شريفة بنزايد خلفلي
الحوار المتمدن-العدد: 4815 - 2015 / 5 / 23 - 02:55
المحور:
الادب والفن
يسوس البعض على أن التراث أفل في زمانه ومكانه ، فكيف يمكنه أن يعيش زمان آخر وأن يكون كائنا حيا يحمل هويته على مشارف العصور الأخرى ؟ فصيغ الإلهام تبلّغ عن أسلاف أبدعوا رابطا وجوديا دأب على صناعة القيم الثقافية ، و على خلاف ما جيء به فإن التّراث يسوق مخاضا حقيقيّا في إبداع أنساق متجددة ، و الفنون التشكيليّة كغيرها من الأنساق الانسانية تنقاد الى التّشريع الفنّي في إحياء ما بتره الزمان من تراث بعث لتدبير نصّا فنّيا يبشر بمآل جديد .
إذا فالتراث دعامة تستجلب معها أسسا تعبيريّة لتصبح أنماطا لتجسيد الوعي الإبداعي ، و الرؤية هنا تأتي داخل الجسد الفنيّ في "منسوجات " الفنان التونسي "عمر كريم" الذي خبر الفن بجميع أشكاله من رسم زيتي و نحت و نسيج ، فالأعمال تستقبلك بوهج شعبي بألياف فنية معاصرة ، أشكال لأجساد أتت بتطعيمات نسيجية و نحتية يذكرها صاحبها على أساس إنتاج نمط فنّي يأخذ من الذاكرة الشعبية الشيء الكثير مع تركيزه المتدفّق و المسترسل على إتيان المستحدث داخل الحقل التشكيلي التونسي و العربي و العالمي ، فالطموح الفنّي لا يحدّه حد في إنتاج ثقافة تشكيليّة تنبثق من عتمة الماضي لتنير ذلك التصوّر الفكري الخلاّق يصاحبه جشع فنّي لفنان لا يأبى الإستكان أو الميل الى ماعتادت عليه عين المتلقي ، فتراثه يأخذ منه ما تستصيغه ذائقته الفنّية وإلتزامه الفكري في إنتاج تلك الأنماط المتشكلة على الهيئات المستحدثة ، فالنّسيج الحديث يتطلّع إلى إحداث ذلك النمط المعاصر لترسيخ آليات مستحدثة تمنح النسيج صورة مغايرة ، حين يتم تصاهر بين خامات و ألياف مع المخيال الشعبي فيثمر أشكالا و ألوانا ، مع ألياف و أشكال من أزمنة غابرة يمثل فيها روح التاريخ ، فهي تحمل معها نسق تاريخي يظل مستمرا الى يوم الدين . و الفنّان يجد في حسه الفنّي ذلك الإدراك الفعلي و الحقيقي المتصل أساسا بالخلفيّة التراثية و العمل يبقى وليد تلك اللحظات الداخليّة من التّكوين الفنّي ، حين تنفرد بمعالم خاصة ليصبح تتويجا للذوق الجمالي عموما . إن النسيج المعاصر يفرض تناول مخالفا للمنسوجة التقليدية ، إذ يكون الإبداع و الخلق رهين التّصور الخاص و المختلف للفنان فتوجيه الخيارات الثقافيّة و الفنيّة من مهمة الفنّان المبدع في تقديم الإنتاج الثقافي يستوعب جل الأنماط الفنّية التراثية في شكلها الجديد .
والأعمال النسيجيّة تقوم وفق أفكار ورؤى متعددة المنافذ ، أهازيج من الألوان و الخطوط والخامات ، إتحدت فأنتجت تضاريس من خامات صوفية ، حديد ، نحاس ، خزف ... مواد يمارس من فطرتها الفنان لذّة تشكيليّة ، فيمزجها و يقصّها ، صور لخطوط نسيج ألفت الإختبار و التّجريب ، أثيرت في نفس منجزها ، فلم تبخل عليه و جادت بمكنوناتها الماديّة .
