أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف رزق - الشِّعرُ المنثُورُ















المزيد.....



الشِّعرُ المنثُورُ


شريف رزق

الحوار المتمدن-العدد: 4727 - 2015 / 2 / 21 - 13:10
المحور: الادب والفن
    


الشِّعرُ المنثُورُ

.. تفعيْلُ التََّأسيسِ للشِّعرِ خَارجِ الوَزْنِ .


" الوزنُ ليسَ مِنْ الفَصَاحَةِ وَالبَلاغَةِ في شَيءٍ ،
إذْ لوْ كَانَ لَهُ مَدْخَلٌ فيْهِمَا
لَكَانَ يجبُ في كلِّ قصيدتينِ اتَّفقتَا في الوَزْنِ
أن تتفقا في الفصاحة والبلاغة "

عبد القاهر الجرجاني
(دلائل الإعجاز) – ص : 302



تمهيـد

مِنْ العَسِيرِ - حَاليًا - على الكثيريْنَ أنْ يَتَصَوَّروا الشِّعرَ مُتَجَرِّدًا مِنْ ثَوَابتِهِ الأسَاسِيَّةِ التَّاريخيَّةِ وَيظلُّ شِعرًا .
وَهَذَا الَّذي يحدُثُ - حاليًا - يقتربُ - في كثيرٍ - وَبِشَكْلٍ عَامٍ - ممَّا حَدَثَ لأوَّل مرَّةٍ مُنذُ قَرْنٍ على التَّقريبِ . وَمُعْظَمُ ما يُثارُ منِْ غُبارٍ في هَذِهِ المعَامِعِ ، قَدْ أُثيرَ بالفِعْلِ مُنذئذٍ ؛ فعلى إثْرِ الاطِّلاعِ على مُغَامَرَةِ والت وايتمان - الَّتي أحْدَثَهَا في الشِّعرِ الأمريكيِّ في عَامِ 1855وَتَطَايرَتْ شَظَايَاهَا إلى كُلِّ الجهَاتِ ، تَوَالَتْ المقَالاتُ في صِحَافتِنَا الأدبيَّةِ ، تُحَاولُ الرَّبطَ بَيْنَ الشِّعر الحرِّ مِنْ الأوْزَانِ - عِنْدَ الإفرنجِ - وَبَعْضِ المقُولاتِ المبثُوثَةِ في تاريخنَا النّقديِّ وَلا تُقْصِرُ الشِّعرَ على الموزُونِ .
وَهَذَا الَّذي حَدَثَ في طَلائِعِ القَرْنِ الماضِي يُشْبِهُ مَا حَدَثَ منذُ سِتينيَّاتِهِ ؛ حَيْثُ حَاوَلَ الكثيرونَ إقَامَةَ الجسورِ بَيْنَ المحدِّدَاتِ الَّتي وَضَعَتْهَا سوزان برنار، في عَامِ 1958، وَأشْتَاتٍ مِنْ تُرَاثِنَا تَتَّسقُ مَعَهَا في الأطُرِ العَامةِ .
هَذِهِ الانطلاقَةُ الهادِرَةُ لِشِعرِ النَّثرِ سَتَتَحَدَّدُ مَعَالمهَا في ثَلاثِ مَرَاحِلَ ، تَرْتَبِطُ بحرَكَةِ الشِّعرِ العَالميِّ ، وَتُشِّكلُ تجليِّاتٍ ثلاثةً لِلمَشْروعِ الأسَاسِيِّ الأكبرِ، وَهُوَ الشِّعرُ نثرًا :
المرحَلَةُ الأولى :
تمتدُّ مِنْ بدايات القَرْنِ الماضِي ؛ وَحَتَّى الأربعينيَّاتِ ، وَقَدْ سَيْطَرَ عليْهَا النُّزوعُ الرُّومَانسِيُّ الوجدانيُّ بتدفُّقِهِ البَسِيطِ .
المرحَلَةُ الثَّانيةُ :
بَدَأتْ مُنْذُ أوَاخِرِ الثَّلاثينيَّاتِ وَحَتَّى أوَاخِرِ الأرْبعينيَّاتِ ، وَبهذَا العُمْرِ القَصِيرِ كَانَتْ كَالشِّهابِ الَّذي سَيَظَلُّ أثَرُهُ هَادِرًا في وَعْي النُّخبَةِ ، وَقَدْ سَيْطَرَ عليْهَا النُّزوعُ الحدَاثيُّ الطَّليعيُّ في تجلِّيهِ السِّرياليِّ على وَجْهِ الخُصوصِ .
المرحلة الثَّالثة :
بَدَأتْ مُنْذُ السِّتينيَّاتِ وَلاتَزَالُ قائِمَةً ، وَمُنْتَصِرةً ،وَيُسيطِرُ عليْهَا مختلَفِ التَّوجُّهَاتِ الحدَاثيَّةِ المُهَيْمِنَةِ على الشِّعرِ العَالميِّ ، وَعلى أيْدِي شُعَرَاءِ هَذِهِ المرْحَلَةِ أصْبَحَ لِشِعرِ النَّثرِ مَرْكزُ الخريطَةِ الشِّعريَّةِ ، غَيْرَ أنَّه مِنْ الخَطَلِ أنْ نَقْتَصِرَ دَائِمًا على المرْحَلَةِ الأخيرَةِ مِنْ أشْكَالِ التَّحوُّلاتِ الشِّعريَّةِ في خَريطَةِ الشِّعرِ النّثريِّ .وَمِنْ هُنَا تَأْتي أهميَّةُ الإلمامِ بمَا اعْتَرَى هَذَا المشروعَ في مَرْحَلَتِهِ التَّأسيسيَّةِ المؤسِّسَةِ ، وَهيَ الَّتي هَيْمَنَ فيْهَا مُصْطَلَحُ الشِّعرِ المنثورِ Blank verse ، وَأُثيرَتْ فيْهَا أهمُّ القَضَايَا الَّتي سَتَظلُّ تُثَارُ .

