الطبقي والاجتماعي والعرقي . كما استبدل الهوية الاحادية المنغلقة بالهوية التعددية المنفتحة .
ان المسيحية مدينة بنجاحاتها لهذا الرسول العظيم , هذا المعلم العبقري والاهوتي اللامع والموهوب والذي دمج اللاهوت بالفلسفة .ان بولس , صانع الخيام افضل من تكلم عن الصليب والقيامة , وترك بصمة في التاريخ الانساني لايمكن محوها مطلقا .
المصدر:
كتاب ( بولس الطرسوسي :الرجل الذي قاوم الله )- تاليف : اللاهوتي الفرنسي دانيال مارجيورا – ترجمة : الاب الدكتور كميل وليم – ط1 – 2006 – دار الثقافة – القاهرة
مقالات ذات صلة:
مقالتنا ( موقف الرسول بولس من المراة) وعلى الرابط التالي :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=265446
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