خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 4838 - 2015 / 6 / 15 - 08:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ترجمة خليل كلفت و على كلفت
3
تغيير المدينة يعني تغيير الحياة
ها هي الأرقام تتحدث بنفسها. إذ تقول التقديرات أنه في عام 2000، سيعيش 75% من سكان البلدان الصناعية (أيْ 0.9 مليار نسمة) في المدينة، مقابل 73% في 1990. وفي البلدان النامية، لا مناص من أن ترتفع نسبة سكان الحضر من 37% إلى 45% في الفترة نفسها، أيْ 2.3 مليار نسمة. ومن الآن وحتى 2025، لا مناص، في حالة عدم تغير الاتجاهات الراهنة، من أن ترتفع هاتان النسبتان في الشمال إلى 84% (1 مليار نسمة) وفي الجنوب إلى 57% (4 مليارات نسمة)(1). ومن الآن يتزايد سكان الحضر في العالم أسرع من سكان الريف بنسبة تتضاعف إلى مرتين أو ثلاث مرات.
ويدرك الجميع المدى الهائل للثورة الحضرية الجارية: سيكون علينا، خلال أربعين سنة، تشييد ما يعادل ألف مدينة يعيش في كل مدينة منها ثلاثة ملايين نسمة، أيْ تقريبا نفس عدد المدن المماثلة الموجودة اليوم! والواقع أن هذه الثورة الحضرية، الكمية قبل كل شيء، سوف تؤثر على وجه الخصوص في البلدان النامية(2). وفي 2025، يمكن أن يصل معدل الحضرنة إلى 85% في أمريكا اللاتينية، و54% في أفريقيا، و55% في آسيا. ووفقا للبنك الدولي فإن مدن البلدان النامية وحدها سوف تزداد، بالمعدل الحالي، 65 مليون نسمة في السنة ـ الأمر الذي ينتهي إلى أن تضاف إلى الكوكب، مدينة بحجم تركيا كل عشر سنوات(3). ومن المحتمل أنه في 2025 سوف يعيش 80% من السكان المتحولين إلى حضريين في بلدان نامية. وبالإضافة إلى هذا، ينزاح هذا التعملق نحو الجنوب، حيث يعيش ثلثا سكان العالم في المدن العملاقة (الميغابولات) mégapoles متركزين في المناطق الأكثر نموا: في عام 2000، سوف تقع 6 مدن من أضخم عشرة مدن في العالم في آسيا، واثنتان في أمريكا الشمالية، واثنتان في أمريكا اللاتينية. وفي عام 2015، سوف تقع مدينة واحدة من المدن العشر الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم في الشمال (طوكيو)، ولن تقع أي مدينة منها في الغرب. وسيكون علينا إذن حل مشكلات المدينة ضمن إطار مختلف جدا عن إطار الماضي، وهو في الوقت نفسه متمايز للغاية: صارت الزيادة الحضرية منذ الآن هي الأقوى في المناطق الأقل فقرا ـ فلا علاقة لها إذن بتنمية فعالة ـ ولكن أيضا في تلك المناطق التي تشهد النهوض الاقتصادي الأسرع: في هذه الحالة يبدو "الرواج" الحضري في كثير من الأحيان مرادفا للفوضى المنفلتة التي لا يمكن السيطرة عليها. ويبدو جليا بالتالي أنه، إذا تواصلت هذه الاتجاهات، فإن من شأنها أن تشكل ضغطا لا يطاق على الموارد الطبيعية ـ وعلى وجه الخصوص في المياه والطاقة. وفضلا عن ذلك فإنها سوف تهدد بصورة خطيرة تنظيم وإدارة الهياكل الاجتماعية. وعلينا بالتالي أن نطمح جميعا، ضمن تحالف كبير، إلى ما لم تتحقق فيه التوقعات الديموغرافية. ولا يتعلق الأمر بقدرية لا مفر منها، بل ينبغي، للتصدي لها، تسريع إقامة البنية الأساسية التعليمية ورفع نوعية الحياة في البيئتين الحضرية والريفية.
إعادة التفكير في المدينة:
التحدي الجديد في طريق التنمية
في غضون العقود المقبلة، سوف تمثل المدينة أحد التحديات الرئيسية للتنمية، حيث أن التنمية ستغدو حضرية بصورة متزايدة. على أن البنية الأساسية الحضرية تدخل في تفاوت عميق مع حاجات السكان: هذا على وجه الخصوص هو حال المياه، والطاقة، ووسائل النقل، خاصة في الجنوب حيث يتركز الجانب الرئيسي من الزيادة الحضرية. وعلاوة على هذا فإنه، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة، يعيش أكثر من 600 مليون من سكان المدن في العالم بدون مسكن ثابت أو يعيشون في أوضاع صحية موبوءة بصورة مشئومة؛ كما أن على 600 مليون شخص آخرين أن يتحملوا أيضا أوضاعا غير مستقرة بصورة مماثلة تماما في الريف، ولا تؤدي هجرتهم إلى المدن في كثير من الأحيان إلا تحويل الفقر الريفي إلى فقر حضري(4). وفي مدن الجنوب، كان مواطن من أصل أربعة على الأقل، وفقا لإحصائيات البنك الدولي، يعيش في 1996 في حالة فقر؛ وفي عام 2000 ستكون هذه النسبة قد تضاعفت(5)؛ وفي مناطق بعينها مثل أمريكا اللاتينية يتجاوز عدد الفقراء في البيئة الحضرية عدد الفقراء في البيئة الريفية(6). وليس من قبيل المصادفة أن أحد المؤتمرات الأخيرة للأمم المتحدة في القرن العشرين، والذي انعقد في إسطنبول في حزيران/يونيه 1996، كان عنوانه: قمة المدن (الموئل 2).
وقد شدّد مؤتمر إسطنبول بقوة على عدم ملاءمة الأنماط الاستهلاكية الحضرية، التي تلحق أضرارا لم يسبق لها مثيل بالبيئة الحضرية ولكن أيضا، وبصورة أضخم، بالنظم الإيكولوجية التي تعتمد عليها هذه المدن. وتثبت كل المؤشرات ـ استهلاك الطاقة، إنتاج غازات الدفيئة، طول الطرق المشيدة أو المستخدمة، عدد السيارات، إنتاج الفاقد، التلوث الجوي والكيميائي والإشعاعي، تلوث المياه والأراضي ـ أن فكرة التنمية المستديمة لم تتغلغل بعد في الثقافة الحضرية، خاصة في البلدان الصناعية. والواقع أن المواطن الأمريكي الواحد يضغط على البيئة الطبيعية أكثر من عشرين مواطنا من بنغلاديش. ومن وجهة نظر إيكولوجية، فإن عددا كبيرا من بلدان الشمال تعتبر بوضوح أكثر ازدحاما بالسكان من الهند أو الصين(7). والحقيقة أن "البصمة الإيكولوجية" للبلدان الغنية لا تتناسب مع وزنها الديموغرافي: سيحتاج الأمر إلى ثلاثة كواكب بحجم كوكب الأرض لإعالة ست مليارات من الكنديين(8).
ومنذ مؤتمر إسطنبول تقاربت رؤيتان متناقضتان للغاية، رؤية مؤتمر "الموئل 1" في ڤ-;-انكوڤ-;-ر (1976)، الذي رأى في "الموئل" قبل كل شيء "مستوطنة بشرية"، ورؤية قمة ريو للأرض المنعقدة في 1992، والتي أعطت مكان الصدارة في مفهوم "الموئل" للنظام الإيكولوجي(9). على أن هذا التركيب لم يحدث دون أن يترك إبهاما: هل سنبني في القرن الحادي والعشرين مدنا تقتصر على أن تكون قابلة للسكنى، أم سنبني فيه مدنا قابلة لأن يحيا فيها الجميع(10)؟ وكما يشدد كانديدو منديس Candido Mendes فإن "’الموئل البشري‘ سياسي بقدر ما يرتبط تنوعه الأحيائي الجوهري بالقيم الإنسانية وأنماط الحياة الإنسانية". ويفترض هذا الإدراك اعتماد إستراتيجيات تأخذ في اعتبارها " الدفاع عن التنوع الثقافي، والعلاقة بين المحافظة على البيئة والتنمية، والعلاقة بين الإيكولوجيا والديمقراطية"(11).
وفيما وراء تعريف المصطلحات ينعقد الرهان الآن على مفهوم جديد للتنمية يوحد النهوج المتباينة التي جرى استكشافها خلال العقد الماضي: "التنمية المستديمة"(12)، و"التنمية البشرية"(13)، و"التنمية الاجتماعية" وهي توسيع للبعد الجماعي للتنمية البشرية(14). وإذا أردنا أن نبحث مشكلات المدينة في تعقيدها، ينبغي أن نحاول ابتكار شكل للتنمية يشمل ويتجاوز تماما كل الأشكال النوعية للتنمية التي حددها المجتمع الدولي. والحقيقة أن إدماج المدينة في "التنمية المستديمة" يعني النظر إلى المدينة على أنها اتجاه رئيسي، يقتضي سياسات مستقبلية في الأجل الطويل وإحساسا قويا بالتضامن بين الأجيال، غير أنه يعني أيضا الاعتراف بأن المدينة صارت بيئة حياة، بيئة متفاعلة مع البيئة الطبيعية. ويقتضي تعزيز "التنمية البشرية" في المدينة أن نتذكر أن الانتقال من الريف إلى المدينة يمثل، بالنسبة لكثير من السكان المحرومين، نشدانا للكرامة التي لا يجب أن تبقى سرابا. وأخيرا فإن جعل المدينة مكان "التنمية الاجتماعية" يذكرنا بعبارة أرسطو التي تنظر إلى الإنسان على أنه "حيوان سياسي"، أي على أنه أحد سكان المدينة ـ الدولة polis أوCité، وبعبارة أخرى على أنه "كائن حضري". أليست المدينة "طبيعية" للإنسان بقدر ما أن الإنسان كائن اجتماعي؟ إن إعادة التفكير في المدينة سوف تعني أيضا جعلها، أو بالأحرى إعادتها، مكانا لبناء المواطنة، والمجتمع، والتهذيب.
وقد أكد مؤتمر إسطنبول ضرورة تحقيق تقارب بين هذه النهوج المتباينة للتنمية، معتبرا أن المدن يجب أن تصير في آن معا "قابلة للسكنى"، وهذا ما يوجب احترام النظم الإيكولوجية التي تعتمد عليها المدينة، و"قابلة للحياة فيها"، وهذا ما يفترض ثقافة مواطنة une culture citoyenne للمدينة، تقوم على التضامن والمشاركة، تحترم كرامة من يقيمون فيها. وكما شدد هنري سيسنيروس Henry Cisneros، وكان عندئذ وزيرا للإسكان والتنمية الحضرية في الحكومة الأمريكية، فإن "مشكلات البيئة صارت بوضوح ذات أهمية حاسمة لمستقبل مجتمعاتنا. واليوم، في الولايات المتحدة، وأيضا في بلدان أخرى، هناك كثيرون ممن يحاولون مثلنا وضع مفهوم ’المجتمعات المستديمة‘، ساعين إلى دمج مشكلات البيئة في مشكلات الإنصاف الاجتماعي والاقتصادي"(15).
بل سأذهب إلى ما هو أبعد من هذا بكثير: لقد صار التمييز بين الإشكاليات المتباينة للتنمية مفتعلا في جانب كبير منه؛ إذ أننا لا نستطيع حل بعضها دون حل الأخرى. ومن وجهة نظر حضرية، فإن التنمية المستديمة والتنمية البشرية والتنمية الاجتماعية ليست متكاملة فحسب: إنها غير قابلة للانفصام. والحقيقة أن التحدي الحضري في القرن الحادي والعشرين يدعونا إلى تبني رؤية جديدة. وليس رهان هذا التركيب شيئا آخر سوى المستقبل، غير القابل للانفصام من الآن، للمجتمعات الحضرية والمحيط الحيوي.
ويفرض التعقيد المتزايد للظاهرة الحضارية من الآن تنفيذ سياسات عالمية وتجديدية، متعددة الفروع ومتكاملة، ويفرض بصورة خاصة تغييرا في النطاق في إستراتيجيات التنمية للفاعلين الحكوميين والخاصين(16). إن المدينة أكثر من مجرد مجموع المباني، إنها نمط للوجود. بل صارت حتى بيئة حياة، بيئة شيدها الإنسان وصارت "طبيعة ثانية"، حتى إن انقلبت في بعض الأحيان إلى نقيض مباشر للطبيعة ونتيجة لرغبتنا في أغلب الأحيان في إنكار تعقيد الظاهرة الحضرية، صارت الآن مدن كثيرة جدا غير قابلة للحياة فيها. والواقع أن تداخل المدينة والنظام الإيكولوجي الذي تستند إليه ـ خاصة في عصر قامت فيه عولمة السلع والسكان بتوسيع نطاق هذا النظام الإيكولوجي بصورة كبيرة ـ وصل إلى حد أن المدينة صارت من الآن بوتقة تصب فيها كل تناقضات مجتمعاتنا ويجب أن ينبع منها مفهوم جديد للتنمية.
