|
اسئلة اقل، فلسفة اقل
عقيل صالح
الحوار المتمدن-العدد: 4755 - 2015 / 3 / 22 - 15:00
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
لماذا تفرد بومة أثينا جناحيها بعد الغسق؟ لماذا تتأخر في التحليق؟. تحليق اقل، حيز اقل. اسئلة اقل، فلسفة اقل. ما هي حدود الفلسفة؟ الى اي مدى يمكنها ان تحلق؟ هل يمكن سجنها في قفص معين، ومحدد؟ فلسفة، وفلسفة، الحديث يتعاظم حولها، ولكن اية فلسفة؟
الأجوبة، الجاهزة، المانعة، ليست من تخصصها، انها ليست علم العلوم، وليست الحقيقة الشاملة، وحتماً ليست حكم التاريخ. الاسئلة، هي تخصصها، ان عملية تعديل وتشذيب السؤال، هو واجب الفلسفة، ان تطرح اطروحات، وان تشكل النظرة الاساسية، حول هذا العالم.
عند العلوم لا تكتسب الفلسفة صفة العلمية، من دون ارتباطها بأي علم. تتحول كل فلسفة من دون علم، الى فلسفة تأملية جوفاء، وكذلك، اي علم من العلوم، لا يرتبط بفلسفة، فلا معنى له. ان الفلسفة موضوعها العقل، واما ان يكون هذا الموضوع، يتبع الموقف المادي او المثالي، وبذلك، العالِم، لا بد ان يتفلسف، اما مادياً، او مثالياً.
الفلسفة في الحاضر، قد عادت الى التأملية، وفي هذه العودة، تناقش افكاراً كبيرة، وتأثيراتها في العالم المعاصر، بل اعلنت الفلسفة، ان “الكل” لا معنى له، ونحن في عصر الجزء، ولا يمكن معرفة الكل بشكله التام، واصلاحه هو من اليوتوبيا، سردية طويلة، لها بداية ونهاية، بينما الجزئيات هي الاجدر، في التحليل والاصلاح. هذا الوضع الحزين، في محاولة تأويل الواقع، من خلال الفلسفة، من دون علم، بل في غاية التفلسف، وحب السفسطة، او غريزة التفلسف (نيتشة).
الشمولية الفلسفية غير مقبولة، ايّ بوصفها علم العلوم، والجزئية الفلسفية غير مقبولة كذلك، بوصفها تحليل الجزء، بشكل عائم هائم. ان للمنطق، او الفلسفة، موضوعاً فلسفياً محدداً، وهو العقل. المناطقة القدامى، وجدوا في الفكر واللغة، كلية شمولية - كونية، ان الكلية تتجسد فيها الفكرة «هيجل»، وان هذه الكلية، هي فكرية محضة. وفي قلب هذا المنطق، الديالكتيكي، وجدنا ان اللغة والفكر، رغم بنيتهما الخاصة، هما نتاج لوجود مادي، واقعي كلي، معين. ان نشاط الفرد في المجتمع، هو الذي يفرز النمط الفكري، النشاط هو ليس نتاج الفكر، بل العكس تماماً «ماركس».
العقل، اذن، سواء بمفهومه المادي او المثالي، هو مثالي بطبعه، لأنه في لحظيته، يفكر ويتلقى، انه يفكر هذا يعني انه مثالي، التفكير في حدود التفكير، وتلقي التركيب من ثقافات وايديولوجيات، تؤكد على هذه المثالية، ان الانسان ايديولوجي بطبعه، اي مثالي بطبعه. ان المادية شاذة عليه، لهذا يحتاج الى تثوير منطقي ليكون مادياً، يبدأ بالمثالية، هذه اللحظية، بمفهومها الهيجلي الفينمولوجي، هي ايديولوجية، عندما يفتح المرء عينيه، الوجود ليس وجوداً محضاً، بل مغلفاً، في سلسلة من الرمزيات متخيلة، تؤسسه، وتسميه وجوداً، وتصنف الاشياء، على نحو ذاتها. العقل، والتمنطق، دائماً مثالي، يفهم الامور بمنطقه، وبالمنطق الفكري السائد، الذي يصنفه، ويشخصنه، بحد ذاته، في تحديده كذات، انه «عقل»، «انا»، «هذا هو»، الخ.. ولهذا يغلب عليه، باللغة الفلسفية، الصفة المثالية - الايديولوجية.
