بن جبار محمد
الحوار المتمدن-العدد: 4794 - 2015 / 5 / 2 - 18:43
المحور:
الادب والفن
كلمـة موجهة لأصحاب الشرف
أنا أحمد بن شارف من مواليد 1936 متقاعد في الجيش الفرنسي ، مقيم بدنكيرك في شمال فرنسا ، أتواجد يوميا في نهج الجيش الذي ينتهي عند الميناء التاريخي ، تقاعدت برتبة مساعد أول سنة 1978 بطلب مني ، وضعت حدا للجندية ، رحلت مثل مئات الجزائريين و الفرنسيين و اليهود إلى فرنسا ، اخترت الرحيل ، لم يكن لي خيارا آخـر ، لم أتردد لحظـة في توديع هذا البلـد ، لـولا أمي الذي جعلتني أفكّر قليلا و أتريث في قرار الرحيل و ألتفت قليلا إلى الوراء ، لكنّي رحلت ، اخترت مصيري ، في حين كثير من أقراني لم يحصل لهم شرف تحديد مواقفهم ، اخترت فرنسا ، أحببتها ، تشربّت روحها ، اعتنقت أفكارها ،تكلّمت لغتها و تجنست ، استفدت من الرعايـة و الامتيازات الاجتماعية و المهنية و الصحية ، أنا الآن تحت رعايـة مدام " فاني بوركي" بالديوان الوطني لقدماء المكافحين و قد أصبت بأمراض الشيخوخة و قد شجعتني على كتابة مذكراتي في/ عن الجزائر و على تجسيد الذاكرة في مساعيها لأجل التخفيف من التوتر الذي ينتابني في أوقات معلومة ، ساعدتني كثيرا في كتابـة هـذا النص و رافقتني طيلـة سنتين و نصف في الإشراف المباشر و مناقشة كل فقرة من فقرات المخطوط دون أن تتدخل في كتابته أو في محتواه ، تعمدت أن أتخلص من "جزائريتي " ليس انتقاما أو كرها ، أريد أن لا يكون حنين بمذاق حمض الأسيد ،، لم أوفق بعد . بعد مرور أكثر من سنة ، مازال أصدقائي ينادونني ببن شارف الحركي أو الحركي ببساطة ، لا تحرجني هذه التسمية إطلاقا لأن ما أراه الآن في بلــد العرب من تدمير ذاتي و تحطيم مقدرات شعوبهم و بيع بلدانهم و ثرواتهم و أحيانا الاستعانة بجيوش الغرب و قوات الحلف الأطلسي يدعو للسخرية ، الخيانة لا تكون إلا إذا كانت جماعية أمــا الخيانـة الفردية فهي موقف ، اتخذت موقفا حازما يوما ، ودخلت في الصف الفرنسي . انتقمت لشرفي ، إذْ كنت أسكن في أحد دواوير غابة سيدي عبد العزيز ، يتيم الأب ، توفي أبي في ظروف عادية ، كنت شابا في العشرين من العمر ، شاب وسيم ، درست التعليم القرآني و التعليم النظامي بمدرسـة زمورة و بعدها انتقلت إلى مستغانم لإكمال تعليمي المتوسط لظروف الفقر و الحاجة عدت إلى مسقط رأسي . وجدت أمي تبكي !! أخبرتني أن القطعـة الأرضيـة التي كانت للمرحوم أبي استولى عليها عمي و ضمّها لأملاكــه، لم يبق لنا شيئا يعيل أسرتنا الصغيرة أمي و أختي التي تصغرني بأربع سنين و أنــا. عمي أصبحت لـه هيبـة بعد صعــود ابنه إلى الجبل يرهّب به أهــالي الدوار في كل مناسبة، لم يبق لنـا إلا ذلك الحيّز الصغير أمام