|
آليَّاتُ الخِطابِ الشِّعريِّ في تجربة صلاح فائق الشِّعريَّة
شريف رزق
الحوار المتمدن-العدد: 4730 - 2015 / 2 / 25 - 01:52
المحور:
الادب والفن
شريف رزق
آليَّاتُ الخِطابِ الشِّعريِّ في تجربة صلاح فائق الشِّعريَّة
تُمثِّل تجربة الشَّاعر صلاح فائق (1945- ) ، مَعْلَمًا بارزًا في خريطة الشِّعريِّة العربيَّة الجديدة ؛ وهيَ تجربةٌ ذاتَ تجدُّدٍ دائمٍ ، منذُ خمسينَ عامًا ، ومنذ البدايةِ جاءَ صوتُ صلاح فائق شخصيًّا وخاصًّا وكثيفًا ، في نبرةٍ خاصَّةٍ ، وأداءٍ يجمعُ بين الوعي واللاوعي ، وبين المعِيشِيِّ والإنسانيِّ والكونيِّ ، ومِخيالٍ حُرٍّ وباذخٍ ، وليس من الدِّقةِ اعتباره شاعرًا سرياليًّا ، أو إدراجه بسهولةٍ واطمئنانٍ ضِمنَ وصفةٍ مُحدَّدةٍ لشعريَّةِ القصيدِ النَّثريِّ . وصلاح فائق أحدُ شعراءِ حَلقَةِ كركوك ؛ الَّتي تشكَّلتْ موجتُها الشِّعريَّةُ ، في أواخرِ السِّتينيَّاتِ ، مِنْ الشُّعراء : سركون بولص ، وصلاح فائق ، وفاضل العزَّاوي ، ومؤيَّد الرَّاوي ، وجان دمو ، والأب يوسف سعيد ، وشكَّلت مُنعطَفًا شعريًّا جديدًا ، عن مفهومِ الشِّعريَّة الجديدة ، المتركِّز في تجارب شعراء مجلَّة : شِعر ، اللبنانيَّة ؛ هذا المفهوم المتواشج مع الشِّعريَّة الفرانكفونيَّة والشِّعريَّة الأنجلو سكسونيَّة ، والمتمثِّل في أعمال : أدونيس ، وأنسي الحاج ، وشوقي أبي شقرا ، وعصام محفوظ ، وجبرا إبراهيم جبرا ، ويوسف الخال ، وإبراهيم شُكرالله . ومن بين شعراءِ كركوك كان التَّأثيرُ الأبرزُ ، والحضورُ العربيُّ ، مُتركِّزًا في مُنْجَزِ سركون بولص و مُنْجَزِ صلاح فائق . غَادَرَ صلاح فائق العِراقَ في عام 1974، إلى دمشقَ ، ثم إلى بيروتَ ، ثم إلى لندنَ ؛ الَّتي مكث فيها عشرينَ عامًا ، قبل أن يُغادرَها ، في عام 1994، إلى الفلبِّينَ ؛ حيثُ يعيش حاليًا . وقد أنجزَ صلاح عبْر خمسينَ عامًا ، نحو عشرين ديوانًا ؛ منها : (رهائن)، دمشق ، 1975، (رحيل)، لندن ، 1987، (تلك البلاد) ، لندن ، 1987،(دببة في مأتم) دار الجمل ، 2013 . ويكشِفُ الخِطابُ الشِّعريُّ لصلاح فائق، عنْ تضافُرِ مجموعَةٍ منْ الآليَّاتِ الخَاصَّةِ ؛ الَّتي تتآزرُ ، وتمنحُ الخِطابَ خصوصِيَّتَهُ الوَاضِحَةَ ، بينَ التَّجاربِ الشِّعريَّةِ المَرْكزيَّةِ ، في مَشْهَدِ الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ الجَديدَةِ ، ويأتي في مُقدِّمَةِ هذِهِ الآليَّاتِ : التَّوسُّعُ في إعْمَالِ مِخْيَالٍ شِعريٍّ باذِخِ وَحُرٍّ؛ تنصَهِرُ فيْهِ عناصِرُ تصويريَّةٌ وَمَعِيشَةٍ - التَّفاعُلُ الواضِحُ مَعَ حَيَوَاتِ الكَائِنَاتِ الأخْرَى ؛ شريكةَ الكائنِ الآدمِيِّ في الحَيَاةِ الكَونيَّةِ - الانفتَاحُ على آليَّاتٍ سَرديَّةٍ وَدِرَاميَّةٍ وَبَصَريَّةٍ مُتنوِّعَةٍ وَمُتآزِرَةٍ - النُّزوعُ إلى لغَةٍ شِفاهيَّةٍ بسيطَةٍ ، وَتَصْهَرُ هذِهِ الآليَّاتِ تجربَةٌ حَيَّةٌ ، يتَدَاخَلُ فيها المَعِيشِ بالمُتَخَيَّلِ تداخُلاً عَمِيقًا . إنَّ بنَاءَ المُتَخيَّلِ الشِّعريِّ ، في تجربَةِ صلاح فائق الشِّعريَّة ، يأتِي عَبْرَهيمنَةِ مِخيالٍ حُرٍّ ،لا تحُدُّهُ حدودٌ ، قادرٍ على إزالةِ الحدودِ بينَ التَّاريخِ والجغرافيا ، والواقعِ والحُلمِ ، والمَعيشِ والأسطوريِّ ، واليوميِّ والإنسانيِّ والكونيِّ ، والوعي واللاوعي ، مِخيالٍ خلاَّقٍ وجوَّابٍ ورهيفٍ وقادرٍ على الإدهاشِ الدائمِ ، عبْر لغةٍ طيِّعةٍ ؛ أقرب إلى الشِّفاهيَّة المعاصرةِ ، وأقرب إلى شعريَّة التَّقرير ؛ حيثُ يتجاورُ تحريرُ المِخيالِ الشِّعريِّ ، معَ تحريرِ اللغةِ الشِّعريَّةِ ، ونظرًا لِطَبيعَةِ التَّجربَةِ فإنَّ الإيقاعَ الأبْرَزَ لدَى فائق هُوَ إيقاعُ الصُّورَةِ العَجَائبيَّةِ المدْهِشَةِ ، وثمَّةَ حِرْصٌ وَاضِحٌ على بَرَاءَةِ الرُّؤى وَالتَّعبيرِ، وَتتَجَاورُ براءَةُ الوَعْي وَبَرَاءَةُ الرُّؤى مَعَ بَرَاءَةِ التَّعبيرِ في إنْجَازِ الخِطابِ الشِّعريِّ ، وَ تنتمِي هَذِه البَرَاءَةُ إلى وَعْي البدَاهَاتِ الأُوَلِ ، وَوَعْي مَا بعدَ الحداثةِ ، معًا : " مَلائِكةٌ مُسلَّحونَ يُطرِقونَ بَابِي لا أُجيْبُ . لا أفتحُ . أرَاهُمْ منْ نافذتِي أذْهَبُ إلى البيانو ، وَأعْزِفُ ، فيشتدّ الطَّرْقُ . أطْلُبُ منْ دُبٍّ يخدمُنِي أنْ يفتَحَ البَابَ . يَذْهَبُ أسْمَعُهُمْ ، بَعْدَ لَحَظَاتٍ ، يهربونَ صَارخِيْنَ ." لا تعرِفُ مُخيِّلةُ فائق الحُدودَ ، في إقامَةِ عَوَالمِهَا العَجَائبيَّةِ الطَّازجَةِ ؛ الَّتي يتجاورُ فيهَا المَعِيشُ وَالمُتخَيَّلُ ، وَتتَجَاورُ فيهَا الكائناتُ وَالأشيَاءُ وَالعَوَالِمُ ، وَيحضرُ الغَرَائبيُّ في الخِطابِ كَحَدَثٍ وَاقِعيٍّ مَألوفٍ منْ أحْدَاثِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ : طَعَنَ أحدهم ، أمامي ، رَجُلاً مُسناً " بَدَل أن يَهْرب ، وَقفَ وَبدأ يُغنّي ، ثُمَّ رَقصَ وَهُنا قامَ المَطْعون وَرَقصَ مَعَهُ لِدَهْشَتي كانا يَبْتسَمان سَمِعتُ اسْتحْسان الحاضرينَ وَسرَّني ذلك ." وتكونُ غرائبيَّةُ المَبْنَى الحِكائيِّ ، وَالعِلاقاتُ غيرُ المَألوفَةِ ، في سَرديَّاتِ صلاح فائق الشِّعريَّةِ ، في الأسَاسِ ، هيَ المَسْئولةُ ، عنْ تفجيرِ شِعريَّةِ النَّصِّ ، كَمَا في قولِهِ : " حينَ خرجتُ لمَشيتي هَذا الصَّباح انتبهتُ إلى حِصَانٍ أبيضَ يتبعُنِي يبدو نبيلاً , وَدُودًا رُبَّمَا يملكُهُ أميرٌ أو ناهِبٌ منْ ألفِ ليلةٍ وَليلة جَلسْنَا عِندَ هَضَبَةٍ وقتًا طويلاً سَرَدْتُ لهُ فُصُولاً منْ حَيَاتي فجأةً وَقَفَ , نظرَ إليَّ حَزِينًا , حَمْحَمَ بدَأ يعدو حَتَّى اخْتَفَى ."
