|
حواس تولد من رحم المادة: قراءة في اعمال الفنان التونسي ابراهيم العزابي
شريفة بنزايد
الحوار المتمدن-العدد: 4831 - 2015 / 6 / 8 - 08:44
المحور:
الادب والفن
انّ العمل الفنّي لايكون خصبا إلا عندما يتضافر فيه الفكر و المعنى مع أسلوب التنفيذ المادي، الذي يتم من خلاله ترجمة رؤية الفنان ة المتلقي ، لتتحول اليد الى أداة أبداع و معرفة تتلمس و تتحسس المادة تماشيا مع مقولة أن فكر الفنان يتجلى في أصابعه وهو يلامس المادة ، فحركة اليد بحدّ ذاتها تشكل فلسفة و ليس مجرّد وسيط بين فكر الفنان و غايته عند تفاعله مع الحيّز التطبيقي و هو ما يكشف النظام الداخلي الذي ينشأ وفقه العمل الفنّي ، بحيث يتمحور أساسا على جدلية صراع قائم بين الفنان و المادة و الفضاء ، فيما يحتويه هذا الصراع من حميمية و تنافر ليتخذ البحث منحى فلسفي حول علاقة الجسد لحظة إنشاء العمل مع المادة و الفضاء بكل تشكلاتهما ، و العزابي يحاول إقتناص لحظات من هذا الصراع لتأسيس رؤية خاصة رغم كونه لا يخرجه عن المنطق المنهجي و التأمل الدقيق حول ما يمكن أن تهبه له المادة من قادح فكري في محاولة لتوليد فكر خلاق في صورته المادية ، فالسطح و الفضاء و المادة و الملمس مفاهيم تحرك الحواس المدركة لها اي العين و اليد لتنشأ هذه العناصر علاقات تشكيلية لا يغيب عنها المعنى الذي يكشف عن قيمة ما ينتجه الترابط بينها و لأن البحث الفني لدى العزابي يتخذ مسارا أكثر توغلا يعنى بالفضاء و الملمس المادة ، فإنّ أعماله أضحت مخصوصة تبحث في ماهية المواد ، فكل مادة محسوسة لها خصوصية ، فرغم التنافر الذي يصل بها حدّ التناقض فإنّ هذا لا ينفي ألفة و تجانس حين تجتمع على فضاء واحد بإعتبارها وليدة تجريب و إختبار ف:"المحسوس هو الذي يبدع الموضوع المتمثل ، فهو الذي يظهره و يمنحه صوتا ينطق به ، و يجعله يقول شيئا آخر غير ذلك الذي يقوله بطريقة نثرية للإدراك النفعي " . إنه تدفّق مستمر يعيشه المحمل عبر الإدراك الحسّي في تفاعله مع المادة المتلفة فعملية الإنشاء عند العزابي إرتكزت غالبا على تقنية التلصيق و الإضافة و التراكم و التكديس و التركيب ، فالورق و القماش الممزّق و اللّوح الخشبي و الأتربة ، هي أدوات لمقاومة صمت المحمل عبر التركيز في إظهار هيكلة المادة السائلة و العجائن اللونية لتأسّس وحدة فيما بينها بتشققاتها و إنفلات الخيوط من نسيجها القماشي ، يضبطه المنطق الفنّي الذي يخاطب العين لتلامس مختلف المواد ، فالعين هي أول ما تصطدم بماهية المادة لتغري اليد بدورها للملاحظة و التلامس مختلف المواد ، فالعين هي أول ما تصطدم بماهية المادة لتغري اليد بدورها للملاحظة و التلمس عبر إختلاف مستوى النتوءات و الملامس بحضور الظّل و الغائر و البارز ، وهو ما يكسبه حركية و ليونة ضمن العلاقات الداخلية بين مختلف سطوح اللوحة وهو تدخل في معمارية الفضاء أي :"جعل اللوحة بما تتضمنه من ألوان و خطوط تجسيد لمدى فضائي متعدد الأبعاد."
