|
هادي العلوي: المثقف القطباني 11 من 11
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1331 - 2005 / 9 / 28 - 13:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لقد توصل هادي العلوي في مجرى تأمل مهمة المثقف ونموذجه الأعلى إلى ما اسماه بالمثقف القطباني. وقد كان يقصد به النموذج المتسامي والأعلى لوحدة المشاعية واللقاحية. وهو اشتقاق جمعه من فكرة الشيخ والقطب الصوفية، بعد أن دمجهما في وحدة العقلانية والنزعة الإنسانية المعاصرة. وجعل من هذه الوحدة معيارا ومقياسا ومرجعية للمثقف الحقيقي والمثقفية. وشأن كل اشتقاق متسام عادة ما يتمظهر بصور ونماذج عديدة. وليس اعتباطا أن يتخذ العلوي من لاوتسه وغوته وماركس ومن الصحابة ورجال الخوارج وثوار الشيعة وفقهاء السنة وبعض خلفاء الأمويين ومعارضي الخلافة العباسية وشعراء كالفرزدق وبشار بن برد والكميت ودعبل وأدباء وفلاسفة كالمعري وصوفية عظام كالحلاج والجيلاني نماذج لتمظهر حقيقة هذا المثقف. ففي التاوية نراه يظهر في تسمية الحكيم بوصفه تشخيصا لسمو تطلعاته وتحررا من عبودية الأشياء والرغبات. فهو لا يعمل ولا يرغب ولا يتكلم ولا يأخذ ولا يحتاج إلى أن يتظاهر ويتبجح ويتفاخر. انه خلاء كالتاو. وهي الذروة التي ينبغي عليه بلوغها من اجل تحقيق ذاته بوصفه حكيما. وفي هذا تكمن رسالته الكبرى. انها حكمة سلب الغريزة والطباع من حاكميتها وحكمها من اجل بلوغ حالة الطبيعة كما هي. ومن خلالها الخروج إلى عالم الأشياء والمتغيرات والحاجات بوصفه مجلى التاو. وفي الصحابة يتمظهر في شخصية سلمان الفارسي الذي كانت تستولي عليه مسألة العدل في الحياة العملية للناس. بينما كان أبو ذر الغفاري يجسد في ذاته الالتزام الشخصي بالمبادئ عبر الامتناع عن التملك وإيثار الفقر اختيارا وسط الإغراء الشديد وعدم التزوج بأكثر من امرأة. أما الزنادقة مثل عامر العنبري فوجد فيه نموذجا للمثقف القطباني الذي تمظهرت في صفاته الكبرى مثل امتناعه عن الزواج واكل اللحوم، وعدم حضوره صلاة الجمعة، ومقاطعته حكام البصرة في خلافة عثمان، والتدخل لحماية المستضعفين من أهل الذمة ممن تسلط عليهم من المسلمين. بحيث وجد فيه مثقفا إسلاميا استشرف المطلق في عبادته الفردية خارج الطقوس المنظمة اجتماعيا. انه جسّد في ذاته المثقف القطباني عبر مساعيه للتحرر من أحادية النص المقدس ومعارضته السياسية للظلم الاجتماعي. في حين تجسدت شخصية المثقف القطباني عند الجهم بن صفوان في استيعابه الخاص لفروض الصراع ضد المظالم الاجتماعية للدولة ونظامها العسكري. وعند بشار بن برد في سلوكه الشخصي ومواقفه السياسية. وليس اعتباطا أن يرسم العلوي شخصية بشار بدءً بطريقة لبسه الملابس وأسلوبه في إلقاء الشعر وانتهاء بموته. إذ كان يلبس قميصا وجبة مفتوحتين من الوسط مشدودين بأزرار. فكان إذا أراد نزعهما فكّ الأزرار فتتكوم على رجليه حتى لا ينزعهما من رأسه. وإذا أراد إلقاء الشعر يبدأ بالصفق بيديه ويتنحنح ويبصق عن يمينه وشماله ثم يشرع في الإنشاد. كما كان يترك الصلاة. وهي حصيلة وجد فيها العلوي دليلا على ما اسماه بجحود المثقف المستقل الحر المزاج والتفكير، الذي يقع نتيجة لأزمة تلازمه في مجرى التعمق أو التأمل في العقائد وقياسها في ضوء العقل الفلسفي. بينما وجد في المعري نموذجا متميزا للمثقف القطباني، بحيث اعتبره حالة متميزة وفريدة في تمثل الصفات الجوهرية الكبرى لما سيدعوه أواخر حياته بالمثقف الكوني. لقد بحث العلوي في التاريخ والثقافة عن نموذج "كوني" ملموس، وربطه بعناصر من الهموم الكبرى، وقيده بالتزام تجاه تحقيق فكرتي المشاعية واللفاحية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الهمّ الذي تشترك فيه التاوية (من خلال كتابها الأول) مع التصوف القطباني في الإسلام، يتمثل في سعيهما لتكييف شخصية المثقف الفردية في المقام الأول، بتكوينات حرة تتضاد مع سلطة الدولة وسلطة المال. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن العلوي وجد مثال المثقف الأعلى في الصوفي أو التاوي، باعتبارهما غرار المثقف الكوني في الحضارتين، حينئذ يتضح مغزى المضمون الفعلي للمشاعية واللقاحية والمثقف الكوني على السواء. ذلك يعني أن كل منهم يصنع الآخر ويعيد تشكيله على ما فيه من مضمون متجدد. فالمثقف الكوني يعمق ويوسع قيم ومفاهيم المشاعية واللقاحية ويعيش حسب قواعدهما. وهو عمل يؤدي بالضرورة إلى تغيير كمية ونوعية المثقف الكوني، بوصفها المرجعية المتسامية لحقيقة المثقفية فيه. وهي مرجعية حاول هادي العلوي تحقيقها بذاته عندما جعل من نفسه ميدانا لتهذيبها وتربيتها والعمل بموجبها. إذ لم يعن جمعه مختلف نماذج وشخصيات المثقف الكوني المتضاربة المظهر في تمثلها لفكرة المشاعية واللقاحية سوى الأسلوب الذي أراد من خلاله بناء مثقفيته الخاصة. إذ نعثر في الشخصيات التي بحث عنها وفيها وحللها وجمعها صدى لذاته المتراكمة. لقد بحث فيها عن ذاته وأراد أن يقول لمن هو حوله وقربه وبعده: ها أنا ذا! وهي فكرة اقرب ما تكون إلى روح التصوف القائم في تمثل وتجسيد السلسلة الروحية في الشيخوخة. وليس مصادفة أن يقول في أحد آخر أبحاثه من أن "أهل فايمار يقولون أن غوته كان بركة عليهم جميعا. وهكذا كان يونغ وتشوانغ تسه والمعري والجيلاني. كان القوم في عهد ساو يحذر بعضهم بعضا من الخطأ لأن الحكيم ساو يعلم بهم فيغضب عليهم. وكان المعري نعمة على من حوله، بينما كان عبد القادر الجيلاني قادرا على قلب بغداد كلها إذا اقتضى الأمر لما فيه خير العوام والمستضعفين. ومن حصيلة هذه الأمثلة توصل إلى أن غوته والجيلاني نعمة لمن حولهم، بينما لم يكن عند الصينيين آلهة يخافونها، فكان المثقف رادعهم. ومن هذه الفكرة توصل إلى استنتاج بلغته الصوفية قبل قرون عن أن الحكيم يعتزل عن الاغيار لا عن الخلق. ذلك يعني أن المثقف الصوفي يعتزل عن كل ما يغاير حقيقة الحق ( المميزة لفكرة المشاعية واللقاحية، أو العدل والمساواة والحرية) وليس الناس. وفي هذه العملية تتراكم حقيقة فردانيته الموحدة بروح مشاعية ولقاحية. وهي فكرة وضعها أواخر حياته بعبارات أدبية في مقدمة (ديوان الوجد) حاول من خلالها إرجاع حقيقة المشاعية إلى ما اسماه بنزاهة الإنسان عن علاقات البيع والشراء، لأن حقيقتها كالحب الشرقي الخالص بوصفه علاقة مشاعية. وهي علاقة جسدها لاوتسه والمسيح وكل مثقفي الشرق القدماء الكبار. انهم يحبون في المشاعية وجدانا خالصا هو ثمرة كل يقين بجوهر الإنسان. حينذاك سيكون من الممكن بالنسبة للمثقف الكوني أن يقول كما قال العلوي أيها الرب المشاعي الجليل أيها الحق الذي ليس يزول لك من أسمائك الحسنى دليل للملايين التي تحمل أسرار الخليقة التي تقرأ في سفر الحقيقة كل ما غاب عن الفهم ولم يبلغه علم الشعراء! فهي المناجاة التي تكشف عن وحدة التاريخ الإنساني في جماله وجلاله والذائب في معنى الحق المتجلي في صفاته الحسنى بوصفها دليل الملايين في قراءتها شعر الحقيقة، أي حقيقة المثقفية. وهي حصيلة وضعها هادي العلوي فيما اسماه بشرطها الأكبر وهو الزهد في المال والعيش والجنس والوجاهة، والإخلال بواحدة من هذه الخصال دخول في جهة الاغيار وانقطاع عن الناس. وهو شرط جسّده العلوي عبر قراءته في ذاته شعر الحقيقة الخالدة. وهي قراءة كان يتوحد فيها العلم والعمل، بوصفه أسلوب بناء المثقفية الحقيقية. مما جعل منه مثقفا داعية للمركزية الشرقية المتسامية، كما جعل من هذه المركزية داعية من طراز مشاعي، ومن هذه المشاعية داعية من طراز صوفي لقاحي، ومن هذه الصوفية الحرة داعية من طراز عربي، ومن عروبته داعية عراقي متمرد، وفي تمرده العراقي تمثل تاريخ الحق.
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هادي العلوي: وحدة اللقاحية والمشاعية الشرقية 10 من 11
-
هادي العلوي: المثقفية والابعاد الروحية والحضارية 9 من 11
-
هادي العلوي - المثقفية والابعاد الاجتماعية والسياسية -8 من 1
...
-
هادي العلوي: المثقفية او القيمة الابدية للمثقف 7 من 11
-
هادي العلوي - الثقافة الحقيقية هي الثقافة المعارضة 6 من 11
-
هادي العلوي - الثقافة والسلطة كالعقل والطبع 5 من 11
-
هادي العلوي - التاريخ المقدس هو تاريخ الحق 4 من 11
-
هادي العلوي: الابداع الحر - معارضة أبدية -3 من 11
-
هادي العلوي- من الأيديولوجيا إلى الروح 2 من 11
-
هادي العلوي المثقف المتمرد 1 من 11
-
الديني والدنيوي في مسودة الدستور - تدين مفتعل وعلمانية كاذبة
-
الدستور الثابت والنخبة المؤقتة
-
أورليان الجديدة وأور القديمة – جذر في الأصوات وقطيعة في الأن
...
-
الحداد الرسمي لفاجعة الكاظمية = مأتم ابدي + ثلاثة أيام
-
جسر الأئمة أم طريق المذبحة المقبلة للانحطاط السياسي العراقي
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية-6 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 5 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 4 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 3 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 2 من 6
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|