أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - وسام رفيدي - أربعون عاماً من صعود وهبوط مدويين لليسار الفلسطيني















المزيد.....



أربعون عاماً من صعود وهبوط مدويين لليسار الفلسطيني


وسام رفيدي

الحوار المتمدن-العدد: 4738 - 2015 / 3 / 4 - 20:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



مقدمة: (تصحيح هيكلي) يساري
ليس هذا بحثاً وافياً في تاريخ ومآل اليسار الفلسطيني منذ العام 1967، عام استكمال احتلال فلسطين، إن المقالة، ولاعتبارات عديدة، ستتوقف عند حدود رسم الملامح العامة لحالتي الصعود والهبوط في اليسار الفلسطيني، مع محاولة الإجابة على سؤال: أين مكمن الأزمة التي يعيشها اليسار الفلسطيني؟
منذ انهيار نماذج الاشتراكية البيروقراطية في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، وقوى اليسار الفلسطيني ما فتأت تتعامل مع أزمتها باعتبارها أزمة فكرية بالأساس، أزمة الماركسية التي تبنتها واسترشدت بها...وبالتالي كان لسان حال هذا اليسار يقول: ظُب على هالطابق، أي الماركسية.
لقد تعامل اليسار مع نفسه كمهزوم حتى قبل أن يناقش ويقيم. وإذا كان من نافلة القول أن قوى اليسار قد هُزمت فعلاً على المستوى العالمي، لكن منطق الأمور يقتضي فحص لماذا هُزم ومن ثم إصدار الأحكام. إن الاعتراف بالهزيمة شيء والانطلاق من الهزيمة، نفسيتها ومشاعرها، شيء آخر تماماً، كما الفرق بين الثقة بالمستقبل وبالذات وبالشعوب، وبين فقدان الأمل بكل ما يمت للثقة بالمستقبل بشيء، واعتبار ذلك ( نظرية) والبناء عليها، ليتأكد من جديد أن هناك مَنْ هو أسوأ ممن يعتبر جهله إثباتاً نظرياً، إنه مَنْ يرفع الهزيمة لمستوى (الإطار النظري) لتحليلات ترسم آفاق المستقبل! فيما هي في حقيقة الأمر ترسم ملامح (معلقة بكائيات) لا أكثر.
 والأحكام سريعاً ما صدرت قبل أية نقاشات معمقة، اللهم، نقاشات نزقة وقرارات متوترة رأت في تاريخ اليسار كله، بتضحياته وإخفاقاته ونجاحاته وهزائمة وانكساراته ومثله العظيمة...محض قصة مذمومة، فسارعت لتغيير جلدها النظري كما يغير الرجل بنطاله على حد تعبير الرفيق كاسترو.
فجرى، عبر مراجعات تقييمية مسلوقة ومؤتمرات لا توفر الحد الأدنى من إمكانيات النقاش النظري المعمق، نقول، جرى شطب (أسماء) أحزاب حملتها عشرات السنين، وأُدير الظهر لنظرية حملت على أكتافها نضالات شعوب وطبقات على مدار قرن بحاله. كانت العملية حكماً قطعياً: هنا الأزمة، في الاسم، في النظرية، في المحتوى الطبقي.
لقد ظل اليسار الفلسطيني بعيداً عن عملية التقييم النظري الحقيقي، وهو بذلك إنما سلك طرقاً عديدة: إما تعامل مع فكره المثبت ببرنامجه بخجل من اقترف ذنب تثبيت هذا الفكر في البرنامج فيخجل منه أمام الجماهير، وإما أضحت المرجعية الفكرية محض نصٍ لا ينعكس في اشتقاق البرامج، وإما أخيراً، وجد نفسه، وقد شطب مصطلحه الماركسي اليساري من خطابه، يلجأ لترسانة المصطلح الليبرالي، فيظهر الخلط في الهوية فاضحاً. وفي جميع الحالات، قٌبر التثقيف الفكري لدى قاعدة اليسار، ولم تعد تملك إلا اجترار صيغ عامة وممجوجة من ترسانة الليبرالية الجديدة دون أن تدري أنها إنما بذلك تهجر موقعها اليساري.
لذلك، (فالتصحيح الهيكلي)[2] في برامج وسياسات الأحزاب اليسارية لم يفعل أكثر مما فعل (التصحيح الهيكلي) في اقتصاديات دول العالم الثالث: مزيد من التدهور والدمار. ولعل الانتخابات الأخيرة، التشريعية والبلدية، قد أكدت حقيقة أن بعض قوى اليسار بلغت حداً من التدهور والتدمير بحيث لم تعد موجودة فعلاً، وإن كانت، فعبر التمثيل الرسمي والألقاب القيادية الطنانة والنشاط الإعلامي المدفوع فيه جيداً. أما قوى أخرى فحصدت نتائج لا تليق بمكانتها وتضحياتها وتاريخها، حتى في مواقع كانت تعد بمثابتها حديقتها الخلفية، شعبياً.
إننا أمام قصة لليسار الفلسطيني طوال الأربعين عاماً الماضية: قصة ترتسم ملامحها بحالتين اثنتين: الصعود المدوي، ومثله الهبوط المدوي، وما بينهما محاولات كاريكاتورية، للخروج من الأزمة، ولكنها هي الأخرى مدوية بفشلها.[3]
ويجب الإشارة، مع ذلك، أن المراجعة الفكرية والطبقية، المتوترة والمستندة للهزيمة كنظرية، تمت ولا زالت في زمن تشهد فيه الساحة الدولية، السياسية والأكاديمية، تحويم (شبح ماركس) حسب تعبير الفيلسوف دريدا، تحويماً يمكن تلمسه في ظاهرتين: تنامي اليسار الاشتراكي في أمريكا اللاتينية المستند للخطاب الماركسي المتجدد من ناحية، وانتعاش مكانة التحليل الماركسي على كافة تنويعاته ومدارسه في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية في كبريات الجامعات في العالم، حتى بات من المفروغ منه أنْ لا يمكن تجاوز هذا التحليل ومنظومة مفاهيمه حتى لمن لم يعلن نفسه ماركسياً، هذا من الناحية الثانية. ومع هذا الانتعاش السياسي والأكاديمي، يلاحظ ترسخ ظاهرة التعددية في الفكر الماركسي وانفتاحه على اجتهادات عديدة داخله، فالتجربة السياسية المباشرة لقوى اليسار، وغياب (المرجعية الفكرية ذات الطابع الديني) في الاتحاد السوفيتي أطلق العنان لتنامي هذه الظاهرة.
 
