أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - موسى راكان موسى - وهم تحرر الإنتلجنسيا .. طائفة الخارج [1]















المزيد.....



وهم تحرر الإنتلجنسيا .. طائفة الخارج [1]


موسى راكان موسى

الحوار المتمدن-العدد: 4782 - 2015 / 4 / 19 - 01:26
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تقديم :
[علي الديري] إسم لم أسمع به حتى ورد على لسان أحد الزملاء و هو يملي عليّ ببعض الكتب الجديرة بالقرآءة , و لعل خبر كونه من ضمن دفعة السبعين المُسقطة جنسيتهم جعلني أهتم أكثر بمؤلفه (( خارج الطائفة )) , و أنا في خضم قراءة الكتاب .. تأكدت لي شهرة الدكتور علي الديري في الوسط الأكاديمي _و هو كذلك في الوسط الثقافي العام_ , و لم أنوِ الكتابة عن أو حول (( خارج الطائفة )) حين بدأت بقرآءته .. إلا أن مجموعة من العوامل دفعت بي لذلك , فإلى جانب إلتزامي الأكاديمي _و قد أخترت الكتاب كموضوع لي_ هناك عطش الساحة الثقافية البحرينية _أو الإجتماعية_ لمثل المناقشات و المجادلات النقدية , و لكل ذلك أقدم هذا العمل بعنوانين : الرئيسي / طائفة الخارج , ضمن سلسلة / وهم تحرر الإنتلجنسيا .

و الكتاب كما هو يخبر عن محتواه أو مضمونه : { يقدم الكتاب عبر تجربة المؤلف مع ثنائية الخارج و الداخل , أن الوجود خارج الطائفة يجعلك تلقائيا داخل فضاء المدينة و داخل فعلها الحر . فكل خروج هو دخول آخر . أنت تخرج من حيزٍ , أفقه ضيق لتدخل أفقا أكثر رحابة و أكثر إتساعا . فمن خارج الطائفة (الفصل الأول) , إلى داخل المدينة (الفصل الثاني) , و منها إلى داخل آخر أكثر تشعبا و تعقيدا , الدولة (الفصل الثالث) , ثم داخل إنسان هذا المكان الذي يشكل المجتمع (الفصل الرابع) } .

و كما يبدو أن أول عقبة كأداء لنقد الكتاب هي في كونه _أو فيما يقدمه_ (( تجربة المؤلف )) , و هو ما قد يضعه ككتاب في خانة الكتب المقدسة المعصومة عن النقد و النقض , فالأفكار التي يطرحها الكاتب مرتبطة به أو بالأحرى بتشكيله .. و أي تناول لها هو تناول لشخص الكاتب : لا يعني ذلك أن الكُتاب يطرحون الأفكار منفصلة عنهم (لا أقول أن الأفكار ترتبط بهم – لكن هم [الكُتاب] مرتبطين بها) , فلهذا كان الإهتمام بالفكر أو الفكرة بشكلها المجرد عن صاحبها (كتجربة) هي المحور و عليه بُنيّ النقد .

ففي الفصل الأول يخرج بنا الكاتب من : الطائفة , التقليد , التبسيط , علي شريعتي , المخيلة , المكتبة الأخبارية , الرهبنة .
و في الفصل الثاني يفتح الكاتب أو بالأحرى يؤسس لجبهة (تحرير) ل : المراقبة , المثقف من السياسي , المثقف من رجل الدين , الإضافة , الإختلاف , خرائط المدينة , الخيال , الحقيقة , الرابطة المدنية .
أما الفصل الثالث حيث المحور هي الدولة .. فيبدأ بمنطقها و فكرتها , ثم يعرج بنا خارج الآداب السلطانية إلى جسدي الدولة و المجلس , من ثم يتدرج بنا من دولة الأول بين متساويين فدولة الأب .. فالدولة المطلقة إلى الدولة غير المنحازة , و يختم الفصل بالدولة و التمثيل .. و إصلاح أول الأمة .

أما الفصل الرابع فقد إرتأيت تركه لأنه يمثل (أفكار) الفصول الثلاث السابقة عليه في شكل (تجربة) متابعة و قراءة الكاتب لما أسماه هو : داخل المجتمع .

و تخطيط هذا العمل يبدأ بتناول (( الدولة )) : (( نقد الدولة عند الديري )) , فمن ثم (( الطائفة )) : (( نقد الطائفة عند الديري )) , و أخيرا تناول (( المثقف )) : (( نقد المثقف عند الديري )) .


[1] - (( الدولة )) : (( نقد الدولة عند الديري )) :

ذا البدء ما عساها تكون [الدولة] عند الديري ؟! , و لا يعطينا الديري جوابا مباشرا أو واحدا .. أو على الأقل ثابتا : بل يرواغ , و كذلك هو النقد أيضا : يراوغ حتى يضع النص في موقعه .

فنبدأ ب : { الدولة فكرة مجردة , لكنها لا يمكن أن تتحقق و توجد إلا في تجربة مجسدة في مصالح , الفكرة تتيح للتجربة أن تنمو و تتجاوز مآزقها و أخطائها , و التجربة تتيح للفكرة أن تكون و تتحقق و تتجاوز أوهامها التنظيرية } (ص 213) , الدولة فكرة مجردة .. هي كذلك و في ذات الوقت هي ليست كذلك , الدولة نشأت و من ثم عرفت بكونها دولة : الدولة قبل أن تكون فكرة أو تتمثل كفكرة هي تجربة , و هذه التجربة في علاقتها أو بإرتباطها [الذي لا ينفصم] بالمصلحة أنتجت الفكرة , و هي تنمو و تتطور كتجربة و كمصلحة .. و كذلك كفكرة , و إن كانت التجربة تتيح للفكرة أن تكون و تتحقق و تتجاوز أوهامها التنظيرية فهي أيضا تتيح لذاتها كتجربة مُفكرة (أو واعية لذاتها) أن تنمو و تتجاوز مآزقها و أخطائها .. و ليس كفكرة منفصلة أو مستقلة عن التجربة [التي هي في علاقة لا تنفصم عن المصلحة] , الخلاصة ها هنا هي عكس المفهوم الديري للدولة لفهم الدولة أو عكس تعريف الديري للدولة لتعريف الدولة .

