|
الزواج السرى بين الإخوان وبريطانيا
حمدى السعيد سالم
الحوار المتمدن-العدد: 4753 - 2015 / 3 / 19 - 16:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اعتقد أن التقرير البريطانى حول نشاط جماعة الإخوان،لن يخرج للنور مطلقا،....حيث من المقرر أن يتم حل البرلمان البريطانى نهاية شهر مارس الجارى....وبالتالى عقد انتخابات برلمانية جديدة،.... وبناءا عليه تعتمد جماعة الإخوان على تأجيل نتائج التحقيقات البريطانية لما بعد شهر مارس الجارى..حتى يتم حل المجلس ولا يتم إصدار التقرير بعد عقد الانتخابات.....جماعة الإخوان تعتمد على تأجيل التقرير البريطانى حول نشاطها لما بعد مارس...لذلك اكاد اجزم كمحلل سياسى واستراتيجى إن التقرير البريطانى حول نشاط جماعة الإخوان قد لا يظهر مطلقا،.... لأنه بنهاية شهر مارس سيحل البرلمان البريطانى وسوف يكون هناك انتخابات فى 7 مايو المقبل وستأتى حكومة جديدة، وهذا التقرير سيذهب طى النسيان .....المتحدث باسم مكتب رئيس الوزراءقال أن نشر التقرير سيحدث "فى أقرب فرصة ممكنة"،... لكنه لم يعط ضمانات بأن ذلك سيحدث قبل أن يحل مجلس العموم فى نهاية هذا الشهر" ...لذلك لا ينبغى أن نعول كثيرا على التقرير البريطانى بشأن نشاط جماعة الإخوان، لأنه لم يعد له أى أهمية مع كثرة التأجيلات المتكررة لحكومة ديفيد كاميرون للتقرير .....على صعيد أخر الحكومة البريطانية لم تكن جادة فى تحقيقاتها حول نشاط التنظيم فى لندن، وهو ما جعلها لم تصدره حتى الآن،.....وقد لايدرى الجميع أن سبب اتخاذ رئيس الحكومة البريطانية قرارا ببدء التحقيقات حول نشاط الإخوان جاء لتهدئة مخاوف السعودية من العلاقات بين بريطانيا والإخوان .....لذلك اقول أن التقرير لن ينشر، لأن تأجيله لخمس مرات، يؤكد أن الحكومة البريطانية ليس لدينها نية لاعتبار الإخوان جماعة إرهابية أو إدانة نشاطها فى لندن، وهو ما يجعل التقرير بلا قيمة..... لذا سيسدل الستار على التقرير الذى أجرته الحكومة البريطانية حول نشاط التنظيم، ولن يخرج بإدانة الجماعة..... من ناحية اخرى يجب ان نعلم أن علاقات بريطانيا بالإخوان أعقد مما يتصور الكثيرون ....
بصرف النظر عن خفايا الموقف البريطاني راهناً، إلا أن العلاقة العميقة بين المؤسسة الأمنية والاستخباراتية وحتى السياسية البريطانية، والإخوان المسلمين، كانت موضع بحث وتدقيق على مر السنوات الماضية، وازدادت سخونةً بعد تفجيرات لندن عام 2005،.... تواطؤ بريطانيا مع الإسلام الراديكالي يطرح قصة علاقة بريطانيا بالإخوان، منذ بداياتها في أربعينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الراهن، والأساليب والسياسات التي ارتكزت عليها، وأسباب كل من الطرفين للتعاون مع الآخر..... بصورة تفصيلية هناك مساعي من الحكومات البريطانية المتعاقبة، سواءً العمالية أو المحافظة بحثاً عن ما يسمى "المصلحة القومية"، لذلك نرى التواطؤ لعقود من الزمن مع القوى الإسلامية الراديكالية، بما فيها التنظيمات الإرهابية، خدمة لمصالحها الخارجية السياسية، لذا فإن أي تهديد لبريطانيا اليوم ليس مجرد "رد فعلي عكسي"، نظراً لأنها أسهمت بنفسها، تاريخياً، في تطور الإرهاب العالمي.... العلاقة بين بريطانيا والاخوان علاقة منفعة متبادلة !!...بطبيعة الحال، لم يكن عمل الحكومة البريطانية مع تلك القوى الإسلامية المتطرفة بسبب موافقتها لهم وإنما لأنهم "كانوا مفيدين لها في لحظات معينة"، ويبدو أن الجماعات الإسلامية تعاونت مع بريطانيا لـ "الأسباب النفعية ذاتها، ولأنهم يشتركون مع البريطانيين في الكراهية نفسها تجاه النزعة الوطنية أو ضدّ كل تيار آخر يحقق الشعبية الوطنية".....علاقة بريطانيا بالإخوان موغلة في القدم، حيث ترجع جذور تواطئها مع قوى الإسلام الراديكالي، في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى إلى سياسات الحقبة الإمبراطورية، إلا أن بريطانيا سعت لتكون "صديقةً للإسلام" منذ 1914 تحديداً، حيث راحت تدافع عن الخلافة الإسلامية "حتى وإن كانت خلافة احتلال وضرورة" لبسط نفوذها.....