وفي المستقبل، يجب أن تأخذ مساعدة التنمية في حسابها العامل الحضري بتحديد علاقات بين كل شركاء التنمية وكل مستوياتها. وبالفعل، التزم البنك الدولي بأن يستثمر خلال خمسة أعوام 15 مليار دولار في السياسات الحضرية، وبأن يعزز مختلف الفاعلين في المدينة. ولا شك في أن أحد دروس قمة إسطنبول يتمثل في أن عُمَد التجمعات السكانية الكبرى سوف يمارسون في المستقبل نفوذا متزايدا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلدان. ومن الجدير بالذكر، بهذا الصدد، أن المجلس العالمي للمدن والسلطات المحلية قرر إنشاء سلطة تنسيق دائمة على المستوى الدولي. ومن المنتظر أن تنبثق من هذه الأشكال من التعاون مبادرات مشتركة، وخاصة رؤية مشتركة، وأن تقوم أيضا ربما عبر ازدهار تضامنات حقيقية بين المدن وعلاقات اقتصادية وثقافية بينها كمدن توائم (تآخي المدن).
وتحتاج أية سياسة عالمية للمدينة كأولوية إلى إعطاء مأوى لكل شخص. غير أنه ينبغي أيضا أن تكون المدينة قادرة على تقديم مشروع حياة وأن تصير أو بالأحرى أن تعود مدينة Cité. الإصغاء إلى رأي كل فرد من أبناء المدينة؛ السماح للأصوات البالغة التعدد بالمدينة بالتعبير عن نفسها في الساحة العامة للديمقراطية الحضرية؛ تحقيق المدينة لمجموع حقوق الإنسان المعترف بها عالميا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والميثاقين الدوليين بشأن حقوق الإنسان؛ التحقيق الفعلي لقرارات قمة إسطنبول والمؤتمرات الأخرى التي نظمتها الأمم المتحدة خلال العقد الماضي ـ تلك هي الأسس التي لا يجوز الالتفاف حولها لعقد اجتماعي حضري سيكون من الضروري الاتفاق عليه دون إبطاء لقبول تحديات المستقبل.
أية مدينة للقرن الحادي والعشرين
في سبيل إعطاء مأوى لكل شخص، سيكون من الضروري، كما أوضحنا من قبل، أن يتم خلال 40 سنة بناء ما يعادل ألف مدينة يقيم في كل منها ثلاثة ملايين نسمة، أو إعادة بناء جانب كبير من المدن القائمة. وقد قطع مؤتمر إسطنبول خطوة حاسمة في هذا الاتجاه إذ أعلن بالإجماع حق المسكن، الذي تم إدراجه من الآن بين حقوق الإنسان على المستوى العالمي. وفي هذا الصدد ينص الإعلان النهائي المعتمد لقمة الأرض على ما يلي: "إننا نؤكد رغبتنا في التأمين التدريجي للممارسة الكاملة لحق المسكن اللائق، المنصوص عليه في وثائق دولية شتى. وفي سبيل هذا الهدف، طالبنا بالمشاركة الفعالة لكل شركائنا الحكوميين والخاصين وغير الحكوميين، على كل المستويات، لكي نكفل للجميع الضمان القانوني لشغل المساكن، والحماية ضد التمييز، والمساواة في الحصول على مسكن لائق وبسعر معتدل. وسوف نعمل على زيادة عرض المساكن ذات الأسعار المعتدلة من خلال تمكين الأسواق من العمل بكفاءة، مع أخذ المصالح المشتركة وضرورة حماية البيئة في الاعتبار، ومن خلال تيسير الحصول على الأرض والائتمان، ومن خلال مساعدة غير القادرين على الوصول إلى سوق العقارات السكنية".
ومن الآن، صار المسكن معترفا به كحق لكل كائن بشري. وعلاوة على هذا، فإن تعريف المسكن الذي يتضمنه إعلان إسطنبول يتجاوز فكرة مجرد سقف. وينبغي أن تتضمن أية سياسة للإسكان من الآن فصاعدا أخلاقا للإسكان. والواقع أنه لا ينبغي الخلط بين المسكن البشري ومجرد ملجأ للبقاء. إن السكن أكثر كثيرا من مجرد حاجة. ويلعب السقف والبيت دورا رمزيا وعمليا جوهريا في نمو كل إنسان: إنهما ضروريان لتعريفه من حيث هو فرد إزاء الآخرين وإزاء المجتمع.
والمسكن هو المكان الذي تتشكل فيه هوية كل فرد وبالتالي الإحساس بالكرامة الإنسانية التي تشكل أساس كل ازدهار شخصي وكل نمو اجتماعي. كما ينبغي أن يوفر المسكن الحد الأدنى الضروري من الشروط الصحية العامة، والأمن المادي والإنساني، والحميمية، هذه الشروط التي لا تنفصم عن مفهوم الكرامة. إنه يشكل ضرورة اقتصادية بقدر ما هي أخلاقية: فالحي السكني لا يكون قابلا للحياة بدون بنية أساسية، وبصورة خاصة بدون توفير المياه الصالحة للشرب، وطرق السيارات، وإزالة القمامة، والمواصلات ووسائل النقل التي تربط الحي السكني بحركة ونشاط المدينة ككل.
على أن تكرار تأكيد هذا الحق ليس كافيا في حد ذاته. ففي سبيل وضعه موضع التطبيق، ينبغي بناء مدن الغد وتحديد في أي مدينة نرغب في أن نرى أطفالنا يعيشون. والواقع أن المدن يتم بناؤها في أكثر الأحيان بدون سكان المدن، إن لم يكن بصورة ضارة بهم. فالمدينة ليست، ولا يجب أن تكون، بالنسبة للأفراد قدرا بل اختيارا. وفي كثير من الأحيان يتم تصور المدينة على أنها فوضى قاسية ومدمرة أو طبعة حديثة من الجحيم: وينبغي من الآن اعتماد موقف أكثر عملية وأحزم إرادة كما ينبغي النظر إلى المدينة في آن معا على أنها شكل من أشكال التنمية علينا أن نبتكره، وعلى أنها تاريخ علينا أن نكتبه.
وفي رأي الخبراء، يتمحور نمو المدن في هذه النهاية للقرن العشرين، حول المدن العملاقة وحول الكتل السكانية التي تزيد على مليون نسمة، وبصورة خاصة إذا أدخلنا في هذا الرقم سكان المناطق شبه الحضرية(17). ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، تتجاوز ثلاثة عشر مدينة عشرة ملايين من السكان في 1992. وتشكل عملقة هذه المدن، نتيجة للنمو الحضري الطبيعي أو للهجرة الريفية، عقبة إضافية أمام اعتماد أساليب قابلة للاستمرار للتنمية والاستهلاك، مما يجعل التخطيط الحضري والإدارة الحضرية في غاية الصعوبة. ولا تمثل هذه الظاهرة سمة نوعية بالنسبة للبلدان الصناعية، بل إن العكس هو الصحيح. وخلال عشرين عاما، بين 1970 و1990، تغيرت قائمة أضخم عشر مدن في العالم تغيرا مهما، إذ أن مدن لندن وباريس وبكين وجدت مدن بومباي وكلكتا وسيول تحل محلها في الترتيب على القائمة. وكما سبق أن ذكرنا فإن 18 من أصل أضخم 25 مدينة في العالم سوف تقع في 2025 في الجنوب(18). والحقيقة أن "نموذج" المدينة المتعددة المراكز، الممتدة جدا والمتواصلة الاتساع، يميل إلى الانتشار خارج الولايات المتحدة ويمكن أن يصير سائدا على النطاق العالمي، حتى في المناطق التي تكون فيها التنمية الاقتصادية غير كافية لتعزيز اتساع نمو الحضرنة. ومن المتوقع أن يسود، في 2015، التسلسل التالي: طوكيو (28.7 مليون نسمة)، بومباي (27.4 مليونا)، لاجوس (24.4 مليونا)، شنغهاي (23.4 مليونا)، جاكارتا (21.2 مليونا)، سان باولو (20.8 مليونا)، كراتشي (20.6 مليونا)، بكين (19.4 مليونا)، داكا (19 مليونا)، مكسيكو سيتي (18.8 مليونا).
ومع تغيير المدن لحجمها فإنها تغير أيضا وجهها. وعلى العكس من الآمال التي يذكيها عدد من الخبراء، يبدو أن الوسائل الجديدة للاتصالات والمعلومات ليس من شأنها أن تخفض في الأجل القصير تدفق الانتقالات الحضرية ولا أن تكبح جماح عملية التركز الحضري. إنها على العكس، تؤدي إلى تركز الأنشطة الاقتصادية المعقدة المتقدمة ـ كما كان الحال خلال الثورات التقنية السابقة منذ التصنيع ـ وتؤدي بالتالي إلى التدفق الهائل للبشر والثروات بالقرب من نقاط الوصل بين شبكة وسائل النقل والمواصلات.
ولهذا تتجه المدن إلى أن تصير مستقلة ليس فقط عن المناطق الداخلية، بل أيضا عن البلد الذي تنتمي إليه كل مدينة منها. وكما أوضحت ساسكيا ساسن Saskia Sassen في كتابها الذي صار كلاسيكيا بالفعل، فإن عواصم مثل نيويورك ولندن وطوكيو صارت "مدنا عالمية"، وبكلمات أخرى مراكز اتصال الشبكات العالمية(19). ويكتب عالم الاجتماع ومصمم التخطيط الحضري مانويل كاستيلس Manuel Castells: "ليست المدينة العالمية مكانا، بل هي عملية ترتبط عن طريقها مراكز إنتاج واستهلاك الخدمات المتقدمة، وكذلك المجتمعات المحلية التي تعتمد عليها، من خلال شبكة عالمية"؛ ويتجه التخطيط الحضري الجديد إلى إيجاد "منطقة تدفق" لها ترتيبها الهرمي القاطع التحدد ضمن الشبكة العالمية للتفاعلات والاعتمادات المتبادلة الإقليمية(20). وبالإضافة إلى هذا، تتجاهل جغرافية المدن العالمية وشبكاتها التقسيم بين البلدان الصناعية والنامية. وعلى سبيل المثال، فإن سان باولو ومكسيكو سيتي صارا من الآن مركزين اقتصاديين رئيسيين عقدا صلات وثيقة مع أمريكا الشمالية والمراكز المالية العالمية.
وهذه الجغرافيا السياسية الحضرية الجديدة، أو بالأحرى "ما بعد السياسية" métapolitique، التي تربط بين عدد كبير من المدن "المنتمية" إلى مناطق وبلدان مختلفة، أو بالأحرى المنتمية إليها بصورة أقل فأقل، لا يمكن أن تندمج إلا بصورة ناقصة في اقتصاد المدينة وفي الحاجات اليومية للمقيمين فيها. كما أن الرواج الحضري الجديد يقوم في كثير من الأحيان بإلحاق الأضرار بالمراكز المتوسطة الحجم التي عجزت عن الاندماج في الشبكات، أو حتى أطراف المدن الكبرى. وكما يشدد كاستيلس فإن "المناطق التي تحيط بهذه المراكز تلعب دورا ثانويا وغير ملائم بصورة متزايدة إلى حد إصابتها بالاختلال الوظيفي أحيانا: وعلى سبيل المثال، فإن المستعمرات الشعبية colonias populares (مدن الصفيح هذه التي تقوم، في البداية، باستقبال القادمين الجدد) تمثل حوالي ثلثي سكان هذه المدينة المكسيكية العملاقة، غير أنها لم تعد تمارس أيّ وظيفة محددة في مركز الأعمال العالمي الذي صارت تمثله مكسيكو سيتي ... الارتباط عالميا والانفصال محليا، ماديا واجتماعيا، هذه هي السمة التي تميز المدن العملاقة mégacités، هذا الشكل الحضري الجديد"(21). وللتصدي للتحدي الحضري، يجب علينا إذن من الآن، وفقا لـ نسطور غارثيا كانكليني Nestor Garcia Canclini، أن "نقوم بإحياء المجتمع العام" وأن نستعيد "المعنى الشامل للألفة الاجتماعية الحضرية": "وإلا فإننا سنكون مهددين بخطر استحالة الحكم، إذ أن تعزيز ميول التفتت والتدمير يفاقم الاستبداد والقمع"(22).