 
 
بعد العام 1967...انطلاقة اليسار الفلسطيني
كان اليسار الفلسطيني دائماً جزءاً من الحقل السياسي الفلسطيني باختلاف تأثيرات هذا اليسار في العمل السياسي على العموم. ومع ذلك، يمكن اعتبار العام 1967، عام تأسيس الجبهة الشعبية، عام الاندفاع في دور اليسار ومكانته في الحقل السياسي لأسباب عديدة أهمها: أن هذا التأسيس استند لتراث عربي واسع لحركة القوميين العرب ما عنى تحويل قسم معقول من تركة القوميين الجماهيرية للجبهة الشعبية، كما أن انطلاق الجبهة باعتبارها ( فصيلاً مقاتلاً) في إطار منظمة التحرير والثورة الفلسطينية، والتي كانت تشهد أكثر لحظات تاريخها ازدهاراً من حيث الإقبال الجماهيري على الالتحاق بها، كل ذلك ترك تأثيرات إيجابية على مكانة الجبهة، وتالياً اليسار، في الحقل السياسي العام. أما السبب الأخير بتقديرنا فهو تمايز هذا اليسار عن الاتجاه اليساري الشيوعي القديم في الحقل السياسي في موضوعتين/ قضيتين شكلتا بتقديرنا مقتلاً لمكانة ونفوذ اليسار الشيوعي تاريخياً: رفض المقاومة المسلحة، والقبول بشرعية إسرائيل وحقها في الوجود.
مما سبق، يمكننا تحديد أبرز العوامل التي مكنت اليسار الفلسطيني بعد العام 1967 من دخول مرحلة الصعود المدوي كما أسميناها:   
 
1- انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة بما حازته من تأييد شعبي، عربي وفلسطيني، ولاحقاً أممي، انعكس على فصائلها الرئيسة، امتداداً ونفوذاً وتوسعاً في العضوية. يمكن أخذ تجربة الشهيد محمد الأسود، جيفارا غزة، كنموذج لهذا الصعود المدوي. مع تأسيس الجبهة الشعبية فإن فرع القوميين العرب في القطاع، وكان فرعاً قوياًن بحكم العلاقة الرطبة تاريخياً والتي ربطت عبد الناصر بالحركة على العموم، تحول في عضويته للجبهة، فغدت والحال هذا أكبر تنظيم في القطاع، يحوز على مقاتلين وكادرات وتراث طويل من العلاقة مع الجماهير وبينها. إن مبادرة الجبهة حينها بإطلاق الحركة العصابية المسلحة كانت استجابة سريعة لتعطش الجماهير للقتال، وهذا ما أتقنته الجبهة، عبر قائدها هناك، محمد الأسود، التقاطه....
 
2- إعادة الاعتبار للموقف اليساري من القضية الوطنية ووسائل المقاومة ما ساهم باحتلال يسار المقاومة لموقع القائد من المشهد اليساري على العموم. لقد تميز الموقف اليساري ما قبل العام 1967 بموقف الشيوعيين حصراً من القضية الوطنية[4]. إن الموافقة على قرار التقسيم، وعلى شرعية الوجود الصهيوني في فلسطين بالاستناد لمقولة حق تقرير المصير، ولاحقاً الموقف النقدي (وأحياناً العدائي) من ظاهرة المقاومة الفلسطينية، والعمل المسلح تحديداً...كل ذلك ألحق الضرر بمكانة ومصداقية اليسار في فلسطين والمنطقة العربية طوال الخمسينات والستينات، رغم أن مواجهات أساسية على مستوى المنطقة العربية في الخمسينات ( حلف بغداد مثلاً) لعبت فيها القوى الشيوعية في الأردن والعراق وسوريا ولبنان دوراً أساسياً. ولكن لما كانت القضية الفلسطينية تحتل مكانة خاصة ومتميزة لدى الشعوب العربية، فإن موقف أي حزب منها يشكل معياراً لموقف الجماهير من هذا الحزب. وهنا كان مقتل التيار اليساري الشيوعي طوال عقود.[5]
 
3- التقاط المفاصل الأهم للتمايز الوطني والنضالي والطبقي عن بقية التيارات والفصائل في الساحة الفلسطينية، والتعبير عن هذا التمايز برنامجاً وممارسة. فمن جهة كان التمسك بالحل الاستراتيجي للمسألة الوطنية ( تحرير فلسطين وبناء الدولة الديموقراطية الاشتراكية) وخيار الكفاح المسلح (تحول برنامجياً من الخيار الوحيد إلى شكل النضال الرئيسي) يطرح يسار المقاومة، وتحديداً الجبهة الشعبية، باعتبارها ممثلة الموقف اليساري الذي لم يتلوث بخطيئة الموافقة على التقسيم والاعتراف بإسرائيل ورفض نهج المقاومة المسلحة، ما يكسب هذا الموقف زخماً لدى الفئات الاجتماعية الأقرب للموقف اليساري، والتقدمي على العموم، وهي على العموم من الفئات الوسطى ( طلاب، مثقفين، مهنيين...)، إضافة للفئات الشعبية في المخيمات تحديداً المتعطشة لموقف وممارسة ذات طابع جذري. ومن جهة ثانية فإن إشهار النقد السياسي في وجه البرجوازية الفلسطينية على رأس المنظمة، وممثلتها الأبرز حركة فتح، واتخاذ الموقف المعادي لسلوك الأنظمة العربية، واعتبارها جزءاً من معسكر الأعداء، كل ذلك ترك مسافة تتمايز فيها فصائل اليسار عن حركة فتح.
 