ولم تتوقف بريطانيا عند هذا الحد، سعياً لأخذ زمام المبادرة وإعادة تأكيد وجودها في آسيا، حيث قدمت الدعم السري للفصائل الإسلامية التي واجهت النظام السوفييتي الجديد، وبعد سنة من قيام الثورة الروسية، في أغسطس ( 1918 )، أرسلت بريطانيا جيشها إلى داخل آسيا الوسطى للقتال إلى جانب رجال القبائل التركمانية والحكومة المتمردة في عشق آباد، عاصمة تركمانستان في الوقت الحاضر، ضد القوات البلشفية المتحركة جنوباً..... وشهدت سنوات الحرب العالمية الأولى نمواً مستمراً للإخوان المسلمين "الذين تطوروا في ظل قيادة حسن البنا إلى حركة إسلامية جماهيرية"، وقد أصبحت أكبر جمعية إسلامية في مصر وأقامت فروعاً لها في السودان والأردن وسوريا وفلسطين وشمال إفريقيا، ودعا الإخوان المسلمون إلى الالتزام الصارم بتعاليم الإسلام وقدموا "بديلاً دينياً" لكل من الحركات القومية العلمانية والأحزاب الشيوعية في مصر والشرق الأوسط..... على صعيد أخر شهدت فترة الثلاثينيات توتراً في العلاقة بين الجماعة ولندن، فكانت الاستراتيجية البريطانية تجاههم، خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية، تنطوي على محاولات قمع الجماعة، ولكن في ذلك الوقت تمتع الإخوان، الذين تحالفوا مع قوى اليمين، برعاية النظام الملكي المصري الموالي لبريطانيا، والذي كان بدأ بتمويل الإخوان في سنة 1940....
جاء أول اتصال مباشر معروف بين مسؤولين بريطانيين والإخوان المسلمين في 1941، في وقت اعتبرت فيه الاستخبارات البريطانية أن أتباع التنظيم وخطط التخريب ضد البريطانيين "أشد المخاطر على الأمن العام" في مصر.... وبحلول عام 1942 كانت بريطانيا بدأت بتمويل الإخوان المسلمين، ففي 18 مايو عقد مسؤولو السفارة البريطانية اجتماعاً مع رئيس الوزراء المصري أمين عثمان باشا، حيث نوقشت العلاقات مع الإخوان المسلمين وتم التوصل إلى اتفاق على عددٍ من النقاط، كان أبرزها أن "تدفع معونات من حزب الوفد للإخوان المسلمين بتكتم من قبل الحكومة المصرية، وسوف يحتاجون بعض المساعدة المالية في هذا الشأن من السفارة البريطانية"..... كما اتُفقَ في الاجتماع على "بذل الجهد لإحداث انشقاق في حزب الوفد عن طريق استغلال أية خلافات قد تقع بين قائد التنظيم حسن البنا، والوكيل العام للتنظيم أحمد السكري"، ووعد البريطانيون بتسليم الحكومة قائمةً بأعضاء الإخوان المسلمين الذين يعتبرونهم خطرين، ولكن لن يكون هناك أية تحركات عدائية ضد التنظيم، بدلاً من ذلك، كانت السياسة المقررة "القتل بواسطة كرم الاخلاق" (أي الاحتواء التدريجي حتى القضاء على شوكة التنظيم) مع السماح لحسن البنا بإنشاء صحيفة ونشر مقالات "تساند المبادئ الديمقراطية"– واعتُقِد أن هذه ستكون طريقة جيدة لـ "المساعدة في تفتيت الإخوان".....كذلك ناقش الاجتماع كيفية قيام الإخوان بتشكيل "تنظيمات تخريبية" والتجسس لصالح النازيين، ووصفت بريطانيا الجماعة بأنها "تنظيم ديني ضيق الأفق وظلامي"، ولكنه تنظيم "بمقدوره إظهار قدرة على الصدام في أوقات الاضطراب"، بما في ذلك "فرق الانتحاريين". بوجود ما يقدر بمائة ألف إلى مائتي ألف نصير للإخوان، كانوا "مُعادين للأوروبيين، وللبريطانيين على نحو خاص، بسبب موقعهم الاستثنائي في مصر"، وبالتالي، فقد كان الإخوان "يتطلعون إلى انتصار المحور، الذي توهموا أنه سيجعلهم ذوي التأثير السياسي المهيمن في مصر".....