من الطبيعي ان تكون اسئلة العقل، اسئلة مثالية، اسئلة ايديولوجية. تسأل عن البداية، والمستقبل، والنهاية. عن الاصل، والعلة، والسبب. الفلسفة، او المنطق، لا تجيب عن هذه الاسئلة، لأنها ليست من اختصاصها، الفلسفة تطرح اطروحات، من خلال وجهة نظرها، في علاقتها مع العلوم، اما ان تكون هذه الاطروحات، مادية او مثالية. ولكنها، في نفس الوقت، لا تقمع هذه الاسئلة، انها توجهها، في تحولاتها، وتشكلاتها، الى ان تكون لها اساساً صحيحاً، في تأسيس السؤال الصحيح.
السؤال الصحيح، يستمد صحته، من ماديته، اذ كان السؤال غير مادي، فإنه سؤال خاطئ، هو سؤال ذهني، ووجوده، من خلال الفلسفة المادية، مادي. كذلك، سؤال الفلسفة، هو ليس سؤالاً هائماً، فوق الفضاء، يترنح بجماله وجبروته، يتبجح بقدرته، اللانهائية، في طرح المشاكل، بل خلقها، يفرد جناحيه فرحاً مرحاً. الفلسفة هي ابليس في شكله النظري.
لهذا المنطق، اذا كان لوحده، يتمنطق وينفصم، فلا معنى له، انه يخلق مشاكل، بفعل فتنة السؤال، ولكنه، في تكوينه، مرتبط بالعلوم، ان تكون الفلسفة، المادية تحديداً، موقف العالِم: التاريخ «المجتمع»، او الاحياء، او الكيمياء الخ.. ان العالِم فيلسوف كذلك، اما يكون مادياً او مثالياً، بل البشر، جميعهم، فلاسفة عفويون، اي فلاسفة مثاليين. نتعرض الى نظام رمزي بديهي، يشكل واقعاً خيالياً، اي ايديولوجيا مثاليا. تنعكس هذه العملية في بلورة فلسفتنا العفوية «المؤدلجة»، والسؤال، بالتالي، يتشكل تبعاً لذلك كله.
فالفلسفة ليست جواباً، او حواراً ما بين الاجوبة، انها لا تمتلك اي جواب، هي تطرح، اطروحات معينة، في محاولة تعديل التوجه الرئيسي للعلوم، لا سيما علم التاريخ. وفي تعديله، تُسوره، بقوتها، وبمحدودية وظيفتها، من التغلغل الايديولوجي.
فمثلاً، في علاقة الفلسفة بعلم التاريخ، لم يتغير السؤال الفلسفي وحسب، بل، تغيرت وظيفة الفلسفة ايضاً، فالصلاحية المطلقة، الهيجلية، المعرفة الكاملة، علم العلوم، الروح الشاملة، انتهت. واصبح من واجب الفلسفة تغيير العالم «ماركس: اطروحات حول فيورباخ»، كمنطق يستند الى علم، حيث تم تطبيق هيجل مقلوباً على ريكاردو وسميث.