4- أخيراً إن موقف اليسار الفلسطيني المقاوم [6]مما اعتبر في حينه المرجعية الفكرية والسياسية لليسار العالمي، الاتحاد السوفيتي، لعب دوراً هاماً في تسويق موقفه بين الناس، وكان بذات الوقت، كما سنأتي لاحقاً أحد أسباب أزمته. كان اليسار العربي والعالمي قد وافق صاغراً على علاقة تبعية فكرية وسياسية للسوفييت وحزبهم، اللهم بضعة أحزاب أوروبية  (متمردة) في إيطاليا وأسبانيا ويوغسلافيا. كانت تلك التبعية إحدى أشهر القضايا التي استغلتها الرجعية للتشهير بالشيوعيين أينما وجدوا، ومنهم قطعاً شيوعيو فلسطين. إن الإشكالية لا تكمن فقط في التبعية كآلية علاقة، بما تعنيه من هتك للاستقلالية، بل وأيضاً، وبالأساس، من أن التبعية، بالضرورة، وبحكم منطق الأمور، ستصبح الكابح الأول لأية عملية إنتاج نظري يقوم بها الحزب، فطالما ( الرفيق الكبير) ينتج نظرياً ويحدد الموقف السياسي فما الداعي لإشغال الذهن الحزبي في قضايا سبق وللرفيق الكبير أن بتَّ بها!؟ لذلك يمكن ملاحظة الظاهرة التالية، على العموم: كلما تعززت استقلالية موقف الحزب، أي حزب، في علاقته مع السوفييت كلما كان إنتاجه النظري أكبر وأغنى، والعكس صحيح. ويندر، برأينا، ملاحظة فقر نظري يعادل فقر اليسار الفلسطيني، فيما تميز الشيوعيون اللبنانيون بإنتاجهم الغزير، في الفكر كما في التاريخ والنقد الأدبي والموسيقى...ولم يخرج بتقديرنا اليسار في لبنان وفي فلسطين عن المعادلة أعلاه: بقدر الاستقلالية يكون النتاج النظري. ومع ذلك، يمكن ملاحظة الاستقلالية العالية لدى الجبهة الشعبية عن السوفييت في البدايات، والتأكيد على الاستقلالية، في الشق السياسي، منذ نهاية السبعينيات. إن هذه الاستقلالية والتي وفرت للجبهة هامشاً نقدياً تجاه السياسة السوفيتية في المنطقة، لعبت دوراً في إعادة الاعتبار للخصوصية في الخطاب الماركسي الفلسطيني، وهذا ما أكسب فصائل اليسار في حركة المقاومة، أسهماً جماهيرية إضافية، فلم تكن هي المقصودة (بحمل الشمسية عندما تمطر في موسكو).
 
نستنتج من الاستعراض السريع لعوامل صعود اليسار المقاوم أن كلمة السر في تنامي نفوذ اليسار كانت تحديداً في تمايز اليسار عن التيارات الأخرى من جهة، وتمسكه بالحل الاستراتيجي وخيار المقاومة المسلحة ثانياً، وبطرحه للبعد الطبقي داخل حركة المقاومة ثالثاً. ينبغي هنا التأكيد أن هذه المواقف، وإن كان اليسار دعمها بالتحليل الماركسي لواقع الصراع الفلسطيني/ الصهيوني، غير أنه يجب الإشارة إلى أنه ليس هناك ما يشير إلى أن إعلان الالتزام بالماركسية كان له تأثير يذكر على تنامي نفوذ اليسار بعد العام 1967، فالجماهير لا تنحاز لحزب ما بناءً على قناعات أيديولوجية، بل بتعبير هذا الحزب عن أكثر ما يمس مصالحها في لحظة، أكثر ما يعبر عن مزاجها في لحظة. ولنا في تجربة الشعب الفلسطيني ما يؤكد ذلك.
 
من جهة أولى، فهناك تجربة الجبهة الشعبية 1967-1971 في قطاع غزة والتي قيمها دايان حينها تقييماً دقيقاً حين قال إن الجبهة الشعبية تحكم القطاع ليلاً فيما نحكمه نحن نهاراً. لم تكن جماهير القطاع تأبه، من قريب أو من بعيد، بالإيديولوجية الجديدة التي أعلنتها الجبهة الشعبية، نعني بها الماركسية- اللينينية، أو قد لا تكون سمعت بها أيضاً إلا على نطاق نخبة القوميين والشيوعيين الغزيين!! ومع ذلك حققت الجبهة حينذاك امتداداً أوصل عضوية الجبهة في القطاع للآلاف، فيما معسكرات التدريب كانت منتشرة في البيارات، والدعوة لامتشاق السلاح تسري بين الشباب الفلسطيني مثل النار في الهشيم.
 
من جهة ثانية، فهناك تجربة الانتخابات التشريعية الفلسطينية في العام 2006. لقد أجمع كل المحللون أن الشعب الفلسطيني إذ صوت فقد صوت بحذائه ضد حركة فتح وممارساتها في السلطة منذ العام 1994 فحاسبها حساباً عسيراً. أما لماذا صوت لحماس، فذات المحللون والمراقبون يجمعون أن التصويت لحماس لم يقف خلفه نزوعاً نحو الأيديولوجية السياسية الدينية لحماس أو تنامي للتدين بالمفهوم السياسي، بقدر ما كان انحيازاً لفعاليتين أساسيتين عند حماس، واحدة مثبتة والثانية برسم الرهان: الأولى فعالية المقاومة المسلحة لحماس، وهي فعالية مثبتة، والثانية الفعالية المتوقعة من حماس في مواجهة الفساد السلطوي لفتح، مرة وللأبد.
 
