|
جوزف بلاتير وابن الرومي
الصديق بودوارة
الحوار المتمدن-العدد: 4827 - 2015 / 6 / 4 - 20:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"ولي وطن آليتُ ألا أبيعه .. وألا أرى غيري له الدهرُ مالكا " هذه هو "ابن الرومي" يخبرنا أنه لن يبيع وطنه ، وهذه بادرةٌ طيبة من مواطن طيب ، لكنه يخيفنا بعد ذلك ، ويدفع بالهواجس في صدورنا عندما يتجاوز الحد فيطور حالة الحب هذه الى حالة امتلاك وجشع تملك ، فيردف بعجز بيت بشع يقول : "وألا أرى غيري له الدهرُ مالكا"
هنا ، تتملك المواطن "ابن الرومي" حالة تغول على الحب ، فيبدأ في الدخول إلى ملكوت الاحساس بالتملك ، إنه يعلن عن نيته في تحويل "الحبيب" إلى عقار لا يريد أن يتنازل عنه لأحد ، ولا ينبغي لأحدٍ أن ينازعه ملكيته أيضاً . هذه هي مشكلتنا مع الموّلد "ابن الرومي" ، فهل يحق لنا الآن أن نوجه اللوم إلى السويسري "جوزيف بلاتر" لأنه تمسك بعشقه لكرسي رئاسة الفيفا لولايةٍ خامسة على التوالي ؟ شخصياً ، لا اعتقد ، لأننا صرنا اليوم ،وعن جدارة" أساتذة التملك والأنانية حتى بالنسبة لشعب متحضر كالشعب السويسري ، ها قد صرنا سادة العالم أيها الأخوة ، ولو تعلق الأمر بدروس ممارسة الطغيان على أكمل وجه . الكثيرون من العرب هاجموا موقف "جوزيف بلاتر" ، ونددوا بتمسكه بالسلطة رغم تجاوزه الثامنة والسبعين ، واعتبروا اصراره على تجاهل فضيحة الرشاوى وشبهة الفساد في الصرح الكروي الكبير ، اعتبروه صفاقةً متناهية لا تليق بمواطن دولة متحضرة كسويسرا التي تصنع للعالم منذ عقود الذوق الرفيع والساعات الفاخرة .
لكن "جوزيف بلاتر" أيها السادة ،ليس سوى مواطن سويسري تتلمذ ذات يوم في مدرسة شاعر موّلد رباه العرب وأشرفوا على تنمية ذائقته في الشعر والحياة معاً ، فإذا أردنا لوم السويسري ، فلا مفر لنا من أن نتوجه باللوم إلى مواطننا الشاعر "ابن الرومي" ، لأنه قدّم لبلاتر المادة الخام لمفهوم التملك ، ألم أخبركم أننا اساتذة العالم في الاستبداد ؟ كلنا اليوم هذا المواطن السويسري ، وكلنا اليوم ذاك الشاعر المفوه ، وكلنا اليوم عجز بيت مشحون بالتملك الذي تفوح منه رائحة استبداد عفن : "وألا أرى غيري له الدهرُ مالكا "
كلنا تزوجنا الوطن دون أن ندفع المهر ، وكلنا أحببناه كما نعتقد ، بينما نحن في الحقيقة نحب وجوهنا المنعكسة على مراياه اللامعة ، وكلنا عشقناه كما نظن ، بينما نحن في الحقيقة نعشق تفردنا بامتلاكه ، ونستمتع بكونه جاريةً ترقص لنا ، وتحفظ من أجلنا قصائد الشعر ، وتطبخ لنا أطيب الطعام ، وتسقينا من يديها ما لذ من شراب .
كلنا مارسنا الحب مع الوطن ، ولكن ، دون أن نمنحه لحظة حبٍ واحدة ، فقد تخصصنا فقط في استهلاك الحب منه ،دون أن نصدّر إليه . هكذا نحن ، على امتداد هذه الخريطة العربية الشاسعة ، ثمة مواطنون عرب ، اشاوس ، يجيدون ركوب الخيل ، ويقرضون الشعر ، ويتزوجون مثنى وثلاث ورباع ، ويقمعون نصف المجتمع مقابل طغيان النصف الآخر ، ويغضبون إذا تحاوروا ، ويصرخون إذا اختلفوا ، ويتقاتلون إذا تبادلوا وجهات النظر ،ويقتلون بعضهم إذا لم يتبادلوها .
