|
ما هي الأنوار ؟ قراءة ميشيل فوكو لمقال كانط حول الأنوار
أحمد الطريبق
الحوار المتمدن-العدد: 4752 - 2015 / 3 / 18 - 14:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ما هي الأنوار؟ يبدو لي أن هذا النص، يكشف عن نموذج جديد من السؤال في مجال التفكير الفلسفي. بالطبع، إنه ليس الأول في تاريخ الفلسفة، ولا الوحيد لدى كانط الذي يموضع سؤالا يخص التاريخ. نجد لدى كانط نصوصا تطرح على التاريخ سؤالا أصليا: نص حول بدايات التاريخ نفسه، نص عن تحديد مفهوم السلالة، نصوص أخرى تطرح على التاريخ أسئلة حول شكل الاكتمال: وهكذا فإنه في نفس سنة 1784، فكرة تاريخ شامل من وجهة نظر كونية. ثم نصوص أخرى تتساءل عن الغاية الداخلية التي تنظم الصيرورات التاريخية، مثل النص المخصص لاستعمال المبادئ التيليولوجية Téléologie، كل هذه الأسئلة المترابطة بقوة، تعبر بالفعل عن تحاليل كانط بخصوص التاريخ؛ يبدو لي أن النص حول الأنوار هو نص مختلف جدا. في كل الأحوال، فإنه لا يطرح أية من الأسئلة المذكورة، ولا تلك المتعلقة بالأصل، ولا حتى ظاهريا تلك المتعلقة بالاكتمال. وهي تطرح نسبيا بطريقة متسترة، وتقريبا عرضية، سؤال التيليولوجيا المحايثimmanent لصيرورة التاريخ نفسه. السؤال الذي يبدو لي أنه ظهر لأول مرة في هذا النص لكانط، هو سؤال الحاضر، سؤال الراهنيةactualité : ما الذي يحصل اليوم ؟ وما هو هذا الحاضر الذي نحن في داخله كلنا، والذي يحدد اللحظة التي أنا أكتب فيها ؟ ليست المرة الأولى التي نجد فيها تفكيرا فلسفيا يحيل على الحاضر، على الأقل كشرط تاريخي محدد وله قيمة بالنسبة للتفكير الفلسفي. على أية حال، فحينما تكلم ديكارت في بداية " خطاب في المنهج " عن طريقه ومجموعة القرارات الفلسفية التي اتخذها في نفس الوقت لنفسه وللفلسفة، فإنه كان يحيل بشكل واضح على شيء يمكن اعتباره شرطا تاريخيا، في نظام المعرفة والعلوم في عصره. لكن في هذا النوع من الإحالات، يتعلق الأمر دائما بإيجاد ذلك المظهر المتعين كحاضر، كسبب لاتخاذ قرار فلسفي، لن تجد عند ديكارت سؤالا من نوع: ما هو هذا الحاضر الذي أنتمي إليه ؟ بيد أن السؤال الذي نرى كانط يجيب عليه، والذي ألزم بالإجابة عنه لأنه طرح عليه، هو سؤال آخر، ليس فقط: ما الذي يمكن في هذا الشرط الراهن أن يحدد هذا أو ذاك القرار في النظام الفلسفي ؟ السؤال يتعلق بما هو هذا الحاضر، إنه يتعلق بداية بتحديد عنصر ما للحاضر الذي ينبغي الاعتراف به وتمييزه وعزله عن الأسئلة الأخرى، ما الذي يعطي في الحاضر معنى حاليا لتفكير فلسفي ؟ في الجواب الذي حاول كانط أن يطرحه عن هذا التساؤل، يعمل على إظهار ما الذي يحمل في هذا العنصر من إشارة، عن صيرورة تتعلق بالفكر والمعرفة والفلسفة، بل يتعلق الأمر بإظهار في ماذا وكيف أن الذي يتكلم كمفكر، هو نفسه جزء من هذه الصيرورة، وأكثر من ذلك، كيف له دور في هذه الصيرورة التي هو فيها موجود كعنصر وكفاعل. إننا نجد باختصار في نص كانط ظهورا لسؤال الحاضر، بوصفه حدثا فلسفيا ينتمي إليه الفيلسوف نفسه الذي يطرحه. إذا أردنا أن نتصور الفلسفة كشكل من الممارسة الخطابية التي لها تاريخها الخاص بها، فإنه يبدو لي أنه مع هذا النص حول الأنوار، نرى الفلسفة، وأعتقد أنني لا أبالغ في الأشياء إذا قلت إنها المرة الأولى التي تصاغ فيها الراهنية الخطابية الخاصة: راهنية تساءل