عمر بنهمان
الحوار المتمدن-العدد: 4765 - 2015 / 4 / 1 - 20:39
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فرضت التنمية نفسها كمفهوم ومجال للبحث العلمي منذ ما يقرب قرن ونصف قرن من الزمن، لكنها تجسد في نفس الوقت موضوع قديم جديد متجدد، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المجتمعات الإنسانية يتطلع أفرادها دوما إلى الرقي من مرحلة لا يريدونها إلى مرحلة أخرى تلبي رغباتهم وأمانيهم.
فمفهوم التنمية (développement) ترجع جذوره إلى حضارات قديمة جدا، حيث نجد أن الفلسفة الصينية القديمة، عالجت موضوع التنمية عن طريق حركة الإصلاح الأخلاقي والسلوكي والمتمثلة في الديانة البوذية، وتم الاهتمام كذلك بمفهوم التنمية في الفكر الفلسفي اليوناني، اذ تم التطرق لمشكلات المجتمع وتنميته، خاصة في أعمال أفلاطون، أرسطو، وساهم أيضا الفكر الروماني في ظهور مفهوم التنمية، إذ تميزت إسهاماتهم بصبغة علمية (scientifique)، مقارنة بالفلسفات والحضارات القديمة الأخرى، وارتبطت التنمية بالتغير في الفكر الاجتماعي المسيحي خاصة في أعمال القديس أوغسطين وآخرون، وفي القرن الرابع عشر تمت معالجة إشكالية التنمية عند العلماء والفلاسفة المسلمون، وكان للعلامة العربية عبد الرحمان ابن خلدون (1332-1406) النصيب الأكبر في هذا الجانب، واختصر التنمية في مفهوم التطور، واعتبر أن الحياة الاجتماعية دائما في تغير وتطور وحركة، ويقر في الأخير أن النشاط الاقتصادي أساس لتقدم وتطور المجتمع البشري.
وفي القرن السادس عشر اعتبر أنصار المدرسة التجارية إلى وجود تأثير زيادة الثروة على تنمية البلد، وفي منتصف القرن الثامن عشر، وبالضبط في فرنسا أكدت المدرسة الطبيعية ( الفيزيوقراطية) أن العالم يخضع لقوانين طبيعية ولا دخل لإرادة الإنسان فيها، مما يجعل معالجتهم للتنمية يتسم بالطابع العمومي والشمولي، وأثرت بشكل ايجابي في ظهور النظرية الكلاسيكية في التنمية، بزعامة كل من ريكاردو، سميث، مالتوس...، وبمقولتهم المشهورة "دعه يعمل، دعه يمر" .
وباستقلال العديد من العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر، ومنها علم الاجتماع، بادر مجموعة من الباحثين والعلماء السوسيولوجيين إلى الاهتمام بهذه الظاهرة، باعتبارها قضية مجتمعية تثير الكثير من الإشكالات والتساؤلات.
ويعتبر عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر(1864-1920)، من أهم الدارسين والمهتمين بإشكالية التنمية، وانطلق في معالجتها من خلال تفسير العلاقة بين الدين والاقتصاد، وبهدف فهم مظاهر النظام الاجتماعي والاقتصادي للعالم الغربي، عن طريق تحليل العلاقة بين العقيدة البروتستانتية (Le protestantisme) والرأسمالية الحديثة ، وتستند حسبه إلى ما يلي:
1. التنظيم الرشيد ؛
2. الحماس المتزايد؛
3. الروح المعنوية ؛
4. الكفاءة.
وبناءا على هذه الخصائص يقر ماكس فيبر، على أن الرأسمالية الحديثة تطابق وتلائم تعاليم العقيدة البروتستانتية، بما تمثله من أخلاقيات وسلوك علمي، ومن تم هناك علاقة تبادلية بين الظواهر الدينية والظواهر الاقتصادية، إذن فمفتاح فهم التطور الاقتصادي ليس أسلوب الإنتاج- كما ينظر له ماركس، بل لابد من فهم الاتجاهات السيكولوجية والتي تشكل روح عصر تاريخي حسب المقاربة الفيبرية.
