|
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الحادي عشر
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4735 - 2015 / 3 / 1 - 11:11
المحور:
الادب والفن
مع بزوغ النهار، كانت مراكش تومض كحجر عقيق هائل، كالبرق كان وميضها، وكالسحر في القصص القديمة. شرد بي الفكر، ولم أَكِلّ من النظر إلى مدينة السراب والضوء وفقه اللون وفسفور الرذيلة. كنت أجلس إلى جانب زوجة الحاكم، عقيدة خرافية كانت، دينًا من الأديان، وأمة من أمم العشق والفضيلة. لم تتأخر عن الإسراع، فصومعة أختها بعيدة، والصومعة تقع على هضبة من هضاب الأطلس الكبير. كان علينا أن نقطع الصحراء قبل البدء بصعودنا، ونشتاق إلى الماء في الينابيع. سرنا مدة طويلة، والرمال الحمراء من حولنا تغدو برتقالية، فقهوية، فقهرية، فصفراء ذهبية. فجأة، ارتدّت زوجة الحاكم إلى اليمين، وكادت السيارة تنقلب بنا، ثم ضغطت على الفرامل، والفرامل تصر بلا رحمة
- هل رأيت الرجل الذي قطع علينا الطريق؟ سألتني. - لا، لم أر أحدًا! قلت والدهشة تطرقني. نزلتُ لأتأكد، وهي تقفز من ورائي، فلم يكن هناك أحد. - كان أبا بكر، قالت حائرة ليس دون تردد. - أبو بكر الآشي؟! - نعم، كان هو! التفت من حولي دون أن أجد أقل أثر لحضورٍ آدميّ. - وأين راح؟ - لقد تبخر! سحبتها من ذراعها لنعود إلى ركوب السيارة. - مستحيل أن يكون أبو بكر هنا! لقد تركناه في القصر. - ظننتني رأيته، فاسمح لي! عادت تقود السيارة، مائة متر، ثم: - توقفي! صحتُ. رأيت أبا بكر هناك قاعدًا في قلب الرمل، وهو ينظر إلى نجمة النهار دون أن يبدي أقل حراك. إلى جانبه راصدته. أشرت إليه بسبابتي. لم تكن زوجة الحاكم على خطأ. أضلّها وجودُ العالِمِ العلامة والفيلسوف في مكان كهذا. ذهبنا إلى حيث كان. كلما تقدمنا منه كلما تقدم السراب منا. قطعنا السراب إلى الجهة الأخرى حيث كان يجلس. لم يكن هناك. عندما نظرنا خلفنا، لم يكن السراب هناك. في السيارة، حافظنا على الصمت حتى قدم الأطلس. أرسل الثلج ريحًا جليدية، والصحراء تركناها منذ قليل. صعدنا، صعدنا أكثر، والطريق متعرجة، ثم لا طريق. كان علينا مواصلة تسلقنا على القدمين، إلى ما وراء الفكرة. على مقربة من الصومعة، لمحنا أبا بكر الآشي في الجلسة نفسها التي كانت له في الصحراء. ركضنا باتجاهه، وناديناه، وهو لا يبدو عليه أنه يسمعنا. عندما وضعنا يدنا على كتفه، فزّ كالبالون المثقوب، واختفى. تبادلنا نظرة مرتبكة، النظرة نفسها، والهذيان نفسه. ربما حلمنا الحلم نفسه. استقبلنا غناء شجي:
أحبك حبين حبَّ الهوى وحبًا لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى فشغلٌ بذكرك عمن سواكا وأما الذي أنت أهل له فكشفك لِيَ الحجبَ حتى أراكا فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
كانت الأخت البتول تلف جسدها من قمة رأسها إلى أخمص قدمها بحجاب أبيض لا يبين منها سوى وجهها الشديد الشبه بوجه بنت السلطان. ظلت في جلستها لما رأتنا، وهي تتعبد، وتحاور ربها. - إلهي اجعل من نار حبي لك نارًا تحرق لي قلبي! همهمت. قبلت زوجة الحاكم يد أختها. - هذا هو زوجك الذي اختاره دون آميديه لك، قالت، وهي تشير بإصبعها إليّ. أخذت الأخت التقية تتبتل، تتوسل، وتبكي. - إلهي، غفرانك! ابتهلت، والدموع تتدفق من عينيها، اجعل من أرخذونة عليّ واجبًا من واجباتك! - لستِ مضطرة إلى فعل هذا، همهمتُ. نبرت: - أفعلُ ما عليّ أن أفعل. ثم، لزوجة الحاكم: - إنه واجبي، بعد أن استشهدت لي أخت وكانت لي أخرى كلما جاءت بابنة ماتت... - الموشّم، ألم يحضر بعد؟ - كان من اللازم أن يكون هنا. وصلتنا خطوات، جثا الموشّم عند قدمي الناسكة، وقبلهما. - أردت أن يكون جسدي لك وحدك، همهمت، وهي تغمض عينيها، أبيض من الثلج، وأنقى من النبع، فرفضتُ مبضع الموشّم، كما رددتُ منقار الدوريّ. والآن، ليس لي خيار، شرط الدون آميديه لهو شرطك، فاقبلني كما كنتُ وكما سأكون. ارتجفت كجذوة الشمعة في مهب الريح، ثم رقّت في الهدوء المطلق. جلست الأختان جنبًا إلى جنب، أعطيتا ظهرهما للموشّم ووجههما لي، وأخذتا تخلعان ملابسهما قطعة قطعة، وتلقيانها على الأرض. جمدني مرأى هذا الجمال المخادع المشع من جسد الواحدة إلى جسد الأخرى. سقطتُ برأسي على قدمي الأولى، فالثانية، فمدت كل منهما يدًا، وراحت تمسسني بترفق. سمعت الأخت الزاهدة تتكلم شبه غائبة: - إن سألتني إن كنتُ أكره الشيطان أجيبك إن حبي لله لم يفسح لي المجال لكرهه، وإن سألتني إن كنتُ أحبك أقول لك إن حبي لله قد امتلك وجودي، فلم يترك موضعًا لبغض أحد أو حب أحد غيره. رفعت رأسي لأرى فخذي زوجة الحاكم الموشومتين