بحلول سنة 1944، كانت لجنة الاستخبارات السياسية البريطانية تصف الإخوان المسلمين بأنهم خطر محتمل، ولكن بقيادة ضعيفة، لأنها شعرت بأن حسن البنا كان "الشخصية اللامعة الوحيدة"، وبدونه "قد ينهار الإخوان بسهولة"، إلا أن هذا التحليل المائل لرفض الإخوان سوف يجري تنقيحه في السنوات القادمة، نظراً لقيام البريطانيين بتشجيع الإخوان والتعاون معهم في مواجهة تنامي العداء للاستعمار في مصر.....لذلك اعتبرت بريطانيا القوى الإسلامية بمثابة "عملاء مؤقتين ولغرض مخصوص لتحقيق أهداف محددة عندما افتقرت بريطانيا إلى حلفاء آخرين أو إلى قوة كافية لفرض أولوياتها"..... وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت جماعة الإخوان أحد الحزبين السياسيين المستندين إلى قاعدة جماهيرية في مصر، إلى جانب حزب الوفد المؤلف من وطنيين معتدلين، وبقي الملك فاروق يجد الإخوان المسلمين مفيدين باعتبارهم "حصناً منيعاً ضد الأفكار الاقتصادية والاجتماعية الراديكالية".... وكان يُعرف عن جماعة الإخوان قيامها بـ "تمرير المعلومات إلى الحكومة، لمساعدتها في اعتقالاتها المستمرة للشيوعيين الحقيقيين والمشتبه بهم، وبخاصة في الاتحادات والجامعات"، مع ذلك فقد كان التعايش صعباً على الدوام في خضم المعارضة المتزايدة للوجود البريطاني وسيل أعمال العنف التي هزت مصر بعد عام 1945....وسرعان ما تصاعدت المواجهة بين جماعة الإخوان– العازمة على طرد "المحتل" الأجنبي والسعي في نهاية المطاف لإقامة دولة إسلامية – وبين البريطانيين والقصر، وقد كانت الهجمات بالقنابل ضد الجنود البريطانيين أمراً مألوفاً في منطقة قناة السويس، كما قامت بعدد من محاولات الاغتيال لوزراء وأمناء شرطة. وفي ديسمبر 1948 وفي أعقاب ادعاء السلطات باكتشاف مخابئ سلاح جماعة الإخوان ومؤامرة للإطاحة بالنظام، تم حل التنظيم، وبحلول ديسمبر من عام 1949، كانت السفارة البريطانية في القاهرة تبلغ في تقاريرها بأن الملك فاروق "ذاهب لسحق" جماعة الإخوان"....لأن بريطانيا بدأت تعتبر الإخوان "خطراً محتملاً" بحلول 1944، حيث شنت الجماعة حملات تدميرية "ضد المستعمر"، أي بريطانيا، الأمر الذي لم يرضَ عنه الملك فاروق، ما جعله يأمر بحل التنظيم عام 1949.....