فهل نستنتج من هذا أن اتساع نطاق المدن العملاقة ظاهرة لا رجعة عنها؟ أو أن الانقسام الذي أعلنه روبرت رايش Robert Reich بين محلِّلي الرموز للمدن العالمية والفئات الاجتماعية الأخرى المطرودة إلى أطرافها أو المعزولة في غيتوواتها أمر لا مفر منه أيضا(23). يبدو لنا على العكس، بشرط أن تكون هذه إرادتنا، أن من الممكن السيطرة على التنمية الحضرية وإيقاف تفتت المدن. وحيث أن أكثر من نصف زيادة السكان الحضريين ينشأ من الآن فصاعدا عن النمو الديموغرافي الطبيعي فمن الجلي أنه لا يمكن الرهان فقط على سياسات النضال ضد الهجرة الريفية التي لن تكون أمامها على كل حال أية فرصة لتحقيق غايتها إلا في حالة إجراء إصلاحات زراعية جذرية وتنفيذ سياسات واسعة النطاق للتنمية الريفية. ذلك أن المدينة تمثل في كثير من الأحيان، رغم قدر من فقدان التضامنات التقليدية، فرصة للفرد للتخلص من ثبات شروط الحياة في البيئة الريفية ومن الحرمان من الأرض أو من وسائل العيش هناك بكرامة. وعلاوة على هذا فإن التنمية الحضرية يمكن النظر إليها إلى حد ما على أنها محصلة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث أن الهجرة الريفية إنما تكون بجانب كبير منها النتيجة المنطقية لنمو الإنتاجية الزراعية.
ونحن مقتنعون بأن حلول المشكلات الحضرية سوف تمر قبل كل شيء بإضفاء الطابع الإنساني على المدن ذاتها، التي ينبغي أن تصير، كما شدد جورج فيلهايم Jorge Wilheim، نائب الأمين العام لمؤتمر الموئل 2، "مراكز للسلام والحرية والعدالة والإبداع والتضامن"(24). "تغيير المدينة": إن المقصود ليس فقط تغيير "أسلوب" الحياة، بل الحاجة إلى نظرة إلى العالم تنعكس، في نهاية المطاف، في سلوكنا اليومي. ومن وجهة النظر هذه فإن وحشية الحياة الحضرية في عدد من مناطق العالم لا يجب أن تخفى عنا عددا من المبادرات النموذجية التي، وإن كانت ما تزال قليلة جدا، تثبت وجود حلول أصيلة في مجالات شبكات وسائل النقل، والحصول على المياه، وتصنيع القمامة والمخلفات، والإسكان، والتعليم، والتنمية بالمشاركة، والتخطيط الحضري. وفي أمريكا اللاتينية، يمكن الاستشهاد بأمثلة Villa El Salvador في بيرو، وفي البرازيل بكوريتيبا بالنسبة لوسائل النقل وببورتو أليغري بالنسبة لإدخال العمل بميزانية بلدية بالمشاركة يشترك في إعدادها المواطنون البسطاء. وسوف تسمح الشراكات الحضرية على النطاق العالمي، فيما نأمل، بالنقل السريع لهذه الأمثلة للتجديد الحضري والتنمية بالمشاركة.
ويبدو من الملائم أيضا اقتراح أنماط من التنمية والتخطيط الحضري تختلف عن الأنماط التي تقود إلى الانفجار في عملقة حضرية كثيرا ما تكون غير إنسانية. ويمكن أن تقدم التنمية الريفية والمدينة المتوسطة الحجم بديلين للمدينة العملاقة وربما قدمت فرصا لحضرنة على المستوى الإنساني.
ويسمح تحسين نوعية الحياة في البيئة الريفية بتفادي الهجرات التي تتوجه قبل كل شيء إلى ضواحي المدن الكبرى، ثم إلى الخارج. ورغم تصنيع الزراعة فإن الكثير من المجتمعات هي الآن وسوف تظل في مستقبل منظور زراعية بمعظمها: هذه بصورة خاصة هي الحالة في أفريقيا، وفي الهند، وفي الصين، حيث ما يزال 70% من السكان يعيشون في الريف. ولهذا لا تكون أية سياسة للإسكان بالضرورة سياسة حضرية. وتتمثل الأولوية الأولى للسيطرة على النمو الحضري في تحسين شروط الحياة، والتعليم الرسمي وغير الرسمي، والتوظيف، في المناطق الريفية. وفي القارة الأفريقية، حيث لا يتأثر بالحضرنة سوى 30% من السكان، ما تزال القرى تشكل قلب التنظيم الاجتماعي، وسيكون من الممكن مضاعفة إنتاجيتها عن طريق تطبيق أساليب اقتصادية أحدث(25). وسوف يفترض إحياء الزراعة الأفريقية أيضا سياسات قومية وموازنات اقتصادية أكثر ملاءمة للسكان الريفيين(26). وفي بعض المناطق، خاصة في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية، تفرض نفسها سياسات إصلاحات زراعية واسعة النطاق، سوف تسمح للقروي بالحصول على الملكية الزراعية أو الاستغلال الزراعي(27). ومن أجل حل المشكلات الطويلة العهد للهجرة الريفية، ينبغي أن نملك الوضوح والجرأة الضروريين للتصدي للمسألة الأساسية للبشر الذين بلا أرض وللأرض التي بلا بشر. والحقيقة أن نزاعات معاصرة عديدة تعود بجذورها إلى وجود قوى شبه عسكرية مكلفة "بحراسة الأرض"، هذه القوى التي تصير، شيئا فشيئا، جيشا لا سيطرة عليه، وترتكب أعمال العنف والإرهاب. وقد شدد البابا يوحنا بولس الثاني في 1998 عن حق على أن "البؤس وغياب آفاق التنمية هما اللذان يدفعان الأفراد والأسر بصورة متكررة إلى طريق المنفى"(28).
وما من شك في أن الخدمات الأرخص والشروط الأكثر أمانا للتغذية والصحة العامة والأمن تكفي لأن تخلق في البلدان النامية أوهاما عن المدينة كمكان للخلاص والوفرة، لقاء رهان محفوف بالأخطار: لن تقدم المدينة بالضرورة التوظيف المرغوب فيه ولن تسمح بالضرورة لسكان المدينة الجدد بتأمين قوتهم وقوت أسرهم. وسوف يكون من العدل تقديم فرص تنمية أكثر إنصافا في المناطق الريفية لهذه الأسر، بدون إكراهها. وبالفعل، ينبغي أن نضع نصب أعيننا أنه في عدد من البلدان، يمكن تفضيل فقر نسبي في البيئة الريفية، بشرط ألا يقع تحت مستوى الكرامة، على البؤس وعدم الأمن في الغيتووات الحضرية.
وإعادة التفكير في المدينة تعني أيضا إعادة التفكير في الريف؛ إنها إعادة التفكير في الصلات المتبادلة بين العالم الحضري والعالم الريفي، وتوحيد هاتين البيئتين في رؤية واحدة وإعادة تحديد علاقاتهما. ومن المهم، في البلدان الصناعية، إدخال المناطق الريفية في الاقتصاد مع المحافظة تماما على تكامل وخصوصيات المناطق الريفية في علاقاتها مع المناطق الحضرية، من خلال الإنتاج الإقليمي المحدد الأهداف جيدا، أو من خلال تنمية النواحي المالية، والإيكولوجية، والثقافية للأرياف. وفي البلدان النامية كما في البلدان الصناعية، لا مناص من إيجاد مهن جديدة للأراضي الزراعية. والواقع أن تطوير البيوتكنولوجيا، واستغلال الكتلة الأحيائية، والطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، يمكن أن تقدم فرصة مزدوجة للنمو الاقتصادي والتنمية المستديمة في العالم الريفي. ويمكن أيضا استغلال السياحة كمصدر للربح، شريطة أن تكون صديقة للنظم الإيكولوجية.
ومن جهة أخرى فإن المدن المتوسطة الحجم، مثل تلك التي نلقاها بوفرة في أوروبا الشمالية على سبيل المثال، يمكن أن تقدم وجها للمدينة على المستوى الإنساني، نتيجة لامتداد إقليمي أكثر تواضعا وتنمية حضرية تراعي البيئة الطبيعية. وعلى كل حال فإنه لا يزال بعيدا عن أن يكون من المؤكد أن تكون هذه السياسة للمدينة المنكمشة قابلة للتطبيق بسهولة في مناطق أخرى من العالم وان تشكل هذه "المدينة ـ الساحة العامة" ville-agora، الموجودة في أوروبا في تنافس مع نموذج المدينة الأمريكية التي تمتد أحياؤها السكنية إلى أطرافها، النموذج الوحيد للتنمية المستديمة. والواقع أن الحضرنة المكثفة تفترض شروطا نوعية من السيطرة على السوق العقارية والإرادة السياسية الحازمة بالإضافة إلى تنسيق فعال بين مجموع الفاعلين. وعلاوة على هذا فإن التركز الحضري، وإن كانت له ميزة خفض كثافة المرور، يخلق فجوة بين المدينة والطبيعة لها أضرارها على نوعية الحياة. ووفقا للخبراء فإن "تنمية مالية" المدن الصغيرة والمتوسطة الحجم أو خلق مراكز اقتصادية مفتعلة إنما يمثلان حلين زائفين(29). وإذا كان من الممكن دفع بعض المشروعات إلى أن تجعل مقارها في المدن الصغيرة فإن الشركات المتعددة الجنسيات والمراكز الإستراتيجية للمشروعات لا تستطيع أن تقيم مقارها بعيدا عن مراكز صنع القرار ومحاور المواصلات. وفضلا عن هذا فقد شددت ساسكيا ساسن على اتجاه الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات مؤخرا في نفس الوقت الذي تضفي فيه طابع اللامركزية على نفسها في الظاهر فتغدو شركات عالمية، إلى إعادة تركيز مقار شركاتها ومجالس إداراتها أو ـ على الأقل ـ إداراتها الأساسية (المالية، التسويق، الدعاية والاتصالات، التخطيط الإستراتيجي والمستقبلي).
وفيما يتعلق بالمدن المتوسطة فإن من المحتمل في الأجل الطويل أن التجمعات الصغيرة التي ستكون قد نجحت في الاندماج في نشاط إحدى العواصم بأن تصير مناطق إضافية للإسكان والتوظيف هي التي سوف تنجح وحدها في الاندماج بنجاح في اقتصاد المستقبل. ويبدو بالتالي أن انتشار وسائل المواصلات والتبادل عامل من العوامل الأساسية للتنمية الحضرية، وأنه يشجع التنمية حول التجمعات الكبرى للشبكات الكثيفة لمدن أصغر تبدو، في كثير من الأحيان، أكثر دينامية من العاصمة ذاتها(30).
المدينة، بيئة حياة
عرضت ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المدينة لتوتر بين مناطق للتبادلات السريعة ومناطق محصورة أو مهملة على المستوى المادي والمستوى الرمزي على السواء. ويبدو انفتاح المدينة على مناطق أطرافها كأولوية من أولويات التنمية. غير أنه يبدو أن ضرورة تعزيز وسائل المواصلات داخل المدينة وبين المدينة والمناطق الداخلية بالبلاد تدخل في تناقض مع المحافظة، خاصة الإيكولوجية، على بيئة المدينة.
ويتألف من العواصم الجديدة مشهد جديد تتعاقب على مساحاته الشاسعة مراكز وأطراف. وهي تتجاوز في كثير من الأحيان إطار المدينة الواحدة غير أنها تشمل مراكز عديدة تترابط فيما بينها عن طريق شبكة مواصلات عالية السرعة. ولم يختف التناقض التقليدي بين المدينة والريف إلا أنه صار يحجبه التناقض بين الأحياء السكنية أو، على نطاق أوسع، بين المركز الرئيسي والمراكز التابعة.