فحضور شكل المادة و أثر الفرشاة ،أدخل المنظومة البصرية في الفضاء المسطح ، فكان الإنتشار في كل الإتجاهات تنصهر مع فضاء المحمل في تطلع الى الامتداد بحضور الشكل المفتوح فيه إدماج للكتابة الخطية و النحت ، ففي حركة اليد إتجاه كتابي و تسجيل لخط متواصل فأين وجهت اللوحة أو تغيّر أساسها الإدراكي ، حركت حضورها في الذاكرة في إحالة على علامة أو رمز لحركة الحرف الخالصة حتى و إن تحوّل الحرف إلى منظومة من اللّطخات و آثار الفرشاة ، لتصبح المادة المشكلة له ، مادة تعبيرية تتجاوز غلافها الخارجي الى نحو أعمق ، إلى وضع هذا الارث في صورة جديدة دون قطع لماضيه و في وصل لحاضره:"أشكال لكلمات جرّدت من خصائصها المعنوية و فرّغت من أيّة دلالة ، وليس ما يذكرك بالكتابة غير نسيجها الخطي غير حركتها و إنسيابها ". أصبح المحمل فاعلا وتصميما على نجاعته في الفعل و إستجلاب نوع آخر في تفعيل المحسوس في اطار استجابته للمادة و التي تماهت مع فعل الطي في اعمال العزابي ، و ما ينسحب عن مفهوم الانطواء من احتواء و كشف و مواراة ، تموجت فوق هذه الطيات خطوط تتجول بحريّة في مزيج مختلف بين الاتجاهات و السمك يتغير أحيانا مسارها في حركة عفوية، استمات خلالخا العزابي في تجريب و إختبار مواده المتلفة تكون ذاهبة نحو الفناء و ما تعانيه من اقتطاع و بتر اهتراء لتأسيس العمل على مادة تعيش حلقة داخلية تكون شيئيتها المحسوسة ، بين التناقض و التآلف و هي حركة تخترق الادراك بعد الصراع بين الاندثار و التلاشي ، فالخامات و المواد خاضعة لموقفها النحتي ، والى تصميم أعده الفنان بفضل مخيلة ابداعية يتجه إهتمامها الى جوهر هذه المادة المتلفة فاستعمال الحجارة و الخشب و الاتربة و الاوراق بمختلف أنواعها ، يكوّن مدّ بصري فيه تكشف لوحدة و إنسجام المادة :"يضفي على هذه المادة صورة ما تصبح فيها المادة بمثابة الاساس الوجودي ." ففي لوحة العزابي تتعدد القراءات و تتشكل الرؤى الفنية لا تكاد تغيب فيها المرجعية الثقافية في اطار استغلاله لتراثه المحلي مع تأثره بالحركات الفنية كونه يعيش في خضم الفن عامة .
فهاجسه يكمن في ابراز المادة الذي خبرها في فضاء ثنائي الابعاد يكتسب مع تكدس للمواد المختلفة و يتحول الى فضاء ثلاثي الابعاد بحضورها النّحتي مع التأثير القوي لشكل اللطخات السميكة و الغليظة و المشبعة بالأصباغ اللونية لها ثقل و وزن ، يضعنا في عالم بفضاءاته المختلفة ، يوهمنا بعمقه الحقيقي و يشعرنا بتلك المادة القوية التي تخلق حيوية و نشاط في نظام حواري لمدّ بصري تتوزع فيه الكتل و المساحات لتتكثف المعاني و تتدفق تعطي أهمية للمادة كمؤسسة للفعل التشكيلي . فالبقع العرضية و الهفوات اللونية لا يمكن التفريق فيها بين الشكل و اللاشكل فهي عبارة عن خطية أحادية اللون بين العجينة اللونية و المساحة ،ليتألف المشهد الفني الجامع بين الخط المتصل و المنقطع و المساحة الملونة و المسطحة و الناتئة المعتمدة على الآلية العفوية ، ولكنها لا تنفصل عن عالم المرئيات فهذا الاسترسال المتواصل سمح بإقحام حركية تحتكم الى تصوّر و تخيّل للأشكال التي إتخذتها تلك المادة ، لتنشأ فيها خطوط منحنية و حادة لها حضور و قوة و ثبات فأعمال العزابي التشكيلية تندرج ضمن تنظيم بصري يراعي الملمس من ناحية المادة و الشكل . بحيث تكون في اللوحة الواحدة أكثر من لوحة بل أنّ كلّ جزء فيها يشكل لوحة لتظهر جدلية بين الظاهر و الباطن و بين المحتجب و الجلّي . في عالم مادوي أراده العزابي نمط يومي يمارسه و يتفاعل معه، فالتراب المعجون و القماش و الرمال المسحوقة و العجائن ... إختلف مصدرها و أتاها فيها استجابة لرغبة الاكتشاف لعوالم أتلفت و خيّلت لنا أنها إنتهت وتجاوزها العصر تإحداثياتها الجديدة ، مواد حشدها العزابي و جعل اللوحة مسكنها ، فكيف أمكن للعزابي أن يسري الحياة و الروح داخل هذه البقايا ، بقايا ربّما لا يخطر على المخيلة أنّ مسكنها سيكون على محمل اللوحة التشكيلية :"عالم يتكون في يدي بنّاء أمكنة وهمية و عالم يشهد كل يوم ميلاده المتجدّد ، كل فجر و أعمال تكتمل اليوم في مكان ما في تونس وراء الباب الضيّق الذي يفتح على مساحة مغشاة بالعلامات ، تحتل قمة مأوا لدهاليز ثمرة صراع مع المادة...صراع يومي يترك آثار و بصمات أو ما تبقى من جراح بل خطوطا عميقة مهمتها الأولى أن توقع النّور في فخّها ... ذلك النّور الذي بدونه يغزو الليل و النّهار" . المراجع حسن محمد حسن: مذاهب الفن المعاصر : مكتبة الفنون التشكيلية منشورات مركز الشارقة للإبداع الفكري الملتقى العربي في الانماط المعاصرة للفنون التشكيلية العربية "الحمامات من 4الى 11سبتمر 1972المركز الثقافي الدولي بالحمامات –الاتحاد القومي للفنون التشكيلية بتونس خليل قويعة: مجلّة الحياة الثقافيّة العدد 69/70 1995. *خليل قويعة: مجلّة الحياة الثقافيّة : العدد 64/65- 1992. مقالة بعنوان: التّراث والإبداع في الفنّ التّونسي المعاصر. كاتلوج معرض إبراهيم العزابي تقديم النّاصر بن الشيخ بقاعة الأخبار بتونس 1976.
#شريفة_بنزايد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|