وفي خضم عمليته لـ "سحق الإخوان"، قام الملك فاروق بتمشيط اعتقل خلاله أكثر من مائة من أعضاء الجماعة، وفي الشهر التالي اغتيل مؤسس جماعة الإخوان نفسه، حسن البنا....ورغم عدم العثور على القاتل، إلا أن اعتقاداً واسعاً ساد بأن الشرطة السياسية نفذت العملية، إما بتخطيط لها أو بتغاضٍ من القصر، وقد أشار تقريرٌ للمخابرات البريطانية بجلاء إلى أن الحكومة "أوحت بالاغتيال، بموافقة القصر، إذ تقرر أنه ينبغي تصفية حسن البنا من مسرح نشاطاته بهذه الطريقة، فطالما أنه طليق، من المحتمل أن يمثل إحراجاً للحكومة، في حين أنه يكاد يكون من المؤكد أن إلقاء القبض عليه سيُفضي إلى مزيد من المتاعب مع أتباعه، الذين اعتبروه دون شك شهيد قضيتهم". إلا أن بريطانيا لم تغفل في ذلك الحين أن المتورطين في مقتل البنا قد يكونون جماعته أنفسهم....فبعد أيام من الحادث، التقى السفير البريطاني، السير رونالد كامبل، الملك فاروق، وعقب لقائه ذاك كتب في تقرير: "قلت إنني أعتقد أن الذي قام بالقتل ربما كانوا أتباع حسن البنا المتطرفين بدافع الخوف والشك في أنه كان يفشي أسراراً"، بينما ألقى الملك فاروق، بالتآمر مع دبلوماسيين بريطانيين، اللوم على "السعديين"، وهم مجموعة منشقة عن حزب الوفد سُمّوا تيمناً بزعيم الحزب السابق ورئيس الوزراء سعد زغلول.... من ناحية اخرى انتخبت جماعة الإخوان مرشداً جديداً لها، عقب اغتيال البنا، هو القاضي السابق حسن الهضيبي في أكتوبر 1951، وهو شخصية لم تقترن علناً بالإرهاب، وأبدى معارضةً لأحداث العنف في 1945-1949....رغم ذلك، لم يكن الهضيبي قادراً على تأكيد سيطرته على فصائل التنظيم المتنافسة أحياناً، فارتفعت نداءات الجهاد بين أفراد الجماعة مجدداً، داعين إلى القيام بهجمات ضد البريطانيين وممتلكاتهم، مع محاولة "الضغط على الحكومة المصرية لإعلان حالة الحرب مع بريطانيا"......
في ذاك الإطار، ذكر أحد تقارير السفارة البريطانية في القاهرة، أواخر عام 1951، أن جماعة الإخوان "تمتلك تنظيماً إرهابياً منذ وقت طويل ولم تتمكن الشرطة من تحطيمه أبداً"، إلا أن التقرير قلل أيضاً من أهمية نوايا الإخوان تجاه البريطانيين، ذاكراً أنهم كانوا "يخططون لإرسال إرهابيين إلى داخل منطقة القناة".....في الوقت نفسه، تُظهر الملفات البريطانية التي رفعت عنها السرية، في ديسمبر1951، أن المسؤولين البريطانيين كانوا يحاولون "ترتيب لقاء مباشر مع الهضيبي"، وقد عُقدت عدة اجتماعات مع أحد مستشاريه ويدعى فرغني بك....وتشير الدلائل من الملفات إلى أن قادة الإخوان، رغم نداءاتهم العامة لشن هجمات على البريطانيين، كانوا مستعدين تماماً للاجتماع بهم سراً، وبحلول ذلك الوقت، وبحسب وزارة الخارجية البريطانية، كانت الحكومة المصرية تعرض على الهضيبي رشاوى ضخمة لـ "منع الإخوان من الانخراط في مزيد من العنف ضد النظام".. في يوليو 1952، قام "الضباط الأحرار" بالإطاحة بالنظام الملكي المصري وبمستشاريه البريطانيين وبالحرس القديم، وأعلنوا "مجلس قيادة الثورة" برئاسة اللواء محمد نجيب وجمال عبد الناصر نائباً له، إلا أن الصراع بينهما أفضى تدريجياً إلى عزل نجيب في أواخر سنة 1954 وتولي عبد الناصر كامل الصلاحيات، وكان الإخوان المسلمون مسرورين لرؤية نهاية نظام الملك المؤيد للغرب، حيث كانت لهم صلات مباشرة مع الضباط الأحرار.....
