|
النهار الذى كان
صفوت فوزى
الحوار المتمدن-العدد: 4765 - 2015 / 4 / 1 - 04:03
المحور:
الادب والفن
كانت الدنيا براحاً ... من هذه الشرفة كنت أطالع وجه الشمس ... الصفصافة أم الشعور تغتسل بماء الترعة ، نسمات الصبح الندية ... الطريق الترابي المرشوش ... شقشقات العصافير النزقة ورفيف أجنحتها ... رائحة الشاي المنبعثة من المقهي القريب ... الدنيا تفرك عينيها ... تتثاءب ... تتمطي ... تطرد وخم الليل ، تستقبل النهار اليقظان المغسول الوجه ... الحركة الدؤوبة لصبيان المقهي ... شاي الإصطباحة ، وصوت " قنديل " العفي واعداً بالفرحة : " ياحلو صبح ياحلو طل ... ياحلو صبح نهارنا فل " ... الطريق تقطعه عشرات الوجوه ... أعرفها بالإسم ... عشرة عمر ... أكلنا معاً ... تقاسمنا السيجارة والطعام الرخيص ... زمتة العنابر متسخة الجدران ... بوابة المصنع العريضة بلونها السماوي تظللها الجميزة الهرمة وبهجة التلاقي . اليوم ... خلا الشارع من العمال ، إمتلأ بصبية وعاطلين يثرثرون في هواتفهم المحمولة ... البوابة العريضة غطاها الصدأ ... الجميزة لم يعد لها وجود ، شجر الصفصاف اجتث من جذوره ... التراب زحف علي االمكان الذي كان نظيفاً ... كنست الريح القش والقذارة وكدستها هناك ... تهدم سور المصنع وغزته قطعان الكلاب الضالة والقطط ... توقف هدير المكن ، وصار المكان موحشاً بارداً تصفر فيه الريح .
* * * * * *
صغيران كنا ... أنا وأبوك ... حين جئنا من الصعيد الجواني ... الصعيد يطرد أبناءه ، لكنه يصلب عودهم ... تلفعنا بفقرنا ، والأمل في أن غداً سيكون أجمل ، ونزلنا مصر أم الدنيا ... مدينة قاسية لا ترحم ... كنا نبحث عن الرزق ماشين علي رؤوسنا ... جبناها شرقاً وغرباً ... شمالاً وجنوباً ... شقينا كثيراً ... تضنينا قلة حيلتنا ، وننظر للسماء فلا نري نجوماً ... كنا نسأل عن الأحوال فنحمد الله علي الفقر والصحة ... تقاسمنا معاً الخوف والسيجارة والطعام الخشن ... عملنا معاً في مصنع إسكو ... تزوجنا ... ربيناكم وأدخلناكم المدارس ... كنا نشقي مــن شروقهــا حتـي المغيب ... " تفاجئني الشمس وأنا مازلت في نومي لم يفارقني بعد وخم الليل ... تتسحب من خلف شجرة أم الشعور ... تتسلق حائط بيت لمعي ... حينها ... يدرك أبي أن الوقت قد حان ... يطس وجهه بالماء ... يهبط درجات السلم المتآكل تتبعه دعوات أمي ... ونصحو نحن علي صافرة المصنع وتكتكات بوابير الكيروسين في بيوت الحارة " ثلاثون عاماً لم نفترق ، عملنا معاً ، سكنا معاً ، تزوجنا معاً ... حتي أخرجونا معاشاً مبكراً ... مرض أبوك بداء الكلي ... " يأتيني صوته من الطابق الأرضي ... ينتصب أمامي متدثراً بمعطفه الصوفي الخشن ونظارته الطبية ، فارداً كتابه المقدس يعيد قراءة آية قرأها عشرات المرات ، يزيح بها لزوجة الوقت المتمدد بإتساع الكون ... يمسح المكان بعينين ذابلتين ويردد : من تعود الشقاء مثلنا ، إذا قعد في البيت يموت ... رفض زيارة الطبيب ... ظل يصابر علته ويداويها بالعقاقير والأعشاب ووصفات العارفين ... أدخلناه المستشفي عنوة ... لم يحتمل ... مات " .
* * * * * *
رشفة من كوب الشاي الساخن ... التفاتة لصورة إمرأة معلقة علي جدار ... تتندي عيناه الأن بفيض حنان ... يحتوي الحيطان و الأثاث القليل ... يشف الوجه الذي غزته التجاعيد ... يُسرج قناديل الذاكرة ... المرأة التي أعطتني الأبناء والمودة والسكن ، وشاركتني فقر الأيام ... أخذها مني الموت القادر ... كانت جميلة وعفية ... إمرأة ولا كل النساء ... جدائل شعرها ... عيناها الواسعتان بالكحلة المجرورة كتصاوير المعابد القديمة ... كانت في شبابها فرسة جموح ، وكنت خيالها ... كانت حين أبرك فوقها كاشفاً لحمها الوردي الناعم ، حارثاً أرضها ... تمنحني نفسها ، وتلبد فيَّ لاهثة مهتاجة ... يأتيني صوتها مترعاً باللذة والألم ... تعض الكتفين عاجنة عظامي ... يفيض الرضا والشبع من العينين اللوزيتين . إثني عشر بطناً أخرجتهم للحياة ... مات منهم من مات ، وضاعت من نفسها بعض منها وراء عيالها في القبر ، والذين بقوا خدمتهم ، أفنت شبابها حتي صاروا كباراً ... تزوجت البنات ، والأولاد صاروا رجالاً ... كلهم رحلوا وتركوني ... أصبح البيت خالياً ... تطوف بسمعي ماتزال وشوشاتهم صغاراً ، عراكهم وصخبهم كباراً ... تتكحل عيناي بصورهم المعلقة في مسامير الحيطان ... وأحس بالحوائط الأربعة تضيق من حولي وتقترب ... تطبق عليَّ حتي تكاد تحطمني ... أنادي عليهم فيجيبني الليل حاملاً إلي سمعي صدي صوتي .. ما أقسي الليل حين يفتقد اللمة والفرحة والونس ... يخاصمني النوم ، ويأبي النهار الذي لا قلب له أن يأتي ...
* * * * * *
إنزلق المعطف الحائل اللون عن جسده ... تركه يسقط ... بانت عظام الكتفين البارزة وسط لحمة الضامر ، وإنحناءة الجسد الفارع كسنديانة عجوز ... إرتكز علي ركبتيه اليابستين ويديه المعروقتين ... مددت يدي محاولاً مساعدته ... أشاح بوجهه ... مسح مقعدته بيديه ... ومضي .
#صفوت_فوزى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صهيل
-
ثقب الابرة
-
السؤال
-
عطش
-
أماكن للعابرين
-
الخوف القديم
-
هروب
-
زحمة
-
مرآة
-
رفع الحصير
-
سمكة -قصة قصيرة
-
الفرحة
-
انسحاق -قصة قصيرة
-
الغائب الحاضر - قصة قصيرة
-
كبرياء -قصة قصيرة
-
جدى
-
انحناء -قصة قصيرة
-
فاصل للحلم - قصة قصيرة
-
سلبية الأقباط بين مسئولية الدولة ودور الكنيسة
المزيد.....
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
-
مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي
...
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
-
انتحار موظف الأوبرا بمصر.. خبراء يحذرون من -التعذيب المهني-
...
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
-
-شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|