على أن إعادة تشكيل مدينة في هذا النسيج الحضري ذي الثقوب الواسعة تحتاج قبل كل شيء إلى سياسة حريصة على التوفيق بين التنمية والبيئة. إنها مسألة إعادة تحديد للتضامنات التي ينبغي أن تندمج المدينة فيها. ويفرض التضامن إزاء الأجيال المقبلة حضرنة حريصة على التنمية المستديمة، تنمية إيكولوجية تقوم على مفهوم الديمقراطية المستقبلية. وفي هذا المجال الذي كانت الخسائر فيه فادحة بالفعل، سوف يفرض نفسه نهج مستقبلي بحزم. ولا مناص من أن تقود الرؤية الشاملة إلى المدينة إلى برنامج شامل للعمل يلهمه روح يتميز بالبصيرة النافذة والنظرة المستقبلية. إنها مسألة تحديد خطة للتنمية المستديمة تأخذ في اعتبارها التفاعلات بين المواطَنة والاقتصاد، ومستوى الموارد، والبيئة العالمية. وهناك عدد من التجارب الرائدة والممارسات الحضرية الناجحة، كما في كوريتيبا، ينبغي الاستفادة منها هنا كنماذج مرشدة. ويمكن أن يلهم مفهومان جديدان هما "المدن المستديمة" و"المدن الفعالة" هذه السياسات الحضرية الجديدة(31). وينبغي أيضا، وعلى كل مستويات التخطيط الحضري، فرض الوقاية من الكوارث الطبيعية أو ذات المنشأ البشري، في سبيل تخفيف نتائجها، وبصورة خاصة عن طريق توزيع أفضل للبنية الأساسية لمكافحة الحرائق وعن طريق توزيع أفضل لمراكز الاستشفاء. ويفرض نفسه نهج جديد للأمن الحضري، الذي يمكن أن تسهم فيه قوى الأمن، التي تتمثل إحدى مهامها على وجه التحديد في المساعدة على توفير المهام الحيوية للمواصلات والنقل في حالة وجود طوارئ، وفي تقديم العون العاجل إلى السكان في حالة حدوث كوارث.
ويجب أيضا أن تعد المدينة نفسها لثورة الفعالية. والحقيقة أن أنماط الاستهلاك المرتبطة بمجتمع الوفرة في البلدان الصناعية لا هي قابلة للاستمرار ولا هي قابلة للتوسع في سياق من الحضرنة المتسارعة. ووفقا لمعهد المراقبة العالمية فإن "مدن اليوم لم تعد في حالة توازن مع الطبيعة ولم تعد تكفل الاستقرار للمقيمين بها. وفي البلدان الصناعية والعالم الثالث على السواء، يلتهم النمو الحضري، العشوائي والمنفلت، المزيد والمزيد من الأرض والمياه والطاقة المجلوبة من مناطق مجاورة(32). ويكتب ميشيل سير قائلا إن "المدن العملاقة تصير متغيرات مادية؛ إنها لا تفكر، ولا ترعى، إنها تزعج"(33).
ولا مجال لأي التباس بهذا الصدد. إذ ينص المبدأ الثامن من مبادئ مؤتمر ريو على أنه "في سبيل تحقيق تنمية مستديمة ونوعية أفضل من الحياة للجميع، يجب أن تقوم الدول بتقليل وإلغاء أنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستديمة". وأعاد إعلان إسطنبول تأكيد تلك الأولوية. فقد دعا الدول الموقعة عليه إلى التصدي "لأنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستديمة، خاصة في البلدان الصناعية". وليس هناك ما هو أكثر وضوحا من هذا(34). وعند هذه النقطة بالذات يبرز بوضوح الدور الأساسي للتعليم، خاصة التعليم المرتبط بالبيئة الحضرية والتنمية المستديمة، الذي يمكن أن يلعب دور المزج بين التنمية البشرية والتنمية المستديمة.
ورغم أن العاصمة، وهي مكان الكثافة السكانية المرتفعة، يجب أن تسمح بإدارة فعالة للموارد الطبيعية، إلا أنها صارت، في فجر القرن الحادي والعشرين، مكانا للتبديد، خاصة للمياه والطاقة. أما الفرص النسبية التي يبدو أن المدن العملاقة تقدمها لسكانها فإنها مكلفة للغاية من ناحية البيئة والصحة ـ وتكون أكثر تكلفة بكثير نظرا لأنه لم يجر الإعداد للحضرنة بل تم ارتجالها: في حين أن هذه التكلفة ملحوظة بوضوح ليس فقط في المدن (المساكن غير الصحية، التلوث الشديد للهواء والمياه، كثرة المخلفات والضوضاء ومصادر الإزعاج، فوضى النقل الحضري)، ولكن أيضا خارج المدن، فإنها لا تؤخذ في الحسبان في الإحصائيات الاقتصادية. وعلاوة على هذا فإن المدينة شديدة الالتهام للمساحات: في القاهرة، على سبيل المثال، يلتهم توسع المدينة أكثر من 600 هكتار من الأرض الزراعية كل عام في حين أن مساحة الأراضي المنزرعة في مصر تمثل أقل من 5% من المساحة الإجمالية للبلاد(35). وعلى مدى الخمس والعشرين سنة الماضية، توسعت داكار 20 كيلومترا وكينشاسا 40 كيلومترا. كما أن النتائج المترتبة على الهجرة الريفية على البيئة البشرية والطبيعية كارثية: بالإضافة إلى التصحر الديموغرافي في المناطق الداخلية للبلاد فإنها تتعرض أيضا لتصحر ثقافي مع فقدان التضامنات الأسرية، وتدهور اللغات التقليدية، ولكن أيضا مع اختفاء المهارات الفائقة، والأنواع الأحيائية والأنماط الثقافية المرتبطة بالنظم الإيكولوجية التقليدية.
طاقة مستديمة
لمدن القرن الحادي والعشرين(36)
يفترض إمداد التجمعات الحضرية بالطاقة تعبئة أشكال متنوعة جدا للطاقة، يتم الآن تصديرها على مسافات هائلة عبر العالم بأسره. والمدن شديدة الالتهام للطاقة. ولا شك في أن من الصعب التعميم: فالتجمعات الكبيرة أو المتوسطة التي تكون أكثر ازدحاما لا تكون فعالية الطاقة فيها أعلى من المدن الصغيرة إلا قليلا. على أن "فاتورة" الطاقة في المدينة مرتفعة عالميا. وفي بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على سبيل المثال، تستخدم المدن 60% إلى 80% من الميزانية القومية للطاقة. وهذه النسبة أقل قليلا في البلدان النامية غير أنها ترتفع بالتدريج جنبا إلى جنب مع النمو الحضري السريع في تلك البلدان(37). ويتمثل أحد أبرز آثار الحضرنة في هذه النهاية للقرن في خلق مناخات صغيرة متعددة حول التجمعات الكبرى من المدن المتجاورة.
على أن ثورة الفعالية فيما يتعلق بالطاقة والتي يطالب بها تقريران مقدمان إلى نادي روما وهما: أخذ الطبيعة في الاعتبار(38) والعامل الرابع(39)، تتعلق في المحل الأول بالبيئة الحضرية. وهنا ينبغي تشجيع تنمية التقنيات الثورية، مثل إدخال النافذة المزدوجة الزجاج الموفرة للطاقة وجيل جديد من الثلاجات والمحركات. ويمكن أيضا تشجيع إعادة تدوير الكتلة الأحيائية والميثان الناتج عن النفايات الحضرية لإحلالهما محل الوقود الأحفوري.
وتشكل فعالية الطاقة من الآن فصاعدا أحد مفاتيح التنمية المستديمة وصداقة البيئة. إذ أن معظم المدن صارت محطات توليد للحرارة حلت فيها محل النباتات أسقف داكنة وشوارع أسفلتية. وتبين دراسة أجريت في لوس أنجلوس أن استعمال الأسقف البيضاء والأسطح الخرسانية الملونة وغرس 10 ملايين شجرة يمكن أن يخفض حرارة المدينة 3 درجات مئوية (في الساعة 15= في الساعة الثالثة بعد الظهر) وأن يقلل "السناج" الذي يعزى إلى الأوزون بنسبة 12% مما يؤدي إلى وفورات كبيرة في الطاقة (بتقليل الحاجة إلى تكييف الهواء) وإلى خفض في التكلفة المعزوة إلى الأوزون. ولهذا يمثل إنشاء المساحات الخضراء في آن معا ضرورة إنسانية وإيكولوجية واقتصادية. كما أن تطوير "هندسة معمارية ذكية" صديقة للمناخ يمكن أن يسمح باستعمال أفضل للطاقة (القراميد والجدران الكهربائية الضوئية، عزل حراري أفضل، إلخ.) كما أنه لا غنى على مستوى المناطق الحضرية عن الالتزام بخفض لانبعاثات غازات الدفيئة، بأهداف وجداول زمنية محددة بكل وضوح. وتلتزم بلدية تورونتو، على سبيل المثال، بخفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة 20% من الآن وحتى عام 2005 بالمقارنة بمستواها في 1988.
وقد أعاد إعلان إسطنبول تأكيد أولوية التنمية المستديمة. على أن تطبيق هذا المبدأ على سياسة بشأن الحق في السكن يقتضي قبل كل شئ خفض استهلاك صناعة البناء نفسها. والواقع أن إحدى "التكلفات الخفية" للنمو الحضري تنشأ عن الاستهلاك الضخم للموارد الطبيعية المرتبط بتشييد وتشغيل المباني والضرائب التي يفرضها على "رأس المال الطبيعي" للبيئة. ووفقا لخبيري معهد المراقبة العالمية نيكولاس لينسن Nicholas Lenssen وديفيد مالين رودمان David Malin Roodman(40)، فإن صناعة البناء تنتج أو "تستهلك" حوالي 40% من المواد المستخدمة في الاقتصاد العالمي كل سنة ويُعتقد أنها مسئولة إلى حد كبير عن دمار الغابات والأنهار، وتلوث المياه والهواء، وكذلك عن التغيرات المناخية. وعلى سبيل المثال، كانت المباني تمثل، في 1992، ثلث الاستهلاك العالمي للطاقة، دون أخذ الطاقة الضرورية لإنتاج ونقل مواد البناء في الحسبان.
وفيما يتعلق بالتشييد الحضري، سوف يكون علينا أن نتعلم كيف نستلهم "عبقرية المكان" وكيف نستفيد من أشكال الإسكان المحلية الأقل تكلفة في الموارد والأفضل تكيفا مع البيئات الطبيعية المحلية. ويجب من الآن فصاعدا أن نراهن على فنون معمارية جديدة تمزج بين الهياكل التقليدية والتكنولوجيات الأكثر تقدما لإقامة مبان أقل تكلفة، وأكثر فعالية، وأكثر أمانا، وأكثر "استدامة"، وأكثر متعة في الإقامة دون أن نضحي لهذا بوسائل الراحة الحديثة. والحقيقة أن إحياء الفنون المعمارية المحلية في بلدان كثيرة تكون فيه الموئل التقليدي، وهو ما نادى به، منذ عقود عديدة مضت، رائد حالم هو المصري حسن فتحي(41)، يمكن أن يقدم مسكنا متكيفا مع الشروط المناخية، بتكلفة معتدلة جدا، وموجها بصورة خاصة إلى البرامج الاجتماعية لإسكان من لا مأوى لهم، الذين يمكن أن يضعوا بأنفسهم تصميمات للبناء الذاتي(42).
نحو اقتصاد حضري للمياه(43)
كما شدد البروفيسور أوباسي Professor Obasi، الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، في مؤتمر الموئل 2، "لا جدال في أن المياه تمثل من الآن فصاعدا عنصرا حيويا لبقاء المدن". وعلى النطاق العالمي، ما يزال 170 مليون على الأقل من سكان المدن لا يتوفر لهم بصورة دائمة مصدر للمياه الصالحة للشرب بالقرب من أماكن إقامتهم، ويحصل 25% فقط على مصدر للمياه داخل المنزل أو في أفنية مساكنهم(44). وتمثل المخلفات الصناعية والزراعية والبشرية سبب تلوث العديد من مصادر المياه وطبقات المياه الجوفية. إنها مشكلة تتعلق بالصحة العامة(45). غير أنها أيضا رهان جغرافي، ومن المحتمل أنها ستكون واحدة من القضايا الدولية الرئيسية في القرن الحادي والعشرين: كما شدد والي نداو Wally N Dow، الأمين العام للموئل 2، تمثل المياه "أحد العوامل الأكثر حسما" في الصراعات. ويجب إعداد سياسة حضرية للمياه ترمي إلى تفادي الفاقد الذي يرجع بصورة خاصة إلى شبكات المجاري المعيبة والتوصيلات غير المرخصة، التي تجعل المياه أكثر تكلفة بالنسبة لأفقر السكان (انظر فصل "هل ستظل المياه جارية؟"). وتمثل إقامة بنية أساسية حديثة للتجميع والتوزيع أحد العناصر الرئيسية لكل إدارة حضرية سليمة.
ولهذا فإن من الضروري تحقيق اقتصاد أفضل للمياه. وبالإضافة إلى المنطلقات التي أوردناها في الفصل المخصص لهذا الموضوع، ينبغي دمج المياه بصورة منهجية في التخطيط الحضري. ووفقا للبروفيسور أوباسي فإن "المخططين الحضريين ينسون في كثير من الأحيان أن من الضروري إقامة شبكات فعالة لتجميع ومعالجة المعطيات الهيدرولوجية وكذلك خدمات تقدير الفيضانات والصرف"؛ وعلى المستوى المعياري فإن إعلان بكين في آذار/ مارس 1996، الذي صيغ عند اختتام المؤتمر الدولي لإدارة موارد المياه في البيئة الحضرية يُرسي المبادئ الرئيسية التي أقرتها قمة إسطنبول.