لكن الدولة عند الديري لا تكتف بذلك إذ : { الدولة تكون حين تتعظ بالتاريخ , حين تتعلم درسه العميق , حين تعي بذرة فسادها و تستبدلها ببذرة أخرى , حين تكف عن إصطناع الولاءات الطفيلية العصبية , و إلا سيكون الموت أو الشلل يتربص بها , نحن نفتح الذاكرة كي نعي درس التاريخ , و نكتشف هذه البذرة الفاسدة التي تنخر في عمر الدولة , و تجعل من دولنا أشباه دول , نفتح فعل التفتح كي نُعرِبه , كي نخلصه من بلوى العصبية التي هي كالفينيق , تنبعث مع كل طور من أطوار الدولة} (ص 202) , و أيضا : { نحن لا نفتح التاريخ , نحن نفتح هذه البذرة التي تحول بيننا و بين أن يكون لدينا تاريخ , تاريخ أرضه مشتركة , تاريخ من دون عيب , و دولة من دون عيب , الدولة حيث التاريخ أو لا تكون دولة , و الدولة حيث اللا تاريخ شبه دولة أو دولة ينقص التاريخ من أطرافها } (ص 203) , أن الدولة يمكنها أن تتعظ بالتاريخ و تتعلم دروسه العميقة (و إن كان بمقدورها ذلك فبمقدورها أن تتعلم دروسه السطحية) .. فالدولة تعي ! , و لم لا ؟ أوليست فكرة .. و لا أي فكرة بل فكرة مجردة , أي فكرة لها إستقلالها عن التاريخ و التجربة .. و ما التاريخ و التجربة بالنسبة لها إلا لصقلها و تطلع لا نهائي للأفضل إذ : { ليس هناك دولة نظريا و لا عمليا فضلى } (ص 251) , الغريب أن الدولة بالرغم من وعيها ليست بمنأى عن إنبعاث العصبية في كل طور من أطوارها ! , و إن كان هذا يوقعنا في تماثل فج في كل طور من أطوار الدولة .. يدفع بنا لنتساءل : ألا يلغي هذا التماثل بذاته المنطق القائل ب (( أطوار الدولة )) ! , فلو أن هذا الطائر الدائم الإنبعاث ليس هو ذاته بعد كل إنبعاث .. لكان مجرد القول ب (( أطوار الدولة )) نتيجة مؤكدة , فالطور لا يتميز عن طور آخر إلا في إختلافه .. و يبطل القول بطور عن طور آخر في تماثلهما , فالدولة مع العصبية (و كلاهما فكرة مجردة تعيان و من التجربة و التاريخ يُصقلان) في القول بإرتباطهما وجب القول بإرتباطهما تطورا .. أي إختلاف كل من الدولة و العصبية في الطور عن غيره من الأطوار , و لكن سيكون إطلاق مصطلحي الدولة و العصبية هكذا عاريين في كل الأطوار ذا دلالة تماثل يُبطل القول بالتطور , إذ و كأن بنا لا نزال في طور واحد ! .

و على ما يبدو أن الحل لتكون الدولة هو عبر قراءة التاريخ , و ذلك بتجاوز العصبية الذي يحيل الدولة لللا دولة أو شبه دولة (أو دولة ينقص التاريخ من أطرافها) , و رغم أن الدولة تتعظ و تتعلم و تعي .. إلا أنه على ما يبدو تسبق هذه المرحلة مرحلة منوطة بنا [ نحن ] من يختار بين (( التاريخ )) و (( العصبية )) , إذ أن : { الدولة يخترعها الناس , و ليس واحدا من الناس , أو واحدا خارج الناس , (...) , و الله لا يخترع دولا و لا يرسل أحدا يبشر الناس بدولة على نموذجه } (ص 221) , الفكرة هي في النهاية إختراع [أو خلق] .. و يحسم الديري إنتساب هذا الإختراع للناس بالعموم دون الخصوص , فهو ليس إختراع واحد , سواء أكان هذا الواحد : من داخل الناس أو من خارج الناس أو حتى الله , و الديري يعي حتما أن الناس ليسوا سواء و إنها لجرأة (أو لحماقة) ننسب بها إختراع الدولة للناس على العموم , و هو يؤكد ذلك : { يمكن أن ننسب قبيلة إلى فرد و يمكن أن ننسب جنة إلى رب , لكننا لا يمكن أن ننسب دولة إلى شخص } (ص 221) , و يضيف : { الدولة إما تكون دولة الناس أو لا تكون , ليست هناك دولة نبي و لا رب و لا وصي و لا قبيلة و لا حزب } (ص 222) , سبق لنا أن تناولنا في التقديم أن الدكتور علي الديري كان من ضمن دفعة السبعين المُسقطة جنسيتهم .. و رأيه في الدولة على ما يبدو قد بنى عليه موقفا سياسيا كان عاقبته إسقاط الجنسية , إن الدولة لا تكون كذلك إلا حين تكون المصلحة , لا مصلحة كل الناس بل هي بالضبط عكس ما يورده الديري : من داخل الناس (فئة من الناس) أو من خارج الناس (فئة من الناس) أو حتى الله (المتمثل كإحتكار لمصلحة فئة من الناس) , بل أن ننسب دولة إلى شخص (أو فئة) هو ما يوضح معنى الدولة بكل وضوح : الدولة أداة , إن الدولة لم تكن يوما دولة الناس و لن تكون (بمعنى دولة كل الناس) .. هي دائما و أبدا دولة (( فئة من الناس )) : نبي و رب و وصي و قبيلة و حزب (... إلخ) .