كحدث ينبغي أن يتبين معناه وقيمته وفرادته الفلسفية، والذي ينبغي فيه أن يجد سبب وجوده الخاص، وأسس ما تقوله. ومن هنا أيضا نرى أنه بالنسبة للفيلسوف، فإن طرح سؤال حول انتمائه إلى مذهب أو تقليد، لن يكون فقط سؤالا حول انتمائه بشكل عام لمجموعة بشرية، بل انتمائه ل" نحن " معينة، ل " نحن " يرتبط بمجموعة ثقافية، ولمجموعة ثقافية لها مميزاتها الراهنية الخاصة. هذا " النحن " هو الذي بصدد أن يصبح صيرورة بالنسبة للفيلسوف، وموضوع تفكيره الخاص، ومن هنا تحديدا، تتأكد استحالة العمل باقتصاد في التساؤل بالنسبة للفيلسوف، علاقة بانتمائه الفريد إلى هذا "النحن". بالنسبة للفلسفة بوصفها صياغة لإشكالية الراهن، وبوصفها تساؤلا من قبل الفيلسوف عن هذه الراهنية التي هو جزء منها، والتي بالعلاقة معها عليه أن يتحدد فيها، يميز الفلسفة كخطاب للحداثة وعن الحداثة. لكي نتكلم بوضوح أكثر، فإن سؤال الحداثة قد طرح في الثقافة الكلاسيكية حسب محور بقطبين، الواحد في العصر القديم والثاني في الحداثة، إنه صيغ إما بألفاظ سلطة ينبغي قبولها أو رفضها (أية سلطة يجب قبولها ؟ أي نموذج ينبغي اتباعه؟...الخ)، أو بصفة (متلازمة معها) قيمة مقارنة: هل كان القدماء أفضل من الذين في الحداثة ؟ هل نحن في مرحلة من الانحطاط،... الخ ؟ نرى ازدهار طريقة جديدة في طرح أسئلة الحداثة، ليس في علاقة طولانية بالقدماء، بل فيما يمكن أن نسميه علاقة بيانية sagittal براهنيتها الخاصة. على الخطاب أن يأخذ راهنيته من جديد في اعتباره، من جهة لكي يجد فيها مكانه الخاص به، ومن جهة لكي يفصح عن معناه، وأخيرا لكي يخصص نموذج الحركة التي هو قادر على إنجازها داخل راهنيته. ما هي راهنيتي ؟ ما هو معنى هذه الراهنية ؟ وما الذي أفعله حينما أتكلم عن هذه الراهنية ؟ هذا هو ما يبدو لي يرتكز عليه هذا التساؤل الجديد حول الراهنية. ليس هنا سوى ممر ينبغي استثماره عن قرب، ينبغي إعمال الجينيالوجيا، ليس بالضبط عن مفهوم الحداثة، بل عن الحداثة كسؤال. على كل حال، ولو تناولت نص كانط كمنطلق ظاهر لهذا السؤال، فإنه بالطبع يبقى هو نفسه جزء من الصيرورة التاريخية الأوسع التي ينبغي قياسها. سيكون بدون شك، أحد المحاور المهمة لدراسة القرن الثامن عشر بصفة عامة، والأنوار بصفة خاصة، بدل التساؤل عن الحال التالي: الأنوار سمى نفسه الأنوار، إنها بدون شك صيرورة متفردة أن تعي نفسها وتسميها، وأن تتحدد بالمقارنة مع ماضيها، وأن تعين العمليات التي يجب أن تنجز داخل حاضرها الخاص بها. أليس الأنوار هي وحدها العصر الأول الذي سمى نفسه بنفسه، والذي بدل أن يميز نفسه فقط، حسب تقليد قديم كعصر انحطاط أو ازدهار، عظمة أو بؤس، فإنه يتسمى من خلال حدث ما يعود إلى تاريخ عام للفكر، وللعقل وللمعرفة التي عليه أن ينجز دوره في داخلها ؟ الأنوار هي مرحلة، وهي مرحلة تصوغ بنفسها عملتها ومبدأها، وتقول بنفسها ما عليها أن تفعله بالعلاقة مع حاضرها وبأشكال المعرفة وواجبها وجهلها ووهمها، والتي فيها تتعرف على شرطها التاريخي. يبدو لي أنه في هذا السؤال للأنوار، نرى أحد المظاهر لشكل معين للتفلسف الذي كان له تاريخ طويل منذ قرنين. إنها إحدى الوظائف الكبرى للفلسفة المسماة حديثة (تلك التي يمكن أن نحدد فيها البداية القصوى لنهاية القرن الثامن عشر) حيث تتساءل عن راهنيتها الخاصة بها. يمكن أن نتابع مسار