نضج وتبلور وتوسع...في إطار من المواجهة الدامية
-1-
طوال السبعينيات كان اليسار يخوض غمار نضجه على كل المستويات، التنظيمية والسياسية والجماهيرية والفكرية والعسكرية... إذ يمكننا اعتبار هذا العقد، عقد التجارب العديدة، ومحاولات التبلور وصياغة الرؤية، بما تخلل كل ذلك من نجاحات وإخفاقات. وإذا كانت هذه المرحلة شهدت تنامياً في ثقل اليسار بين الفلسطينيين خارج الوطن، وتحديداً في دول الطوق وأمريكا الشمالية، إلا أنه وفي الأراضي المحتلة، لم يكن ظهر أي امتداد سياسي جماهير مؤثر لليسار المقاوم، باستثناء بعض التأثير للشيوعيين الذين كانوا يتمتعون، لوحدهم في السبعينيات كما في كل العقود، ببنية حزبية مستقرة لهذا الحد أو ذاك.
السمة الأبرز هنا، أنه وفي نهاية السبعينيات، تبلورت معالم سياسة جماهيرية أولية وخطوط عامة لبناء حزبي خاص باليسار وتحديداً في الأراضي المحتلة. كانت محدودية البعد الشعبي في عمل اليسار المقاوم في الأراضي المحتلة مقتله الأبرز حتى أواخر السبعينيات. ولكن، وبتأثير الفكر الماركسي لجهة العمل مع الجماهير والعلاقة بين الحزب والجماهير، شرعت تنظيمات اليسار المقاوم منذ مطلع الثمانينيات ببناء مجموعة من المنظمات الجماهيرية لقطاعات مختلفة ( الشباب، المرأة، الطلاب، العمال).
إن نظرة سريعة على أهمية هذا التوجه اليساري في بناء المنظمات الجماهيرية[7] تمكن من ملاحظة التالي:
1.  أثر هذا التوجه على البعد الاجتماعي/ الطبقي للعمل السياسي الفلسطيني، إذ أن التفاف الفئات الشعبية ( عمال، طلاب، نساء، ومستخدمين...) حول القوى السياسية وممارستها العمل السياسي الشعبي، أضفى أبعاداً طبقية شعبية على العمل السياسي، فيما كان هذا حتى نهاية السبعينيات حكراً على مثقفي الفئات الوسطى وبعض العائلات الأرستقراطية التي استعادت دورها السياسي عبر حركة فتح.
2.  بالمقابل، فإن النشاط الواسع قاعدياً مع الفئات الشعبية، أثر على البنية الاجتماعية للتنظيمات الحزبية لليسار، فاحتل العمال والطلاب والنساء والمهنيين وبشكل متزايد مواقع كادرية وسيطة ولاحقاً مواقع قيادية، ما أثر إيجابياً على طابع القرار السياسي في الوطن لجهة اعتباره على يسار قرار قيادة المنظمة في الخارج.
3.  إن هذه المنظمات التي نشطت طوال النصف الأول من الثمانينيات في قضايا وطنية بالدرجة الأولى باتت مدارس تتعلم من خلالها الفئات الشعبية العمل السياسي القيادي، كذلك أضحت، أدوات للفعل الوطني والاجتماعي.
 