فلم تتستّرعلى سرّها لمن حاول كشفها أو فضح تلك القدرة الخلاقة ... إنشاء تعبيرات تشكيلية كانت حكرا على فنونها الأصلية ومع أن مفهوم الجمال يتأثر بمدى استعدادنا لرؤية الشيء وبطرق فهمنا له سنجد بأنها قد تتحقق، وفي حالات كثيرة، مع أشياء تدمج بطريقة مدروسة ، بمعنى أن الإضافة الجمالية تنطق المادة للتّشكيل ولم تكن الأصباغ و المواد المتنوعة إلاّ وسيلة تقود البحث لتحقيق إمتاع لذة كل مشاهد.. هذا الإمتاع تدعوها لذّة بصريّة و داعيها فنان يحذق تماما لغة الفنّ ، فيحوّل كل ما يقع بين يديه ، يخاطب اللون و المادة بشكل حيوي ، فالعين قبل أن تبصر و تخاطب تمرّ لتبحث في مزج الألوان و الأصباغ و تتساءل عن خلق التآلف اللوني داخل العمل باعتباره سطحا ظاهريا بنتوؤاته و تضاريسه المادية ،فغبر الدال والمدلول والعلامة الرمز تنساق مفاهيم و أنساق، المفاهيم تنطبق، و تتشارك بصورة معينة على اللوحة التشكيلية أو المنحوتة ، بل تكون هذه المنسوجات نحتيّة و تشكيليّة في تزاوج مستمر لا يقف عند حد ....
إنّ المحاولة هنا تؤسسّ لفهم جديد للنسيج ، والفهم يتم عبرالتحليل والتأويل الذي يخلقه النسيج كفعل .. اللوحة - إذن -، في هذا المضمار، ممارسة دلالية منحتها القوة المادية تفوق ذلك التناول العادي خاصا لما فرضته طبيعتها التركيبية من بناء شكلي بين الخطوط و الأشكال التي يتم عن طريقها اختراق حدود المنسوجة السطحية بين القص و التلصيق و التركيب تقوم بناءات من الخيوط تنسج نتوءات تزيد النّص التشكيلي المرئي خصوبة و ثراء و وضوح كنهها الحقيقي يرتبط بمدى إدراكنا لبنيته وفهمنا لمركبه الدلالي العميق، مما يعني أن القارئ الباحث بالأساس مدعو إلى ممارسة بصرية دقيقة تمر عبر تطور ممارسة النسيج المعاصر ، إنها إذا سخرية من أشكال التناول النقدي الساذج و المتسرع بحشر المفهوم التقليدي للمنسوجة واعتباره منتجا متوارث، ولهذا فدوره داخل هذا النص يتجاوز اتصاله السطحي لجوهر هذه الأعمال مرورا بتفكيك تراكيبها التعبيرية والوصول إلى مستوى التحليل العلاماتي .
بين الرسم الذهني و النسج اليدوي و الصناعي تنفرد هذه الصور الدسمة بالمادة وتصنع التباين الواضح على نطاق إنتاج اللّوحة التشكيليّة على مستوى ما أدمجه الفنان من خامات مختلطة ، وذلك أن بعض المنسوجات الحديثة تحتوي على قدرة تشكيلية عالية ، تعكس وجود أساليب مستحدثة و بحث متواصل لصاحب هذه الأعمال ، ممّا يفسح المجال لوجود توجهات معاصرة في إدماج العلامة والرمز والبصمة والأثر والحرف العربي داخل خلطة فنيّة تشتهي التجريب اللامشروط في إختبار مادوي رغم استلهامها من التراث العربي الأصيل ، إذ يكون للثقافة الشعبية والموروث بعدا جماليّا و التعبيريّا.
إذ يشهد النسيج ولادة و طفرة نوعية في مجال الفنون التشكيلية وذلك لكون الفنان يمارس هنا طقوسه اليومية بطريقة الحاذق و لمن خبر المادة بتنوعهاتها و إختلاف مكوّناتها ، فهو يرسم بالخيوط و الألياف يعامل الأصباغ و الألوان كمن يعامل كائنات حيّة ، ينميها بحسّه و يغذيها بخبرته ، إنّها صياغات تشكيلية تطرأ على النسيج الفنّي وهي الإضافات تبعث الشكل و التكوين على نحو جديد ، إنّه تبرّم من الأطر التقليدية للنسيج و إنشاء وجود مغاير له ، فرغم ثبات جوهره فإنّ إرادته في الإنزياح عن أطباعه التقليديّة لا يمكن إغفالها فالتّعبير الحديث للنسيج يسخر إحداثيات تطبيقية ترنو للتغيير.
إنه التجاوز أو الإخراج المخالف من حدود النمطيّة نحو حريّة الأداء والتعبير في البناء والتكوين إنّها هواجس تشكيلية يسعى من خلالها الفنان تطبيق تفكير نموذجي تطبيقي يندرج ضمن خلاصة ذهنية في تغيير النمط و البناء ، حيث تخضع التشكيلات و التكوينات الى دراسة تحليلية نحو أفق تتناول المنسوجة الى عالم حي تتدفق منه معان فنية ، فكرية ، تشكيلية خالصة تستدعي القارئ الى تجديد رؤية التحليل الفني و نقده .
#شريفة_بنزايد_خلفلي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