عجيب أمر الحداثة في جمهورية تونس! ففي يوم عادي من أيام الشهر الأخير من السنة "الإدارية"، وفي سياق مداخلة عادية لوزير الدفاع أمام مجلس النواب بمناسبة عرض ميزانية وزارته على "موافقة" ممثلي الشعب، اكتشف مراسلو وكالات الأنباء الأجنبية بما يشبه "الصدفة" أن السلطات الحاكمة في تونس اتخذت قرارا من أخطر القرارات التي يمكن أن تُـقـدم عليها أي حكومة تحترم نفسها ومواطنيها في العالم "المتحضر"..
فقد أعلن السيد الدالي الجازي – المعارض السابق في صفوف حركة الديمقراطيين الإشتراكيين وأستاذ الحقوق المبرز في الجامعة التونسية والعضو المؤسس للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في أواخر السبعينيات من القرن الماضي – أن التجنيد الإجباري سيشمل الفتيات التونسيات ابتداء من عام 2003..
وفي يوم الأربعاء 25 ديسمبر نقلت وكالة تونس إفريقيا للأنباء عن "مصدر" في وزارة الدفاع التونسية أنه سيبدأ العمل بداية من غرة جانفي 2003 بالتجنيد الإجباري في صفوف الجيش الوطني للإناث من التونسيات...
هذه الخطوة التي سارعت الأبواق الرسمية والموالية للسلطة بالتطبيل لها باعتبارها "قفزة جديدة في اتجاه المساواة الكاملة مع الرجل" أو بتقديمها على أنها "خطوة جديدة على طريق الحداثة"، لم تقترن – على حد علمنا – بأي حوار وطني موسع حولها، ولم تصدر بشأنها توضيحات كافية أو تفاصيل دقيقة عن كيفية تطبيقها (باستثناء ما ورد من معلومات شحيحة في تقريرين انفردت بهما وكالتا قدس برس إنترناشيونال ورويترز ونشرتهما تونس نيوز في الإبان)...
وعلى الرغم أن المرء يحار في تفسير الكيفية التي تتعامل بها السلطات في تونس مع مثل هذه الملفات المثيرة للجدل (على أقل تقدير)، إلا أن الصمت الذي صاحبها – لحد كتابة هذا النص - من جانب الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وشخصيات البلد الفكرية والإجتماعية والشعبية مثير لأكثر من تساؤل.
وفي انتظار انقضاء عطلة آخر السنة وانتهاء الإحتفالات بحلول العام الجديد واستئناف الهياكل والأحزاب والمنظمات والشخصيات لنشاطاتها وتحركاتها، أستسمح الجميع - باعتباري مواطنا عاديا جدا - بطرح وجهة نظري وتساؤلاتي الخاصة حول هذا الموضوع.
1- ما هو الأمر الجلل الذي جدّ في بلد "الفرح الدائم" المسالم الهادئ الذي يؤمه خمسة ملايين سائح سنويا حتى تفرض الخدمة العسكرية على الإناث فيه؟ وما هي المخاطر – التي لا نعلم بها نحن البسطاء المغفلون – التي تتهدده والتي تستوجب تجنيد النساء والرجال فيه دفعة واحدة؟
2- هل يعتزم السيد زين العابدين بن علي – القائد الأعلى للقوات المسلحة – إرسال رجال تونس إلى ساحات الوغى في فلسطين والعراق دفاعا عن شرف الأمة وكرامتها ولذلك قرر – من باب التحوط الواجب – استدعاء نساء تونس وفتياتها إلى ثكنات الجيش التونسي من أجل التدرب والإستعداد لتحمل مسؤولية الدفاع عن الوطن العزيز في المستقبل؟
3- لكن في صورة عدم وجود مخاطر ماحقة تتهدد استقلال وسيادة تونس وسلامتها الترابية وفي صورة عدم وجود أي قرار خفي أو معلن بمشاركة فيالق من الجيش التونسي في تحرير فلسطين أو الذود عن الشعب العراقي من الهجوم الأمريكي المنتظر، فلماذا كل هذا الإستعجال في اتخاذ القرار؟
4- في المقابل، لماذا لم يلتجئ رئيس الجمهورية مجددا إلى استفتاء الشعب التونسي (مثلما فعل في 26 ماي 2002 مع التحوير الدستوري) حول هذه الخطوة الخطيرة التي لا تخفى أبعادها العائلية والنفسية والإجتماعية في مجتمع – لا يزال محافظا – رغم ظواهر الأمور؟
5- ولقائل أن يقول: إن الرئيس وحكومته لم يستفتوا الشعب في ما هو أخطر من هذا بكثير. فقد بادرت السلطات مثلا بالتوقيع على اتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي منذ عام 1995 دون أن تقيم أي اعتبار لتحذيرات المحذرين ولا لدعوات التمهل والتروي التي صدرت من جانب المختصين والعقلاء، فكيف تريد منها الإلتفات اليوم إلى أخذ رأي الشعب في قضية "تافهة" مثل هذه؟
6- من غرائب الأمور أن يتخذ مثل هذا القرار في تونس في الوقت الذي ألغت فيه العديد من البلدان المتقدمة وعلى رأسها فرنسا التجنيد الإجباري بهدف تقليص نفقات القوات المسلحة ونظرا للإتجاه العالمي المتزايد نحو تشكيل جيوش من المحترفين وذلك بحكم التطور التكنولوجي الهائل في الأسلحة والمعدات المستعملة بما يتنافى مع وظيفة التجنيد الإجباري التي عفا عليها الزمن.