البيت ، أشبه بساحة صغيرة ، لا أحد يجرؤ على عمي و لا أحد يخالفه الرأي في مسألة الاستيلاء على أرض أبي ، الكل يتخوف منه ، حتى شيخ الجامع أعتبر شأنا داخليا ، يستوجب السكوت و صرف النظر ، أنا لم أسكت و لم أصرف نظري ، اقتربت منه و طلبت أن يتخلى عن القطعة الأرضيـة التي ضمّها إلى أمــلاكـه ، كنت برفقة أمي في بيته الذي لا يبعد سوى بضعة أمتار ، زمجر كالأسد الجريح و استنجد بأولاده ، هرعــوا إليـه و أوسعــوني ضربا و أثخنت بالجراح ، رموني تحت الزرب و أمي جرجروهــا بعيدا و قد صفعها عمي أمامي ، بل أن مسكن جدي حرموني الدخول إليه نهائيا . بعد أيام انتقلنا للفيلاج عند أهل أمي ، نار الحقد اشتعلت في قلبي ، عملت في مقهـى هنــاك ثم عند حرفي ثم كاتب عمومي ثم التحقت بلاصاص "كنــاندة" ، انتقمت من عمي أشد الانتقام ، أطلقت عليه الرصاص من مسدس خبأته تحت قميصي و تركت مرميا في الوادي وهــو عائد من السوق . هنا انتهت عــلاقتي بالجزائر و انتهت علاقتي بالأهــل ، بعدها طلبت الانتقال إلى لاصاص المطمر أو عين الحلوف ، لحسن حظي أنه تمت الموافقة على لاصاص عين الحلوف . في بداية الأمر كنت أعمل في نادي الجنود ثم أنتقل مباشرة إلى كخادم شخصي للقبطان مونترويْ ، تطور الأمر أن أصبحت سائقه الشخصي و مرشده ، أحببت القبطان و كسبت ثقته ، اتخذني ولدا له و صديقه و مؤنسا له ، تفتحت عيوني على فرنسا ، شعرت أن لاصاص هي عائلتي الوحيدة و القبطان مونتروي هــو أبي ، انضمامي إلى المخازنية جاء في وقت متأخر ،، كانت في أواخر سنة 1959 ، فرحت لما لبست البزة العسكرية مثل المخازنية و القومية العرب و حملت السلاح .
كنت ألازم " القبطان مونتروي" طيلة تواجدي بعين الحلوف ، و أنا الوحيد الذي أقتحم عليه مكتبه و أقرأ أوراقه و تسجيلاته و مراسلاته و ملاحظاته التي يدوّنها في " فاي مينيت" ، كان يحدّثني بآلامه و مخاوفه و هواجسه ، سنوات 1960-1961-1962 سنوات عصيبة عليه ، أشفقت عليه كثيرا ، كان من عشاق النبيذ الجزائري ، أنا شخصيا كنت أذهب إلى باليكاو بمعسكر لشراء النبيذ المحلّي ، النبيذ وحده كان يخفف عليه وطأة الأحداث .
سجّلت وقائع سبعة عشر الأخيرة للقبطان مونترويْ في عين الحلوف و هـذه المخطوطة التي أقدمها بين يديكم هي ثمار جهدي في تدوين تفاصيل مرحلة بكرونولوجية ساعة الرمل تتبعا للأحداث التي مرت على القبطان ، أغفلت بعض المواقف و تحفظت على بعض الأسرار الشخصية تخص عائلته ، أستسمح القراء أنني لا أجيد الكتابة الروائيـة ، أنا مجرد شاهد فترة زمنية من تاريخ فرنسا في الجزائر ، يسعدني أن أستعيد ذاكرتي و أشارك الجميع بما فيهم العرب الجزائريين ، عن فترة من فترات القبطان مونتروي .