وبتعبير أدق تشكل القيم (la valeur)، حسب المعنى الفيبيري مطلبا أساسيا من متطلبات تحقيق التنمية، ويدعو المخططين التنمويين إلى عدم إغفالها وتجاهلها، ولكي لا تهمش المجتمعات عليها أن تنتظم على شكل نظام بيروقراطي، لما يتميز به من كفاءة وخبرة وتمييز بين الحياة العامة والشخصية.
وفي فرنسا قدم ممثل المدرسة الوضعية اميل دوركايم (1858-1917)، قراءة سوسيولوجية ونموذج آخر لمسألة التنمية، وبالأخص في كتابه المشهور "تقسيم العمل الاجتماعي"، واعتبر أن المجتمع يتميز بخاصيتين من التضامن، ويمكن تجسيدها مما يلي:
• تضامن آلي: سائد في المجتمعات التقليدية، أي غلبة الدين، وسيادة الأعراف والتقاليد.
• تضامن عضوي: سائد في المجتمعات الحديثة، تقسيم للعمل، الفر دانية...
ويعتبر دوركايم أن تنمية المجتمع وتغيره، يتم من خلال ثلاث عوامل أساسية، وهي:
1. الزيادة في الكثافة السكانية؛
2. الوعي الجمعي (la conscience collective))؛
3. تطور وسائل المواصلات.
وفي خمسينيات القرن الماضي، تناول زعيم المدرسة السوسيولوجية الأمريكية تالكوت بارسونز(1902-1979) قضية التنمية من خلال مقاربة بنائية ووظيفية، ومفاهيم من قبيل، الاستقرار؛ التوازن ؛ والنسق ، وأعطى لها بعدا يتخذ طابعا انتقاليا، فالتنمية حسبه هي عملية الانتقال من نمط معين إلى نمط آخر يقابله، ويولي أهمية كبرى للقيم للوصول إلى التنمية كما اهتم بها ماكس فيبرمن قبل، لأنها تمتلك القدرة على التعميم التحليلي، وكذلك يمكن أن تطبق على سلوك الفرد أو الجماعة، وتشكل أيضا نسق من أنساق الفعل الاجتماعي.
وحدد بارسونز أربع متغيرات لكل مجتمع من المجتمعين، متقدم وآخر متخلف، ويمكن إبراز هذه المتغيرات، من خلال الجدول التالي:
قيم المجتمع المتقدم / قيم المجتمع المتخلف
*الحياد الوجداني *الوجدانية
*التوجه الفردي * التوجه الجماعي
*التخصص * الانتشار
*الانجاز (الأداء) * النسبية
يوضح هذا الجدول إذن، أن بارسونز يختزل التنمية في اكتساب المجتمعات المتخلفة لنفس القيم والخصائص السائدة في المجتمعات المتقدمة (الحديثة)، و بالمعنى الفيبيري " نزع السحر عن العالم"، أي التخلص عن كل القيود التي تقف دون الوصول إلى التنمية، من خلال هجر النظرة الصوفية للعالم، وعدم قدسية كل شيء، وتأسيس نظرة علمية رشيدة وبيروقراطية للمجتمع.
وفي سياق آخر، يفسر الاتجاه المادي (الماركسي) التنمية في المشروعات الرأسمالية، وما أدت إليه من نتائج، وآثار على كل مظاهر المجتمع والوعي الاجتماعي، وحاول كارل ماركس (1818-1881) في الكثير من أعماله، خاصة " رأس مال"، تتبع هذه العملية منذ نشأتها، مفسرا بذلك كيف أدت إلى تفكك المجتمع، وبالتالي ظهور النظام الرأسمالي.
فالتنمية الرأسمالية باللغة الماركسية، تمثل عملية شاملة، انطلقت في أوربا، ثم انتشرت بعد ذلك في مناطق أخرى بفعل الحملات الاستعمارية، والاكتشافات الجغرافية، فالتوزيع غير العادل للثروة يؤدي حتما إلى الصراع بين أصحاب المصالح (المسيطرين) والخاضعين المهيمن عليهم.
وإذا كان تناقض ماركس، يكمن في التناقض بين طبقة مالكة (مهيمنة)، وأخرى خاضعة (معدومة)، فان التناقض بالنسبة للماركسية المحدثة يتجسد في التناقض بين الامبريالية والعالم الثالث (النامي).