هذه النموذجية للفلسفة من خلال القرن التاسع عشر إلى اليوم. الشيء الوحيد الذي يمكن أن أؤكد عليه لحد الآن، هو أن كانط لم ينس هذا السؤال الذي عالجه في 1784، للإجابة عن سؤال كان قد طرح عليه من الخارج. فقد أعاد طرحه بنفسه، وحاول الإجابة عليه بمناسبة حدث آخر هو أيضا لم يكف عن التساؤل، هذا الحدث هو الثورة الفرنسية. أكمل كانط في 1798 النص الذي كان قد كتبه في 1784. كان يحاول في هذه السنة أن يجيب على السؤال الذي طرح عليه: " ما هي الأنوار التي نحن جزء منها؟" وفي 1798 حاول الإجابة على سؤال كانت الراهنية تطرحه، غير أنه كان مصاغا منذ 1794 من خلال كل النقاشات الفلسفية في ألمانيا. كان هذا السؤال: " ما هي الثورة ؟ " تعرفون أن صراع الكليات هو مجموعة لثلاثة مقالات عن العلاقات بين مختلف الكليات التي كانت تشكل الجامعة. المقال الثاني يتعلق بالصراع بين كلية الفلسفة وكلية الحقوق. بيد أن كل ميدان العلاقات بين الفلسفة والحقوق كان مسكونا بالسؤال: هل هناك تقدم دائم بالنسبة للنوع الإنساني ؟ " وللإجابة على هذا السؤال، حافظ كانط في الفقرة الخامسة لهذا المقال على البرهان التالي: إذا كنا نريد الجواب على السؤال " هل هنالك تقدم دائم للنوع الإنساني ؟ " فإنه ينبغي تحديد فيما إذا كان هناك سبب ممكن لهذا التقدم، لكن، حينما نجد هذه الإمكانية، يجب أن نبين أن هذا السبب يؤثر فعليا، ولأجل ذلك ينبغي إيجاد حدث يبين أن هذا السبب يؤثر في الواقع. بالمحصلة، فإن تعيين سبب لا يمكنه إطلاقا أن يحدد إلا مفعولات ممكنة، أو بالأحرى إمكانية المفعول، لكن حقيقة المفعول لا يمكن أن تقام إلا بوجود حدث. لا يكفي إذن أن نتتبع اللحمة التليلوجية التي تعطي إمكانية التقدم، ينبغي عزل الحدث الذي له قيمة الدليل داخل التاريخ. دليل ماذا ؟ دليل وجود سبب دائم يكون طول التاريخ نفسه قد قاد البشر نحو طريق التقدم، سبب دائم نستطيع إذن أن نبرهن أنه أثر سابقا ويؤثر الآن وسيؤثر لاحقا. الحدث إذن الذي سيسمح لنا بتقرير إن كان هناك تقدم، سيكون دليلا تقديريا، برهانيا، تذكيريا rememorativom,demonstrativom, pronosticom. يجب أن يكون دليلا يبرهن أن الأشياء كانت دوما هكذا (هذا هو الدليل التذكيري)، دليلا يبرهن أن الأشياء تحدث الآن كذلك (الدليل البرهاني)، وأخيرا دليلا يبرهن أن الأشياء ستحدث باستمرار كذلك (الدليل التقديري). وبهذا الشكل نستطيع أن نتيقن بأن السبب الذي يمكن من التقدم لم يؤثر فقط في لحظة معينة، بل يضمن اتجاها عاما للنوع البشري في كليته، ويسير في اتجاه التقدم. هنا السؤال: " هل يوجد حولنا حدث يكون تذكيري وبرهاني وتقديري لتقدم دائم يحمل النوع الإنساني في كليته ؟ " الجواب الذي يعطيه كانط قد أدركتموه، لكنني أريد أن أقرأ عليكم الفقرة التي فيها سيدخل الثورة بوصفها حدثا له قيمة الدليل هذه. " لا تنتظروا" يكتب كانط في بداية الفقرة السادسة " أن يكون هذا الحدث في الحركات الكبرى والعطاءات المهمة المنجزة من قبل البشر، والتي بموجبها فإن الكبير من البشر سيصبح صغيرا والصغير سيصبح كبيرا، ولا في العتيق واللامع من البنيان التي تختفي بفعل سحري، وفي مكانها تبرز أخرى من أعماق الأرض، إطلاقا، لا شيء من هذا ". يحيل كانط طبعا في هذا النص إلى الأفكار التقليدية التي تبحث عن حجج التقدم أو عدمه للنوع الإنساني، في انقلاب