استندت في كتابة هذه الشهادة على كل ما سقط في يدي من وثائق و تقارير و مراسلات و جذاذات الأوراق التي كتبتها يوما و ما رأيته و عاينته بنفسي و ما عرفته آنــذاك .. هذه المذكرات ليست طلب غفران أو توبة أو مخاطبة ود أحد من النــاس أو تكفير عن الخطايا، لم أندم يوما، أنا اتخذت موقف ذات يوم و مشيت على نهجه إلى النهاية.. كنت صريحا مع نفسي، و تحملت الآلام و النتائج و لم أتمكن من معانقة أمي و لقاء أختي و العودة إلى مسقط رأسي. تدخّل القدر و أرغمتني الظروف القاسية أن أنجو بنفسي، أن أعيش بقية عمري في منفى.. لخصت حياتي في بضعة أسطر ! لأنني أرى لا جدوى في التفاصيل و لا تأثير لهـا ، انتقمت من عمي ، كان هو هاجسي ، الوطن لم يكن هاجسي ، الوطن يجد من يدافع عنه ، شعرت بالظلم فثأرت لنفسي ، ما زالت أعتقد أن قصتي بدأت في ذلك اليوم الذي بكت فيه أمي و انتهت في شعبة أحد الوديان . لست فخورا بنفسي و حياتي المتبقية لا أهمية لها مثل باقي الحركى ، كل واحد منهم له ظروفه الشخصية ، لا أشفق عليهم و لا أشفق على نفسي ، اعتقد أنني محاط بكل الرعاية و هذا كفيل أن يعوض عني حب الأم ، القبطان مونتروي ملأ فراغي و كنت من مقربيه ، أصبغ عليّ كل مشاعر الشفقة و العطف ، في هذه المذكرات أخلّده و أتتبع خطاه في رحلـة الحنين و الذاكرة و التاريخ ، التفاتتي هذه هي مجرد تلصّص عن طيبــة خاطر من ثقب التاريخ ، كلمـات أوجهها لأصحاب الشرف الذين يدعــون حب الوطن و الذود عنه ،لكنهم يتمنون الموت في حضن المستعمر القديم و في فراشه و على أرضه ، الوطن لم يكن هاجسهم و الشرف أيضا ، الشرف و الخيانة ليست كلمتان بسيطتان و ضحلتان كما يتصورهما أصحاب الشرف و يملئون بها فراغات الحديث ، كلمتان معقدتان يتداخل فيها الشرف بالخيانة ، ففي الخيانة قد يتجلى الشرف و في الشرف غالبا ما يحمل بذور الخيانــة . أنا هنا لا أبرّر و لا أطرق سبل للالتفاف على الحقيقـة، لكن أدعو القراء لقراءة الواقع الآن !! قبل عقد من الزمن حضرت مكان تصوير فيلم جزائري – فرنسي ، كان هناك مشهد لتعذيب الفلاقــة ، الجلاد و الضحيـة ، الجلاد الذي يظهر كل ما عنده من حقد تاريخي و ضغينة و توحش بشري ، الضحية يظهر شجاعته في الصبر و التجلد و المقاومـة و الأمل في النصر في مشهد جهنمي و بؤس بشري ، كان جسمه مضرجا بالدماء و في حالة من القهــر التراجيدي ، بعد نهايـة المشهد تعانق الجلاد و الضحية و الضحكات تسمع من بعيد ، فرحان سعيدان بالدور التمثيلي لكن لم يخطر ببالهما أن التمثيل العفوي الطبيعي بعيدا عن الكاميرا أصدق من وجودهما أمام الكاميرا، الذين يدعــون بالشرف و البطولة –مثل المشهد السينمائي – ما أن ينتهي من خطابه المأسوي يذهب يعانق الخيانـة و يترك الشرف للبسطاء. لا أشعر بالحزن و لا أترك للحزن يتسرب إلى نفسي إلا عندما رأيت الأرض تتزعزع تحت أقدام الفرنسيين ، بحسن النية أو سوءها مرّ من هنــاك الفرنسيين وجنودهم و مزارعيهم و حيواناتهم ، رست على شواطئ الجزائر مراكبها و احتسينا نبيذ الجزائر ، لكن لم نتخلص من مذاق النبيذ الذي تغلغل بعيدا في مسامات ذاكرتنا
#بن_جبار_محمد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