و لنتجاوز ذلك و لنذهب من الديري أبعد , فهو لا يعمم الدولة (الإخترع) بنسبتها لكل الناس عبثا , إذ يشترط لذلك , إذ يقول : { الدولة هي الشكل الأسمى لعقلانية المجتمع } (ص 250) , إذ : { تمثل كل دولة (...) تجربة لعقلانيتنا التي ندير بها إجتماعنا الإنساني } (ص 252) , و الآتي هو الأهم : { فإن عقلانية الدولة هي عقلانية العقل العملي لا العقل النظري , و العقل العملي عقل لا يحكم بالصح و الخطأ و الصدق و الكذب و الحقيقي و الباطل كما هو أمر العقل النظري , إنما يحكم بالجيد و الأحسن و الأفضل و الأنسب , (...) , و هي معايير تدوّل كما الدولة تدوّل , أي تتغير و تتحول و تنتقل و تبلى } (ص 251) , لا يكتفي الديري بإحالتنا إلى العقلانية و العقل العملي لفهم الدولة المنسوبة لكل الناس بل و يضيف مفهوم التركيب عبر العقلانية بتسلسل غير مباشر : { علينا أن نفهم الشكل الخارجي للدولة بعناصره الثلاثة الإقليم (...) و الشعب (...) و السلطة (...) , فهما عقلانيا يجعلنا نحاكم الدولة بغايتها القصوى و هي الحرية } (ص 252) , من ثم : { السيادة على الأرض , لا تصنع وحدها دولة , فالدولة إجتماع إنساني و عقلاني , و الإنسان إذا فقد السيادة على عقله بأن يجعله مرجعيته في إدارة شؤونه , لا يمكنه أن يقيم إجتماعا في مستوى الدولة , فالسيادة على الأرض من دون عقل يحرر روح الإنسان , يصنع جماعة بسيطة لا مجتمعا مركبا , و الدولة بما هي مؤسسة المؤسسات نظام مركب , فائق التركيب } (ص 253) , و أخيرا : { في التركيب نحتاج إلى عقلانية فائقة , و في التبسيط نحتاج إلى هيمنة فائقة , بالتبسيط نهيمن و بالتركيب نعقلن } (ص 253) .

فالدولة فكرة مجردة إخترعها الناس و هي الشكل الأسمى لعقلانية المجتمع .. عقلانية العقل العملي أي معايير تدوّل (تتغير و تتحول) , لذلك علينا أن نفهم شكل الدولة الخارجي (إذ الدولة خارج و داخل [هي نقطة لم يعرها الديري إهتماما .. خصوصا فيما يتعلق بالدولة و الخارج أو علاقتها بالخارج]) فهما عقلانيا ! , أي فهم العقل العملي الذي يبقى يتدوّل ! , و لعل الديري يعتقد أن بربط العقلانية (عقلانية العقل العملي) بالناس و التركيب يكبح جماح لا تعيينها و لا تحديدها (( فما دامت العقلانية [عقلانية العقل العملي] حاضرة : فلا فرق فاصل حاسم بين إرتباطها بالناس أو بفئة من الناس , بل هي للأخيرة أقرب و أحسم من الأولى و تحوي من التضليل ما يكفي المثاليين حد الثمالة )) , و الفصل الذي يقيمه الديري بين التركيب و التبسيط يفشل فيه بربط الأول بالعقلانية و ربط الثاني بالهيمنة .. إذ الفصل بين العقلانية و الهيمنة لا يتم , و ما محاولة الفصل التي يحاول أن يقيمها الديري بينهما (و كذلك بين التركيب و التبسيط) إلا محاولة أشبه بالتضليل منها بالتوضيح , فالعقلانية الفائقة ما هي إلا هيمنة فائقة (و العكس صحيح إن كانت العقلانية عقلانية العقل العملي) .. فلا فرق إذا بين تبسيط و تركيب و كذلك لا فرق بين دولة أو لا دولة أو شبه دولة , الفرق يوجد فقط في عقل الديري .. أو مزاج الديري .

طبعا ما كان لنا أن نتجاوز لغما وضعه الديري : (( الحرية )) , و قد وصفها بأنها غاية الدولة القصوى , لكن على الرغم من كونه لغم إلا أنه لغم معطوب : فنحن نحاكم الدولة من خلال الفهم العقلاني [العقل العملي] , إذ أن : { العقل العملي عقل لا يحكم بالصح و الخطأ و الصدق و الكذب و الحقيقي و الباطل كما هو أمر العقل النظري , إنما يحكم بالجيد و الأحسن و الأفضل و الأنسب , (...) , و هي معايير تدوّل كما الدولة تدوّل , أي تتغير و تتحول و تنتقل و تبلى } (ص 251) .

و قد حاول الديري التفريق بين نوعين من العقلانية [و هما ليس إلا إخترع الديري] : (( أفقية )) و (( عمودية )) , و قد نجح في ذلك بقدر ما نجح في التفريق بين العقلانية و الهيمنة ! , إذ أن : { العقلانية التي (...) لا تصنع دولة , و لا إجتماعا , لأنها تربط الإنسان عموديا (نسبه و دمه و تاريخيه و عصبته و طائفته و قبيلته) لا أفقيا (أفكاره و جمعيته و حزبه و مهنته و برنامجه و إتجاهه و تياره) . إنها عقلانية التشطير العمودي , و هذه العقلانية لا تنجز دولة } (ص 254) .

و لننتقل الآن إلى نقطة أخرى يثيرها الديري : { الدولة ليست هي السلطة , فالسلطة تزول و تتغير و تسقط و الدولة باقية } (ص 213) , و لكن : { السلطة هي الأكثر تجسيدا للقوة و الهيمنة و القدرة و الإرادة , لذلك فهي الأكثر تجسيدا لفكرة الدولة , لكنها ليست الدولة بالمطلق , فهي جزء من الدولة أو جانب من جوانبها أو مكون من مكوناتها أو تجل من تجلياتها } (ص 214) , و أيضا : { ما يتجسد ليس هو الدولة , فالدولة تبقى مجردة , تخضع إلى تجسدات مختلفة , و كل تجسد يمثل جانبا منها و تجربة فيها , لذلك نحتاج إلى إستخدام التجريد } (ص 214) , و لنحاول أن نرتب ما سبق على شكل نقاط :

1- الدولة ليست هي السلطة (بالمطلق) .
2- السلطة هي الأكثر تجسيد لفكرة الدولة .
3- الدولة لا تتجسد فهي تبقى فكرة مجردة : لكن تخضع لتجسدات مختلفة .