ويؤكد أنصار الاتجاه الماركسي المحدث باران، دافيد لوكود، وفرانك، على أن التنمية عليها أن تحقق أهدافا قومية، تنبع أساسا من الظروف التاريخية التي مرت منها هذه المجتمعات النامية، واحترام الخصوصيات الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، التي تميز هذه المجتمعات، والتي أغفلتها الدراسات السوسيولوجية المحافظة، وليس فقط تقديم وجبات ووصفات تنموية جاهزة، والتي لن تؤذي في نهاية المطاف فقط إلى تشويه الواقع حسب تعبير الفرنسي (P .baran).
إن إتباع تخطيط محكم وشامل، هي الوسيلة الناجعة وفقا لهذا التيار، لتحقيق تنمية سريعة وفعالة، ولن تتحقق التنمية كذلك إلا بالتخلص من التبعية السياسية، والاقتصادية، والثقافية، فالمساعدات والمعونات التي تقدمها الدول المتقدمة لنظيراتها المتخلفة، ذات طابع سياسي، وتكريس للهيمنة( (domination) والتبعية، وفي هذا الصدد يعتبر الفرنسي سيرج بوكام (1960)، أن تقديم المساعدات بمنطق إحساني، يتناقض كليا مع القيم المثلى للمجتمع الديموقراطي، لان قبول هذه المساعدة يعني قبول التصنيف في لائحة المتخلفين، مما ينتج الشعور بالدونية والاحتقار، وهكذا فالسياسة التنموية الحقيقية، لا تكمن في منح الأموال والمساعدات، وإنما تمكين الأفراد وتزويدهم بالآليات والوسائل والتي ستساعدهم في تحقيق التنمية بأنفسهم، بمعنى خلق فرد فاعل بالمعنى الفيبيري، ينتج ولا يستهلك فقط، فيكفي أن نعلم فردا كيف يصطاد سمكة، على أن نعطيه سمكة.
أبرزت أزمة التنمية المعاصرة إذن، عن فشل جل هذه النظريات الماكروسوسيولوجية، في تفسير الواقع وتغييره، "لان كل سوسيولوجيا توازيها اديولوجية" كما عبر عنها عالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي(1938-2009)، فالاتجاه المحافظ سعى إلى معالجة التنمية، من خلال مفاهيم الاستقرار، والثبات، وبالتالي يتضح مدى تحيزه للنظام الرأسمالي، والسعي نحو استقرار المجتمع وثباته دليل على ذلك، وفي نفس الوقت نجد هذه الاديولوجية حاضرة أيضا عند أنصار الاتجاه النقدي، والذين اكتفوا بتحليل إشكالية التنمية واختصارها في مفاهيم الصراع، الطبقة، والعوامل التاريخية وغيرها، وعاجزة أيضا في تحديد هوية الطبقات الاجتماعية المتخلفة في التاريخ، ورغم ذلك تبقى هذه النظريات السوسيولوجية مهمة، لفهم الكثير من الإشكالات والإرهاصات التي يطرحها موضوع التنمية، وتبقى كذلك مرجعا أساسيا للكثير من الباحثين والدارسين المهتمين بالمجال التنموي حتى وقتنا الراهن.
الهوامش والإحالات:
1) أنظر: اميل دوركايم، تقسيم العمل الاجتماعي، ترجمة حافظ الجمالي، اللجنة اللبنانية للترجمة، 1982.
2) أنظر: د.علي ماهر أبو المعطى، الاتجاهات الحديثة في التنمية الشاملة، المكتب الجامعي الحديث، 2012.
3) MAX WEBER ,l’éthique protestante et l’esprit du capitalisme, préparé par JEAN-MARIE TREMBLAY,2002.
4) SERGE PAUGAM , la disqualification sociale, éd, puf, QUADRIGE, paris, 2013.
5) أنظر: د.امحمد مهدان، نظريات سوسيولوجية معاصرة، كراسة جامعية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية-أكادير، 2013.
6) أندرو ويبستر، مدخل لسوسيولوجية التنمية، ترجمة حميد يوسف، دار الشؤون الثقافية العامة، 1986.
#عمر_بنهمان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