ورغم هذا، فإن الكثير يمكن أن يقال حول تجربة العمل الجماهيري لليسار:
1.    حتى سنوات عديدة كان لفهم العلاقة بين السري والعلني[8]  داخل الجبهة الشعبية مثلاً، أن يهمِّش إلى حدٍ كبير من دور الأعضاء والمنظمات الجماهيرية، العلنية وشبه العلنية، للجبهة. لقد تزامن بداية تشكيل الجبهة لمنظماتها الجماهيرية مع توجه قوى اليسار المختلفة( وهنا كان الشيوعييون قطعاً سباقون على الشعبية والديموقراطية). لم يُطرح تشكيل المنظمات الجماهيرية في البداية كمنظمات للكفاح الطبقي/ الاجتماعي، بل طُرحت كتيار ساتر لحماية الأعضاء والمنظمة السرية. على الأقل كان هذا نص قرار تشكيل أول إطار جماهيري طلابي للجبهة في الوطن. وفي أحسن الأحوال طُرحت كرافد للعضوية الحزبية في نسخ معروف لدور منظمة الشبيبة الشيوعية كرافد للحزب الشيوعي في الحركة الشيوعية. من المفهوم أن أية منظمة جماهيرية هي بالضرورة رافد للحزب بالعضوية، ولكن أن تؤسس لهذا السبب حصراً فهذا سيضعف من دورها الاجتماعي الطبقي. لم يكن دائماً النضال الوطني هو السبب الذي همش المسألة الاجتماعية في توجه وبرنامج الجبهة، بل وأيضاً التمييز في السياسة الحزبية بين السري والعلني بحيث تجاوز هذا التمييز حدود الأولوية ليطال التهميش، المقصود أو غير المقصود سيان.
2.    وهذا التمييز طال سياسة توزيع الكادرات الأمر الذي ترك تأثيره اللاحق على قدرة الجبهة على تقديم قيادات على المستوى الوطني يعكس حضورها ومكانتها وتاريخها محتوى كفاحية وبرنامج الجبهة.
3.    والنتيجة الأولى تقود للنتيجة الثالثة، وهي الضعف البنيوي في طرح المسألة الاجتماعية. كان للمنظمات الجماهيرية نشراتها ونضالاتها الاجتماعية، وتحديداً الطلاب والعمال( وربما الأولون تميزوا أكثر)، ولكن لم يكن هذا ليكفي لتكون المسألة الاجتماعية في الصلب من عمل المنظمة. وهذه القضية الأخيرة تترجم في مفاصل أساسية: شروط العضوية( كانت أقرب للعضوية الحزبية لدى كافة المنظمات الجماهيرية)، تربية الكادرات داخل المنظمة على المسألة الاجتماعية بنفس مستوى المسألة الوطنية، تحيد سياسة تحالفات تتفق والمسألة الاجتماعية ولا تتفق بالضرورة والمسألة الوطنية....إن هذه النقيصة تركت تأثيرها اللاحق على مصداقية حقيقة الترابط، الذي كانت الجبهة تركز عليه نظرياً، بين البرنامجين الوطني والاجتماعي، بحيث غدا تأكيداً نظرياً أكثر منه عملياً يترجم في سياسات حزبية.
وما ذهبنا إليه أعلاه باعتباره مظهراً سلبياً تمثل في طغيان المسألة الوطنية على المسألة الاجتماعية في برنامج وبنية المنظمات الجماهيرية، تحول ليغدو عنصر قوة باندلاع الانتفاضة التي عنت تسلل المسألة الوطنية لكل بيت. فهذه التركيبة وتلك البنية وفرت معيناً ليس للعضوية الحزبية فحسب بل للنضال الوطني على العموم، شأن كافة التنظيمات السياسية.
 إن أية عملية فحص للبنية التنظيمية للانتفاضة الأولى ينبغي أن تنطلق من هنا بالذات: من الأدوات التي وفرتها المنظمات الجماهيرية للتنظيمات اليسارية والتي تمكنت خلال فترة وجيزة( بفعل خبرتها في العمل التنظيمي) من بناء أدوات الانتفاضة الشعبية. لذلك إذا كان من الصحيح التسليم بعفوية الانتفاضة، وهي مبادرة الجماهير بتعبير آخر، غير أنه يمكن ملاحظة القدرة التقنية السريعة لقوى اليسار تحديداً على إضفاء طابع منظم على عمل الانتفاضة العفوية، إن كان على مستوى بناء قيادة الانتفاضة أو على مستوى قاعدتها في القرى والمخيمات وأحياء المدن.
-2-
وفي تحايث مستمر مع العمل لعلى المستوى الجماهيري تنامى فعل اليسار، وأيضاً نموذج التحليل الجبهة الشعبية، على الجبهتين الثقافية والكفاحية.
فعلي الجبهة الأولى، وارتباطاً بتأكيد سيادة الوحدة النظرية في التنظيم، وتطوير الملكة النظرية للأعضاء، وأخيراً كإحدى آليات التحول لحزب ماركسي/ لينيني، فقد أولت الجبهة المسألة الفكرية والثقافية أهمية بالغة، كذلك فعلت تنظيمات اليسار الأخرى، بدرجة أقل أو أكثر.
لقد تمثل هذا الاهتمام بالتثقيف الحزبي الداخلي المقر مركزياً ولكافة الفروع: الداخل والخارج والسجون. وهذا التثقيف، وإن تنوع من الاقتصاد مروراً بالسياسة فالتاريخ فالأدب بتفرعاته بلوغاً حتى الفلسفة، إلا أنه حمل طابعاً متناقضاً: فمن جهة كان يزرع ثقافة تقدمية في جيلين بالحد الأدنى، هي نقيض لثقافة الغيبيات من جهة وثقافة الاستهلاك من جهة ثانية...وبالتالي تمكن اليسار أيام إذٍ من تشكيل مجموعة من القيم الإيجابية، بالمعني الوطني والأخلاقي، لعبت دوراً أساسياً في الانتفاضة الأولى بل كانت إحدى تمظهراتها.
بالمقابل، فقد كان التثقيف الفكري أن يعكس تلك التبعية الفكرية لقوى اليسار للمرجعية السوفييتية، وإن تراوحت تلك التبعية بين تبعية كلاسيكية معروفة مثلها الحزب الشيوعي آنذاك، إلى تبعية في الخطوط العامة دون التبعية بالضرورة في كل ما يتعلق بالشأن النظري. وعليه يمكن اعتبار التثقيف الحزبي الماركسي لقوى اليسار قد استند للماركسية حسب مدرستها السوفيتية حصراً، وهي مدرسة لا تعترف بالمدارس الأخرى من جهة، وتشيع ثقافة (الحقائق المطلقة) ثانياً، وتعتمد الحشو ثالثاً، دون تطوير ملكة النقد. لذلك: برزت الثنائية التالية كنتناج للتثقيف الحزبي اليساري: من جهة ترسيخ ثقافة تقدمية وانحياز فكري ومن جهة ثانية تصفيف كميات من المعلومات والأحكام المعطاة مرة واحدة...وعليه لم تتمكن قوى اليسار من الإنتاج النظري لماركسية تلامس أكثر فأكثر الخصوصية الفلسطينية.[9]
-3-
على جبهة الكفاح ضد الاحتلال يمكن أيضاً اعتبار سنوات الثمانينيات هي ألأوج محاولات بناء ركائز ثابتة للعمل المسلح في الوطن. نقول ركائز ثابتة، لأن أكبر مقتل كان للعمل المسلح الفلسطيني في الوطن في عقد السبعينيات هو موسميته من جهة، وانكشافه السريع، سواء بعد الفعل أو قبله، من أجهزة المخابرات الإسرائيلية.
كان واضحاً أن حل المهام الكفاحية يرتبط بحل مسائل البناء التنظيمي وبالتالي، وبالتناسب مع العمل على جبهتي التنظيم الداخلي وبناء أدوات العمل الجماهيري، كان يلاحظ أن اليسار بات أكثر ذكاءً في تجربة بناء خلاياه وقواعده العسكرية. إن شحة المعلومات على هذا الصعيد، وهذا مفهوم، لا يعفينا من الاستنتاج، كتحصيل حاصل، أن محاولات بناء التنظيم اليساري على مختلف الصعد، ومنذ أواسط السبعينيات، قد عنت المواجهة المفتوحة مع الاحتلال والمخابرات الإسرائيلية.
إن تلك الملاحقة اليومية وحالة الاشتباك المتواصل تركت، ولا شك، تأثيرها على أدوات العمل، التنظيمية والجماهيرية، وحتى على البنية القيادية في فترة ما، الأمر الذي عنى انه بقدر ما تتصلب بنية التنظيم الحزبي في المعركة المتواصلة مع الاحتلال، بما يعنيه ذلك من إجراءات وتحوطات وقرارات صعبة...بقدر ما يعني أيضاً التمكن من إضعاف فعالية التنظيم بين الجماهير، وبالتالي التأثير على قدرته تحقيق التواصل معها. لقد دخل اليسار الفلسطيني المقاوم، عقد التسعينيات، وإعياء المواجهة الشاملة طوال عقد الثمانينيات بادية عليه، مواجهة كلفته آلاف المعتقلين، والجرحى والمطاردين، وأحياناً الشهداء في أقبية التحقيق.
بالعادة، يجري طمس هذه الحقيقة ( الدموية بمعنى ما) عندما يتعلق الحديث عن تراجع اليسار منذ عقد التسعينيات. فقط مَنْ عايش تجربة اليسار، كمناضل ومثقف في صفوف اليسار، يمكنه أن يفكر هذه الأزمة، ليس فقط لأنه يمنحها بعدها الملموس ما أمكن، بل لتمكنه من الإطلاع على كافة جوانب التجربة، وأبرزها الأمنية، نعني المواجهة مع الاحتلال، والتي بالعادة لا يلتقط ملامحها قطعاً مَنْ يفكرون اليسار من خارجه.
 