و لكن ماذا سيحدث لو قلنا بالعكس أي أن الدولة هي تجسيد السلطة أو حتى لنكون أكثر وضوح تجسيد المصلحة ؟! , لنغض الطرف مؤقتا و لنستمر أبعد مع الديري .

ليس بمستغرب أن ينتهي المطاف بأن تكون الدولة الله (إن لم تكن بذاته الله يبتلع الله ذاته!) , فبعد كل ما سبق ما عاد بالإمكان تحديد الدولة و لا حتى كبح ما تعنيه أو حصرها في إحدى (( تجلياتها )) ! , لقد إخترع الناس (كما يقول الديري) الدولة لكن لا يمكنها بعد كل ذلك إلا أن تكون غريبة عنهم : { الدولة هي جزء من سلطة الأفراد , لكنها فوق سلطتهم و فوق منطق مصلحتهم , هي منهم و أكثر } (ص 215) , فهي (الدولة) ليست فقط فكرة مجردة بل و مطلقة و من إخترعها يعجز (أو يعجزون) عن كبحها بل و تحديدها ! : { بعد أن تمكنت الدولة من تحقيق مطلقيتها , أصبحت هي الإله , هي المرجع , هي صاحبة السيادة العليا , هي التي لا يمكن تجاوزها , و لا يمكن تجديفها , و لا يمكن الهرطقة تجاهها , أصبحت هي المطلق , و كان هيجل من أبرز الفلاسفة المتحمسين للدولة المطلقة التي تحكم قبضتها على كل شيء , و لا تغادر الإنسان في أي جزء من جزئياته , حتى شبهها هوبز بالتنين , الكائن الوحشي الذي يستطيع أن يلتهم الجميع في فمه من دون أن يخرج أي شيء على سلطته . أصبحت هي السلطة المطلقة , أصبح الإله ليس في السماء , بل في الأرض , مجسدا في الدولة , لكن لا ليحكمها هو بأسمه . أصبح الإله دولة . لم يعد الإله سماء , صار الإله أرضا تحكم , لكن لا يحكم هنا بإسمه المتجاوز , يحكم بإسمه المحايث . هذه القوة المطلقة حين كانت في السماء كانت تسمى الله , الغيب , لكن لما صارت في الأرض , صارت تسمى القوة المطلقة و الدولة المطلقة التي يرجع إليها الجميع , هي التجسيد الأبرز لهذه القوة } (ص 270) , و لنلاحظ بالآتي أنه و على الرغم من محاولة الفصل بين الدولة و السلطة إلا أن الأخيرة بالأولى تتمكن و لا تعدو محاولة الفصل هي الأخرى إلا كمن يحاول أن يمارس نوعا من التضليل : { بذلك تتحول الدولة بإعتبار الجهاز الأكثر ضبطا , إلى الإله الجديد الذي سيحكم الإنسان بآلياته الضخمة . ستتخذ الدولة صيغة العلمنة الشاملة التي لن تبقي على جزء من دون جزء , ستشمل الإنسان كله , ستتوغل في كل شيء , ستكون غولا و تنينا يكتسح كل شيء في الإنسان , لن تصبح هناك مساحة للإنسان كي يتحرك و قد ضبطته الدولة ضبطا متقنا } (ص 276) , لكن على الرغم من ذلك : { هناك فرق بين منطق الدولة و منطق السلطة } (ص 214) , لا نختلف مع الديري في ظاهر النص لكن فيما يعنيه نختلف , ما هو منطق الله ؟! لكن أليس هو من خلق المنطق ؟! هل يجوز أن نسأل عن منطقه ؟! , مهلا .. زلت مني كلمة (( الله )) بدل كلمة (( الدولة )) , ما حدث (رؤية الديري) هو أننا بعد أن إخترعنا [نحن الناس] فكرة الدولة و أودعنا فيها عقلانية العقل العملي .. رفعناها للسماء : فكرة مجردة مطلقة : الله ! , لكن و كما أن الله يتجلى فأيضا الدولة تتجلى : و إحدى تجليات الدولة هي السلطة , إذا فمنطق الدولة الذي لا يمكننا أن نستوعبه أو حتى يجوز أن نسأل عنه لا يمكنه أن يكون هو ذاته منطق السلطة , فالسلطة ما هي إلا جزء من الدولة و إحدى تجلياتها لكنها رغم ذلك هي قبس و روح من الدولة ! , يفتح الديري باب حظر نقد الدولة كفكرة و منها يحيلنا بطريقة غير مباشرة [لكنها حتمية] إلى حظر نقد السلطة (حظر المعارضة) , و بقدر ما يحاول الديري أن ينصر الدولة في إطلاقيتها و تجريدها .. يحاول أيضا أن يكبحها : فهو يسعى لنقد السلطة [إحدى تجليات و ليست كل سلطة] لذلك فهو [يبدأ] بالدولة يكبحها لينصر لا الدولة في إطلاقيتها و إنما إحدى تجليات الدولة التي في عقله أي شكل من أشكال السلطة ! , و نستعرض بعض المحاولات في ذلك (و ننوه إلى أن هناك خلط في الآتي من قبل الديري بين السلطة و الدولة : لينصر فكرته هو عن الدولة) :

{ متى صارت الدولة تحكم و لا تحاكم صارت دينا , و فقدت فكرة الدولة و منطقها , و كذلك الجماعة السياسية تحكم و تحاكم , و متى صارت تحكم و لا تحاكم صارت طائفة دينية , و فقدت فكرة الجماعة السياسية و منطقها القائم على المحاسبة و الفوز و الهزيمة } (ص 45) , لنركز : { في الرابطة المدنية الشنق على الوطن , و في الرابطة غير المدنية الشنق على المعتقد , و الدولة حيث الرابطة المدنية } (ص 209) .

