|
دلعونا إمرأة من بسنادا
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 4775 - 2015 / 4 / 12 - 21:11
المحور:
الادب والفن
لمْ تمضِ غير أشهر معدودات على نهاية حرب تشرين .. لمّا رأى جدته دلعونا للمرة الأولى في حياته .. كما تدّعي ذاكرته .. كانت الجدة بهيَّة بمَنْدِيلها الأبيض .. برائحتها الطَيِّبَة .. بسلطتها .. سلطة الجدة دون الرغبة بمصادرة سلطة الأم ..
كانت تجلس في منزلهم .. في ظل شجرة التوت على بساطٍ نظيف مفروش في أرض الدار الواسعة برفقة أختها سعدى .. قرب وابور الكاز بشخيره الصاخب .. وبجانبهما وأمامهما آواني مطبخية .. صدر كبير .. مقلاة كبيرة .. طناجر وملاعق كبيرة .. وعلى مقربة منهما تتأرجح "صيادية" المولود الجديد المعلقة إلى أحد أغصان شجرة التوت .. كانتا منهمكتين بإعداد طعام "الكبيبات" المقلية والمسلوقة .. وكان زمن الموت والشهداء والأسرى .. وكانت الأحاديث مازالت مجبولة بالدمع والغم والحسرة .. مجبولة بالترحمات والآهات والذكريات .. ثم تسترخي ملامح الوجوه الحزينة إذْ تنسج الذاكرة حكايات وقصصاً عن شهداء الحرب .. الذين كُتبَت لهم الولادة من جديد في بيوت أخرى ميسورة الحال ومحترمة السمعة .. لأن أرواحهم طاهرة نقية ..
تخرج الأرواح من أجسادهم وتطير محلقةً في السماء الواسعة .. وهي تفرد أجنحتها المزركشة مثل الفراشات .. في طريقها إالى الشمس .. تبحث عن النساء الطاهرات الصادقات .. في الساعات الأخيرة من حبلهن ومخاضهن .. لتتقمص أجساد الأجنة في ساعات التبلور الآخيرة .. حيث تستريح بعد عناء رحلة طويلة .. ثم تُولد من جديد .. بعلامةٍ جسدية مميزة تشير إلى الحياة الأولى ..
مرت أيام على هذه الذكريات قبل أن تتدحرج كرته البلاستيكية الصغيرة الصفراء .. عابرةً الشارع إلى أرض الجيران المقابلة لمنزلهم .. كانت أرض زيتون مُحاطة بالأسلاك المعدنية الشائكة .. يحرسها الكلب الهمجي البني الملقب "فديو" .. تدحرجت الكرة واستقرت على تخم الأرض .. مد ذراعه من خلال الأسلاك بحذرٍ شديد .. دون أن تطالها أصابعه .. ثم مد رجله محاولاً تقريبها كي يطالها ذراعه .. حينها لوى الكلب الهمجي أنفه وعَوَى .. اِرْتَعَدَ الوَلَدُ خَوْفاً .. سحب ساقه الممدودة هرباً .. أمسكتها الأسلاك العطشى لدم طفلٍ وجرحتها .. علا عواء الكلب وهرب الطفل وضاعت الكرة الصفراء .. فالكلاب لا تُلام على العواء ..
ثم مرت أشهر على العواء .. قبل أن يذهب مع ابن الجيران إلى مقبرة الضيعة .. مقبرة "مشايخ البيبا" في بسنادا .. في الطريق الذي حفرته الأقدام بين القبور وتحت شجرة الخرنوب العتيقة .. بدأا يلعبان لعبة المور بالكلول .. أو (القلول) أو (البنانير) كما يسميها البعض باللهجة الفلسطينية .. أو الدحل باللهجة الشامية .. تلك الكرات الزجاجية الشفافة الصغيرة والممتعة بألوانها العشوائية الشراعية ..
حينما مرت الجدة دلعونا التي تعيش في بيتها القريب من المقبرة .. بجانبهما .. ذاهبةً في طريقها إلى منزل ابنها الكبير .. كان التحدي والتوتر قد وصل إلى أَوجِّه بينهما .. كلاهما كان على حافة الفوز وإعلان التباهي .. رأتهما مغبّرين .. مشعثين .. خاف من نظراتها الغاضبة .. نهرته وأمرته بالتوقف عن اللعب فوراً والعودة إلى البيت .. ترك كلوله الثمينة في مكانها .. وركض إلى البيت خائفاً من عقوبة قد تنتظره .. إذا ما تكلمت الجدة عن الفعل المشين الذي ارتكبه .. بكى كلوله في ذاك اليوم و كره جدته .. ونام يحلم بالخرنوب والقبور والكلول .. والولادة من جديد في بيت بلا جدات ..
حين أصبح تلميذاً في مدرسة الجامع الإبتدائية .. كان الجرح في فخذه قد انْدَمَلَ وتغير لونه .. دون أن تتوقف أحاديث ولادة الشهداء والناس الطيبين بعد .. بل كانت في الكثير من الأماسي الصيفية المذهلة .. موضوعاً للتأمل بعجائب الدنيا .. سادت في تلك الأيام موضة التجييل ..