وَلدَى فائق قُدرةٌ هَائلةٌ على الإدْهَاشِ ، بسَرديَّاتٍ شِعريَّةٍ ، ذَاتَ أدَاءٍ بسِيطٍ ، يَجْمَعُ في خِطابِهِ آليَّاتٍ سَرديَّةً وَدِرَاميَّةً وَبَصَريَّةً مُتنوِّعَةً، وتلعَبُ المُفَارَقةُ دَوْرًا رَئيسًا ، في تفجيرِ شِعريَّةِ النَّصِّ ، في بعضِ الحَالاتِ ، كَمَا في : " مُنذُ الصَّباحِ أفاوضُ نَهْرًا خَطَفَ كَلْبِي ـ مَاذَا فَعَلَ؟ وَمَا تُريدُ لإطْلاقِ سَرَاحِهِ ؟ ـ كلبُكَ وَقِحٌ وَغيرُ مُهذَّبٍ ؛ فهو يبولُ في مِيَاهِي أنْذرتُهُ مَرَّتينِ لكنَّهُ عنودٌ وَلا يحترِمُ الآخَرينَ يبدو أنَّكَ دَلَّلتَهُ كثيرًا . ـ أعِدُكَ أيُّهَا النَّهرُ بأنَّهُ لنْ يفعَلَ مَا فَعَلَ مَرَّةً ثانيَةً . ـ سَأطْلِقُ سَرَاحَهُ إذَا جَلَبْتَ أشْجَارًا مُثْمِرَةً وَغَرَسْتَهَا حَوْلَ ضفَّتيََّ . ـ كيفَ أفعلُ هَذا , أينَ أجِدُهَا ؟ ـ فهِمْتُ أنَّ لكَ أشْجَارًا مُثْمِرَةً خَلْفَ بيتِكَ انقلْ بعْضَهَا إلى هُنَا . ـ سَأذهَبُ إليهنَّ وَأسْألُهنَّ إذَا يوافِقْنَ على الانتِقَالِ إلى ضفَّتيكَ . أرْجِعُ إلى البيْتِ , أُفاجَأُ بكلبي يُشاهِدُ في التّلفزيونِ فيلمًا عنْ عجوزٍ ينقلُ أشْجَارًا مُثمِرَةً منْ ضفَّتيْ نهرٍ ليغرسَهَا خَلْفَ بيتِهِ القديمِ ". يُنْجِزُ فائق بعضَ نصوصِهِ كأنَّهُ يحلُمُهَا ، أوْ كأنَّهُ يعيشُ كوابيسَهَا ، وَتتحقَّقُ شعريَّةُ النَّصِّ منْ جُمْلةِ المَبْنَى الحِكائِيِّ الغَرَائبيِّ ؛ بسرديَّاتِهَا الخَارجَةِ على المَألوفِ ، كَمَا تتحقَّقُ إيقاعيَّةُ النَّصِّ منْ إيقاعيَّةِ الصُّورَةِ السَّرديَّةِ الكُلِّيَّةِ ، وَالصُّورَةِ البَصَريَّةِ الكُلِّيَّةِ ، كَمَا في نصِّ : مَقْبَرَة في رَأسٍ ؛ الَّذي جَاءَ على هَذا النَّحوِ: " ظُهْرَ أمْسِ كُنْتُ عَائدًا إلى غُرفتِي ، عَبْرَ مَقْبَرَةٍ رَأيْتُ منْ بَعيْدٍ مَظَلَّةٍ كبيرَةٍ مَفتوحَةٍ فَوْقَ قبْرٍ اقترَبْتُ ، إذَا بيَدٍ نحيلةٍ تُمسِكُ تِلكَ المَظلَّةِ - لا أرَى مَطَرًا هُنَا ، لمَاذَا هذِهِ المظلَّةُ مَفْتُوحَةٌ ؟ . سَألتُ - المظلَّةُ ليسَتْ لِلمَطَرِ فَقَطْ ، مُفِيدَةٌ أيضًا لاتِّقاءِ حَرَارَةِ الشَّمسِ وَأشعَّتِهَا . أجَابنِي صُوْتٌ مُنْهَكٌ . - رُبَّمَا تحتاجُ مَرْوَحَةً كهربائيَّةً صَغِيرَةً . - عِندِي وَاحِدَةٌ ، شُكرًا لاهتِمَامِكَ . اليَومَ مَرَرْتُ منْ هُنَاكَ لمْ أرَ أيَّ مظلَّةٍ أوْ قبْرٍ أوْ تَابُوتٍ مفتوحٍ : بضْعَةُ بيوتٍ مُبَعْثَرَةٌ وَدُكَّانٌ صَغيرٌ لِبيعِ الفَوَاكِهِ ، حَيْثُ كانَ القَبْرُ أمْسِ . لا أتذكَّرُ هَذا الدُّكانَ ، أهُوَ جَدِيدٌ ؟ أبدًا ، أنَا هُنَا مُنذُ سَنَواتٍ ، أجَابنِي صَاحِبُ الدُّكَّانِ أنَا أتذكَّرُ مَقْبَرةً هُنَا مَقْبَرَةٌ ؟ أيُّ مَقْبَرَةْ ؟." وتبدو الذَّاتُ الشَّاعِرَةُ في هَذا الخِطابِ وَحِيدَةً ، في المَدينةِ الكونيَّةِ الجَامِعَةِ ، تأتيها الأصْواتُ والرُّوى منْ عوالمَ شتَّى ؛ يتداخَلُ فيها الواقعِيُّ والمتخيَّلُ ، وَعَلى الرَّغمِ منْ هذِهِ الوِحْدَةِ العَمِيقَةِ ثمَّةَ أواصِرُ وَعِلاقاتٌ وَصَدَاقاتٌ حَمِيمَةٌ بيْنَ الذَّاتِ الشَّاعرَةِ وَالحَيَوَانَاتِ وَالأشْيَاءِ القريبَةِ منْهَا أوْ الكونيَّةِ ، تَجْعَلُ الإنسَانَ فرْدًا في العَائِلَةِ الكُونيَّةِ الرَّحِيْبَةِ ، وفي هذِهِ الحَيَاةِ المَفتوحَةِ على حَيَواتِ الكَائناتِ ، لنْ يكونَ منْ الغَريبِ أنْ تَتَعَايشَ كائناتٌ أخْرَى مَعَ الذَّاتِ الشَّاعرَةِ ، وَأنْ تكونَ لأشْيَاءِ الحُجْرَةِ حَيَوَاتٌ ، أخْرَى ، مُجَاورَةٌ ، وَهِيَ حَيَواتٌ تحضُرُ أكثرَ منْ حَيَواتِ البَشَرِ في حَيَاةِ الذَّاتِ الشَّاعِرَةِ ، المَفتُوحَةِ على حَيَوَاتِ بقيَةِ العَائلةِ الكونيَّةِ ، ببذخٍ وَاضِحٍ : تَحْتَ سَريري يزْأرُ أسَدٌ جَريحٌ" أنتَظِرُ سَيَََّارَةَ إسْعَافٍ لأنقلَهُ إلى مُسْتشْفى أوْ إلى مَأوى آخَر . بَيْتِي ضَيِِّقٌ لي كُتُبٌ لَمْ أقرأْهَا . وَضيوفي في ازْديَادٍ أمْسِ هَرَبتْ نافذةٌ بِسَببِ ذَلكَ سَريري يَئنُّ تَحْتَ أسَدٍ جَريحٍ ." الحَيَوانَاتُ ، في هَذا الخِطابِ ، تتَخلَّى عنْ أعْرَافِهَا المَألوفَةِ ، وَتتواصَلُ مَعَ الذَّاتِ الإنسَانيَّةِ الشَّاعرَةِ ، وَتَتَآلفُ ، وَتَتَعَايَشُ ، وَ تَتَبَدَّى في عِلاقاتٍ جَديدَةٍ ، وَثمَّةَ حضورٌ وَافِرٌ لِلحَيَوانَاتِ وَالطّيورِ في المَشْهَدِ المَعِيشِ : " بِطاسَةٍ مِن نحاس أقدِّم ماء إلى نَسرٍ مُنْهَكٍ يَنظر إليّ ، يَشْرَبُ يَطير، يَحوم حَولي