كل هؤلاء ، يحبون وطنهم الآن . يحبونه في سوريا إلى حد امتهانه وبيعه للتشدد والدمار بلا حساب ، ويحبونه في اليمن إلى درجة إهدائه على طبق من ذهب إلى امبراطورية الفرس القديمة التي تستيقظ الآن على أقل من المهل ، ويحبونه في العراق ، إلى مستويات فائقة وصلت إلى تقسيمٍ حقيقي مخيف بين رصاص شيعي وآخر سني ، وبين تراب يحتكره الأكراد ،ومدن يتنازع فيها العرب ، وبين سيارة يفخخها شيعي ، وعربة نصف نقل يملأها سني بالمتفجرات . ويحبونه في ليبيا ، إلى حد ثمالة لم يسمع به أحد ، ربما لأن "هيرودوتس" الاغريقي قال ذات يومٍ إن من ليبيا يأتي دائماً الجديد ، فأردنا اليوم أن نؤكد أن ما تفوه به "هيرودوتس" هو كلام صحيح لا يصدر إلا عن حكيم بالوراثة ، لهذا صرنا نمارس الحب مع ليبيا بثقافة الكراهية ، وصار كل منا يريد ليبيا عشيقة سرية له ، وملك يمين مباح له دون غيره ، إننا نهتك عرض ليبيا ايها السادة دون أن نتوقف عن التغزل بعينيها ليل نهار . نهتك عرضها ، ونؤلف لها الأغاني الوطنية ، ونهيم بها عشقاً ،بينما نقضمها قطعةً قطعة ونلوك لحمها الطري بلا خجل . هذا هوالحب ، وهذه هي رؤيتنا الحداثية لقصديتنا القديمة الشهيرة ، "وقف عليها الحب" ، فهل صار حبنا لك ياليبيا "أرض وقف" يريدها الجميع ؟ هذه هو حبنا الآن ، غريزة تملك بشعة ، ورفض قاطع لمبدأ المشاركة ، وصفر كبيرٍ في الحوار وتبادل وجهات النظر ، واخفاق لا مثيل له في امتحان الوطنية والانتماء ، وتبجح كريه عندما يتعلق الأمر بنداءات التدخل الأجنبي . فهل سبق لأحدكم أن تأمل ملامح الليبي عندما يسمع باحتمال " تدخل أجنبي" في بلاده ؟
إنه يتحول بقدرة قادر إلى أوداج منتفخة ، وعروق نافرة ، ودماء تتدفق في شرايينها ، وغضب يهدر ، وزلزال يدمر ، وبركان تطيح حممه بكل شيء . هذه هي الصورة بحذافيرها ، إنه يرى التدخل الأجنبي حبيباً آخر ينازعه العشق ، وفارس غرام يريد حصته من كعكة العروس ، ولأنه يرفض من الأساس مبدأ المشاركة ، فهو يرفض . إنه لا يتصدى لفكرة التدخل الأجنبي بدافع الوطنية يا سادة ، بل بهاجس الأنانية الذي يملأ صدره ويملك عليه مشاعره . لا حدود للجشع هنا ، ولا نهاية لعقلية الاستبداد ، ولا مفر الآن من الاعتراف بحقيقة مرة كحنظل المساحات الجرداء الشاسعة . إن مفهوم الوطن لم يكتمل عندنا بعد ، فلا زلنا تلك القبيلة الليبية القديمة التي قادت ذات يوم الاغريق الغزاة إلى حدود مدينة شحات ، حتى تتخلص من وجود الغرباء بها .