الإمبراطوريات، وفي الكوارث الكبرى التي تختفي فيها الدول الأكثر قوة، وفي الثروات التي تضعف القوى القائمة وتظهر أخرى جديدة. انتبهوا، يقول كانط لقرائه، لا ينبغي أن نبحث في الأحداث الكبرى عن الدليل التذكيري والبرهاني والتقديري للتقدم، بل في الأحداث الأقل أهمية والأقل ظهورا. لا يمكننا أن نقوم بهذا التحليل لحاضرنا الخاص في هذه القيم الدالة، بدون أن نرجع لترميز يسمح بإعطاء الدلالة والقيمة المهمة التي نبحث عنها، لما هو ظاهر وبدون دلالة وقيمة. لكن ما هو هذا الحدث الذي ليس بحدث كبير ؟ هناك بالطبع مفارقة بالقول إن الثورة ليست بالحدث البارز. ألا يكون هذا نفسه مثلا للحدث الذي يقلب، والذي يجعل من الكبير صغيرا والصغير كبيرا، والذي يبتلع البنيات البادية بوصفها الأكثر صلابة لمجتمع ودول ؟ بيد أنه بالنسبة لكانط، ليست هذه الصفة للثورة هي التي تعطي المعنى. إن الذي يشكل القيمة التذكيرية والبرهانية والتقديرية، ليس هو مأساة الثورة نفسها، وليس الاستفادات الثورية، ولا الحركات التي ترافقها. ما هو دال، هو الطريقة التي بها تعرض الثورة كفرجة، والطريقة التي بها تستقبل من قبل المتفرجين الذين لا يشاركون فيها، بل يشاهدونها، يحضرونها ويدعون أنفسهم ينجرون وراءها. ليس الانقلاب الثوري هو الذي يشكل حجة التقدم، أولا لأنه لا يفعل سوى قلب الأشياء، ثم لأنه إذا أعطيت الفرصة من جديد للقيام بالثورة، فإنه لن يقدم عليها. هناك إذن نص مهم جدا: " لا يهم، يقول كانط، إذا كانت ثورة شعب مملوء بالروح، كما رأينا ذلك يحدث في أيامنا هذه (الأمر يتعلق بالثورة الفرنسية إذن)، لا يهم إن نجحت أم لا، ولا يهم إذا راكمت البؤس والعنف، وإذا راكمت إلى درجة أن رجلا عاقلا ومتمكنا من إنجازها لن يقبل عليها بهذا الثمن الذي تتطلبه." إذن ليست الصيرورة الثورية هي الأهم، لا يهم إن نجحت أو فشلت، فليس لهذا أي علاقة بالتقدم، أو حتى بدلالة التقدم الذي نبحث عنه. إن فشل أو نجاح الثورة ليستا دلالة على التقدم أو إشارة لعدم التقدم. لكن إذا كانت هناك فرصة لأحد أن يعرف الثورة، ويعرف كيف تجري وفي نفس الوقت يحسن تسييرها، فإنه سيقدر تكلفتها ولن يقدم عليها. إذن، إن الثورة في حد ذاتها بوصفها عملا يحتمل النجاح أو الفشل، بوصفها ثقيلة التكلفة، لا يمكن أن تعتبر كدليل بأنه يوجد سبب قادر على ضمان التقدم الدائم للإنسانية عبر التاريخ. في المقابل، فإن ما يشكل دليل التقدم، هو أنه هناك حول الثورة، كما يقول كانط " التعاطف الطموح الذي يثير الحماس "، ما هو مهم في الثورة، ليس هو الثورة نفسها، بل ما يجول في رأس أولائك الذين لا يقومون بها أو ليسوا محركوها الأساسيون، إنها العلاقة التي يربطونها بهذه الثورة التي هم ليسوا عناصرها الفاعلين. الحماس في الثورة هو دليل، حسب كانط، على استعداد معنوي للإنسانية، وهذا الاستعداد الذي يتظاهر دوما بطريقتين: أولا في حق كل الشعوب، بإعطاء الشكل السياسي الذي يناسبهم والذي يصلح لهم فيها المبدأ المرتبط بالحق والأخلاق، للشكل السياسي الذي تتفاداه كل حرب هجومية، بحسب مبادئها نفسها،. بيد أن الاستعداد الذي يحمل الإنسانية نحو هذا الشكل هو المعبر عنه في الحماس للثورة. الثورة كمشهد وليس كحركة، كمقر للحماس بالنسبة لأولئك الذين يعاصرونها، وليس كمبدأ للانقلاب بالنسبة لمن يشاركون فيها، هو دليل التذكير، لأنها تظهر هذا