 
 
 
 
أوسلو....فاتحة الانهيار الوطني وتعزيز مقوماته!
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي ومعسكر أوروبا الشرقية، كان الاتجاه الغالب لدى فصائل اليسار، العربي تحديداً، وبعض قوى اليسار الفلسطيني، إدارة الظهر للفكر الماركسي كهوية فكرية لتلك الفصائل، وإلحاق ذلك بتعمية الهوية الطبقية لتلك الفصائل، حتى باتت ( أي الفصائل) فاقدة للهوية، فاختلط الليبرالي باليساري، اختلاطاً ظهر أحياناً في استخدام المصطلحات الفضفاضة، وأحياناً الليبرالية بامتياز، من فصائل عُرفت تاريخياً بمصطلحها الماركسي الطبقي بامتياز.
لذلك، كان من أحد نتائج الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، أن تأكد أن عملية التحول الفكري والطبقي سابقة الذكر لم تنقذ اليسار من تراجعه، تراجع وصل لدى البعض حد الانمحاء عن الساحة تماماً.
إن الظاهرة الملفتة للنظر هي التالية: إن كل المراجعات الفكرية التي جرت حتى الآن، ركزت على الفكر النظري الماركسي لليسار، والهوية الطبقية العمالية له، وبناء تنظيمات علنية تماماً تعاني من تخمة في الديموقراطية- لا ننسى سيادة الاحتلال الكاملة، مع ذلك!- لدرجة أن الخلافات الداخلية تُنشر على الصفحة الإلكترونية كجزء من الشفافية!!!.... ومع ذلك، لا التخلي عن الفكر النظري، ولا تمييع الهوية الطبقية، ولا إدارة الظهر للأسس اللينينية لبناء الحزب، أنقذت القوى من عزلتها، فمن باب أولى أن يجري الإقرار أن ما تم مراجعته ليس هو الأزمة، ولا محاولة علاجه هو المدخل لعلاج الأزمة، بل ينبغي البحث عن أسباب أخرى لذلك.
لقد كان لطابع علاقة التبعية مع المدرسة السوفيتية، على المستوى الفكري، آثاره التدميرية لاحقاً على قوى اليسار. فتلك المدرسة وقد قدمت صورة بيرسيلية ناصعة البياض للواقع السوفيتي، سرعان ما استخلصت أحكاماً نظرية، وبالاستناد لذات الصورة...ولما تمزقت هذه الصورة سقطت معها أحكامها النظرية والتي كان اليسار العالمي، باستثناء جزر تيقظت باكراً، ومنه الفلسطيني يهضمها كأحكامٍ خارج إطار النقض والنقد. لذلك ظهر أول تأثير نظري مدمر بفعل المدرسة إياها: ربط الفكر الماركسي بنموذج واحد أحد، لا ربطه بالممارسة الخاصة لكل شعب من الشعوب، فما أن أنهار هذا النموذج حتى انهار الفكر معه!! وبالتالي شاعت اليأسية والتشكيك بالفكر الماركسي نفسه.
هذا على صعيد أول، أما على صعيد ثانٍ، وكما أشرنا سابقاً فإن التبعية كعلاقة تفترض التلقين والحشو، وتفرض تباعداً لزاماً مع العقلية النقدية، مع نقد المسلمات ونقضها، مع الإنتاج النظري الخاص، لذلك، لا يصعب تصور مدى هشاشة البنية الأيديولوجية لمناضل يساري اعتاد تلقي أحكام نظرية خارجة عن النقاش والنقد، وسرعان ما رأى، في لحظة، المثال الأبرز الواقعي لتك الأحكام يتساقط تباعاً.
أضحى مناضل اليسار، والحال هكذا، بين نارين على الصعيد الفكري: من ناحية سقطت الماركسية بالنسبة له باعتبارها تتجسد، حصراً في تجربة السوفييت المنهارة، ومن ناحية ثانية انتصر معسكر رأس المال الإمبريالي عالمياً كنتيجة للسقوط الأول، وكنتاج للمتغيرين أعلاه سارعت القيادة الفتحاوية لمنظمة التحرير بتوقيع اتفاق أوسلو.
حتى مَنْ لم يعلو صوته معاداة لاتفاق أوسلو، يسارع اليوم لاعتباره كارثة وطنية بكل المقاييس. لذلك ينبغي أن يكون الواقع الذي خلقه أوسلو حاضراً عند البحث عن أسباب التراجع المدوي في صفوف اليسار. لقد مثل أوسلو ضربة في الصميم أصابت المشروع الوطني الاستقلالي، بل وأخرج عماده الأساس ( حركة فتح) محولاُ إياها لسلطة تتركب وتمارس فعالياتها وفق ترتيبات مع المحتل أصلاً. فالاتفاق، ليس فقط خلق صعوبات كثيرة أمام نضال اليسار بل، ووضع حركة فتح في مواجهة هذه القوى باعتبارها قوى مكافحة ضد الاحتلال.[10]
إذاً نحن أمام متغيرين كبيرين أصابا اليسار، المنهك أصلاً من مواجهات عقد الثمانينيات. الأول: انهيار" المثال" الواقعي للفكر الماركسي، والثاني سلطة سياسية فلسطينية على أنقاض المشروع التحرري الاستقلالي وعلى أنقاض المنظمة أيضاً. تلك هي أبرز العوامل الموضوعية للتراجع المدوي لليسار.
ومع ذلك، فعلى مستوى بنية اليسار هناك ما شكل عوامل للانهيار كانت بانتظار الظرف المناسب لتعلن عن نفسها.
1-  البنية الفكرية لليسار والتي تشكلت كبنية سطحية سرعان ما تزعزعت عند أول الصعوبات. وقد سبق وتناولنا في سياق هذه المقالة كيف تشكلت هذه البنية وما أبرز سماتها. واللافت أن هذه البنية الفكرية، إما لاعتبارات الجبن الفكري، أو لاعتبارات الفقر المعرفي، سيان في الحالتين، لم تكن في يوم من الأيام في مواجهة مع الثقافة التي باتت تنهش حتى من قواعدها، نعني الثقافة السياسية الأصولية. ومر أخرى نصادف هنا في فلسطين نفس الظاهرة التي نصادفها في العديد من الدول العربية: ما قدمه أفراد متنورون أو ليبرالييون، أو ببساطة ذوي نزعة نقدية ضد الأصولية هو أضعاف ما قدمه اليسار كقوى منظمة، ولا يقلل من أهمية هذا أن النقد بمعظمه جاء من مواقع الليبرالية، فالليبرالية لديها ما تقوله هنا.