وسائل النقل الحضري:
فعالية وتكامل التكاليف
ترتبط مسألة الطاقة ارتباطا وثيقا بمسألة وسائل النقل: وفي المدن العملاقة، تطرح حركة المرور الداخلية مشكلة حاسمة. وتعاني مناطق المدن الكبيرة في أمريكا الشمالية وأوروبا من حركة مرور داخلية بندولية كثيفة بسبب الانفصال بين مناطق العمل ومناطق السكن. ويمكن، في الأجل الطويل، أن يسمح الاقتصاد القائم على تكنولوجيات جديدة بالقضاء على ازدحام المرور في المراكز عن طريق إدخال مرونة أكبر على مواعيد العمل والحركة. ومع ذلك فإن السرعة المتزايدة للانتقالات في المرحلة الراهنة من النمو الحضري الواسع كانت لها نتائج متناقضة تتمثل في إطالة مسافات الانتقال وبالتالي مدته.
ويطرح هذا التطور على السياسيين مشكلات إدارة وسائل المواصلات والنقل، التي يجري تناولها بالتفصيل في مكان آخر(46). وهناك حلول عديدة، وغير متعارضة على الإطلاق، يمكن أن تسمح بحل الصعوبات البالغة التي يؤدي إليها ازدحام المدن وتلوثها. ويتمثل أحد هذه الحلول في فرض تعريفات وضرائب على وسائل النقل تتفق مع التكلفة الحقيقية، وتعكس بالتالي تكلفتها البيئية من حيث الحوادث، والضوضاء، والتلوث الجوي، والتقلبات المناخية، وكذلك تكلفتها من حيث الصحة العامة. وقدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هذه التكلفة البيئية بنسبة 70% في المتوسط من إجمالي التكلفة المرتبطة بوسائل النقل في 31 بلد أوروبيا. غير أن هذه المسألة تتعلق أيضا بتكلفة الازدحام، التي تقدر بنسبة 7% من الإجمالي، والتكلفة التي لا تتم تغطيتها للبنية الأساسية للنقل العام وتشغيله المقدرة بنسبة 23% من الإجمالي(47). ويتمثل حل آخر في إعطاء الأولوية لوسائل النقل المشترك. وفي شروط الاستخدام الأمثل يمكن، خلال ساعة واحدة من الوقت، أن يسمح مترو أنفاق بنقل 70000 شخص نحو وجهة معينة، والقطار السريع السطحي [فوق الأرض] 50000 شخص، والترام والحافلة 30000 شخص، في حين أن السيارة الخاصة لا تسمح بنقل أكثر من 8000 شخص، وهذا بافتراض أربعة ركاب لكل سيارة خاصة. ولهذا فإن وسائل النقل المشترك تمثل إمكانيات مستقبلية كبيرة(48). وكما اقترحنا في مكان آخر(49) فإن الازدحام المادي، و ـ على وجه الخصوص ـ التلوث الضخم الذي تسببه وسائل النقل الحضري يدعوان إلى تدابير جديدة: خفض شغل الحيز الحضري بالسيارات الخاصة إلى حد أدنى؛ واستخدام السيارات "الكهربائية" أو الهجينة (التي تسير بالكهرباء ـ البنزين)؛ والبحث عن أنواع جديدة من الوقود كالهيدروجين على سبيل المثال؛ وإقامة خطوط المونوريل (الخط الحديدي المفرد)، وهي سريعة، و"شبكية"، وغير ملوثة، وأقل تكلفة من "المترو".
وفي المستقبل تطرح نفسها مسألة تتعلق بالتخطيط الحضري. ويبدو أن الحضرنة المبعثرة ماثلة في صميم نمو وازدهار مدن سريعة التصنيع مثل سيول أو بوينوس آيرس، والتجمعات ذات النمو الديموغرافي المتواصل مثل بومباي. وتقدم المدينة المزدحمة التي تتجاور فيها الأعمال والخدمات والمنازل وتخدمها وسائل النقل العام بديلا لثقافة "السيارة كملكة متوجة ". والواقع أن المدن الأكثر ازدحاما هي الأفضل قدرة على تقديم بدائل للسيارة الخاصة(50). وينبغي أن نضيف أن هذه المدن المزدحمة هي أيضا أكثر ملاءمة للألفة الاجتماعية وتقدم كقاعدة عامة إطارا أفضل للنضال ضد الإقصاء. غير أنه، وكما أوضحنا من قبل، فإن سياسات إرادية وموحدة، بعيدة عن سياسات السوق الحرة الرائجة، هي وحدها التي يمكن اليوم أن تنشر هذا النموذج للمدن ذات الكثافة المرتفعة خارج مناطق (أوروبا) أو أوضاع نوعية (سنغافورة وهونج كونج) يسود فيها هذا النموذج.
صعود الأبارتهيد الحضري
يمكن أيضا أن تكون المدينة المزدحمة فرصة للنضال ضد البعثرة الاجتماعية. والحقيقة أن حركة المرور أكثر من مجرد مشكلة مادية. ويؤدي الشكل المبعثر للحيز الحضري إلى ظهور هياكل اجتماعية جديدة. وتتسم المدن العملاقة بالإضفاء المتزايد للطابع الفردي على الحياة الاجتماعية، فالمدينة في آن معا مكان تحرير الفرد والمبادرة الشخصية ومكان العلاقات الفاقدة الهوية، وعدم المبالاة العام، وفقدان التضامنات التقليدية، والعائلية على وجه الخصوص. وفي البلدان الصناعية، تتخذ سيادة الطابع الفردي أشكالا من تحلل علاقات الجوار المرتبط بالعمل والسكن. ومن الآن فصاعدا صار اختيار المرء لمكان سكنه مدفوعا بأسباب وظيفية، أو بالدخل، أو بالانتماء الاجتماعي الذي يتجلى في المسكن.
وفي أحوال كثيرة جدا، لا يعبر التنوع عن نفسه اليوم إلا بإضفاء طابع الازدواج من خلال التقسيم الاجتماعي والاقتصادي والإثني والثقافي ومن خلال تعميم الغيتووات في الجنوب كما في الشمال. ولهذا، تظهر الأحياء المتميزة، المنكفئة على نفسها بصورة متزايدة، سواء كانت تقع في المراكز التاريخية، كما في أوروبا، أم في الضواحي، كما في أمريكا الشمالية. وتتمتع مجموعة مرفهة من المواطنين ـ أولئك الذين يدعوهم روبرت رايش "محلِّلي الرموز" ـ بكل الخدمات التي تقدمها المدينة، في مجالات الإسكان أو الاستهلاك أو التوظيف، وتبني تضامنها ليس على الجوار المادي بل على المشاركة في الأوساط الاجتماعية والثقافية المرفهة، مدعية الانتماء إلى ثقافة عالمية النزعة وإلى نمط حياة دولي، وتجد مجموعة أخرى نفسها محرومة تماما من تدفقات الحركة ومحكوما عليها بأن تظل حبيسة. ويؤدي هذا الوضع المطبوع بطابع الازدواج وهذا العزل (أو الفصل) الحضري إلى تشكل مجتمعات محلية صغيرة معزولة، تجد نفسها في كثير من الأحيان في صدام مع نظم المجتمع السائد وقواعده بل وحتى قوانينه. وبين هاتين المجموعتين توجد فئة غير مستقرة تحاول الاندماج غير أنها تظل مهددة باستمرار "بالإقصاء الاجتماعي".
ويغادر ملايين الناس، منجذبين "بأضواء المدينة"، فقر البيئة الريفية ليعيشوا في "العزلة المشتركة" البائسة في التجمعات الحضرية الكبيرة التي يجدون فيها أنفسهم في كثير من الأحيان محرومين من الخدمات الأكثر أساسية في وضع من البؤس والإقصاء يغدو في كثير من الأحيان مرتعا خصبا للعنف والتطرف. وإزاء هذه الأوضاع، ينبغي أن نتذكر أن ممارسات أساسية في التاريخ مثل "روح المواطنة" civisme، و"التهذيب" urbanité، و"الحضارة" civilisation، و"السياسة" politique ظهرت إلى الوجود في البيئة الحضرية، وترجع بأصول ألفاظها إليها. وينبغي أن نستعيد تلك النزعة الإنسانية والمُؤَنْسِنَة للمدينة بالحرص على التعزيز بصورة ملموسة للمحاور الثلاثة المتفاعلة وهى السلام والديمقراطية والتنمية(51). وفي سبيل تفادي ظواهر العزل في الأحياء، ينبغي تطوير الإحساس بالمواطَنة، مما يعني، في المقام الأول، أنه ينبغي تنفيذ سياسة احتواء بطريقة تؤدي إلى دمج المهمشين، الذين يعانون من الإحباط، والعزلة، والإقصاء، وتصاعد الراديكالية، والعنف.
ولا حاجة بنا إلى التشديد على الدور الذي يغدو التعليم مدى الحياة مدعوا إلى أن يلعبه في النضال ضد الإقصاء الحضري وفي سبيل الممارسة الفعلية للمواطنة. وجنبا إلى جنب مع المنظمات غير الحكومية التي، مثل الحركة الدولية العالم الرابع ATD Quart-Monde، تقوم بعمل رائع في مجال احتواء المهمشين، يجب أن نقول لكل أولئك الذين يشعرون بأنهم محرومون: "تشجعوا. فالتعليم إنما يدوم مدى الحياة. إن قطار التعليم لم يفتكم إلى الأبد، ولن تكونوا مهمشين إلى الأبد. وسوف تكون أمامكم فرص أخرى للحصول على التعليم والتدريب".
وقد أدى تفكك النسيج الاجتماعي إلى فقدان الإحساس بالمصلحة الجماعية وإلى استفحال المصالح الخاصة بطبقة أو مجموعة اجتماعية أو دينية أو ترتكز على انتماء محلي ضيق جدا. ومن هنا عدم الاكتراث المتبادل الذي يعبر عن نفسه في متلازمة "ليس في فنائي الخلفي" (not in my backyard= nimby)، متلازمة إنكار الأحياء الأكثر رفاهية على الأحياء الأقل بحبوحة حق التمتع بالمرافق المشتركة والبنية الأساسية.
وعلى كل حال فإن العزل الحضري يتجه اليوم إلى المضي بعيدا إلى ما يتجاوز كثيرا العزل الذي عرفته، إلى هذا الحد أو ذاك، وبدرجات متباينة بشدة من ناحية أخرى، معظم المجتمعات والعهود التاريخية. ومن الآن فصاعدا يسكن شبح جديد مدن الجنوب، كما يسكن إلى الآن عددا من مدن البلدان الصناعية، وبصورة خاصة في أمريكا الشمالية الآن: الأبارتهيد الحضري. ألا يحق لنا إذن أن نخشى أن تغدو مدينة المستقبل مدينة كل الانقسامات، سواء أكانت اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية أم سياسية؟ وكما وصفت تيريزا پ. ر. كالديرا Teresa P. R. Caldeira فيما يتعلق بحالة سان باولو، فإن العزل المكاني والاجتماعي في المدن المعاصرة يؤدي إلى نشوء ظاهرة جديدة: ظاهرة "المعاقل المحصنة"، التي تتولى حراستها ميلشيات خاصة، أو ظاهرة "المدن الخاصة" المتجانسة ثقافيا واجتماعيا، والتي يسهم تضاعفها في التهميش والاستئصال بالتدريج لفكرة الحيز الحضري العام التي يقوم عليها مفهوم المواطنة(52).
وفي بلدان عديدة، تنتشر على سبيل المثال "المجتمعات المحلية المغلقة" محاطة بالأسوار أو محمية بالحواجز؛ وفي الولايات المتحدة، سوف يعيش ما بين أربعة وثمانية ملايين من السكان، وفقا لبعض التقديرات، في هذه المناطق السكنية الفائقة الحماية؛ ومن ناحية أخرى فإنه، وفقا لتقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية منشور في 1996، يعيش 35 مليون أمريكي في 150000 من المجتمعات المحلية التي تديرها جمعيات خاصة(53). وقد وصف مايك ديفيز Mike Davis أوضاع العنف الاجتماعي التي تسود لوس أنجلوس. وفي تلك المدينة، كما في مدن أخرى، تتضاعف "المدن ذات البوابات" gated cities، والأحياء المغلقة التي تحميها قوى شرطة خاصة ثقيلة التسليح، مرتبطة بالشرطة الحكومية، في حين يتم إبعاد كل أولئك المحرومين من الرخاء إلى الأطراف(54). وفي هذه العوالم المغلقة، التي تحميها نظم ولوائح داخلية تعسفية ووسائل مراقبة إلكترونية، تغدو الشوارع خاصة، والمدارس خاصة، والمجاري والمرافق العامة خاصة. بل إن بعض الجماعات انقسمت تماما معلنة نفسها مستقلة إزاء المجتمعات المحلية(55). وتعمل هذه الأحياء كعوالم مصغرة داخل المدينة، حيث تقدم لجماعة محدودة كل مزايا المدينة. كما يلاحظ في بعض المدن اتجاه مثير جدا للقلق نحو خصخصة الحيز الحضري العام. وعلى سبيل المثال، يتم دمج طرق المشاة والميادين في مراكز تجارية تخدم شريحة ميسورة من السكان، ولا يتم تصميم الشوارع إلا كممرات تربط مختلف المراكز وهي مخصصة للمركبات التي تسير بالمحركات فقط.