في بدايات عام 1953، عقد مسؤولون بريطانيون اجتماعاً مباشراً مع الهضيبي ، بدعوى "سبر موقفه من المفاوضات المقبلة بين بريطانيا والحكومة المصرية الجديدة حول جلاء القوات العسكرية البريطانية من مصر".... وحيث أن بعض الملفات البريطانية ما تزال الرقابة مفروضة عليها، فإنه لا يُعرف بدقة ما حدث في تلك الاجتماعات، إلا أن المحلل الغربي الرئيس لجماعة الإخوان المسلمين المصرية ريتشارد ميتشل، قام بتوثيق ما قالته لاحقاً مختلف الأطراف، بريطانيا والحكومة المصرية وجماعة الإخوان، عن تلك الاجتماعات، حيث يؤكد أن دخول الإخوان المسلمين في تلك المفاوضات كان بطلب من البريطانيين، ونجم عن دخولهم فيها "مصاعب للمفاوضين من طرف الحكومة المصرية، الأمر الذي كان من شأنه إمداد الجانب البريطاني بالتأثير والنفوذ".... وكان الهضيبي بموافقته على إجراء تلك المحادثات يُضعف يد الحكومة، ما جعل نظام عبد الناصر يشجب تلك الاجتماعات بين البريطانيين وجماعة الإخوان باعتبارها "مفاوضات سرية، من وراء ظهر الثورة"، ووجه الاتهام علناً للمسؤولين البريطانيين بالتآمر مع الإخوان.... ومن هذا نخلص إلى أن الاستراتيجية البريطانية اعتمدت منطقها الممنهج الدائم عبر تطبيق سياسة "فرق تسد"، بهدف التأثير على نظام الحكم الجديد في مصر بما يخدم مصالحها، إذ أن رعايتها لجماعة الإخوان تعزز من مكانة هذه الأخيرة على حساب النظام الحاكم الجديد، الذي لم يكن موالياً لبريطانيا....
على صعيد أخر وإكمالاً لسياستها "المزدوجة" التي اتبعتها سابقاً في مصر، تشير المذكرات الداخلية البريطانية إلى قيام مسؤولين بريطانيين بإعلام عبد الناصر ببعض اجتماعاتهم مع الهضيبي وأعضاء آخرين من الإخوان، ليطمئنوه بأن لندن لم "تقم بفعل شيء سري".... إلا أن حقيقة انعقاد تلك اللقاءات، بحد ذاتها، غرست الشك في ذهن عبد الناصر بخصوص الثقة بجماعة الإخوان، بينما اعتقد المسؤولون البريطانيون هذه المرة بأن الجماعة، وفصائلها شبه العسكرية، كانت "تحت تصرف السلطات العسكرية".....وتشتمل الملفات البريطانية كذلك على مذكرة لقاء بين مسؤولين بريطانيين وآخرين من جماعة الإخوان في 7 فبراير1953، ذُكِر فيها أن شخصاً اسمه أبو رقيق، أو أبو رقيقة، أخبر المستشار الشرقي في السفارة البريطانية، تريفور إيفانز، بأنه "لو بحثت مصر في العالم عن صديق فلن تجد سوى بريطانيا".... وتُرجِم هذا التعليق، من قِبَل السفارة البريطانية في القاهرة، باعتباره يُظهر "وجود مجموعة داخل قادة الإخوان كانت على استعداد للتعاون مع بريطانيا" تحديداً، حيث لم يكن الإخوان يثقون في الولايات المتحدة الأمريكية، وتشير الملفات أيضاً إلى أن الاستعداد للتعاون "ربما ينبع من تأثير الطبقة الوسطى المتزايد في جماعة الإخوان بالمقارنة مع الصفة الشعبية الغالبة على قيادة الحركة في أيام حسن البنا".....وازدادت رغبة الإنجليز وجماعة الإخوان بالتعاون معاً باقتراب نهاية عام 1953، وهو الوقت الذي كان فيه نظام عبد الناصر يوجه الاتهام إلى جماعة الإخوان بأنهم "يقاومون الإصلاح الزراعي، ويقومون بأعمال تخريبية ضد الجيش من خلال جهازهم السري".....