2-  البنية الاجتماعية لليسار. موضوعياً، بحكم التركيب الاجتماعي/ الطبقي للشعب الفلسطيني، وكذا بحكم طبيعة اليسار من الزاوية الفكرية، فإن أوساطاً من الفئات الوسطى عرفت طريقها لليسار طوال عقدي السبعينيات والثمانينيات. إن هذا التركيب سيكون له شأن في الظاهرة الجديدة في عقد التسعينيات: تحول أقسام واسعة من مناضلي اليسار المنحدرين من الفئات الوسطى باتجاه تأسيس و/أو العمل في، منظمات غير حكومية، حتى بات هذا القطاع، وبمحض الملاحظة المباشرة، يضم بين ثناياه ناشطين هم في أغلبيتهم المطلقة من مناضلين سابقين في صفوف اليسار. كانت الفئات الوسطى ولا زالت الرحم الأنسب لزرع مفاهيم الليبرالية الجديدة التي اكتسبت دفعة هائلة مع النظام الاقتصادي المعولم وباعتبارها ركيزته الفكرية في العالم الثالث. لذلك يمكن ملاحظة تلك المكاسب التي حققها هذا الفكر بين مناضلي اليسار الفلسطيني، كما يمكن ملاحظة ظاهرة لا تقل خطورة عن هذه: التشويش في الخطاب الفكري لقوى اليسار، بين مكونات الخطاب الماركسي ( القديم) وبين مكونات الخطاب الليبرالي المستجد.
كان من اللافت مثلاً، أن بعض مفاصل البرامج الانتخابية لبعض المصنفين على قوى اليسار( نقول البعض حتى لا نخلط الحابل بالنابل)، لا تكاد تميز بينها وبين برامج المنظمات غير حكومية. والمسألة هنا لا تعود لهيمنة اليساريين السابقين على رأس المنظمات غير الحكومية النشطة فقط، فهذا تبسيط لا يحتمله التحليل وإن كان في جزء منه صحيح، بل لما سبق ذكره: انعدام الهوية الفكرية والطبقية لليسار...والنتيجة المنطقية لهذه الحالة، الاندراج في نسق ثقافي مهيمن على الخطاب غير الحكومي، نعني ثقافة الليبرالية الجديدة. إن أحد وجوه الإشكالية هنا لا تكمن في هذا الخلط فحسب، بل بالخلط بين الخطابين، ذلك الموجه للرأي العام الخارجي وذاك الموجه لجماهير الشعب.
إن انعدام جرأة اليسار على مستوى النقد والإنتاج النظري هو بتقديرينا، مقتله التاريخي، يتناغم معه، ما يمكن وصفه، ولو بعبارة غير نظرية، بجبن اليسار على المستوى الفكري، وتحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، جبن لم يظهر فقط في خجله من هويته، بل طال، حتى دوره التنويري في مواجهة الأصولية المتنامية والثقافة الدينية. ولولا حفنة من الكتابات الجريئة  (تتزايد باستمرار) والتي تنقد هذه الثقافة، لغاب اليسار نهائياً عن المعركة الثقافية الأهم بين الفكر العلمي والثقافة الدينية.
وبالمحصلة، اجتمعت التركيبة الاجتماعية لليسار، حيث ثقل لا بأس به للفئات الوسطى، مع انهيار السوفييت ( وفكرهم)، مع السعي الإمبريالي الحثيث لإعادة تشكيل مقومات الثقافة في العالم وفق منهجية الليبرالية الجديدة...كل ذلك اجتمع لإنتاج تراجع مدوي عن مواقع الماركسية، ليمتليء الفراغ إما بالفكر الديني، لدى المنحدرين من الأوساط الشعبية، أو بالفكر الليبرالي لدى المنحدرين من أوساط من الفئات الوسطى.
وقبل اختتام مقالتنا هذه ينبغي الوقوف أمام مسألة نعتقدها هامة يكثفها السؤالين التاليين: ما هي تخوم اليسار؟ وما هي مفردات الخطاب اليساري فعلاً؟
إن تحديد تخوم قوى اليسار من جديد باتت مسألة ملحة. لا يدعي كاتب المقال أن من شأنه القيام بهذا الدور فتلك مسئولية قوى اليسار، إن رغبت حقاً باستعادة مكانتها التاريخية كقوى ممثلة لمشروع مزدوج/مركب: مشروع وطني تحرري استقلالي، ومشروع طبقي ثوري، مستند لمرجعية فكرية ماركسية. حسب هذا المقال الإشارة إلى المنطلقات التالية الواجبة بتقديرنا لهذا التحديد:
1.  اليسار يستند لفكر ثوري بالضرورة هو الفكر الماركسي حصراً، إذ لا نعرف فكراً عصرياً نقدياً تغييرياً غير الفكر الماركسي على تنوع وتعدد مدارسه واتجاهاته، فكر يجمع بين  التمترس خلف رسالته الطبقية الصريحة  (سلطة الكادحين والاشتراكية والعداء للرأسمالية)، وبين انفتاحه وتجدده على آليات وأدوات عمل واشتقاقات نظرية جديدة تخضع للتجربة الملموسة ولا تُقدَّس.
2.  اليسار صاحب موقف جذري من المشروع الصهيوني الإقتلاعي في فلسطين، وبقدر ما يناضل لتحقيق برنامج الإجماع الوطني المرحلي، بقدر ما لا يدير ظهره لحق الشعب في وطنه فلسطين وممارسة سيادته عليها، ضمن منظور دولة ديموقراطية اشتراكية موحدة في فلسطين في المدى الاستراتيجي.
3.  اليسار يلعب دوراً تنويرياً صريحاً في مواجهة الثقافة السائدة، وفي الجوهر منها ثقافة العشائرية والإقصاء والترهيب الديني، وفي المقابل لا ينطلق في ذلك النقد، وإن تقاطع، من منطلقات الليبرالية الجديدة التي تدير الظهر للخطاب الديني الجهادي تحت الشعارات الزائفة لعقلانيتها وحداثيتها.
4.  اليسار وإن نشط، ويجب أن ينشط، داخل أية حركة الاجتماعية، غير أن رهانه الأول تنظيمه اليساري المبني على أسس لينينية، أسس اختبرتها عقود من النضال اليساري العالمي الدامي في وجه محاولات تصفية تنظيمات اليسار. تنظيم يتقن الجمع بين تداخل المهام الوطنية والديموقراطية، وبالاستناد لها، وليس على أشكال مقدسة، يعيد بناء التنظيم باستمرار.
 