يَنزل، يَقف على رُكبتي اليُمْنى أُرحِّبُ بهِ ، أظنهُ يَعْرفني ." ثمَّةَ تعايشٌ لافِتٌ بينَ الذَّاتِ المُبدعَةِ وَالحَيَوانَاتِ وَالطّيورِ وَسَائرِ كَائنَاتِ الطَّبيعَةِ ، في مُقابلِ التَّخفُّفِ منْ حَيَوَاتِ البَشَرِ: " أمَامَ المُحِيطِ الذَّاهِبِ إلى أمريكا أنتظِرُ حُوْتًا يبلعُنِي ، ينقلُنِي إلى أيِّ مَكَان ." وَمنْ الوَاضِحِ أنَّ الذَّاتَ الشَّاعرَةَ تتغلَّبُ على وَطأةِ وحْدَتِهَا بالتَّواصُلِ مَعَ غيرِهَا منْ الكَائنَاتِ ، غيْرَ أنَّهَا ، في أحْيَانٍ أخْرَى ، تكشِفُ عنْ عذاباتِهَا الثَّقيلَةِ ، في وَحْشَتِهَا المُسْتبدَّةِ : في الخَارجِ رُوحِي تجلسُ على صَخْرَةٍ " أنتظرُعودتَهَا كيْ أذْهَبَ إلى مكتبَةٍ عمودي الفِقَريُّ , هُوَ الآخَرُ يُفكِّرُ بالهِجْرَةِ ، لمْ يَعُدْ يتحَمَّلنِي ." وَيَصْهَرُ المَحْكى العَجائبيُّ المَسَافاتِ بيْنَ التَّواريخِِ ، وَالحَيَوَاتِ ، وَالأمْكِنةَِ ، وَيُنْجَزُ الخِطابُ الشِّعريُّ بأدَاءٍ شديدِ البَسَاطةِ وَالعفويَّةِ ، وفي أشْكالٍ مُتنوِّعَةٍ ؛ ففي نصِّهِ : النَّبيُّ نُوح في سِجنٍ فِلبينيٍّ ، جَاءَ الخِطابُ الشِّعريُّ في صورَةٍ مُكالمَةٍ تليفونيَّةٍ ، على هَذا النَّحوِ : " يَرِنُّ الهَاتِفُ . نَعَمْ ؟ هَلْ أنْتَ صلاح فائق منْ العِرَاق ؟ نَعَمْ ، مَنْ أنْتَ ؟ أنَا الكولوبتل فيرلو مديرُ السِّجنِ المَرْكزيِّ في مدينةِ سيبو ، أُخَابرُكَ لأطلبَ مُسَاعَدَتَكَ . مُسَاعَدَتِي ؟ اسْمَحْ لي أنْ أشْرَحْ لكَ المَوْضُوعَ ؛ ألقَى خَفَرُ السَّواحِلِ ، ليلةَ أمْسِ ، القَبْضَ على شَخْصٍ اسْمُهُ نُوح ، وَيَدْعُو نفسَهُ النَّبي نُوحَ ، وَكَانَ يُهَرِّبُ سَفينَةً مُحَمَّلةً بحَيَوَانَاتٍ وَطيورٍ وَزَوَاحِفَ وَعَدَدٍ منْ البَشَرِ . وَمَا عِلاقتِي بكُلِّ هَذا ؟ هُوَ طَلَبَ لقاءَ أيِّ عِرَاقيٍّ منْ بلدَةٍ أوْ مَدِينَةٍ سُومَريَّةٍ . أخْبَرَتْنَا دَائرَةُ الهِجْرَةِ وَالإقامَةِ في مَدِينَةِ سيبو بأنَّكَ عِراقيٌّ منْ مَدِينَةٍ اسْمُهَا كركوكَ ، وَهذِهِ حَسْبُ نُوحٍ ، مَدِينَةٌ بنَاهَا سُومَريُّونَ . نُوحُ يدَّعِي أنَّه سُومَريٌّ ، وَيحتاجُ مُسَاعَدَتَكَ . حَسَنًا سَأكونُ هُنَاكَ بَعْدَ سَاعَةْ ."
