|
صنم -بورقيبة- أم تمثاله ؟
هيثم بن محمد شطورو
الحوار المتمدن-العدد: 4782 - 2015 / 4 / 20 - 17:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أتـذكـر تمثال الزعيم "بورقيبة" في مدينة صفاقس. لم يكن الـتمثال مبعثا للراحة النـفـسية إلا لقـليلين جدا من الأفراد، أما الأغلبية و إن كانت تـؤمن بالمجاهد الأكبر و محرر تونس فإن التمثال لم يكن أثرا فنيا بقدر ما كان صنما يـبعث على الرهبة و الخوف. صنم السلطة الـقمعية و ليس تمثالا يجسد رمزية التحرير. أتـذكر ذات مرة شيوع خبر احدهم و قـد هجم على الصنم يـبصق عليه و يسبه و يقـول انه عيسى ابن مريم الذي وعـد الله بـبعثه في آخر الزمان لينقـذ البشرية من خطاياها و ينهي زمانية الشر ليعم السلام و المحبة قبل ان يأخذ الله أرضه و ما عليها. أحدث الرجل فعل الدهشة في الجموع الواقـفة بعيدة عنه قليلا. موقف الجمهور هو موقف الذي يظهر مستـنكرا و لكنه مستمتع بانـتهاك الصنم. موقف الخائف و المستمتع بشجاعة الرجل و غرابته. لا يمكن لهذا الفعل ان يصدر إلا عن غريب. انه مسيحي و ليس بمسلم. هكذا قال احدهم برغم عـدم وجود مسيحيـين في البلد. المهم انه الغريب الذي حقق وقده تحررية علنية مخبئة في الصدور. و طبعا هرع إليه البوليس الذي جره أخيرا كخرقة بالية. سدنة الأصنام يدركون جيدا ان محو الفعل لن يكون إلا بأقصى أنواع الاهانة التي تخرج الكائن من أي إنسانية ليكون الفعل مستهجنا غير إنساني. فالصنم بدوره غير إنساني و لكنه عاجز أن يوقر نفسه في النفوس دون سدنته. تبين فيما بعد أو هكذا تمت إشاعة الأمر في كون "شكري مقني" المسلم من عائلة معروفة في المدينة مضروب في عـقـله، و انه كان تلميذا ذكيا جدا و لكن الفقر المدقع لأسرته منعه من مواصلة تعـليمه إضافة لعـدم تـقبله لاهانة بعض المدرسين. كان بإمكان الرجل ان يكون مدرسا أو طبـيـبا أو مهندسا، لكن ذلك لا يعني شيئا أمام ما قـدمه من جرأة في مهاجمة الصنم. تمثال بورقيبة الذي تحول إلى بورقيبة نفسه عند البوليس و عند الجمهور. و بعد هبة التغيير النوفمبري الواعـد بالديمقراطية سنة 1987، كانت السلطة الجديدة تدرك جيدا الوقع النفسي السيئ عند الشعب لتماثيل "بورقيبة" في المدن التونسية بما أنها كانت بوليس بورقيبة. إلى جانب تلك التماثيل كانت توجد أصنام صغيرة للزعيم في مكاتب البيروقراطية. السلطة الجـديدة كانت بحاجة إلى القيام بفعل له مفعول السحر في الأنـفـس يحقـق فكرة التغيـير و لو كان الأمر على المستوى الرمزي فقط. و كان تحطيم أصنام الزعيم. تحـطيم الأصنام له مرجعية تاريخية عميقة من جهة اتصاله بالمقـدس. و اليوم تريد السلطة الجديدة التي استـنجدت بالرمزية البورقيبية للصعـود إلى السلطة ان تـنـشئ تمثالا لبورقيبة في تونس العاصمة. ربما لا يتعـدى الأمر مجرد تكـفير عن الذنب في ترك الزعيم وحيدا أمام مصيره بعـد إزاحته من السلطة. فجل القائمين اليوم كمدافعين أشاوس عن الزعيم بورقيبة لم يتـفـوهوا بكلمة واحدة تدافع عن الرجل الذي سقط من الإلوهية التي أراد أن