في إحدى النهارات الصيفية زارَ منزل جدته علّه يحظى ببضعة حبات من شجرة الخوخ الساحرة .. كانت دلعونا جالسة مثل أميرة في فسحة الدار النظيفة .. مُحاطةً بورود وشجيرات ونعناع الجنينة .. وبقربها وعلى يسارها .. جلست أختها سعدى .. التي خسرت ابنها بحادثٍ سيرٍ أليم أثناء عودته من الغربة إلى أحضان الوطن .. وفي جهتها اليمنى جلست قريبتهما أم حسين .. التي فقدت ابنها في حرب تشرين .. وبقيت على اعتقادها بأنه قد وقع في الأسر .. كان حديثهن يعبق برائحة الموت والولادة والدموع والحسرات والآمال ..
جلس حفيدها على مقربةٍ منهم صامتاً .. منتظراً حبات الخوخ الأصفر .. جلس كشيطانٍ يسترق السمع .. يحبك قصته الجديدة .. كي ينتقم من الجدة ومن أحاديث الموت والولادة .. كي يُعيد الاعتبار لذاته .. فهو لم ينسَ بعد فقدانه للكلول الزجاجية الملونة .. وانتصار ابن الجيران عليه ..
فجأةً خاطب جدته معلناً عن تركيبة عطره الجديد: جدتي ... أنا .. أيضاً .. روحٌ مستنسخة ... ألا تصدقين؟ هل تعلمين بأني وُلِدُتٌ عندكم من جديد ... ولست بحفيدكم؟ لقد جيّلتُ في بيتكم!
جحظت النساء أعينهن تعجّباً .. حينها شَعرَ بالفخر والفرح .. فعيونهن الجاحظات دهشةً .. بدأن يصدقن حكايته .. سألته أم حسين بقدسية: من كنتَ يا خالتي؟ أجابها متباهياً: حكايتي طويلة يا خالة .. أردفت: احكي لي !.. أجابها: أنا يا خالة اسمي الحقيقي "حمد الشراحيلي" .. من ضيعة حمام القراحلة .. هزت أخت الجدة سعدى رأسها .. بسملت .. وسألت: وماذا كنت تعمل في ضيعتك يا ستي؟ وكم كان عمرك؟ أجابها: كنتُ ضابطاً طياراً .. في الأربعين من العمر .. أحمي سماء وطني ..
وَلأنَّ كل روح مستنسخة .. انبغى أن تحمل معها علامتها ودليلها المميزين .. سألته الجدة: هل لديكَ علامة مميزة في جسدك الصغير وا ابني؟ أجابها وإحساس التباهي والانتصار لا يفارقه .. بل يزيده دهاءً: بلى يا ستي .. ها هنا .. وأشار إلى الجرح المدمول في منطقة الفخذ ..
استعوذت أم حسين من الشيطان وبسملت .. ثم أضافت: وكيف متَ ياحبيب قلبي؟ أجابها: كنتُ في المطار العسكري .. في طريقي إلى الطائرة كي أقودها .. فتم اغتيالي قنصاً .. من قبل زملائي .. لأني رفضت إلقاء براميل الموت ورفضت أداء التحية قبل مغادرة مكتب القائد ..
كَبُرَ ذاك الطفل .. ماتت دلعونا .. ماتت أم حسين .. ماتت سعدى .. وماتت معهم أكذوبة حرب تشرين .. وأكذوبة الطفل الشرير .. وما زالت السماء تهطل براميلاً .. وما زال يغني: يا سعدى خيرها بغيرها .. يا سعدى هالعمر غفلة .. حدفنا ضلوا يحدفنا.
***** ***** ***** ***** *****
(اقتباس عن ويكيبيديا) الاعتقاد الشائع هو أنّ أصل الدلعونا يآتي من "مدّ يد العون" .. إذ كلما أرادوا أهل القرية التعاون في ما بينهم لإنجاز عمل ما .. مثل جني المواسم أو سلق القمح أو عند البناء أو في مواسم القطاف، كانوا يتنادون "دلعونا" طلبا لمساعدة أهل القرية .. وعند انجازهم لهذه الأعمال، كانوا يعقدون حلقات الدبكة مغنين الدلعونا .. وعلى نفس المعنى، ذكر زكي ناصيف أن الدلعونا أصلها سرياني مؤلفة من أل التعريف السريانية "د"، وكلمة الـ"عونا" والتي تعني "المساعدة"
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -6-
-
رسالة إلى سحر
-
آزارو مرّ من بسنادا
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -5-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -4-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -3-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -2-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -1-
-
جينات بسندلية -4-
-
بماذا أخبرتني تلك اللوحة؟
-
لِمنْ هذهِ الرائحة القادمة من لندن؟
-
ما الذي تفكرُ به إمرأة؟
-
انطباعات لندنية
-
نبع معلّا في بسنادا
-
رُعاف وقلم رصاص
-
إيحاءات فيسبوكية مُشَتَّتة
-
يا حبق ومنتور -2-
-
يا حبق ومنتور -1-
-
اعتقالات الفصول الأربعة -2-
-
جينات بسندلية -3-
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|