وَتنهدِمُ الحُدودُ التَّاريخيَّةُ ، في مُخيِّلةِ الشَّاعرِ الحُرَّةِ ؛ فتتَّصل حياتُهُ بأزمِنَةٍ سَحيقَةٍ ، قدْ تصِلُ إلى عَصْرِ الكهوفِ ، كمَا في هَذا النَّصِّ : " عِشْتُ في كُهوف حَفرَها رهبانٌ جيرانِي خَفافيشُ عَمْياءُ وَثعابينُ أليفَةٌ في الليْلِ أجوبُ مَعَ ضِبَاعٍ وَغزلان في وَاديْهَا الضَّيِِّقِ التقيتُ الشِّتاءَ، في ظَهيرَةٍ ، هُناكَ وَقَدْ جَرحَتْهُ ضَوارٍ عالَجْتهُ ببلْسَمٍ خاصٍّ وَحَملَهُ رُفاقي إلى قَرْيَةٍ في جَبَلٍ ." وَبالإضَافةِ إلى صَهْرِ المَسَافاتِ بيْنَ المَعِيشِِ والمُتخيَّلِ ، وَالأزمنةِ والأمكنةِ ، وَالكائناتِ ، يَصْهَرُ - كَذلكَ - الحُدودَ بيْنَ الأشْكالِ وَالأجنَاسِ الأدبيَّةِ وَالفنيَّةِ ، في بنيَةِ الخِطابِ الشِّعريِّ ؛ عَبْرَ سِلْسِلةٍ منْ التَّداخُلاتِ النَّصِّيَّةِ بيْنَ الغِنائيِّ والسَّرديِّ والدِّراميِّ ، و التَّقريريِّ والتَّصويريِّ ، بالتَّجاورِ مَعَ تداخُلاتِ العَوالمِ والحَيَوَاتِ ؛ مِمَّا يُؤسْطِرُ المَشْهدَ الشِّعريَّ ، ويُضفِي عليْهِ طابَعَ السِّحريَّة والعجائبيَّة ؛ فلا تُوجَدُ حدودٌ بيْنَ المَاضِي والحَاضِرِ ، ولا - حتَّى - بيْنَ المَوْتَى والأحَيْاء : " دَخَلْتُ مَقْهَى وَجَدْتُ لينينَ ، وَاقِفًا يُدخِّنُ أمَامَ تليفزيونٍ التفتَ ، رَآنِي ، صَرَخَ : أنْتَ ، هُنَا ، أيضًا ؟ فَخَرَجْتُ ؛ لأتفادَى لِسَانَهُ السَّليطَ وَدُخَانَهُ الخَانقَ ." تتنقَّلُ الذَّاتُ الشَّاعرَةُ بيْنَ العَوَالمِ ، بحُريَّةٍ وَاضِحَةٍ ، وَتتبدَّى في حَيَوَاتٍ جَديدَةٍ ، وَحَيَوَاتٍ تمزجُ القديمَ بالجديدِ ، وَحَيَواتٍ قديمَةٍ ، مُحَافظَةً على جوهرِهَا ، وتفاعُلاتِهَا مَعَ غيرِهَا منْ جيرَانِ العائلةِ الكونيَّةِ : " أضْطجعُ تحْتَ أغْصَانِ شجرَةِ سروٍ مُنتظِرًا شخصِيَّةً مُحبَّبةً منْ إحْدِى الرِّوايَاتِ عنْ بلدي القديمِ . فجْأةً تمرُّ مُظاهَرَةُ هنودٍ بمَشَاعلَ تُطالبُ بإبعادِ استراليا عنْ آسيا وإلى منطقةٍ نائيةٍ خلفَ أميركا . أنْهَرُ هِنديًّا وَاقفًا في شُرْفةٍ يُصفَّقُ لهُمْ , فيسقطُ منْ ذلكَ العلوِّ على الأرْضِ أهربُ وَأنَا عَارٍ تقريبًا , آمِلاً لمْ يسمعنِي أحدٌ أو رَآنِي ـ سَهْلٌ تشخيصِي شَعْرُ جَسَدِي غزيرٌ , أُشْبِهُ قردًا مَعَ أنِّي لا أقفزُ منْ شَجَرَةٍ إلى شَجَرَةٍ لأنِّي لا أسْتطيعُ . وَهَذا هُوَ الفَرْقُ ".