لازلنا أولئك "الجيلجامي" الطيبيين ، الذين تخيلوا أن الاغريق ستركونهم في حالهم وسيكتفون بشحات وحدها ، فإذا بهم يعودون إليهم بعد سنوات بعد أن اشتد عودهم ،جيوشاً مدججة بالحديد تجتاح مضاربهم وتستبد بهم بلا رحمة . هكذا هو التاريخ ، لا يغفل حرفاً في كتابه ، ولا يغفر لمخطيء ، ولا ينسى زلة غافل ، ولا يصفح عن ذنب خائن . هكذا هوالتاريخ يا سادة ، حكاية لا تجامل ، ولن يتجاهل يوماً أننا تملكنا ليبيا دون أن نحبها ، وأننا عشقنا ليبيا دون أن نشعر نحوها بالمودة ، وأننا مارسنا معها الأنانية كأبشع ما تكون ، وأننا رفضنا بشكل قاطع أن يشاركنا حبها أحد ، وأن ستة ملايين ليبي أحب كل منهم ليبيا على هواه ، وجعلها حديقته الخلفية الخاصة ، وظل يلعق دمائها ليرتوي ، وينهش من لحمها ليشبع ، ويقتبس من نور عينيها لكي لا ترتبك خطاه عندما يحل الظلام . هكذا نحن أيها السادة ، فبأي حق سنلوم نحن العرب ، مواطناً سويسرياً يدعى "جوزيف بلاتر" كل ذنبه أنه مارس نفس ما نمارسه الآن ، ولكن ، بحق وطن آخر يقال له "الفيفا" ، فرفض أن يمتلكه غيره ، ورفض أن يتنازل عن عرشه لأحد ، وأصر كعادة الطغاة على أن يهرب إلى الأمام ، حاملاً وطنه في حقيبة ، وقد سجن شمسه وجباله وأنهاره في خزانةٍ من حديد لكي لا يتمتع بها غيره ، ولا يهنأ به سواه . هذه هو المواطن السويسري "جوزيف بلاتر" ، تلميذ ذلك الشاعر المفوه "ابن الرومي" ، ذلك الذي أنشد ذات يوم : "ولي وطن آليتُ ألا أبيعه .. وألا أرى غيري له الدهرُ مالكا "
#الصديق_بودوارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليبيا وأسماء المرقش
-
المُغتسلة
-
شيطان أبوهم يبقى إيه
-
يد .. في وجه الوطن
-
ميم
-
مأزق الحوثيين
-
لعبة شارلي ابيدو
-
مجلس أمن الجثث
-
القداسة .. بذيل قرد
-
الدم الرخيص .. جداًً !!
-
سوق متعة الكذب !!
-
مطلوب غاندي .. ليبي !
-
متاهة الحقائق الضائعة
-
ثورة صباحي أم دولة السيسي ؟!!
-
أحزان الولاية الرابعة
-
أوكرانيا .. الربيع الميت !!
-
الماليزية .. وأختها الليبية !!
-
دروس الثورة الثانية (1)
-
نهاية العصر الأردوغاني !!
-
كلاب -كيم جونغ- !!
المزيد.....
-
لاستعادة زبائنها.. ماكدونالدز تقوم بتغييرات هي الأكبر منذ سن
...
-
مذيع CNN لنجل شاه إيران الراحل: ما هدف زيارتك لإسرائيل؟ شاهد
...
-
لماذا يلعب منتخب إسرائيل في أوروبا رغم وقوعها في قارة آسيا؟
...
-
إسرائيل تصعّد هجماتها وتوقع قتلى وجرحى في لبنان وغزة وحزب ا
...
-
مقتل 33 شخصاً وإصابة 25 في اشتباكات طائفية شمال غرب باكستان
...
-
لبنان..11 قتيلا وأكثر من 20 جريحا جراء غارة إسرائيلية على ال
...
-
ميركل: لا يمكن لأوكرانيا التفرّد بقرار التفاوض مع روسيا
-
كيف تؤثر شخصيات الحيوانات في القصص على مهارات الطفل العقلية؟
...
-
الكويت تسحب جنسيتها من رئيس شركة -روتانا- سالم الهندي
-
مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|