{ الدولة هي أن نخرج من ((طاعة العامة)) إلى ((الطاعة العامة)) } (ص 222) , و هذا يؤدي إلى أن : { تتهدد الطوائف و القبائل و العوائل حين يتحول الناس إلى ((الطاعة العامة)) بل و تفقد هذه الكيانات شرعيتها في الدولة حين تقدم نفسها على أنها صوت الناس أو ممثلهم أو جهتهم } (ص 224) , إذ أن : { هناك طاعة النبلاء , و فيها يمتثل الناس ليس للناس , بل لقانون أو دستور هو فوق الناس لكنه من الناس , و هناك طاعة الأخساء , و فيها يمتثل الناس للناس الذين هم أقوى منهم بحكم العرق أو الطائفة أو المال } (ص 221) .

{ الدولة ليست مطالبة بإستقلال إرادتها و سيادتها تجاه الدول الأخرى فقط , هي مطالبة أيضا بإستقلال إرادتها تجاه مواطنيها , ألا تكون منحازة لطبقة أو فئة أو طائفة منهم } (ص 277) , إذ أن: { الدولة مطالبة دوما أن تكون القوة التي تحتكر العنف الذي يجعلها ملجأ للجميع حين يختلفون أو حين يمارسون العنف ضد بعضهم } (ص 279) .

و للديري شجاعة للقول : { نحن أمام حالة غريبة فالوقائع تقر أن هناك دولة , لكن الفكرة تقول إنه ليس هناك دولة } (ص 220) , يا ترى هل هذه [الفكرة] التي تقول إنه ليس هناك دولة هي ذاتها [فكرة الدولة] ؟ أليست [فكرة الدولة] مجردة و مطلقة ؟! , أم يقصد الديري [السلطة] ؟! : ليضفي قداسة على سلطته هو و يجرد الأخريات من هذه القداسة , في النهاية الدولة إله و السلطة وصية هذا الإله (إحدى تجلياته) : و هو (الديري) ينطق بإسم سلطة لها قداسة يجرد بها السلطات الأخرى من ذات القداسة ! , أليست هذه أنانية ؟! : { يصبح منطق الدولة مهددا حين يتغلب منطق الأنانية الخاص على منطق الدولة العام , و يمكن أن نسميه بمنطق الطفيليين , و هو المنطق الذي تحكم من خلاله القوى الطفيلية , و هي بحسب تعريف عبدالإله بلقزيز : قوى لم تنشأ في بيئة الإنتاج و العمل الإقتصادي كفئات أو طبقات وراءها تاريخ من الإستثمار الخاص أو ذات سلطة إقتصادية حقيقية في المجتمع على نحو ما كان عليه دائما أمر البرجوازيات في المجتمعات الغربية الحديثة و المعاصرة , و إنما هي قوى و فئات حديثة عهد بالتملك و الإستثمار , لأنها نشأت في أحشاء الدولة و في أحضان القطاع العام , و نمت مصالحها الفئوية دائل بيئة الفساد السياسي و الإداري و المالي , مستفيدة من إنعدام وجود مؤسسات الرقابة النيابية و الإعلامية و الشعبية أو من تعطيل سلطة الرقابة القضائية أو من غيابهما معا } (ص 216) , و يصنف الديري الطفيليات (على قدر ما يستطيع) :

{ تطابق هذه القوى الطفيلية منطق الدولة بمنطقها الطفيلي الخاص حيث مصلحتها الإقتصادية الخاصة } (ص 216) , طفيليات إقتصادية (النفوذ الإقتصادي) .

{ هناك أيضا قوى طفيلية أخرى تتغذى من بيئة الفساد السياسي , فتنمي أشكالا من الولاءات القبلية و الشخصية و العائلية و تتمصلح من خلالها و تتقوى بها } (ص 216) , طفيليات قبيلية (النفوذ القبلي) .

{ هناك أيضا قوى طفيلية أخرى تتغذى من بيئة الفساد السياسي , و التمييز الطائفي , فتنمي جماعتها الطائفية و تقدم مصلحتهم الخاصة } (ص 216) , طفيليات طائفية (النفوذ الطائفي) .

لنساير الديري في تصنيفه للطفيليات , هذه الطفيليات تسعى لإستملاك (أو إحتكار) ما يتمثل في : ((الإقتصاد)) و ((القبيلة)) و ((الطائفة)) مستخدمة الدولة (الأداة) في إستحقاق [القوة] لكي تحيى , أفلا يمكن أن تكون ((الثقافة)) بجانب ((الإقتصاد)) و ((القبيلة)) و ((الطائفة)) ؟! , فالتطفل يتجاوز تحديداته الديرية حتى ليمكن القول أن المنطق الديري يتطابق مع المنطق الطفيلي , إذ يحاول أيضا من جانبه أن يطابق منطق الدولة بمنطقه (كما القوى الطفيلية) , يطلق الديري تنهيدة نتجاوزها لتنهيدة أوسع : { مادام معنى الدولة خاضعا لهذه القوى الطفيلية , فلا يمكن للدولة أن تعرف بمنطقها الخاص } (ص 217) , فسواء خضع معنى الدولة لهذه القوى الطفيلية أم لم تخضع , منطق الدولة هو منطق فكرة الدولة المجردة المطلقة : عليك أن تكون أنت ذاتك فكرة الدولة المجردة المطلقة (أي الله) و إلا لن تعرفها (و لن يكون بمقدرتك أن تعرفها أو تصفها لغير ذاتك أيضا !) .