ومثل هذه الصور من الأبارتهيد الحضري لا تقتصر بحال من الأحوال على أمريكا الشمالية أو أمريكا اللاتينية. إنها تزدهر أيضا في أفريقيا، على سبيل المثال في لاغوس أو ديربان، أو في آسيا، حيث تُبنى أيضا مدن خاصة حقيقية في بعض البلدان(56).
ويضيع بالتالي كل إحساس بحرية الحركة والتمتع بالحيز الحضري العام، الذي ينظر إليه عادة على أنه مكان للتبادل والامتزاج الاجتماعي، وهو الذي يصنع ثراء حياة المدينة. فهل يمكن أن يوجد "عقد اجتماعي" حيث لا يوجد "اتصال اجتماعي"(57)؟ وعندئذ يغدو هاجس الأمن والنظام السبب وراء عنف اجتماعي فعلي. ويجبرنا الأبارتهيد الحضري من الآن فصاعدا على أن "نتخيل أننا يمكن أن نولد، ونتعلم، ونعيش، ونعمل، ونتزوج، وننجب أطفالا، ونحال إلى التقاعد، ونموت في عزلة، ’تحت الزجاج الواقي‘، إن جاز القول، دون أن نلتقي بفقير في طريقه ليس من عمال الخدمة"(58).
وفي هذا الشكل المتطرف من العزل، يتم تقديم الفصل وكأنه علامة على الثروة والمكانة الاجتماعية، وعلى أنه رمزي، ومن جهة أخرى تتباهى به، على أساس حجج إيكولوجية في بعض الأحيان، شركات مقاولات المدن الخاصة. وكما تشير تيريز سبكتور Térèse Spector(59) فإن الحيز الحضري العام يغدو عندئذ "متروكا بالتدريج لأولئك الذين لا فرصة لديهم للعيش والعمل والتسوق في المعاقل الخاصة الجديدة. ويتم تركه بصورة متزايدة يوما بعد يوم للمشردين وأطفال الشوارع. وعلى العكس من الغرض الأصلي منه، يتم تنظيمه وفقا لمبادئ الفصل وإبراز الفوارق التي لا سبيل إلى التوفيق بينها. من جانب: الحيز الحضري الخاص، ومن جانب آخر: الحيز الحضري العام الذي يتم تقليصه بصورة متزايدة وتخصيصه للفقراء ـ إنها حقا جريمة تزداد تفاقما".
ولا شك في أن تفشي الأبارتهيد الحضري قد شجع عليه تفشي عدم المساواة الذي صاحب الثورة الصناعية الثالثة، وتفاقم انعدام الأمن الذي ينشأ عن الانقسام الاجتماعي المتزايد وعن رواج تجارة المخدرات والجريمة المنظمة. فمع أي نمط من أنماط التنظيم السياسي والاجتماعي يتطابق النموذج المضاد للأبارتهيد الحضري؟ هل ما يزال ينتمي إلى الديمقراطية؟ من حقنا أن نشك في هذا.
ويدعو الظهور المثير للقلق للأبارتهيد الحضري إلى استجابات أساسية تتجاوز تماما السياسات الحضرية: تدابير تشريعية بشأن الحيز الحضري العام؛ سياسات للعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع مكاسب الثورة الصناعية الثالثة؛ سياسات وقائية ملائمة للنضال ضد انعدام الأمن الحضري، وتجارة المخدرات، والجريمة المنظمة. ولا ينبغي أن تنسينا هذه المشكلة المسألة الكبرى المتصلة بالعلاقات بين المركز والأطراف: إن المدينة المزدحمة على الطراز الأوروبي لا يجب أن تكون مدينة معزولة، ملاذا محميا في قلب منطقة حضرية؛ وفي كثير جدا من الأحيان، لا تكون المدينة الممتدة على الطراز الأمريكي، من جانبها، أكثر من سلسلة من غيتووات معزولة عن بعضها البعض ومفصولة بحدود غير مرئية. ولهذا يجب أن تسعى سياسات التخطيط الحضري إلى كسر أسوار العزلة والصمت وعدم التفاهم، عن طريق إيلاء الأولوية للعلاقات بين الأحياء، بين الناس والمهن، من خلال تشجيع تعزيز وخلق حيزات عامة، بالاستناد إلى سياسة لوسائل النقل والمواصلات الحضرية. ومن الجلي أن التنمية الحضرية يجب أن تحقق توازنا صعبا بين التنوع والوحدة. وفي سبيل هذا يجب أن تنتج المدينة صلة اجتماعية لكن مع الحرص على استقلال الفرد وحرية تعبيره.
والإدارة تعني الاحتواء: إنها العمل بطريقة تجعل المواطنين "يتمتعون بكل الأهمية". و"أن نتعلم أن نعيش معا" ـ كما أوصت لجنة ديلور الخاصة بالتعليم في القرن الحادي والعشرين ـ هو التحدي الرئيسي: إن التنوع هو ثروتنا، تماما كما أن الوحدة هي قوتنا. والمدينة "المهجنة"، المتعددة الثقافات، المتعددة الأديان، المتعددة الإثنيات، هي مستقبلنا وأملنا. على أنه ينبغي أن يكون المواطنون أحرارا والمجرمون سجناء: واليوم، وفي أغلب الأحيان، صار النقيض هو ما يحدث، فالمواطنون، بعد أن صاروا سجناء أنفسهم، يجب عليهم، نتيجة لعجز نظم القضاء والأمن، أن يتمترسوا في حمى نظم الإنذار والشفرات والأسلاك الشائكة. إن الحرية كاملة ولكن الأمن صفر. وبهذا الخصوص، يغدو توفير الأمن لسكان المدن ضرورة أساسية. وفي أغلب الأحيان، تكون الحدود وحدها هي التي تتم حراستها: بحكم القصور الذاتي، يتم استثمار المليارات للتسلح ضد "عدو" محتمل، وهو في أغلب الأحيان وهمي أو تاريخي. غير أن الاستثمارات التي يمكن أن تتيح توفير أمن المواطنين وإقامة نظام قضائي سريع وفعال – على الأقل في الحالات الإجرامية السافرة والمتكررة ـ يتم خفضها إلى مبلغ لا يفي بالغرض.
بناء مدينة القرن الحادي والعشرين
وفقا لرؤية عن الثورة الحضرية تستلهم التصورات التي تُؤْثر سياسات السوق الحرة، تغدو الفوضى الحضرية والنمو الجامح للمدن في المكان وعدم تماسك التخطيط الحضري الثمن الذي لا يمكن أن نتفادى دفعه من أجل التكيف مع تغير في نمط الإنتاج، والهجرة الريفية، والتصنيع، ومع أنماط جديدة للمواصلات، ومع تغيرات العادات والسلوك. وينبغي أن نرفض هذه الرؤية عن المدينة "الطبيعية"، غير المخططة.
ويعني بناء مدينة القرن الحادي والعشرين، إذن، أن نحاول من اليوم تحقيق التوازن بين التنوع والوحدة. ويرتكز هذا التوازن، في رأينا، على المواطنة، على مشاركة كل فرد من سكان المدينة في بناء وإدارة وحكم المدينة. وهذا لأن الكثيرين من سكان المدن لم يعودوا مواطنين، أو لم يصيروا بعد مواطنين لأن المدينة تعيش اليوم أزمة.
ويمثل احترام التنوع قبل كل شئ هدفا له طابع التخطيط الحضري. فالمدينة ينبغي النظر إليها من الآن على أنها تراث حي يمكن أن يرتكز عليه وعي بالانتماء، وإحساس بالتضامن بين المواطنين. ولهذا فإن من الضروري أن نعطي المدينة وجها جديدا يوفق بين التقدم التقني والطابع الإنساني ويضمر الاحترام لأصولها وثقافتها، دون أن تخنقها الرغبة في المحافظة على المباني القائمة.
وقد أعلن المهندس المعماري كريستيان دي بورزامبارك Christian de Portzamparc الدخول في عصر ثالث للمدينة(60). وكان العصر الأول هو عصر المدينة التاريخية المزدحمة، وكانت ذات نسيج محكم الحبك يقوم على تعاقب الامتلاء والفراغ وعلى الفخامة وروح المواطنة والتهذيب. وكان العصر الثاني، عصر حداثة لو كوربيزييه Le Corbusier، هو عصر اليوتوبيات الحضرية والسيارة، الذي يفصل بين فن العمارة والتخطيط الحضري ويجعل المبنى جسما مستقلا ومنعزلا، منفصلا عن الموقع والمكان. إنه عصر التنميط (التوحيد القياسي) والوظيفية والأسلوب الدولي الذي يفضي، رغم النجاحات، إلى تفكك الأشكال الحضرية والتضامنات. ويعتقد كريستيان دي بورزامبارك أن العصر الثالث للمدينة يجب أن يكون عصر "تفصيل التخطيط الحضري حسب المقاس"، الذي يعيد خلق التهذيب بدون نماذج مثالية. إنها مسألة إعادة تشكيل مشهد حضري مفكك، ممزق إربا، وفقا لنهج لم يعد ينكر الماضي غير أنه مصطنع ولَعِبِيّ، وهذه هي السمة المميزة لتصور حر وحي عن التراث الحضري. وبروح مماثلة، فوفقا لـ: سيريا إميليانوف Cyria Emelianoff هناك حاجة إلى تنمية حضرية تكون ذات طابع طوبولوجي، أيْ تقوم بترسيخ جذور التضامنات في الجوار والقربى، ويعطي مكان الصدارة لكل أشكال الاستمرارية الحضرية بما يسمح بربط المبنى بالشارع، والشارع بالحي، والأحياء فيما بينها وأخيرا التجمع الحضري بالمناطق الداخلية بالبلاد(61).
ومن جهة أخرى فإنه مع الحرص على المحافظة على المباني القائمة، ينبغي تحويل المدينة إلى تراث حي، وفي تطور مستمر، عن طريق تشجيع الاختلاط الوظيفي والاجتماعي للأحياء. ويجب أن يتمثل الاتجاه الجديد للسياسات الحضرية في فجر القرن الحادي والعشرين في إرجاع المدينة إلى سكانها، وتشجيع كل أشكال امتلاك سكان المدينة للمشهد الحضري. والحقيقة أن تدخل المواطنين في المدينة يمر عبر إحساس بالانتماء إلى المكان وباعتزاز بتراثها الحضري. كما ينبغي أيضا أن يعبر عن نفسه عن طريق شكل جديد من الديمقراطية المحلية، وبالتالي عن طريق مشاركة فعالة في إدارة المدينة. والحقيقة أن أحد التجديدات المبشرة للغاية لمؤتمر إسطنبول، والذي يجعل منه دون شك أول قمة في القرن الحادي والعشرين وليس آخر قمة في القرن العشرين، يتمثل في ظهور المجتمع المدني باعتباره فاعلا في المدينة. وكان المجتمع المدني قادرا على إسماع صوته في المنابر الاستشارية (المنظمات غير الحكومية، وخبراء المستقبليات، والقطاع الخاص، والشباب، والنساء، إلخ.) التي صارت لأول مرة، جزءا لا يتجزأ من مؤتمر للأمم المتحدة ورفعت تقاريرها إلى الحكومات في الجلسة الكاملة. كما لعب رؤساء المدن وممثلو السلطات المحلية دورا حاسما في المؤتمر وتم إبراز موقفهم الأساسي في إدارة التنمية المستديمة والمتوازنة. وقدم ممثلو المجتمع المدني والسلطات المحلية خلال المؤتمر عددا من المقترحات الشجاعة، تعكس رغبتهم في أن يلعبوا دورا حاسما في مصير المدينة، وهذا مجال فشلت فيه بعض الدول أو تخلت عنه.