لم يكن فيخته على خطأ عندما قال: «اختيار المرء للفلسفة يعتمد على اي نوع من الاشخاص هو»، ويمكننا القول، ان اختيار العالِم لأي فلسفة، يحدد، في اغلب الاحيان، توجه علمه. على العالِم ان يختار، ما بين فلسفة ايديولوجية، لم تتجاوز الايديولوجيا السائدة، لم تتجاوز الانظمة الرمزية لعقلنة ظروف علاقات الانتاج القائمة، لم تتجاوز، البديهيات الكونية. او فلسفة علمية، تم تثوير وظيفتها، تعمل يداً بيد مع العلوم، ليس لها القوة الاسمى، ليست الحكم على اي شيء، ولكنها تفرض منطقاً خاصاً، منطقاً مادياً ديالكتيكياً في العلوم، ولهذا لم يخطأ لينين عندما قال ان العالِم لا بد ان يكون مادياً ديالكتيكياً، اي يتبع منطق نظرية المعرفة فلسفة الماركسية اللينينية. وهنا تكمن الثورة الماركسية في الحقل النظري، انها اكتشفت علماً «التاريخ» وفلسفةً «الديالكتيك المادي»، تطبيق هيجل مقلوباً على ريكاردو وسميث، هذه الفلسفة تدرك حدودها ضمن علاقتها مع العلم التاريخي، فلا تتجاوزه. بينما الفلسفة، التي تتوق الى العودة، ما قبل اكتشاف علم التاريخ، واحياء جثث استشهدت، والتي من دونها، يصعب على هذا العلم ان يتأسس، وتحاربه، على اساس انه غير علمي، وتعلن ان لها الحق في ان تقرر مصير هذا العالم.
كل ما هو إنساني في الفرد، كل ثقافة تميزه كنوع، عن باقي الانواع، حصراً يعود الى التطور الاجتماعي له. كل ميزة، تؤسس للإنسان، إنسانيته، هي عائدة الى التطور الاجتماعي - الاقتصادي. بالتالي، النظرة المادية، تؤكد على هذا، المادة هي اساس التطور البشري. ان الشمس، والكواكب، والمجرات، موجودة، بغض النظر عن وجود الانسان او لا. ولكن المادي والمثالي يدرك هذه البديهية، الفلسفة الثنائية ادركت هذه الحقيقة، كذلك الواحدية. سبينوزا، وكانط، وفيخته، وهيجل، ادركوا، حقيقة وجود «فكر» و»واقع»، ايّ ادراك لوجود العالم الخارجي.
لكن الموقف المادي من الفكر، او موقف الفلسفة المادية «المادة هي تصنيف فلسفي - لينين»، اعتمد على شكل مختلف، وهو وحدة الانسان بالطبيعة «فيورباخ»، ويزيد ماركس، ان الفكر يتجلى، في وحدة الانسان بالطبيعة، والمجتمع، والتاريخ.
هكذا تتأسس ذهنية الانسان، في نقل الواقع الموضوعي، او ترجمته بل يدخل الذهن، في علاقة مسبقة، من حيث بنيته، اللغوية والنفسية «الوعي واللاوعي»، في علاقات محددة مع هذا الواقع الموضوعي. علاقة الابنية النفسية ببعضها البعض، المتخيل والرمزي بالواقعي، في تطوراتها وتجليتها.
ذهنية الانسان، تتأسس، في علاقتها الحصرية مع البناء الاجتماعي الكلي، حين يدخل الذهني في علاقة، ووحدة، مع الطبيعة والمجتمع «التاريخ». الانسان لن يتمكن من التفكير لولا وحدته مع المجتمع.
الفلسفة، اذن، موضوعها العقل، تاريخ انتاج المعرفة، وفصل ما بين الايديولوجي والعلمي، في فهمها موقع الذهن من وجهة نظر مادية، ايّ استناداً الى الفلسفة المادية المعاصرة، المادية الديالكتيكية، بمعنى انها تكتسب صفة المنطق السليم لتوجيه البحث العلمي. ان كتاب «رأس المال»، بوصفه كتاباً علمياً موضوعه التاريخ «البناء التحتي، السلعة، قوى الانتاج، علاقات الانتاج، الصراع الطبقي، الخ..»، استمد قوته من المنطق الديالكتيكي المادي، الديالكتيك حاضر دائمآً في «رأس المال».