لا يغيب عن الديري ذكر بن خلدون : { يكفي ابن خلدون شرفا , أنه جعل جملة ((الدولة جسد)) مفهوما يحيل إلى الإجتماع لا إلى الإنعزال , أي يكفيه أنه جعلنا نفهم الدولة لا بعقل الفيلسوف المنعزل في برجه العاجي الذي يحلم بمدينة الخير المثالية , بل بعقل المؤرخ الإجتماعي الذي يعيش في مدينة تحكمها تناقضات القوة و الضعف } (ص 223) , و يعلل ذلك بأن : { واقعية ابن خلدون يمكن تفسيرها , بأنه كان ينظر إلى الدولة ليس من السماء , ليس من العقل , ليس من المثال , ليس من الروح بل من الأرض من القوة من المادة من الجسد الذي هو الأقرب إلى الأرض التي هي حضن الدولة } (ص 236) , إذ أن : { الدولة هي نموذج الجسد , أي هي ما نتعالى عليه و نترفع و ننكره بإسم ما هو روحي , ألسنا ننكر القوة و القهر و الغلبة بإسم الهمجية و الحيوانية ؟ و هي كلها مقتضيات الجسد , و هي مقتضيات الدولة } (ص 236) , لم يأت الديري على ذكر بن خلدون كي يوافقه (أو ليخالفه) فهو أنبه من ذلك , هو ينطلق من عليه (لا منه) ! : { ليس لدى ابن خلدون نظرية في إصلاح الدولة , لكن لديه نظرية في إصلاح نظرتنا للدولة , (...) , لقد تصرف إخوان الصفا و الفارابي و ابن رشد و أفلاطون و ابن سيناء بشاهد (الجسد) لكنهم لم يشاهدوا منه ما شاهده ابن خلدون , رأوا فيه روحا تعلو نحو السماء , و هو رأى فيه قوة تدنو نحو الأرض } (ص 237) , إذ : { إننا نفهم الدولة بأنها جسد و نفهم الحقول المختلفة في الدولة بالإحالة على الجسد } (ص 238) , هذا الإله (الدولة) رغم كل ما ألحق به الديري من تجريد و إطلاقية يبقى إسير لواقع يحضنه و يجسده (و لعل لنا أن يقول يجرده من تجريده !) _ لنا أن لا ننسى أن الديري في ما مر بنا ركز أن فهمنا للدولة يجب أن يكون تجريديا و عقلانيا (العقل العملي) , الديري لا يتناقض , إنما يبني على بن خلدون أي يبني على الفهم الخلدوني الفهم الديري , لكن هل يمكن ذلك أي هل يمكن بناء الفهم الديري على الفهم الخلدوني ؟ , الأمر ليس فقط أن الفهم الديري لوحده أشبه بفهم الله لله إنما الأمر هو فهم الله لغيره (هل هناك شيء غير الله ؟! : هل هناك شيء غير الدولة الفكرة المجردة المطلقة ؟!)_ , و يكمل الديري إذ أن : { النفوذ هو القوة , و القوة هي الجسد الذي به تكون الدولة } (ص 239) , رغم مثالية و تجريدية الديري إلا أنه هنا يقلب كل ذلك (و قد خذله هذا القلب) , فالدولة (و إن إختلفنا مع الديري بخصوصها جذريا) إلا أنها ك [فكرة] تملك قوة حتى بدون جسد أو نفوذ (ضمن حدود الوضع العام الراهن) , و ليس أدل لنا في ذلك إلا الديري نفسه فقد غواه هذا الإله [الفكرة] حد الثمالة و إستشعار تأثيرها عليه واضح و بسعيه لفرضها على من يستطيع أن تصلهم كلمته (و للدقة فكرته [سلطته]) أشد وضوحا , طبعا هذه [الفكرة] لا تساوي شيئا دون الديري , و لن تساوي شيئا دون وضع عام تنتفي فيه الدولة موضوعيا , و في هذا نختلف مع الديري إذ أن [الدولة] كما سبق لنا معه هي إختراع الناس لكنها منفصلة , لها إستقلاليتها و إطلاقيتها عنهم ! .

و لعل لنا في النقطة التالية توضيح (أو بالأحرى إشكالية أخرى) للفهم أو في الفهم الديري للدولة : { العرف القبلي كان جسد الدولة } (ص 241) , و يضيف : { القبائل لم تكن ترى بريطانيا دولة عظمى بل قبيلة عظمى , فلم تكن هذه القبائل تفهم معنى الدولة } (ص 242) , ألا يجعلنا هذا ننتصر لقيام الدولة الموضوعي (اللا واعي لقيام الدولة) قبل قيامها ك [فكرة] ضد ما يزعمه الديري إخترعا من الناس (الواعي لقيام الدولة [الفكرة] قبل أن توجد موضوعيا) ؟! , إذ المعنى لا يتحقق كتجريد بل يتحقق بعد تطبيق أو ما يقترب منه (فليس بأي تطبيق يتحقق الفهم , و لا يتحقق الفهم للمعنى بشكل مباشر رتيب دائم) .

{ الحرية خارج الدولة طوبى , كذلك الأخلاق خارج الدولة طوبى , طوبى يمكن أن يخرج إليها الفرد نافرا , لكنها لا يمكن أن تكون تجربة إجتماعية , لذلك دائما ما يكون الباحث عن الحرية و الأخلاق في دولنا شاذا في المجتمع و هاربا و مطاردا في الدولة } (ص 255) , هل هناك شيء أكثر طوباوية من الدولة بالفهم الديري بعد كل ما سبق ؟! , على ما يبدو نعم , هو ما يكون خارج الدولة ! , ليس كمثله شيء [الله] و كذلك هي [الدولة] , و أيضا (بالفهم الصوفي) لا شيء بل لا وجود لشيء دون [الله] و كذلك [الدولة] ! , و لعلنا نجد في ذات المقتطف ما يدعم ما ذهبنا فيه حتى اللحظة فيما يتعلق بالفهم الديري للدولة , فها هي [دولنا] التي يكون فيها الباحث عن الحرية و الأخلاق شاذا و هاربا و مطاردا .. هي [دولة] لا رغم أنف الديري بل هي كذلك بلسان الديري ! .