[1] - مقالة موسعة نًشرت في مجلة تسامح الصادرة عن مركز رام الله لحقوق الانسان في العام 2007
[2] استعير من العلوم الإنسانية ذلك المصطلح الذي يؤشر لسلسلة الإملاءات التي تفرضها المؤسسات الإمبريالية الدولية ( صندوق النقد، البنك الدولي، منظمة التجارة) على دول العالم الثالث، في وصفة باتت ملامحها معروفة، ونتائجها أيضاً: مزيد من الإفقار، مزيد من التبعية الاقتصادية، مزيد من تدمير أسس الاقتصاد. تبدو الاستعارة منطقية، فالتصحيح الهيكلي للأحزاب جر للإفقار على مستوى المكانة والتأثير، ورهن قوى اليسار للبرجوازية ولعبتها السياسية، وألحق الدمار شبه الكامل باليسر. وقبل ذلك فإجراءات التصحيح الهيكلي ذاك موحدة تماماً مثلما هي إجراءات التصحيح هذا!
[3] يركز المقال أكثر ما يركز على ما يمكن اعتباره حالة دراسية/ الجبهة الشعبية، مع التعريج على حالات أخرى ( الجبهة الديموقراطية وحزب الشعب الفلسطيني) لاعتبارين أساسيين: الأول أن الجبهة الشعبية بتقديرنا كانت، ولا زالت رغم التراجع الحاد غي مكانتها، المعبر الأمثل عن اليسار كموقف ونفوذ ومكانة، والثاني لاعتبارات تتعلق بتجربة كاتب المقال نفسه، ولسنوات، في صفوف الجبهة.
[4] حتى ذلك الحين لم يكن للشيوعيين الفلسطينيين حزبهم الفلسطيني الخاص، بل كانوا يتبعون تنظيمياً للحزب الشيوعي الأردني الذي قاوم أية محاولات للانفصال وتأسيس حزب مستقل للشيوعيين الفلسطينيين ( مثلاً محاولة أبو عمر والشهيد محمد قطامش في العام 1973). في العام 1982 أعلن الشيوعيون الفلسطينيون الانفصال وتأسيس حزبهم الفلسطيني باسم الحزب الشيوعي الفلسطيني.
[5] أمر ملفت النظر هنا ما صرح به جورج حاوي الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني حول تأثير موقف الحزب من تقسيم فلسطين على نفوذ الحزب، إذ يفيد حاوي أن عضوية الحزب بلغت في العام 1946 حوالي 45 ألف عضو بتأثير نضالات الحزب للاستقلال وانتصار السوفييت في الحرب العالمية الثانية...ولكن سرعان ما تراجع قوام الحزب ليبلغ 5 آلاف عضو بعد قرار الحزب بتأييد تقسيم فلسطين. بقي القول أن الحزب حينها كان لبنانياً/ سورياً موحداً.
[6] مصطلح اليسار المقاوم نسوقه هنا للدلالة على فصائل اليسار التي انخرطت في حركة المقاومة الفلسطينية وتبنت ومارست المقاومة المسلحة، ونعني حصراً في هذه المقالة الجبهتين الشعبية والديموقراطية.
[7] من الإنصاف الإشارة إلى أن الشيوعيين كانوا السباقون لفكرة بناء منظمات جماهيرية للقطاعات المختلفة، وبعضها كان معروفاً بفعاليته ( الطلاب والعمال)، ولكن مع ذلك، بقي تأثير هذه المنظمات، ومعها الحزب، محدوداً على المشهد السياسي في الوطن، لذلك فإن توجه قوى اليسار المقاوم لتشكيل تلك المنظمات، بالاستناد لرصيد دموي في مواجهة الاحتلال في الخارج والداخل، أعطى ذلك دفعة قوية للتشكيل، حتى بات تاريخ العمل الجماهيري لليسار يبدو كأنه يبدأ من هنا.
[8] نتناول هنا حصراً الجبهة الشعبية كحالة دراسية
[9] أيضا في هذا الحكم فالنسبية سيدة الموقف: فإذا كان هذا الحكم صحيحاً من الزاوية العامة إلا أنه لا يشمل جهوداً، محلية أو فردية، كانت جادة في محاولة إنتاج شيء ما خارج إطار السرب المتسفيت ( من السوفييت).
[10] بالنهاية تتمثل هذه الصورة، قطاع فلسطيني حاجز بين الاحتلال وبين القوى المكافحة ضده، بل وينسق مع الاحتلال نشاطاته (الأمنية)، باعتبارها الفكرة الأساسية لعموم التسوية حسب التفصيل الإحتلالي.



#وسام_رفيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليسار الفلسطيني:انعدام التمايز واختلاط الخطاب
- بين الدولة الدينية والدولة المدنية....اضحى الربيع خريفاً!
- الخطاب الفكري للمنظمات غير الحكومية (إيصال النساء لمواقع الق ...


المزيد.....




- كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب ...
- شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه ...
- الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع ...
- حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق ...
- بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا ...
- وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل ...
- الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا ...
- وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
- مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني ...
- تأثير الشخير على سلوك المراهقين


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - وسام رفيدي - أربعون عاماً من صعود وهبوط مدويين لليسار الفلسطيني