ومن الجوهري بالفعل تشجيع إستراتيجية للتأهيل في المدينة. ولا يمثل قيام مواطني المدينة بدور حاسم فيها ظاهرة جديدة. وكما أوضح جورج فيلهايم Jorge Wilheim، الأمين العام المساعد لمؤتمر إسطنبول: "في الماضي، كان من المتوقع أن تقوم الحكومات بحل كل المشكلات ... وفي الوقت الراهن، ضجر الناس هذا الموقف ويتحد الكثيرون ليعيدوا بناء حَيٍّ بأنفسهم. ويمكن أن نلاحظ أن هذا التنظيم الذاتي في بلدان كثيرة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ... وعلى مستوى أكثر تعقيدا فإن التعاون بين البلديات، وجمعيات سكان المدن، والمنظمات غير الحكومية، والجامعات، يمكن أن يسمح بتحسين الحياة في مدن الصفيح".
والواقع أن قطاع البناء غير الرسمي يمثل 80% من البناء في البلدان النامية. ولا شك في أن هذا الاقتصاد غير الرسمي أو الشعبي يمثل أحد القطاعات الأكثر دينامية في بلدان الجنوب كما أنه يشكل دليلا على استعداد السكان لتولي مسئوليتها. وعلى كل حال فإن البناء الذاتي يعكس عملية حَضرنة منفلتة وفي أكثر الأحيان مزدوجة، تضع "المدينة القانونية" في مقابل "المدينة غير القانونية"، مدينة صفيح بدون مرافق ومراكز يتوافر فيها كل ما نحتاج إليه. وفي البلدان التي يكون فيها عرض الخدمات العامة غير كاف أو بالأحرى يكون فيها السكان أفقر من أن يقوموا بإنشاء خدمة عامة مدفوعة التكلفة، قام السكان في بعض الأحيان بأنفسهم بتوفير عدد من خدمات الطوارئ. ويمكن أن تتحول هذه الخدمات إلى مشاركة ديمقراطية تثير التفاؤل بين السلطات والجماعات المحلية، بشرط أن تتمتع المبادرة المحلية بدعم مؤسسي وأن تتلقى التمويل من جانب السلطات السياسية.
وعلى المستوى الحضري، لا ينبغي استخدام ازدهار "الإدارة" الحضرية كواجهة جذابة لسياسات المنافسة الحرة: إنه يفترض التحديد الواضح لمجالات الاختصاص والمسئولية لكل سلطة من السلطات العامة، من المستوى القومي إلى المستوى المحلي، والجماعات المحلية والفاعلين في المجتمع ـ المنظمات غير الحكومية، الجمعيات والروابط، القطاع الخاص، الروابط المهنية. وينبغي بصورة خاصة إنعام النظر في الطرق الممكنة لتحقيق لامركزية أوسع للمسئوليات المدنية الكبرى ـ التعليم، والصحة، والقضاء، إلخ. ـ إزاء السلطات البلدية. فإنما في إطار المدينة قبل كل شئ يكون المواطنون مدعوين إلى أن يشاركوا، وإلى أن يكونوا فاعلين ذوي دور كامل في الحياة الديمقراطية، وإلى أن يمارسوا حقوق الإنسان وإلى أن يقوموا بواجباتهم. والحقيقة أنه في التجديد "تخطيط حضري إستراتيجي"، وليس في سياسات أحادية الجانب مفروضة من أعلى، تكمن إمكانية خلق إحساس بالانتماء إلى المدينة. ويقترح "التخطيط الحضري الإستراتيجي" قرارا مبنيا على ممارسة الإجماع، وعلى المشاركة النشيطة للمواطنين وكل الشركاء المعنيين، وعلى عمليات مفاوضات مرنة بين الفاعلين العامين والفاعلين الخاصين. ومن هذا المنظور فإن دور رؤساء المدن ينبغي أن يتم تقاسمه بين المهام الإدارية، والوساطة بين الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، وضمان المصلحة الجماعية.
وكملاذ أخير، ينبغي التشديد على مسئولية السلطات العامة، خاصة الدول، عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات التي ستكون لها نتائج على أجيال عديدة. و"ما تزال الدولة تمثل من الناحية السياسية الإرادة الديمقراطية والجهد المبذول في سبيل المساواة. ونحن لا نسعى إلى تقليص دور الدولة بل نسعى إلى تعديله. إذ أنه ينبغي أن يتكيف مع مرحلة جديدة من التطور العالمي"(62). وإذا ظهرت مشاركات مع المجتمعات المحلية، والمنظمات غير الحكومية، ومختلف الهيئات الدولية، والقطاع الخاص، كنمط متوازن وديمقراطي لإدارة المدينة فإن السلطات السياسية لا يمكن أن تتخلى لهذا السبب عن دورها الإستراتيجي في السوق، وبصورة خاصة في مجال البنية الأساسية للطرق، وإمدادات وصرف المياه، والإسكان الاجتماعي. ويظهر الآن مفهوم جديد للدولة، مفهوم الدولة كقائد إستراتيجي، ينسق بين إرادات مختلف الشركاء باسم التضامن بين المواطنين، وبين المناطق، وبين الأجيال.
وتمثل الحضرنة السريعة ورقة رابحة: إنها تيسر الحصول بصورة متزايدة على السلع والخدمات (وبصورة خاصة في مجال الصحة والتعليم)، وتخلق بهذا فرصا جديدة للتنمية. غير أن هذه الإمكانيات سوف تظل سرابا إذا تم حرمان أولئك الذين يمكن أن يستفيدوا منها من ذلك نتيجة للفقر، أو "الأبارتهيد الحضري"، أو الأشكال الجديدة من الجنوح والفساد، أو فيض السكان، أو التلوث، أو جمود أو عدم فعالية الإدارات العامة.
ويجب أن نعيد اختراع ثقافة للمدينة لا تكون ثقافة للقوالب الدولية المكررة ولا ثقافة للتناحرات ولإضفاء طابع الغيتووات على المدينة: لهذا يجب أن نشجع التربية المدينية بشدة سواء في التعليم الرسمي حيث يجب أن يخصص لها مجال أوسع في المقررات المدرسية والجامعية، أو في التعليم اللارسمي أو غير الرسمي. واليوم تغدو المدينة في أغلب الأحيان مكانا لاجتثاث الجذور. وفي حين اعتاد المهاجرون على أن يحافظوا وقتا طويلا على عاداتهم الثقافية وعلى أن يحتفظوا بصلات قوية بمنطقتهم أو قريتهم الأصلية، فإن ظاهرة "استيطان" المدينة، إذا كانت ما تزال موجودة، قلما تدوم أكثر من جيل واحد من الآن فصاعدا. إذ أنه حالما تنقطع الصلة مع المجموعة الأصلية أو مع ممثليها في المدينة، تتلاشى التضامنات التي وحدت الأفراد في مجموعة إثنية أو محلية أو دينية. ومن جهة أخرى فإن التضامنات مع الأسرة الممتدة تتحلل قليلا قليلا إلى نسيج حضري متزايد الاتساع.
ويجب أن تكون المدينة في وضع يسمح لها بأن تقدم ثقافة تعوض عن هذه التضامنات المفقودة. ويجب أن توفر حيزا حضريا عاما وجمعيا يمكن أن يجد فيه الفرد مرفأ، ماديا ورمزيا، دون أن يفقد تماما كل سماته في مدينة مفتتة إلى مجتمعات محلية صغيرة يتجاهل بعضها البعض في أفضل الأحوال ويكره بعضها البعض في أسوأ الأحوال. ويجب أن تبني نفسها كتراث حي يقيم صلة بين الماضي والمستقبل. ويجب أن تقدم المدينة إطارا جمعيا لممارسة حرية الأفراد، كما يجب أن تتيح لكل فرد "أن يشارك" بالشروط التي تروق له، دون إقصاء أو عزل.
ويمكن أن تولد ثقافة حضرية جديدة في القرن الحادي والعشرين. إنها مسألة إرادة سياسية قبل أن تكون مسألة تقنية. والحقيقة أن الرسالة التي حملتها اليونسكو إلى إسطنبول عبرت عنها ثلاث كلمات، تم اتخاذها شعارا للوثيقة التي قدمتها إلى القمة: اجعلوا المدينة إنسانية. وكما يذكرنا الشاعر التركي ناظم حكمت "هناك شيئان لا ينساهما المرء إلا عندما يموت، وجه أمه ووجه مدينته". هذا الوجه الذي كان كل شخص في إسطنبول يأمل أن يكون وجها إنسانيا. فالمدينة ليست مجرد خليط من التقنيات، والمباني، والمنتجين ـ المستهلكين، والمحرومين المهمشين. المدينة، وفقا لكلمات كريستيان دي بورزامبارك "تحتوي على الزمن": الماضي والمستقبل، أسلافنا وأطفالنا. وأن يعيش المرء في مدينة يجب أن يعني أن يعيش في مكان ويقول: هذه حياتي، هذا هو المكان الذي يوجد فيه أو سيولد فيه أطفالي". وفي قصيدته "بوينوس آيرس"، كتب خورخي لويس بورخيس أيضا "[...] هذه المدينة،/ التي اعتقدت أنها ماضي حياتي،/ صارت مستقبلي". على أنه يوجد اليوم كثير جدا من المدن التي لا تصلح للعيش، وضاعت فيها الكرامة: لم يعد يحدث فيها اللقاء بالآخر. وسوف يتمثل أحد رهانات المدينة في القرن الحادي والعشرين في أن يعاد منح حق المواطنة إلى المدينة، وفي جعلها مكانا لتهذيب المستقبل. والمدينة، التي كانت مكان نشأة المواطنة، يجب أن تسودها الديمقراطية من جديد: وبدون هذا، سيبقى حق السكن، بين أمثلة أخرى، حبرا على ورق، وسوف تواصل المدن إحاطة نفسها بأسوار جديدة: أسوار الأبارتهيد الحضري. إن تغيير المدينة يعني تغيير الحياة.
منطلقات وتوصيات
إعطاء دفعة جديدة للتنبؤ الحضري والتخطيط الإستراتيجي للمدينة والنسيج الحضري.
إعطاء الأولوية لتطبيق حق السكن للجميع ولسياسة إسكان لا تشكل تنازلا من جانب السلطات المحلية والقومية أمام الاقتصاد غير الرسمي والسوق الحرة. ولا ينبغي فصل سياسة للإسكان عن سياسة للبنية الأساسية لكل من المواصلات، ووسائل النقل، وإمدادات وتصريف المياه، والتعليم، والصحة.
تعزيز المدينة كبيئة للحياة، أي صياغة المبادئ والسياسات الخاصة بإيكولوجيا حضرية تعزز ازدهار الممارسات "المستديمة"، وتقوم أيضا بدمج المدينة في بيئتها الطبيعية، بحيث يتم خلق تكافلات بين المدن المتجاورة وترابطا أكثر بين المدينة والريف.
تعزيز سياسة شاملة بشأن الحيز الحضري العام والجمعي. ويعني هذا تشجيع كل أشكال حيازة مجموع السكان للحيز الحضري، لوضع حد للاتجاهات نحو التفتت، والتحويل إلى الغيتووات، والأبارتهيد الحضري. ويجب الإعداد الدقيق لسياسة فعالة وديمقراطية لوسائل النقل والمواصلات الحضرية. مع احترام التوازن الإيكولوجي.
خلق تراث حضري حي موجه نحو الانتقال إلى الأجيال المقبلة. ويجب التفكير في المدينة على أنها إطار وقوة دافعة للتضامنات بين المجموعات الاجتماعية والأجيال. وعلى التخطيط الحضري والهندسة المعمارية، يجب أن يرتكز حب للمدينة كمصدر للتماسك والإبداعية.
وبهذا المنظور، يجب أن توفق سياسات المدنية بين التخطيط الحضري والهندسة المعمارية، اللذين بقيا في أغلب الأحيان منفصلين منذ النصف الثاني للقرن العشرين.
تشجيع كل أشكال مشاركة وتعاون المجتمع المدني، والمجتمعات المحلية، والجمعيات، والسلطات القومية والدولية، ليس فقط حتى لا تستمر معاناة العيش في المدينة كمصير، بل لتكون منشودة كمشروع مشترك يقوم على مفهومي المواطنة الحضرية والتهذيب. والحرص على توفير أمن أفضل للسكان في مواجهة الجنوح والجريمة المنظمة.
تعزيز التعليم للجميع مدى الحياة وبصورة خاصة التعليم الذي يقوم بتدريس المدينة: تدريس السلوك الإيكولوجي أو الاقتصادي من أجل المحافظة على المدينة كموئل، وتدريس ممارسة الحوار والمشاركة الوطنية لتحويل المدينة إلى حاضرة للمواطنين، وتدريس تاريخ المدينة واحترام تراثها، وتدريب المخططين الحضريين لخلق حب للمدينة بحيث تكون قادرة على أن تقدم لكل فرد من سكانها فرص الازدهار الشخصي.