ننتقل لنقطة أخرى : { (مكارم الأخلاق) هي غاية الغايات , و هي ما ننشئ من أجله الدولة , الدولة ليست غاية في ذاتها , إنما هي وسيلة لتحقيق الأخلاق التي تعبر بنا إلى الآخرة . (مكارم الأخلاق) هي ما تربيه الدولة مربية المربين , و هي ما يجب أن يكون عليه المربي ولي الأمر , و هو ما يعبر عنه مصطلح (ولاة الأمر) الرائج } (ص 257) , و لنكمل كي نفهم الصورة كاملة : { ميدان الأخلاق هو ميدان صراع الإنسان مع نفسه و غرائزه و عقله و جسده و محيطه و ما فيه من إيرادات و موجودات . كيف يتخلق الإنسان في صراعه هذا ؟ ماذا يجب عليه أن يفعل ؟ كيف يدير ذاته ؟ نحن نتصور الدولة وفق تصورنا لجواب هذه الأسئلة } (ص 257) , و إحدى تلك التصوّرات : { المربية (الدولة) التي تريد من الإنسان أن ينتصر على غرائزه و جسده و يزهد في هذه الحياة , و يعمل من أجل الآخرة , تربي فيه دولة غايتها ليس الدولة بل اللا دولة , حيث الإنسان في أقصى حالته المثالية المتجردة من كل شيء , لا شيء يتصارع فيه , من ثم لا حاجة إلى الدولة } (ص 258) , إذ أن : { دولة (مكارم الأخلاق) هي مشروع اللا دولة , لأنها تنزع بالإنسان عن ساحات الصراع , حيث الدولة . تتجلى الدولة فيها في إصلاح الإنسان الفرد كي يصل إلى حالة الإستغناء عن الدولة , هي دولة تخاطب الفرد كي يتخلص من الحالة التي تجعله في حاجة إلى دولة . إصلاح الدولة بحسب مكارم الأخلاق هو إصلاح لبرامجها التي تربي بها الفرد , و ليس إصلاح لفكرتها أو وظيفتها أو إدارتها أو سياستها أو نظريتها . دولة مكارم الأخلاق مشغولة بمن يحكم , مشغولة بغاية الغايات , مشغولة بالطوبى , مشغولة بأخلاق الحاكم و مكارمها , و ليست مشغولة بكيف يحكم و أخلاقيات الحكم نفسه } (ص 258) , القول بأن ميدان الأخلاق هو ميدان صراع الإنسان مع نفسه و غرائزه و عقله و جسده و محيطه و ما فيه من إيرادات و موجودات هو قول شمولي متطرف (فجدير بالقائل بما سبق أن يملك أسس أمتن من مجرد السعي لشمل كل شيء) , إذ أن أول إشكالية تقف أمامنا : ما عساه يكون الإنسان في هذا الميدان إن صارع فيه حتى نفسه و غرائزه و عقله و جسده و محيطه ؟! , و لا نريد أن ننحرف عن محورنا الرئيسي (الدولة) فالأخلاق محور آخر يطول و يستطيل , أما عن الأسئلة التي بالجواب عليها نحدد تصورنا عن الدولة فهي لا تنشأ في داخل الإنسان (رغم أن إشكال ما هو الإنسان في كل ذلك لا يزال قائم) بل تفرض عليه فرضا و بشكل لا واعي (غالبا) و غير مباشر (غالبا) , بل أن السؤال ((كيف يدير ذاته ؟)) يجب أن يعاد ترتيبه ليكون ((كيف ذاته تدير أو تدار ؟)) , عموما هذه تصوراتنا عن الدولة و الدولة مستقلة عنها (بالفهم الديري) , أما عن الدولة الداعية إلى الزهد و السعي للدار الآخرة , فهي بقدر ما تكون غايتها [فيه : أي الفرد] اللا دولة .. فهي (في غايتها هذه) لتجليها [السلطة] وسيلة أو أداة لتغييب الفرد عنها (عن تجلي الدولة [السلطة]) , لكن ((في أقصى حالته المثالية المتجردة من كل شيء , لا شيء يتصارع فيه , من ثم لا حاجة إلى الدولة)) الذي يرفقه الديري بالإنسان .. ماذا سيحصل لو أرفقه الديري بالدولة (و هي كذلك) , ألا تنفي ذاتها بذاتها ؟! , لكن يبدو أن ذلك لا و لن يحدث فهي مطلقة و أزلية و الإنسان ليس بمطلق و لا أزلي ! , و على الرغم من أن مشروع اللا دولة لدولة مكارم الأخلاق .. تبقى هي [دولة] , و هذا يجب أن لا يغيب عن بالنا مهما بلغت على حد وصف الديري لها ب [الطوباوية] , فهي بقدر ما تكون دعوتها [طوباوية] هي هي (الدولة) أكثر و أشد [واقعية] من أفرادها حين تقوم , أوليست دولة أو للدقة إحدى تجلياتها ؟! .

و يبدو أن الديري مُصر على تصنيف ما يكون دولة و ما لا يكون بحزم و حسم : { دولة مكارم الأخلاق , ليست دولة مجتمع , بل دولة فرد , لذلك هي لا دولة , هي طوبى } (ص 259) , ماذا يا ترى سيحدث لو إفترض الديري أن فهمه هو (و لو لهنيهة) للدولة ليس هو الدولة (تجلي الدولة [السلطة]) ؟! , هل يعتقد حقا أن الأسس التي تناولناها حتى الآن أسس متينة بما فيه الكفاية ليبقى مستمسكا بالأركان و مستنسكا بالمحراب ؟! , علنا نجد إجابة على هذه الإسئلة يوما ما .