الاستعداد الحاضر منذ البداية، وهنا الدليل البرهاني وكذا الدليل التقديري، لأن هناك بالفعل نتائج للثورة التي يمكن أن تطرح للتساؤل، لا يمكننا أن ننسى الاستعداد الذي ظهر من خلالها. نعرف كذلك أن هذين العنصرين، الشكل السياسي المختار والشكل السياسي الذي تتفاداه الحرب، هما الصيرورة نفسها للأنوار، أي أن الثورة بالفعل هي التي تنهي وتكمل صيرورة الأنوار نفسها. وفي هذا الحد أيضا تكون الأنوار والثورة أحداثا لا يمكن أن تنسى. " أؤكد، يكتب كانط، أنني لا يمكن أن أتنبأ بالنسبة للنوع الإنساني نفسه وبدون روح نبوءة حسب المظاهر، والعلامات السابقة لعصرنا، أنه سيصل هذه الغاية، أي الوصول إلى حالة يستطيع البشر، الحصول على الشكل الذي يريدونه والشكل الذي سيمنع حربا هجومية، وأن هذا التقدم لن يوضع محل تساؤل. مثل هذه الظاهرة في التاريخ الإنساني لا تنسى، لأنها أظهرت في الطبيعة الإنسانية استعدادا وملكة للتقدم، لا يمكن لسياسة ماهرة أن تبرزها في المجرى الداخلي للأحداث؛ وحدهما الطبيعة والحرية مجتمعتان في النوع الإنساني حسب المبادئ الداخلية للحق، تستطيعان إعلانها أكثر بطريقة غير محددة وبوصفها حدثا ملازما. لكن إذا لم يكن الهدف المقصود بهذا الحدث قد حقق، فإن الثورة وإصلاح دستور شعب سيكون قد فشل مع ذلك، أو إذا حصل في رمشة عين، أن كل شيء قد تراجع لما قبل، كما هو الحال الآن في الكثير من السياسات، فإن هذه النبوءة الفلسفية لن تفقد شيئا من قوتها. لأن هذا الحدث مهم جدا، وملامس لمصالح الإنسانية وله تأثير شاسع على كل أجزاء العالم، لكي يفرض عليه أن يوضع في ذاكرة الشعب بمناسبة ظروف ملائمة، ويذكر خلال أزمة ما لمحاولات جديدة من هذا القبيل، لأن في قضية مهمة كهذه بالنسبة للنوع الإنساني، ينبغي على الدستور القريب أن يصل في النهاية، إلى لحظة ما من التضامن الذي تحفل به التجارب المتكررة، لكي لا يفوته أن يعطيه إياها في كل حالاتها ". إن الثورة على كل حال تحتمل دائما الرجوع إلى الوراء، لكن بوصفها حدثا لا أهمية له، ووجوده يشهد برؤية دائمة لا تنسى: بالنسبة للتاريخ المستقبل، فإنها ضمانة الاستمرارية نفسها للطريق نحو التقدم. أردت فقط أن أحدد لكم هذا النص لكانط حول الأنوار، سأحاول أن أقرأه بعد قليل بقرب أكثر. أردت كذلك أن أرى كيف أنه بعد خمسة عشر سنة من بعد، فكر كانط في هذه الراهنية بطريقة أكثر مأساوية بالمقارنة مع الثورة الفرنسية. بهذين النصين نحن نوعا ما في بداية، وفي منطلق لكل هذه المملكة من الأسئلة الفلسفية. هذان السؤالان: " ما هي الأنوار ؟ وما هي الثورة ؟ " هما الشكلان اللذان من خلالهما طرح كانط السؤال عن راهنيته. إنهما أيضا، السؤالان اللذان لم يكفا عن الالتصاق بكل الفلسفة الحديثة منذ القرن التاسع عشر، على الأقل في الجزء الكبير من هذه الفلسفة. في النهاية، فإنه يبدو لي أن الأنوار، في الوقت نفسه كحدث فريد فاتح للحداثة الأوروبية وكصيرورة دائمة، تظهر في تاريخ العقل، وفي تطور وتأسيس أشكال العقلية والتقنية، استقلال وسلطة المعرفة، ليس فقط مرحلة من تاريخ الأفكار. إنها سؤال فلسفي مسجل في فكرنا منذ القرن الثامن عشر. لندعهم في راحتهم هؤلاء الذين يريدون أن نحرص على تراث الأنوار حيا وكاملا. هذه الراحة هي أكثر الخيانات إثارة. ليست بقايا الأنوار هي التي ينبغي الحفاظ عليها، بل السؤال نفسه لهذا