تصوُّر المدينة على أنها دعامة أساسية لبناء ثقافة سلام في القرن الحادي والعشرين، وبصورة خاصة من خلال حلاوة المعشر، والتضامن، والمشاركة، ولكن أيضا من خلال الحوار الديمقراطي وممارسة الجميع للمواطنة.
إشارات الفصل 4
(1) Source: United Nations Centre for Human Settlements (Habitat), An Urbanizing World: Global Report on Human Settlements 1996 -;- synthèse prospective de l Unité d analyse et de prévision de l UNESCO, établie en vue de la Note présentée par le -dir-ecteur général de l UNESCO à la conférence des Nations Unies sur les établissements humains (Habitat II), 1996.
(2) Federico Mayor, “Gouvernabilité démocratique et développement urbain”, Dialogo, UNESCO, juillet 1998. Jérôme Bindé, “Sommet de la ville: les leçons d Istanbul”, Futuribles, n° 211, juillet-août 1996, Paris.
(3) Source: United Nations, World urbanization Prospects: the 1994 Revision, United Nations, New York, 1995.
(4) United Nations Centre for Human Settlements (Habitat), An Urbanizing World: Global Report on Human Settlements 1996, introduction. : قد يصل رقم مَنْ لا مأوى لهم الذين يعيشون في الشوارع، والأماكن العامة، والمخابئ إلى 100 مليون في مختلف أنحاء العالم. وقد يصل رقم مَنْ لا مسكن لاهم في مختلف أنحاء العالم إلى مليار إذا أخذنا في الاعتبار كل أوضاع السكن العابر:(squatters, habitants de camps de réfugiés et d abris temporaires, etc.). Op. cit., p. 229 sq.
(5) Banque mondiale, Des villes habitables pour le XXIe siècle, 1996.
(6) World Resources, A Guide to the Global Environment: The Urban Environment, 1996-1997, publication officielle d Habitat II, Oxford University Press, 1996, p. 12.
(7) E. U. von Weizsä-;-cker, A. B. Lovins, L. Hunter Lovins, Faktor Vier, Rapport au Club de Rome, Drœmer Knaur, Munich, 1995, p. 293, trad. anglaise Factor Four: Doubling Wealth, Halving Resource Use: The New Report to the Club of Rome, Londres, Earthscan, 1997.
(8) Ibid., p. 244.
(9) Voir à ce sujet Michael Cohen, “Habitat II and the challenge of the urban environment: bringing together the two definitions of habitat”, International Social Science Journal, mars 1996, p. 95-101. : كان محوران كبيران يوجهان أعمال المشاركين: "سكن ملائم للجميع" و"منشآت حضرية مستديمة في عالم يتحضرن".
(10) J. Bindé, loc. cit.
(11) Candido Mendes, “Conclusions”, Beyond ECO-92, p. 226.
(12) أيْ القدرة "على تلبية حاجات الحاضر دون تعريض فرصة الأجيال المقبلة في إشباع حاجاتها للخطر"، وفقا للتعريف الذي قدمته لجنة برونتلاند: voir le rapport de la Commission mondiale sur l environnement et le développement. Notre avenir à tous. Les éditions du Fleuve, Montréal, 1988, p. 10.
(13) أيْ، وفقا لتعريف برنامج الأمم المتحدة للتنمية، "عملية تقود إلى توسيع تشكيلة الفرص التي تسنح لكل شخص": Rapport mondial sur le développement humain, 1990: آخذين في الاعتبار، ليس فقط الدخل، بل أيضا عوامل أخرى، لها من ناحية أخرى نتائج كبيرة على نوعية الحياة الحضرية: "تغذية ملائمة، والوصول إلى المياه الصالحة للشرب، وتحسين الخدمات الصحية، ووصول الأطفال على نطاق أوسع إلى نظام تعليمي ذي نوعية أفضل، ووسائل نقل بأسعار ميسرة، وفرصة السكن بصورة لائقة، ووسيلة أكيدة لكسب الرزق، والوصول إلى وظائف منتجة ومجزية": Rapport mondial sur le développement humain, 1996, Paris, Economica, 1996, p. 55.
(14) إعلان كوبنهاغن" الذي اعتمدته قمة التنمية الاجتماعية في 1995 يقدم بالفعل تركيبا، إذ أنه يشدد على أن التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية وحماية البيئة هي المكونات المتبادلة الاعتماد وتتعزز بصورة متبادلة بالتنمية المستديمة. وإذا استعرنا ألفاظ لجنة برونتلاند فإن "عالما يسمح بالفقر الوبائي سيكون دائما معرضا للكوارث الإيكولوجية وغيرها": loc. cit .
(15) Henry Cisneros, “Sharing responsibilities for inner-city problems,” in World Resources, p. 13.
(16) Jérôme Bindé, loc. cit.
(17) An Urbanizing World, p. 17-21.
(18) Source: World Urbanization Prospects, 1990, United Nations, New York, 1991.
(19) Saskia Sassen, The Global City: New York, Londres, Tokyo, Princeton, NJ, Princeton University Press, 1991.
(20) Manuel Castells, La Société en réseaux, volume 1: L Ere de l information, Paris, Fayard, 1998, p. 435. Sur la notion de “hiérarchie globale” émergente du réseau urbain, voir Peter Hall, “The global city”, International Social Science Journal, mars 1996, p. 15-23.
(21) Op. cit., p. 430 et 455.
(22) Néstor Garcia Canclini, “Cultures urbaines de la fin du siècle: la perspective anthropologique”, Revue internationale des sciences sociales, septembre 1997, p. 386.
(23) Robert B. Reich, The Work of Nations: Preparing Ourselves for 21st Century Capitalism, Vintage Books, 1992, trad. française L É-;-conomie mondialisée, Paris, Dunod,1993.
(24) Jorge Wilheim, “Introduction: urban challenges of a transitional period”, International Social Science Journal, UNESCO, Paris, mars 1996, p. 14.
(25) Entretien accordé par M. James Wolfensohn, président de la Banque mondiale au journal Le Monde, 16 février 1996.
(26) Daniel Cohen, Richesse du monde, pauvretés des nations, Paris, Flammarion, 1997.
(27) Conseil pontifical Justice et paix. Pour une meilleure répartition de la terre — Le défi de la réforme agraire”, 1997.
(28) رسالة البابا بمناسبة اليوم العالمي للمهاجر، 1998.
(29) Voir François Ascher, Metapolis ou L avenir des villes, Paris, Odile Jacob, 1995.
(30) Voir An Urbanizing World, passim.
(31) Voir Danielle Beauchemin et Yves Robertson, “Des villes efficaces: un dossier prioritaire de la coopération France-Québec”, Liaison énergie-francophonie, n° 30, 1er trimestre 1996, p. 6-10 (distribué à Habitat II)
(32) Marcia Lowe, “Le développement des villes”, Lester R. Brown éd.. état de la planète, Paris, Economica, 1992, p. 70.
(33) Michel Serres, Le Contrat naturel, Paris, François Bourin, 1990.
(34) Voir aussi le rapport de la Commission indépendante sur la population et la qualité de la vie (Rapport Pintasilgo, Caring for the Future, Oxford University Press, 1996) : وهو تقرير يشجع بروح مماثل "أنماط الاستهلاك المستديمة".
(35) Source: Philippe Panerai, “Demain la terre”, Le Nouvel Observateur, Collection Dossiers, n° 11, 1992.
(36) انظر أيضا فصل "نحو ’ثورة فعالية الطاقة‘".
(37) Ce passage est inspiré pour une large part du “Background Paper” préparé pour le Dialogue tenu à Habitat II sur “L énergie durable dans les établissements humains” le 5 juin 1996.
(38) Wouter van Dieren, Taking Nature into Account: Toward a Sustainable National Income, New York, Copernicus, 1995.
(39) E. U. von Weizsä-;-cker, A. B. Lovins, L. Hunter Lovins, Factor Four: Doubling Weaith, Halving Resource Use: the New Report to the Club of Rome, Londres, Earthscan,1997.
(40) Nicholas Lenssen, David Malin Roodman, “Making better buildings”, State of the World 1995, World Wateh Institute, W. W. Norton & Company, New York, 1997.
(41) Voir en particulier: Hassan Fathy, Architecture for the Poor -;- An Experiment in Rural Egypt, Chicago, University of Chicago Press, 1973 -;- Natural Energy and Vernacular Architecture: Principles and Examples with Reference to Hot and Arid Climates, University of Chicago Press, Chicago, 1986.
(42) Hassan Fathy, Natural Energy and Vemacular Architecture: Principles and Examples with Reference to Hot and Arid Climates, Chicago, University of Chicago Press, 1986 -;- voir aussi, du même auteur: Architecture for the Poor-;- An Experiment in Rural Egypt, Chicago, University of Chicago Press, 1973.
(43) هذا الموضوع تتم معالجته بمزيد من التوسع في فصل "هل ستظل المياه جارية؟".
(44) Martha Duenas-Loza, Acting -dir-ector, INSTRAW (U.N. International Research and Training Institute for the Advancement of Women), “Overview of women s roles in water resources”, document diffusé à Habitat II, 14 juin 1996.
(45) وفقا لـ INSTRAW فإن الأمراض القابلة للانتقال عن طريق المياه هي السبب الأكثر أهمية وراء وفيات الأطفال: ينبغي أن يعزى إليها 1.5 مليار حالة إسهال و4 مليون حالة وفاة في السنة: op. cit., p. 11.
(46) انظر فصل "مستقبل وسائل النقل الحضري: أكثر أمانا، أكثر نظافة، أكثر قربا"، الذي يتلاءم مع مؤشرات عديدة بشأن وسائل النقل في الوسط الحضري.
(47) Source: OCDE, Tranports urbains et développement durable, Paris, 1995, p. 126.
(48) -union- internationale des transports publics, Des villes à vivre: le défi du transport public, Pierre Laconte, rédacteur en chef, UITP, Bruxelles, 1996, p. 12.
(49) انظر فصل "مستقبل وسائل النقل الحضري: أكثر أمانا، أكثر نظافة، أكثر قربا".
(50) Marcia D. Lowe, “Le développement des villes”, passim, in Lester R. Brown éd., L É-;-tat de la planète 1992, Paris, Economica, 1992 -;- voir aussi, du même auteur: “Reinventing Transport”, State of the World 1994, World Watch Institute, W. W. Norton & Company, New York, 1994.
(51) Federico Mayor, op. cit.
(52) Teresa P. R. Caldeira, “Building up walls: the new pattern of spatial segregation in Sã-;-o Paulo”, International Social Science Journal, mars 1996, p. 55-66. Voir aussi, du même auteur: City of Walls: Crime, Segregation, and Citizenship in Sã-;-o Paulo, Berkeley, University of California Press, 1995.
(53) Edward J. Blakely et Mary Gail Snyder, “Divided we fall: gated and walled communities in the United States”, in Architecture of Fear, éd. Nan Ellin, New York, Princeton Architectural Press, 1997, p. 85 -;- Robert Lopez, “Un nouvel apartheid social. Hautes murailles pour villes riches”, Le Monde diplomatique, 1996. OCDE, Politiques novatrices pour un développement urbain, 1996, cité par Francis Godard, “Modes de vie urbains: questions liminaires”, in Villes du XXIe siècle, -dir-. T. Spector et J. Theys, ministère de l É-;-quipement, des Transports et du Logement, Paris, CERTU, 1999.
(54) Mike Davis, City of Quartz — Excavating the Future in Los Angeles, Londres, Verso, 1990.
(55) R. Lopez, loc. cit., résumé dans T. Spector, “La prospective urbaine. Un état des lieux”, Futuribles, n° 229, mars 1998.
(56) Voir Revue internationale des sciences sociales, mars 1996, notamment l article de Michael Sutcliffe, “La ville éclatée: Durban, Afrique du Sud”, p. 79-84.
(57) Blakely et Snyder, op. cit., p. 86.
(58) Jérôme Bindé, “La croissance des villes au XXIe siècle au Sud”, communication au séminaire “Développement viable" de l école normale supérieure, 13 janvier 1997.
(59) Loc. cit.
(60) Christian de Portzamparc, La Ville âge III, Conférences Paris d Architectes, Paris, éditions du Pavillon de l Arsenal, 1993. Voir également Olivier Mongin, Vers la troisième ville?, Paris, Hachette, 1995, préface de Christian de Portzamparc.
(61) Source: Cyria Emelianoff, “Trois scénarios de développement urbain”, colloque international “Quel environnement au XXIe siècle ? Environnement, maîtrise du long terme et démocratie”, 8-11 septembre 1996, abbaye de Fontevraud, France.
(62) Entretien ave Jorge Wilheim, Le Monde, 6 juin 1996.
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