و نعود بالإرتكاز على ((الدولة هي الشكل الأسمى لعقلانية المجتمع)) و ((تمثل كل دولة (...) تجربة لعقلانيتنا التي ندير بها إجتماعنا الإنساني)) في قراءة التالي : { لقد تم نقل الرشد من إطار البحث عن الدين الحق و الطريق الصحيح للآخرة , إلى البحث عن الدنيا الحقيقية و الطريق الذي يقود إلى إنتاج أوفر للإنسان في هذه الدنيا , بل صار الرشد يكمن في تجاوز ذاك الطريق الذي يقودك إلى الخروج من الدنيا . لقد تم إذن تحرير العقل , أي إطلاقه من أي غاية و هدف يتجاوز الدنيا , هذا هو الرشد } (ص 268) , و ما دامت العقلانية هي ((عقلانية العقل العملي)) , إذا فالرشد لا يقف عن ما إنتهى عنده الديري بل و يرفض منطق الديري الخطي فيه , فقد تكون العودة مرة أخرى إلى [الرشد] في إطار البحث عن الدين الحق و الطريق الصحيح للآخرة , فلا معنى للقول ب ((تحرير العقل)) إذ العقل الذي نتحدث عنه هو العقل العملي , فهو قد يجد في الآخرة ما يمكنه من الدنيا أكثر مما يجد من الدنيا ذاتها ما يمكنه من الدنيا (و يصح القول بأنه قد يجد التحرر في اللا تحرر) .

و آخر نقطة في محورنا هذا تتعلق بالدولة و الطائفة (و العلمنة بوصفها جزء من تجلي يهواه الديري) : { العلمنة تقوم على أن الوجود في العالم أو في الدولة مقابل للوجود في الطائفة } (ص 43) , حتى الطائفة يمكنها أن تكوّن دولتها لتكون دولة الطائفة في مقابل دولة العلمانية (و سنأتي بذكر الديري لدولة الطائفة) _حتى القول بالعلمانية قد يوقع في طأفنتها أي خلق طائفة منها [طائفة علمانية] , و هي كذلك إن بقيت تتحدد بوصها تقابل الطائفة_ , إذا المقابلة (أو المعادلة) التي يطرحها الديري هي ناقصة و مغلوطة , و لنستوضح أكثر : { علمنة الطائفة لا تعني جعل قرارها غير ديني بل تعني جعل قرارها غير محتكر في فئة علماء الدين , و هذا يعني تحولا في نظام إتخاذ القرار , و هو تحول ليس يسيرا , لأنه يصطدم بتكوين بنيوي في الطائفة , و يصطدم بتاريخ طويل و تراث غزير , و تحديث هذا التراث يتطلب تحديا معرفيا و إجتماعيا و ثقافيا } (ص 41) , و هل الدين إلا رجاله المحتكرين له ؟! , عموما يتطرق الديري لإصطدام مع الطائفة الدينية سواء خارج قاعدتها أو داخل قاعدتها لكنه ليس إصطدام نفي , إنما إصطدام تحديث ! , إذا هو لا ينوي نفي رجال الدين إو نفي إحتكار الدين لرجاله , إنما تحديث مادتهم و هذا يؤدي حتما لتحديثهم فتحديث إحتكارهم ! , و يكمل بإذ : { إن مشكلة الدولة مع الطائفة لا تكمن في معتقداتها الدينية الصرفة , بقدر ما تكمن في إستخدام هذه المعتقدات كآلية ضبط تنافس الدولة , الطائفة تأبى أن تترك فراغا تحتله الدولة } (ص 39) , الحديث عن الدولة هنا لا يمكن أن يكون بمعنى الدولة الفكرة المجردة المطلقة بل السلطة (تجلي الدولة) , و هذا ما تنافسه الطائفة , إذ لا أحد ينافس الله كذلك الدولة إنما المنافسة بين الجميع بوصفها صراع مع التجليات أو الصراع بين التجليات ذاتها (إذ أخذنا بالفهم الديري) , إذا المسألة هي : { البحث عن مقاربة الطائفة مع الدولة لا مقاربة طائفة مع طائفة , أي بدل أن ننشغل بالتقريب بين الطوائف , ننشغل على تقريب نظم ضبط الطوائف من نظم الدولة , هذا التقريب في حقيقته ليس تقريبا بقدر ما هو تحويل , أي تحويل آليات ضبط الطائفة إلى آليات ضبط الدولة } (ص 38) , كان من الأجدر تبديل ((آليات ضبط الدولة)) ب ((آليات ضبط السلطة)) , فالطائفة (و الحديث هنا عن رجال الطائفة [رجال الدين]) إن لم تكن السلطة كانت خاضعة لسلطة أخرى , دون أن نتجاهل سعيها لأن تكون هي السلطة على الجميع (فتتصارع مع السلطة) , و دون أن نغفل بأنه قد تنشأ علاقة شبه حميمة بينهما تجاه عدو مشترك أو مصلحة ملحة , لكنها (العلاقة) تبقى مؤقتة بتوقيت وجود العدو المشترك و المصلحة الملحة .

و يصف لنا الديري دواء لداء ((دولة الطائفة)) و هو [الخروج] :{ الدولة التي لا يكون مفهومها في بناء المواطن قائما على هذا الخروج , لا يمكنها أن تكون إلا دولة الطائفة } (ص 32) , و كما أشرنا سابقا في تقابل دولة الطائفة و دولة العلمانية نأتي هنا لنؤكد [دولة] الطائفة , أما الدواء الذي يصفه الديري (أي الخروج) فهذا ما سنتناوله في المحور الثاني ((الطائفة)) : (( نقد الطائفة عند الديري )) .

يتبع ,



#موسى_راكان_موسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد عولمة الرفيق النمري
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (14)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (13)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (12)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (11)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (10)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (9)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (8)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (7)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (6)
- إنقاذ التاريخ
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (5)
- التاريخ .. بين ثلاث
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (4)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (3)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (2)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (1)
- الإكزينوفوبيا .. عالميا و بحرينيا
- عولمة صراع الحضارات (!) .. ملحق
- عولمة صراع الحضارات (!) .. الجزء الثاني


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - موسى راكان موسى - وهم تحرر الإنتلجنسيا .. طائفة الخارج [1]