الحدث ومعناه، (سؤال تاريخية الفكر الشامل) هو الذي ينبغي الحفاظ عليه حاضرا وإبقاء ما ينبغي التفكير فيه في الفكر. إن سؤال الأنوار أو العقل كمشكل تاريخي نوعا ما، قد اخترق كل الفكر الفلسفي منذ كانط إلى الآن. إن الوجه الآخر للراهنية الذي واجهه كانط هو الثورة: الثورة التي هي في الوقت نفسه حدث وقطيعة وقلب في التاريخ وفشل، ولكن كذلك كقيمة وكدليل لاستعداد يجري في التاريخ وفي تقدم النوع الإنساني. هنا أيضا السؤال بالنسبة للفلسفة ليس هو تحديد ما هو الجزء في الثورة، الذي ينبغي الحفاظ عليه وإعطاءه القيمة كنموذج. ينبغي معرفة ما ينبغي فعله بهذه الإرادة للثورة، بهذا الحماس من أجل الثورة التي هي شيء آخر غير العمل الثوري نفسه. السؤالان: " ما هي الأنوار ؟" و" ما الذي ينبغي فعله بإرادة الثورة ؟ يحددان لهما مجال التساؤل الفلسفي الذي يتعلق بما نحن عليه في راهنيتنا. يبدو لي أن كانط قد أسس تقليدين نقديين انقسمت داخلهما الفلسفة الحديثة. لنقل إنه في إنجازه النقدي الكبير، طرح وأسس هذا التقليد الفلسفي، الذي يضع الشروط التي تحتها تكون المعرفة الحقيقية ممكنة، وانطلاقا من هنا، نستطيع القول إن بنيانا من الفلسفة الحديثة منذ القرن التاسع عشر، قد تقدم وتطور بوصفه تحليلا للحقيقة. لكنه يوجد في الفلسفة الحديثة والمعاصرة نموذج آخر من السؤال، ونموذج آخر من التساؤل النقدي: إنه ذلك الذي نرى ميلاده تحديدا في السؤال عن الأنوار، أو في النص عن الثورة، هذا التقليد النقدي يطرح سؤالا: ما هي راهنيتنا ؟ ما هو المجال الراهن للتجارب الممكنة ؟ لا يتعلق الأمر هنا بتحليل للحقيقة، بل يتعلق بما يمكن أن نسميه أنطولوجيا الحاضر، أنطولوجيا لنفسنا نحن، ويبدو لي أن اختيار الفلسفة التي نوجد مواجهين لها حاليا هي التالية: يمكن أن نتبنى فلسفة نقدية ستعرض كفلسفة تحليلية للحقيقة بصفة عامة، كما يمكننا أن نتبنى فكرا نقديا يتخذ شكل أنطولوجيا الراهن، هذا الشكل من الفلسفة منذ هيجل إلى مدرسة فرانكفورت، مرورا بنيتشه وماكس فيبر، الذي أسس نوعا من التفكير، هو الذي حاولت الاشتغال فيه. ترجمة أحمد الطريبق Foucault Michel : « Qu’est-ce que les lumières ? » Magazine littéraire, n° 207, 1984, p 35.
#أحمد_الطريبق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول مفهوم السلطة عند ميشيل فوكو (ترجمة من كتاب - إرادة المعر
...
-
- المراقبة والعقاب - ترجمة من كتاب المراقبة والعقاب لميشيل ف
...
-
حوار ديريدا: مفهوم الإرهاب(ترجمة وتعليق)
-
قراءة موجزة في مقال: - المغرب أفقا للفكر - لعبد الكبير الخطي
...
المزيد.....
-
مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
-
السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون-
...
-
مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله
...
-
اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب
...
-
محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
-
مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
-
من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
-
خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال
...
-
هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
-
قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|