واشتبك أنصار الحكومة وجماعة الإخوان المسلمين، في جامعة القاهرة، في يناير 1954، وقد أصيب عشرات من الأشخاص وأحرقت سيارة تابعة للجيش، ما دفع عبد الناصر إلى حل التنظيم، وكان من ضمن قائمة طويلة من الاتهامات الموجهة ضد الإخوان في المرسوم "اللقاءات التي عقدتها الجماعة مع البريطانيين، والتي صعَّدها النظام لاحقاً لتصل إلى "معاهدة سرية".....في أكتوبر من العام نفسه، كانت جماعة الإخوان تسعى للترويج لانتفاضة شعبية، وحاول "جهازها السري" أن يغتال عبد الناصر بينما كان يلقي خطبةً في الإسكندرية، ما أسفر عن اعتقال وهروب الكثيرين منهم....وفي ديسمبر أعدم ستة من أعضاء الجماعة، ما أدى إلى "سحق التنظيم بشكل فعال"، وكان من بين الذين اعتُقِلوا عضو مجلس الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين سيد قطب، الذي كان قد حُكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة 25 سنة، والذي سيصبح في عقد الستينيات واحداً من المنظرين الرئيسيين للإسلام المتطرف والعنفي، حيث كان يكتب من سجون عبد الناصر.....رغم أن الرقابة لا تزال مفروضةً على كثير من الملفات البريطانية حول "أزمة السويس"، إلا أن بعض المعلومات تسربت على مدى السنوات الماضية بخصوص شتى المحاولات البريطانية للإطاحة بعبد الناصر أو قتله، باعتباره مناهضاً للإمبريالية المتمثلة في بريطانيا، ولجماعة الإخوان المسلمين المدعومة من قِبَل المملكة المتحدة......
إحدى المعلومات المُسربة تشير إلى تآمر بريطانيا مع جماعة الإخوان المسلمين في هذا الصدد، حيث يشير الأكاديمي والمؤلف البريطاني ستيفن دوريل إلى أن كلاً من العميل التنفيذي للعمليات الخاصة وعضو البرلمان المحافظ نيل بيلي ماكلين، ورئيس "جماعة السويس" في صفوف أعضاء البرلمان جوليان إمري، ورئيس مركز المخابرات البريطانية في جنيف نورمان ديربيشاير، قاموا باتصال مع جماعة الإخوان في سويسرا، باعتبارهاَ جزءاً من صلاتهم السرية مع المعارضة لعبد الناصر....ولم تظهر أبداً أية تفصيلات أخرى حول لقاءات جنيف تلك، ولعل أبرز ما يمكن التكهن به أنها انطوت على محاولة اغتيال، أو إقامة حكومة في المنفى، لتحل محل عبد الناصر بعد حرب السويس..... إلى ذلك، كان الدبلوماسي، والمفوض الأعلى لبريطانيا في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، السير إيفون كيركباتريك، يخشى في سبتمبر 1956، من أن استيلاء عبد الناصر على قناة السويس سوف "ينهي المعارضة المصرية"، ومن المحتمل أنه كان يعني بذلك الإخوان المسلمين، ومن المؤكد أن المسؤولين البريطانيين كانوا يرصدون بحذر نشاطات جماعة الإخوان المعادية لنظام الحكم، وأقروا بأنها كانت ترقى إلى درجة التحدي الخطير لعبد الناصر.... ومن الأدلة الأخرى على أن البريطانيين كان لهم اتصالات مع التنظيم في أواخر سنة 1955، هي قيام أعضاء من جماعة الإخوان بزيارة الملك فاروق، الذي كان حينها في المنفى في إيطاليا، لاستطلاع تعاونه معهم ضد عبد الناصر، وفقاً لضابط المخابرات الأمريكية السابق روبرت باير.....
وفي أغسطس1956، كشفت السلطات المصرية عن عصابة تجسس بريطانية في البلاد واعتقلت أربعة بريطانيين، بما فيهم مدير أعمال وكالة الأنباء العربية، واجهة المخابرات البريطانية ومقرها في القاهرة، جيمس سوينبيرن، كما طُرِد اثنان من الدبلوماسيين البريطانيين الضالعين في جمع المعلومات الاستخبارية.... من الواضح أن أولئك البريطانيين كانوا على اتصال مع "عناصر طلابية ذات ميول دينية"، وساهموا في إثراء فكرة "تشجيع أعمال شغب أصولية من شأنها أن توفر عذراً للتدخل العسكري لحماية أرواح الأوروبيين".....وتحالفت بريطانيا في أكتوبر من عام 1956، مع فرنسا وإسرائيل، لشن عدوانها على مصر لإسقاط عبد الناصر، ولكنَّ رفضَ الولايات المتحدة مساندة هذا التدخل أوقفَ العدوان إلى حد كبير، فيما كانت بريطانيا تعلم أن الإخوان المسلمين قد يصبحون "المستفيد الأساسي من العدوان وقد يشكلون حكومةً ما بعد عبد الناصر"، وتشير مذكرات السفارة البريطانية إلى أن المسؤولين البريطانيين اعتقدوا أن هذا السيناريو "ممكن" و"محتمل".... ولكن، في ظل تكرار تقييمهم لقدرات القائد الشيعي آية الله كاشاني في إيران ـ والذي أسس فرعاً غير رسمي للإخوان المسلمين في إيران عام 1945- خشي المسؤولون البريطانيون من أن ينجم عن استيلاء الإخوان المسلمين على الحكم "نموذج حكم أكثر تطرفاً" في مصر، كما حدث في إيران، ورغم ذلك لم يمنعهم هذا الأمر من أن يعملوا مع هذه القوى.....