يكونها إلى دناسة المذلة. نـتـذكر جيدا كيف تم جلب بورقيبة في انتخابات 1989، ليطلب من الشعب انتخاب زين العابدين بن علي. و نعلم أن السلطة ما هي إلا للأقوى و مثلما تولوا يولى عليكم. كما أن مواصلة الاستـنجاد برمزية بورقيبة يؤكد خلو السلطة الجـديدة من التصورات المستـقبلية، و هي قد حددت نفسها بانجازات بورقيبة. انجازات بورقيبة في نشر التعـليم العصري و في الصحة و في مجلة الأحوال الشخصية كانت مذهلة في وقـتها، و لكن الانجاز توقـف تـقـريبا منذ بداية السبعينات. الآن اهترأت المدارس و المستـشـفيات العامة إلى جانب عـدم تغطيتها لمساحة البلد كما ان مجلة الأحوال الشخصية لم تـقـنن المساواة في الإرث بين المرأة و الرجل. و من جهة أخرى فان النظام النوفمبري ولد من أحشاء النظام البورقيبي و هو امتداد لاستبداده و انـتكاسته. فالرجعية الدينية فتح لها الأبواب النظام البورقيبي و دعمها لمحاربة اليسار الذي كان مسيطرا على الجامعة التونسية. و الدخول تحت قبة صندوق النقد الدولي دشنها النظام البورقيبي في عهد الوزير الأول البشير صفر. و الآن يعلم الجميع ان المقاومة الشرسة لمشروع أخـونة تونس كانت من طرف القوى اليسارية المناضلة التي كانت و لا تـزال مستعـدة لتـقـديم أرواحها فـداءا لروح الثورة التـقـدمية. و حين هاجم الإسلاميون الزعيم بورقيبة انطلاقا من زاويتهم اصطف الجميع وراء رمزية بورقيبة التحديثية، بما أن الزعيم برغم كل شيء فانه قابع في القـلوب لأنه استـثـنائي جدا و قـدم الكثير لتونس. كان زعيما لحـركة التحـريـر الوطني و لكنه أساسا كان زعيما للتحرير الاجتماعي و الثـقافي من تخلف العالم القديم. و اليوم قد يقتصر النظر إلى تمثال الزعيم من هذه الناحية. لكن بالنسبة للسلطة الخالية من مشروع وطني شامل متصل بثورة 14 جانفي 2011، فان محاولتها في ردم اللحظة الثورية الراهنة هو وهم كبير. فالثورة رمزها هو شكري بالعيد و كان الأجدى هو إنشاء تمثال له. الأجدى من حيث البراغماتية السياسية بحيث تعطي الانطباع بالثورية و الاتصال بالثورة لان الثورة التونسية هي ثورة يسارية سواء من حيث الانجاز أو المطالب أو القوى السياسية الثورية الحقيقية، أو المشروع الوطني الشامل الذي لا يمكن للأمور أن تهدأ بـدونه.
#هيثم_بن_محمد_شطورو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لوثة العبادة أم نقاؤها ؟
-
الإنخطاف بالأنثى و الخطف
-
جدار الدكتاتورية و مستنقع الأخوان
-
مطرقة التعري على الرأس العربي المنافق
-
الإرهاب و أزمة الانتماء
-
دائرة الوهم في العالم العربي
-
من انت؟
-
الكائن و الإيروتيك
-
عالم عربي يحتضر
-
متى يخرج العربي من كهفه
-
العالم مقذوف الى المستقبل
-
ثقافة الجامع و ثقافة الكتاب
-
الرأس العربي الأجوف
-
المسلم الكافر
-
معترك اسلامات
-
النفس الواحدة القرآنية و الإسلام
-
تهافت الإسلام التقليدي
-
الفلسفة هي إكسير الحياة
-
دائرة الإسلامي الجحيمية
-
انك في عصر الإنسان العالمي
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|