7- من خلال بعض التعليقات الأولية التي سمعتها حول الموضوع، يسود اعتقاد (لا أدري مدى صحته) بأن الأمر لا فيه حداثة ولا مساواة ولا هم يحزنون. فهو لا يزيد عن محاولة إضافية من طرف السلطات للحصول على المزيد من المداخيل الجبائية للميزانية المنهكة بعد أن تراجع حجم الضرائب الجمركية المفروضة على البضائع الأوروبية الموردة إلى أدنى حد بسبب التطبيق المتواصل لبنود اتفاقيات الشراكة التي وقعت عليها الجمهورية التونسية العتيدة مع بروكسيل. وبما أن القوانين المعمول بها تتيح للذكور التهرب من أداء الواجب الوطني عن طريق دفع نسبة كبيرة من رواتبهم للدولة لعدة أشهر، فان مجرد تطبيق نفس البنود على النساء العاملات اللواتي تقل أعمارهن عن 30 عاما (واللواتي لا يمكن لهن لأسباب متعددة قضاء سنة كاملة في الثكنات العسكرية للتدرب على حمل السلاح والدفاع عن الوطن)، سيوفر للخزينة مبالغ مالية أضحت ضرورية جدا في ظل استمرار الأزمة الإقتصادية واحتمالات مزيد تدهور الأوضاع لدى اندلاع الحرب الأمريكية المرتقبة ضد العراق.
8- أخيرا، لا يجب أن يُـفهم من تساؤلاتي وملاحظاتي السابقة أنني ضد إجبارية الخدمة العسكرية للرجال والنساء على حد السواء، كما لا يجب أن يُـنـظر إليها باعتبارها تشكيكا في قدرة بناتنا وأخواتنا وزوجاتنا على مكابدة الأهوال وخوض الصعاب من أجل الدفاع عن حرمة الوطن والذود عن حياضه ببسالة وشهامة. فأنا لست بصدد تبرير القرار أو رفضه لكن ما يؤرقني ويزعجني بشدة هو هذا الأسلوب المتخلف والمُـتعالي في اتخاذ كل أنواع القرارات الخطيرة منها والبسيطة في الجمهورية التونسية. فالحاكم الذي يعتبر شعبه مجموعة من الأفّـاقين والغوغاء والرّعاع الذين لا رأي يُـسمع لهم ولا اعتبار لأفكارهم أو لانتقاداتهم، يمارس في الحقيقة أبشع أشكال التسلط والديكتاتورية المنافية لأي شكل من أشكال الحداثة أو التحضر أو التقدم. والحاكم الذي يمارس السلطة على منوال فرعون: "ما أُريـكُـم إلاّ مـا أرى" يضرب عمليا عرض الحائط بكل الأسس والركائز التي انبنت عليها الحداثة السياسية والإجتماعية والفكرية في العصر الحديث وفي البلدان المتحضرة، ونعني بها بالتحديد : تلك الآليات التي تساهم في اتخاذ القرار من خلال تشكيل الرأي العام عبر ما تنقله وتبثه وسائل إعلام حرة تقوم بعرض مستفيض للفكرة والمشروع في محطات الإذاعة والقنوات التلفزيونية والصحف والمجلات ومواقع الإنترنت العامة والخاصة ومناقشتها من طرف المؤيدين والمعارضين والمتحفظين على حد السواء على امتداد عدة أشهر قبل التصويت عليها من طرف مجلس نيابي مُـنـتـخـب ومُـمـثّـل لكل تيارات وفئات الشعب التونسي واللجوء إلى "قمة الممارسة الديموقراطية" (*)، أي إلى الإستفتاء الشعبي للحسم في المسألة ديموقراطيا وبشكل نهائي.
هذه بعض الملاحظات والأفكار الأولية حول قرار فرض التجنيد الإجباري على الإناث في تونس، البلدُ الذي يتهرّب أكثر من نصف شبانه الذكور من أداء الخدمة العسكرية (باعتراف السيد وزير الدفاع نفسه أمام السادة النواب)، والوطنُ الذي لا زال حكامه يستخفون بمواطنيهم ويعاملون رعاياهم – بعد 47 عاما من الإستقلال - على أنهم قُـصّـر لا حاجة لاستشارتهم أو أخذ رأيهم .. فهم ليسوا أكثر من "قفل على وذن جرة" في أحسن الحالات!
بما أنني مواطن عادي جدا فقد راجعت نص الدستور في صيغته الأخيرة ووجدت أن الفصل 15 ينص حرفيا على ما يلي "الدفاع عن حوزة الوطن وسلامته واجب مقدس على كل مواطن". وبما أن كُـلّ هذه تشمل جميع المواطنين (أي الذكور جميعا والإناث جميعا)، فان الرد المرتقب للسلطة الحاكمة ولأبواقها في الداخل والخارج سيكون كالآتي: لقد وافقتم في 26 ماي 2002 بنسبة تفوق 99 في المائة على التعديلات الأخيرة التي "اقترحناها عليكم" ومن ضمنها الفصل 15 الجديد، لذلك فلا تلوموا اليوم إلا أنفسكم ويكفي من "التخرنين".
(*) أطنبت الصحافة الرسمية والمطبلون بجميع أنواعهم في استعمال هذا الوصف إبان الحملة التي سبقت استفتاء 26 ماي 2002!
أوروبا في 30 ديسمبر 2002