وبعد عدة أشهر من الهزيمة التي تلقتها بريطانيا على يد عبد الناصر، في بدايات عام 1957، كان المسؤول الذي قاد الاتصالات البريطانية مع جماعة الإخوان قبل أربع سنوات، تريفور إيفانز، يكتب مذكرات يوصي فيها بأن "زوال نظام عبد الناصر، ينبغي أن يكون هدفنا الأساسي"، وأشار مسؤولون آخرون إلى أن جماعة الإخوان بقيت نشطةً ضد عبد الناصر داخل مصر وخارجها، في الأردن على نحو خاص، التي كانت تُشَنّ منها "حملة دعاية قوية" ضده.... وبالتالي، فقد كانت بريطانيا على استعداد تام للتآمر سراً مع قوىً إسلامية في إيران ومصر، مستغلةً إياهم لغايات إمبريالية باعتبارهم "جزءاً من ترسانة أسلحتها في العمل السري"، إلا أن هذه الجماعات لم تكن تُعتبر حلفاء استراتيجيين، بل على النقيض عُرفوا باعتبارهم "معادين معلنين للبريطانيين"، لذا من المثير للاهتمام أن بريطانيا لجأت للعمل مع هذه القوى وهي تعلم بأنها أشد معاداةً للبريطانيين من أنظمة الحكم التي تسعى الحكومة البريطانية للإطاحة بها..... لكن ما رأته بريطانيا في تلك الجماعات هو قوتها وقدرتها على التأثير في الأحداث، بوصفها "جند تساعد بريطانيا كي تُبقي على شيءٍ من نفوذها في عالم ما بعد الحرب، حيث كانت قوتها في حالة تراجع"، لكن التواطؤ مع هذه القوى سيتكرر في العقود اللاحقة، حتى عندما "أصبح للجماعات الجهادية الإرهابية المُعلنة تأثير في الأحداث"......
يُذكَر أنه عندما طرد عبد الناصر الإخوان المسلمين من مصر، خلال إجراءاته الصارمة ضدهم في سنة 1954، انضم إليهم عراقيون هاربون من أنظمة الحكم القومية التي استولت على السلطة في تلك البلاد خلال موجة الاضطرابات، ولم يتوقف الأمر عند الدول العربية فحسب، ففي أوروبا أيضاً بدأ الإخوان المسلمون المنفيون بإقامة شبكات مُشكلين فرعاً دولياً في ميونخ بإدارة سعيد رمضان....وبحلول نهايات عقد الخمسينيات، كانت الولايات المتحدة قد بدأت أيضاً بتمويل جماعة الإخوان، ويُزعم أن المخابرات الأمريكية تبنَّت، بالاشتراك مع شركة النفط الأمريكية أرامكو، استحداث خلية دينية خارج مصر...وأخذ التصدي الأنجلو- أمريكي للقومية العربية أشكالاً عدة منها مؤامرتان، على الأقل، ما بين 1956 و1957 للإطاحة بحكومات في سوريا، ورغم أنهما لم توضعا موضع التنفيذ، إلا أن التخطيط وراءهما يُظهر رغبة أنجلو- أمريكية للعمل ثانيةً مع جماعة الإخوان المسلمين.... إلى ذلك اشتملت "عملية شرود تيه"، أي الانتشار دون اتساق، على محاولة "تجنيد جماعة الإخوان المسلمين لإحداث قلاقل في البلاد"، حيث كان المسؤولون البريطانيون على دراية تامة بالقوة السياسية المتنامية للجماعة في سوريا، ففي ديسمبر 1954، قام السفير البريطاني في دمشق، جون غاردنر، بإعلام وزير الخارجية البريطاني، آنذاك، أنتوني أيدن بـ "المظاهرات الضخمة التي نظمتها جماعة الإخوان في سوريا"، والتي حدثت في أعقاب الإجراءات الصارمة التي قامت بها مصر ضد الحركة.....