يظل السؤال قائماً، هل اعادة توجيه السؤال يقع في قمع الاسئلة غير الصحيحة؟، هل يحق لنا ان نضع «X» فوق الافكار التي تبحث عن الاصل، والمستقبل، والنهاية، والعلة؟ لماركس الشاب، في 1842، اجابة: لنفهم اي فكرة، لا بد من فهم نشوئها، وظروف هذه النشأة. ولنفهم السؤال، رغم فتنته الشيطانية، لا بد من ان نفهم، الارض التي مهدت لظهور هذا السؤال، من اية وجهة نظر ينطلق السؤال؟ لصالح اي طبقة؟ هل هذا السؤال ايديولوجي؟. اي يخضع السؤال لنظرة الفلسفة المادية، ما هو الموقع المادي للسؤال؟.
ما لم يتم تعديل موقفنا من الفلسفة، اي ازالة المفهوم القديم لها، مفهوم ما قبل اكتشاف علم التاريخ، سنجعل منها قوة مطلقة، غير قائمة على اي علم، تعتبر نفسها، علم العلوم، فوق كل علم، اعلى مرحلة فكرية يمكن للبشر الوصول اليها. هكذا السؤال الفلسفي نفسه، يخضع لمثل الموقع، هل يخدم تقدم العلم الذي يعلنه، ام اعادته، الى ازمنة ما قبل اكتشافه؟.
كُتب فوق بوابة اكاديمية افلاطون: «لا تدع الجاهل بعلم الهندسة يدخل» . نكرر هذا الاعلان بقولنا: «لا تدع الجاهل بعلم التاريخ يتفلسف».
#عقيل_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماركس الآخر
-
نقض فلسفة الإنسان
-
غواية كيركي الفلسفية : حول نقد الظواهر الاجتماعية
-
التنمية في الخليج في مواجهة الثقافة الاستهلاكية
-
أول مايو : كرنفال العمال
-
ممن يسخر ماركس ؟
-
ممن يستشيط ماركس غضباً ؟
-
هل يمكن للماركسية أن تتآكل ؟
-
نقد التأويل الشريعتي للفكر الماركسي
-
إضافات ستالين للماركسية
-
هل يجب البحث عن تنظيم بديل ؟
-
تناقضات العمل الجسدي والذهني.
-
ما بعد ثورة اكتوبر؟
-
حول الرأسمال المعولم
-
رأسمالية متأخرة أم ما بعد الرأسمالية ؟
-
النقد والنقد الذاتي
-
المجتمع,والاقتصاد, والدولة في عصر الخدمات
-
غواية المصطلحات
-
انهيار سايكس بيكو
-
حول الماركسية في القرن الواحد و العشرين
المزيد.....
-
لبنان يسارع للكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسرا في سوريا
...
-
متضامنون مع «نقابة العاملين بأندية هيئة قناة السويس» وحق الت
...
-
التصديق على أحكام عسكرية بحق 62 من أهالي سيناء لمطالبتهم بـ«
...
-
تنعي حركة «الاشتراكيين الثوريين» ببالغ الحزن الدكتور يحيى ال
...
-
الحزب الشيوعي يرحب بمؤتمر مجلس السلم والتضامن: نطلع لبناء عا
...
-
أردوغان: انتهت صلاحية حزب العمال الكردستاني وحان وقت تحييد ا
...
-
العدد 584 من جريدة النهج الديمقراطي
-
بوتين يعرب عن رأيه بقضية دفن جثمان لينين
-
عقار -الجنود السوفييت الخارقين-.. آخر ضحاياه نجم تشلسي
-
الاجرام يتواصل في حق عاملات وعمال سيكوم/سيكوميك
المزيد.....
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
المزيد.....
|