بقصر غرناطة الشامخ، الحمراء، قصر بني نصر. تعالت بوابته المحفورة بين فخذيها، وعلى بطنها أشهر ما في القصر المعروف ببلاط الأسود. في وسطه اثنا عشر أسدًا من الرخام قائمة في دائرة، ومن فم كل حيوان تفور فوارة ماء. انسكب الماء على وجهي، فأثملني الماء. راحت الأسود تزأر، وما يحيط بها من زخرف أخذ يتحرك، وما على سقف دار العدل فوق ثدييها من تزاويق تضاهي أهم الآثار الفنية المحفوظة من هذا النوع في الكون بدأت تتجدد. كانت الوجود كما يجب لا كما يوجب. وإلى قبة الوجود نظرتُ، فرأيتُ مناظر مصورة تمثل أساطير الفروسية ومشاهد الصيد، فضلاً عن صورة عشرة أمراء، وهم جلوس على صدرها، حول مقعد بيضاوي الشكل. كانوا القوة العظمى، السفن، العلوم، المجرات، وصدرها بهم يعلو ويهبط، فكان البحر، وكان الموج، وكان الرمل، وكان الكتاب. الكتابة فيه ومنه، فيه ذكر الشعار المعروف، شعار الغالب، "ولا غالب إلا الله"، ومنه زينة كلام الحلمتين إلى الزائر، كما هي الحال في محراب جسدها المنقوش عليه:
واعتبر تاجي تجده مشابهًا تاج الهلال
راح الموشّم ينقل عن ظهر زوجة الحاكم وثيقة استقلال أرخذونة إلى ظهر أختها الناسكة، وهذه طوال حفره في لحمها غائبة مع صلواتها وابتهالاتها لا تحس بشيء. وعلى العكس، كانت زوج الحاكم تئن أنين المعذب المنكل به، مع كل كلمة تنحت، وكل قطرة دم تسيل. كانت تهمهم تارة، تأمر، وتنهي، وتنادي أبا بكر تارة، تصيح، وتبكي. تقول إنه معها، وهي تشدني إليها، أو أنه غير معها، وهي تبعدني عنها. وبينا كان الموشّم على وشك الانتهاء، أخذتني الأخت الزاهدة بين ذراعيها، وراحت تنشد، وهي دومًا غائبة:
إني جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي لمن أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
أنهى الموشّم دمغه الوشميّ، حمل أدواته، وذهب. ارتدت زوجة الحاكم ثيابها، أغضبت العراء، وتركتني وحدي بين ذراعي أختها الزاهدة. تَلَهَّتِ الروح بعقلي، والعقل بروحي، والعقل والروح جسدي، وأنا أمارس العشق معها كما لم أمارسه من قبل: قبلاتُها مزيجُ دنسٍ وقداسة، لمساتُها خليطُ نعومةٍ وخشونة، أنفاسُها نعيمُ حريقٍ ودخان، أناتُها جحيمُ حورٍ وعناق. عشت معها أكثر اللحظات النفيسة قيمة، تلك التي تَلْحَقُ إراقة الدم، وتلك التي تَسْبِقُ أوهام الحواس. عانقتها وإيمانها في الوقت ذاته، الزائف والذي لا ريب فيه. عانقتُ عقلها، ورجوت سلطة الدم، بعد مصرع آميديه وإيزابيل، وفاجعة الحبيب بالحبيب مذ كان الحب مقدرًا لا قدرًا، لإعتاقي. وعانقتُ روحها، وبحثت عن سلطة الوهم، بعد الفشل الذي منيت به في بحثي عن الأدب المدنس في الأندلس، لإغوائي. بدأ ذلك في الصحراء، مع سراب، وانتهى عند باب الصومعة. أعوزتني الشجاعة، وأعوزها الوقت، فعادت تبتهل، وهي بين ذراعيّ، تعبد، تتعبد:
أنا الروض قد أصبحت بالحسن حاليا تأمل جمالي تستفد شرح حاليا به القبة الغراء قل نظيرها ترى الحسن فيها مستكنًا وباديا تمد لها الجوزاء كف مصافح ويدنو لها بدر السماء مناجيا وتهوى النجوم الزهر لو ثبتت بها ولم تك في أفق السماء جواريا
يتبع الفصل الثاني عشر من القسم الثاني
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل العاشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل التاسع
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثامن
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السابع
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السادس
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الخامس
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الرابع
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثالث
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الأول
-
أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الخامس عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الرابع عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثالث عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثاني عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الحادي عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل العاشر
-
أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل التاسع
-
أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثامن
-
أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل السابع
-
أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل السادس
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|