وأشار مسؤول آخر إلى أن "جماعة الإخوان نجحت، خلال وقت قصير نسبياً، في تأسيس موقف مؤثر في سوريا"، إلا أن تأثيرات ذلك لم تكن إيجابيةً بالنسبة للمصالح البريطانية، طالما أنها "لن تفضي إلا للمزيد من الميول الراهنة تجاه القومية والشعور المناهض للغرب"، وبالتالي كانت بريطانيا، مرةً أخرى، تتآمر سراً مع القوى الإسلامية، على غرار سياستها في إيران ومصر، بغية تحقيق هدف محدد وقتها، غير غافلةٍ عن أنهم ضارين بالمصالح البريطانية طويلة الأجل....وفيما قامت السلطات السورية بإحباط "عملية شرود"، في أكتوبر 1956، واعتقلت بعض المتآمرين الرئيسيين، استؤنف التآمر البريطاني مع الأمريكيين ضد سوريا، بعد فترة وجيزة من فشل العدوان على مصر....وبحلول سبتمبر 1957، قام فريق عمل سري مجتمع في واشنطن بتعميم تقرير يحمل عنوان "الخطة المفضلة"، بسبب قيام الحكومة السورية بتوقيع اتفاقية مساعدة فنية مع الاتحاد السوفيتي، وبتعيين شخصية مؤيدة للشيوعيين رئيساً لهيئة أركان الجيش.... وعلى الرغم من الشكوك إزاء جماعة الإخوان، انطوت هذه الخطة الجديدة مرةً أخرى على إغرائهم وإثارتهم في دمشق، وستكون مشاركتهم عنصراً رئيسياً في استثارة انتفاضة داخلية تمهيداً للإطاحة بالحكومة السورية.... وقد كانت المؤامرة، المدعومة من أعلى المستويات في بريطانيا، تشتمل على تسليح "فصائل سياسية بإمكانات شبه عسكرية أو غيرها من إمكانات العمل المباشر في السياسة"، والتي من المرجح أن تكون قد اشتملت على الإخوان المسلمين....
حمدى السعيد سالم-;- صحافى ومحلل سياسى واستراتيجى
#حمدى_السعيد_سالم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكيانات الحزبية الدينية اللقيطة
-
التكنولوجيا هى الحل الأمثل لكل مشاكل مصر المستعصية
-
إلا أمننا القومى يا وزيرة التعاون الدولى
-
ولكم فى التجربة الصينية حياة يا أولى الالباب
-
عليك ان تختار
-
احزاب ورقية يجب حلها
-
لو كانت الفهلوة رجلاً لقتلته
-
اصفع الاخوانى على قفاه يحترمك مدى الحياة
-
خصخصة القطاع العام وبيعه خرب البلد
-
ماذا يحدث تحديدا؟
-
فتش عن المستفيد تعرف من الجانى
-
الجشع والجوع السياسى
-
لا تصالح معهم افرضوا القانون
-
سلملى على خالتك شرعية
-
التنوير قبل التثوير
-
حزب الزور السلفى
-
الحوثيون ... لماذا؟!
-
سقوط اليمن
-
الطالع السياسى لإسرائيل فى عام 2015
-
روشتة علاج لكى تخروج مصر من أزمتها الحالية
المزيد.....
-
برلمان كوريا الجنوبية يصوت على منع الرئيس من فرض الأحكام الع
...
-
إعلان الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. شاهد ما الذي يعنيه
...
-
ماسك يحذر من أكبر تهديد للبشرية
-
مسلحو المعارضة يتجولون داخل قصر رئاسي في حلب
-
العراق يحظر التحويلات المالية الخاصة بمشاهير تيك توك.. ما ال
...
-
اجتماع طارئ للجامعة العربية بطلب من سوريا
-
هاليفي يتحدث عما سيكتشفه حزب الله حال انسحاب انسحاب الجيش ال
...
-
ماسك يتوقع إفلاس الولايات المتحدة
-
مجلس سوريا الديمقراطية يحذر من مخاطر استغلال -داعش- للتصعيد
...
-
موتورولا تعلن عن هاتفها الجديد لشبكات 5G
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|