|
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الحادي عشر
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4749 - 2015 / 3 / 15 - 12:21
المحور:
الادب والفن
- لم تقل لي سونيا الحقيقة، خبأتها عني، كانت خائفة عليّ. لم تكذب عليك، رشا، لم تفبرك قصتها. تمت خطبتها بالفعل، قابلته عندها. شاب أصغر منك بكثير، أجمل منك بكثير، تحبه، ويحبها. عد إلى صوابك، يا أبا بكر، وتزوجني. أنا لا أكذب عليك لتتزوجني، النساء اللواتي هن مثلي لا يكذبن، يكفيهن العالم، هذه الكذبة الكبرى! أنت لا تصدقني، فلتذهب إذن إلى الجحيم! الحياة جحيم معك، أحدٌ لن يحتملك! وأنا، أفضل أن يقتلني الملك القادم، هكذا أخلص من حياتي، هذه الكذبة الصغرى! ستعود رشا إلى الجامعة غدًا، لأتأكد من كلامك بنفسي، فإذا كان صحيحًا، تزوجتك، وذهبنا إلى أمريكا، إلى أبعد مكان عن عمان. باكرًا في الصباح، بدأت أتلفن على مكتبها، وهي لا تجيب. خفت أن تكون أمها قد منعتها من المجيْ، وخفت أن تكون قد لازمت الفراش. كنت شخصًا مضحكًا، لا شخصية لي، لا أواجه الشدائد بشجاعة. لم أكن على مستوى أولئك الذين تشرد شملهم، فبادلوا الشر بالشر، وفقدوا كل معاني الخير. انشغل بالي، فذهبت بعد محاضرتي الأولى أطرق عليها الباب. تنفست الصعداء لأنها لم تكن هناك، لا أدري لماذا، فتصفحت الوجوه، وكأني أتصفح كتابًا. كان ذلك كإشارة ضمنية، لصونها من العثرات. ذهبت إلى مكتب زميلتها، فإذا بها تخرج صفراء كحبة الحامض، حزينة كنجوم المندلينا. - تلفنتُ لك عشرات المرات، قلت لها. - مديري المسافر لن يعود، أوضحتْ. خرجت زميلتها كنفرتيتي مزوقة، كمسز سمبسون مكلثمة. كانت تبدو بعد عطلتها في أتم ارتياح، ازدادت امتلاءًا، تناقصت اكفهرارًا. - أنتِ واءمتكِ العطلة، قلت لها، رشا لا. أشارت إلى رشا، وأرادت معارضتي، لكنها تراجعت أمام ذبول رشا: - عدنا إلى العمل معًا، قالت قبل أن تنسحب - يجب أن نلتقي، همست في أذن رشا، يجب أن نتكلم كشخصين بالغين. - سونيا، ألم تقل لك؟ - ماذا تريدينها أن تقول لي؟ - إذن من يكون؟ - من يكون من؟ - الشيطان، لست أدري. - هل وقع لك مكروه؟ - اطمئن بالاً، لن يقع لي أي مكروه. - طالما أنا هنا. - طالما أنت هنا. - سأحميكِ. - ستحميني. - سأنقذك. - ستنقذني. - من كل شيء، من كل شيء. - من كل شيء. أعطيتها أوراقي في غلاف. - هذه كلمات كنت أتسلى بكتابتها لك بانتظار أن أراك. تلقفتها، وشدتها إلى صدرها. رأيت أكثر من واحد يدور حولها. لم أنتبه إلا فيما بعد أنهم كانوا عشاقها. عدت بعد محاضرتي الثانية، وأنا خائف عليها. كانت صورة الوردة الذابلة تمزق بشوكها خيالي. ستنهار إذا ما قرأت أوراقي. أردت ارتكاب أخف الضررين، بينما الواحد أثقل من الآخر. كنت مضطربًا اضطراب البحر، مضطرمًا اضطرام القلب. غادر مكتبها عاشقٌ ربى ذقنه تعبيرًا عن آلامه. كان حزينًا، ولم أعرف إلا فيما بعد أنها تصفي حساباتها مع عشاقها. أخطرتها بقسوة كلماتي، وطلبت إليها ألا تقرأ أوراقي الآن، وألا تهتم بها، ما عدا الأخيرة، لا أريد بحال أن تؤثر عليها. رسمتْ على شفتيها ابتسامة بُنِّيَّة قشرية سفرجلية، مُزَّةَ الطعم، ولم تعلق. - سآتيكِ بعد محاضرتي الثالثة، وسنذهب إلى مكان نكون فيه وحدنا. وافقت. - هل أستطيع الاعتماد عليك؟ هل يمكن أن تكون لنا ألفة الأَوِدَّاء؟ لم تجب. ورغم الذين كانوا بين جيئة وذهاب: - أحبك! لم تبتسم. كانت تنظر إلى آخر، أحد عشاقها، مثلما عرفت، فيما بعد، وهو يراقبنا. كانت تعذبه بي. تناضل. تمارس حريتها. تكشف عن ساقيها. لم تجد في نفسها حرجًا. كانت الكلمة المحرمة. الإشارة الدالة. الحفلة الحافلة. بعد المحاضرة الثالثة، أخذت تعذبني بغيره، كطفلة تؤذي الأطفال، وتجعلهم من أجلها يؤذون بعضهم. اقترحتُ عليها الذهاب إلى مطعم الجامعة، كي نحكي بهدوء، فاعتذرت، وسارت إلى جانبي في الممر. - أريد البكاء على صدرك، همهمتُ بطِراء الرُّطَب. - لا أريد، ردت بجفاف الحطب. - ماذا تريدين إذن؟ - البكاء على نفسي. - لماذا؟ - لماذا كان ذلك الشخص الشيطان؟ - أي شخص؟ - شخص تبعني في شارع شذونة. - هل آذاك؟ - لا. - ماذا فعل؟ - هددني و... - و... - لا شيء. - قولي. - كان ذلك من أجل النقود. - في هذا البلد كلهم لصوص. - بكيت، ولم يكن بكائي كافيًا. - لهذا تريدين البكاء على نفسك؟ - لهذا. - إذا أردتِ أبكيتك أنا. - هل تفعل هذا من أجلي. - أفعل كل شيء من أجلك. - يا لك من رجلٍ طيب! - كل شيء. - أعرف. - كل شيء، كل شيء. - هل كل الإسبان مثلك؟ - إذا أردتِ أن أكون مهرجًا كي أبكيك، كنت مهرجًا! إذا أردت أن أكون مومسًا، كنت مومسًا! إذا أردت أن أكون حذاءً، كنت حذاءً، بل كل الأحذية! - يا لك من قلبٍ كريم! - أموت من أجلك! - بل أنا التي تموت، ولم تعد تحتمل! - كنت أموت أنا، وأمك لم تشفق عليّ! - أمي لا ذنب لها. - الكلاب الموجعة تشفق عليها الناس، أما هي فلم تشفق عليّ أقل شفقة! - أمي لا ذنب لها، قلت لك. أنا... - أنتِ ماذا؟ - أمي لا ذنب لها. قالت شيئًا عن قيس وليلى لم أفهمه، إذ ناداها أحدهم لهاتف جاءها، فذهبت تاركة إياي في حيرة كبيرة. أحسست بأنني لا أتقن الصمت، لا أتقن الكتابة، لا أتقن الإصغاء. وقفتُ مسخًا في الممر منتظرًا، لم أكن أعلم أنه دوري في تصفية حساباتها مع عشاقها. مرت في خيالي صور طلبتي، فقلت أَوْقَعَتْهُم جميعًا في أحابيلها. بعد ذلك، قالت لهم أنا أعتذر، أنا مخطوبة، لنكن أصدقاء، وتتركهم لغيرهم، بينما كانت تتسلى. تخيلتها ذاك الشيطان الجميل، وهي تقطع قلوب محبيها بالسيف، وتقهقه، وهي تطوي الماضي طي السجل. هل هو ظاهرها الكاذب أم ظاهر الحقيقة؟ جاء أحدهم في الوقت الذي عادت فيه، وسألها لِمَ أنت حزينة؟ كانت بعد الهاتف عازمة على قطع كل شيء معي. رأيتها بشعة، وهي تقف أمامي. بدت لي مفترسة. انعدام الأدلة. انعدام الورثة. انعدام المعاني. كالرجل الآلي. لم تكن هي، كانت الأخرى التي لم أعرفها، لن أعرفها. - أنت تظلمني، أنت تهينني، أنت تذلني، أنت تبصقني، أنت تشخني، أنت تلوثني بحبك، فحبك غائطك، أنت تهدم عليّ أعمدتك، أنت تشعل بي حرائقك، أنت تقبض على الريح بيد وبيد عليّ وتجعل من كلينا زوبعتك! لخراب العصور وعذابات الأجيال وسقم النفوس! هل تعرف ما الحب أنت؟ ما الهوى؟ ما الغرام؟ القتل هو الحب لديك، التنكيل، الإرهاب. باسم الحب، السعادة، المستقبل، الهناء، الرخاء، الحرية، العدالة، استرداد الحقوق، إحقاق الحق، إعلاء المرء، المرأة، الثقب، فالمراة ثقب، الحياة ثقب، العالم ثقب، أسود! حريتك عبوديتي وعبوديتي حريتك! كل ما تفعله بحبك تبديل عبودية بعبودية! العبودية العبادة! هذا هو حبك، مدمر لا محرر! حبك تَمَلُّك، قِنانة، انبطاح، انفتاح، انشراخ، انفشاخ، ثقب! الجنس كالكرامة ثقب! الجنس كالقيم ثقب! الجنس كالمواخير ثقب! الجنس كالمعابد ثقب! الجنس كالله كالدين كالرسول ثقب! حررني بالله عليك، أنقذني، حمحمني، ادخل في ثقبي! كوني لبؤة، يا سلام! ربي أظافرك، يا عيني! تمردي، يا قلبي! يا دين الرب! يا الدنيا القحبة! يا البشرية القحبة! الدنيا، البشرية، الأمهات، الآباء، الكواكب، النجوم! أنت، من أنت، يا أنت؟ ليس أنت الذي أريده أنا! لست حلمي، لست أملي، لست إسهالي، لا ولا سعالي أو ضراطي! لست من يفهمني، لست من يعطف عليّ، لست من يحنو على قدمي! تفهمُكَ أنت، تعطفُ عليك أنت، تحنو على قدمك وظفرك ونعلك أنت! فاجعتك أنك لا تفهم ما الفاجعة! في الأخير، قالت إنها طوال حياتها لا تبتغي إلا الهدوء، فقلت أنا الهدوء! لكنها لم تشأ سماعي. طلبتُ إليها أن تقطع زاوية الهدوء القائمة إلى ضلعها الآخر، فأعادت إنها مخطوبة. - أنا مخطوبة، دكتور، صاحت، أنا قحبة مخطوبة! وانفجرت تبكي. رجوتها أن تتوقف عن البكاء، فهناك حولنا من راح ينظر إلينا، لكنها داومت على البكاء. فجأة، نبرت: - أنا لا أريدك، ألا تفهم! أنا لا أشمك، أنا لا أشتهيك، أنا لا أضاجعك! - هل تريدين أن نوقف كل شيء؟ - آه! كم أريد! ابتعدنا عن بعضنا بسرعة، هي إلى مكتبها، وهي تضع رأسها في الأرض، وأنا إلى مكتبي، وأنا أرى الممر كالنفق الطويل الطويل الطويل الذي لا ينتهي.
* * *
حزنت حزنًا كبيرًا على هذا المصير، حزنًا كبيرًا أكبر من أرخذونة الحزينة. حزنت على أبي بكر الآشي نابغة زمانه، العذري الأخير، وسخطت على ما آلت إليه حاله. كنت أعلم جيدًا أن في الحب ناحية من نواحي البؤس، ولكن ليس إلى هذه الدرجة. لم تحزنني حالُ مجنونٍ عاشقٍ أكثر منه، حتى أن كل العشاق المجانين قد بكوه معي، من مجنون ليلى إلى مجنون إلزا. سالت دموعه على خده، فجاء الرجل الغريب بجناحي الملاك، وأراد أن يمسحها له، فرفض أن يمسحها له. - تريد أن تبكي عليّ، قال. - من هي؟ سألت. - التي في عينيّ. فتح عينيه، فوجدت فيهما المرأة التي أحبها، وهي تذرف الدموع الحرى. - هذه رشاي، فانظر كم ترأف بي. - هذه أم الحب تبكي الحب! - لو بقي في عينيّ دمعٌ لبكيتُ معها عليّ. وأغلق عينيه. ترك الرجل-الملاك ينشف له عينيه، ثم كشه كالذبابة. - ماتت رشا، همهم أبو بكر، وبعد عدة أيام تبعتها سونيا، قتلها أصحاب النظارات السوداء والبدلات السوداء. إني غفرت لكلتيهما! ضرب عصاه في حجر، وذاب مثل نيزك. أخذتُ أبحث بين النجوم إلى أن وجدته في أحضانها، وهو يبتسم لي.
يتبع الفصل الثاني عشر من القسم الثالث
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل العاشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل التاسع
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثامن
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السابع
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السادس
-
أبو بكر االآشي القسم الثالث الفصل الخامس
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الرابع
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الأول
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الحادي عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل العاشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل التاسع
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثامن
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السابع
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السادس
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الخامس
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الرابع
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثالث
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|