ولا يرتبط فائق بمفهومٍ مُحدَّدٍ وثابتٍ لـ قصيدةِ النَّثر ، سِوىَ مفهومِهِ الخاصِّ ، الَّذي يتجدَّد مع تجاربِهِ المتجدِّدةِ دائمًا ، شديدة الخصوصيَّة ، وواضحة المعالمِ ، وعميقة التَّأثير في مشهدِ الشِّعريَّة العربيَّة الرَّاهنة .
#شريف_رزق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدِّيوانُ النَّثريُّ لأبي القاسِم الشَّابيِّ
-
مُشْكِلاتُ قصيدَةِ النَّثرِ الرَّاهِنَةِ
-
النَّثرُ الشِّعريُّ
-
الشِّعرُ المنثُورُ
-
النَّثرُ الصُّوفيُّ الشَّعريُّ
-
النَّثْرُ الفَنيُّ
-
شِعريَّةُ النَّثرشِعْريِّ
-
فَضَاءٌ آخَرٌ ، لِشِعْريَّةٍ أُخْرَى
-
الشِّعريَّاتُ الأساسيَّةُ في قصيدَةِ النَّثرِ العربيَّةِ
-
شِعريَّةُ السِّيرذَاتيِّ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّة
-
شعريَّةُ الغنائيَّةِ الجديدَةِ في قصيدَةِ النَّثرِ المِصْريّ
...
-
شِعريَّةُ الغُرفَةِ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّةِ
-
شِعريَّةُ المدينَةِ في قصيدةِ النَّثر المصْريَّةِ
-
المفاهيمُ النَّظريَّة للأنواعِ الشِّعريَّة في شِعرِ النَّثرِ
-
عَذَابَاتُ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ في وَحْشَةِ العَالمِ
-
شِعريَّةُ قَصِيدَةِ النَّثرِ
-
لانبعَاثَاتُ الأولى لقَصِيدَةِ النَّثر في مَشْهَدِ الشِّعر ا
...
-
شِعريَّاتُ المشْهَدِ الشِّعريِّ المصْريِّ الجديد في قصيدَةِ
...
-
تداخُلاتُ الأنواعِ الأدبيَّةِ والفَنيَّةِ في قصيدةِ النَّثرِ
...
-
إِشكاليَّاتُ النَّوعِ الشِّعريِّ في قَصِيدةِ النَّثْر
المزيد.....
-
80 ساعة من السرد المتواصل.. مهرجان الحكاية بمراكش يدخل موسوع
...
-
بعد إثارته الجدل في حفل الغرامي.. كاني ويست يكشف عن إصابته ب
...
-
مهندس تونسي يهجر التدريس الأكاديمي لإحياء صناعة البلاط الأند
...
-
كواليس -مدهشة- لأداء عبلة كامل ومحمد هنيدي بفيلم الرسوم المت
...
-
إحياء المعالم الأثرية في الموصل يعيد للمدينة -هويتها-
-
هاريسون فورد سعيد بالجزء الـ5 من فيلم -إنديانا جونز- رغم ضعف
...
-
كرنفال البندقية.. تقليد ساحر يجمع بين التاريخ والفن والغموض
...
-
أحلام سورية على أجنحة الفن والكلمة
-
-أنا مش عايز عزاء-.. فنان مصري يفاجئ متابعيه بإعلان وصيته
-
ماذا نعرف عن غزة على مر العصور؟ ولماذا وصفت بـ-بنت الأجيال-؟
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|