مَفْهُومُ الشِّعرِ المُحِيطُ بِمَشْهَدِ الشِّعرِ المَنْثُورِ
تجاوَرَتْ مَعَ تجارَبِ الشِّعرِ المنثُورِ محاوَلاتٌ تنظيريَّةٌ عديدَةٌ ، حَاوَلَتْ تَوْسِيعَ مَفْهُومِ الشِّعرِ ، وَتحديثِهِ ، على ضَوْءِ الآفَاقِ الجديدَةِ ؛ الَّتي ارْتَادَهَا الشِّعرُ المنثُورُ ، وَفَتْحَهُ على مَفْهُومِ الشِّعريَّاتِ الأوربيَّةِ الحديثَةِ ، وَمَا يَطْرَحُهُ الشُّعَرَاءُ مِنْ رُؤى جَديدَةٍ ؛ تَتَخَطَّى المفهُومَ التَّقليديَّ المتَوَارَثَ .
يَتَبَدَّى هَذَا المفهومُ الجديدُ ، في مَفْهُومِ إبراهيم اليَازجيِّ(1847– 1906) ؛ الَّذي رَصَدَ فيْهِ عِلاقَةَ الوَزْنِ بِالشِّعرِ بقولِهِ :
" الظَّاهرُ أنَّ الوَزْنَ ليْسَ في شَيءٍ مِنْ أرْكَانِ الشِّعرِ وَلا دَخْلَ لَهُ في مَاهِيَّتِهِ ، وَأصْلِ وَضْعِهِ ؛ لأنَّا إذَا تَفَقَّدْنَا الشِّعرَ القديمَ ؛ كَالْوَارِدِ في بَعْضِ أسْفَارِ التَّورَاةِ وَالنُّبوءَاتِ لمْ نجدْهُ مَبْنيًّا على أوْزَانٍ مُطَّردةٍ وَلا مُفَصَّلاً في أبيَاتٍ مُقدَّرَةٍ كَمَا هُوَ المتعَارَفُ اليَوْمَ . وَإنَّما كَانَ يَتَمَيَّزُ الشِّعرُ عِنْدَهُمْ بِنَبَاهَةِ أغْرَاضِهِ وَسموِّ مَعَانيْهِ وَالإكثَارِ فيْهِ مِنْ الصُّورِ الخياليَّةِ وَالتَّفنُّنِ في أسَاليبِ المجازِ مَعَ تَوَخِّي الألفَاظِ الفَصِيحَةِ وَالتَّراكيبِ البَلِيغَةِ ؛ الَّتي لمْ تَألفْهَا العَامَّةُ وَلمْ تَتَبَذَّلْ في اسْتِعمَالِ غيرِ الخَاصَّةِ ، وَأمَّا القافيَةُ فَلَمْ يُصْطَلَحْ عليْهَا إلاَّ في الأزْمِنَةِ المتأخِّرةِ ، وَالظَّاهِرِ مِنْ مَبَاحِثِ أهْلِ التَّحقيْقِ أنَّهَا أوَّلُ مَا اسْتُعمِلَتْ عِنْدَ العَرَبِ ، وَعَنْهُمْ أخَذَ غَيرُهُمْ مِنْ أصْحَابِ سَائرِ اللغَاتِ ، وَلعَلَّ أوَّلَ شِعْرٍ مُقَفَّى في العبرانيَّةِ هُوَ مَا جَاءَ في مَقَامَاتِ يهوذا بن سليمان الحريزيِّ ... الَّتي تحدَّى بها مَقَامَاتِ الحريريِّ ، فإنَّهُ بَنَاهَا على السَّجعِ وَأتَى بشِعْرهَا مَوْزُونًا على بَعْضِ الأبحرِ العَرَبيَّةِ ؛ كَالْوَافرِ وَالسَّريعِ وَالرَّجزِ، مَعَ القَوَافي المطَّردَةِ ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلكَ على أنَّ الفَرْقَ المعْتَبَرَ بَيْنَ الشِّعرِ وَالنَّثرِ إنَّمَا هُوَ مَعْنَويٌّ لا لَفْظيٌّ ، وَأنَّ الوَزْنَ وَالتَّقفيَةَ لا يَكْفيَانِ لِصَيرورَةِ الكلامِ شِعْرًا مَا لمْ يَكُنْ مُسْتَوفيًا لِلشَّرَائِطِ المعنويَّةِ حَتَّى يكونَ شِعرًا بِالمعنى قَبْلَ أنْ يَكونَ شِعرًا بِاللفظِ ."(1)
كَمَا يَتَبَدَّى هَذَا المفهومُ لَدَى مصطفى لطفي المنفلوطي (1872-1924)، وَهُوَ يَرْصُدُ عِلاقَةَ الشِّعرِ بآليَّاتِ نَظْمِ الشِّعرِ، وَبِالأوْزَانِ تحديدًا ؛ حَيْثُ رَأى أنَّ
" الشِّعرَ ، أمْرٌ وَرَاءَ الأنغَامِ وَالأوْزَانِ ، وَمَا النَّظمُ بالإضَافةِ إليْهِ إلاَّ كَالحلى في جيْدِ الغَانيَةِ الحسْنَاءِ ، أوْ الوَشْي في ثَوْبِ الدِّيبَاجِ المُعَلَّمِ ، فَكَمَا أنَّ الغَانيَةَ لا يُحْزِنُهَا عَطَلُ جِيْدِهَا ، وَالدِّيبَاجُ لا يُزْرِي بِهِ أنَّهُ غيرُ مُعَلَّمٍِ ، كَذَلكَ الشِّعرُ ، لا يُذْهِبُ بحُسْنِهِ وَرُوَائِهِ أنَّهُ غيرُ مَنْظُومٍ وَلا مَوْزُونٍ."(2)
وَمَعَ مَطَالِعِ القَرْنِ العِشْرينِ تَتَابَعَتْ المقَالاتِ في التَّعريفِ بطبائِعِ الشِّعرِ الأوربيِّ ، وَعَقْدِ المقَارَنَاتِ بينَهُ وَبَيْنَ الشِّعرِ العَرَبيِّ ، وَالدَّعوَةِ لِطَرَائقَ جَديدَةٍ على الشِّعرِ العَرَبيِّ تُلْحِقُهُ بحرَكَةِ الشِّعرِ العالميِّ ، وَمِنْ بَوَاكيرِ الدَّعَوَاتِ دَعْوَةُ الشَّاعرِ التُّونِسِيِّ عبد العزيز المسعودي - في مجلَّةِ: السَّعادَةِ العُظْمَى، في عَامِ 1902- إلى المزيدِ مِنْ التَّحرُّر وَالانْفِتَاحِ وَارْتيَاد الشِّعرِ في النَّثرِ؛ اقْتِدَاءً بمَا يُكْتَبُ في الشِّعرِ الغَرْبيِّ ؛ حَيْثُ أوْضَحَ أنَّ
" لِكُتَّابِ الإفْرنجِ وَمْنْ قَلَّدَهُمْ مِنْ كُتَّابنَا المعَاصِريْنَ أسَاليبُ غيرُ مُتَعَارَفَةٌ مِنْ قَبْل في الكِتَابَةِ الشِّعريَّةِ مِنْهَا اسْتِعْمَالُ الشِّعرِ في النَّثرِ ، فَتَرَى الكَاتِبَ يُوزِّعُ أنْوَاعًا مِنْ الكَلامِ مختلِفِ الموَاضِيْعِ فَوْقَ لَوْحِ التَّخيُّلِ ؛ لِيُرَكِّبَ مِنْهُ الجمْلَةَ المطلوبَةَ لَهُ في غَرَضِهِ المخصوصِ ،كَمَا يُفْرِغُ الرَّسَامُ أنْوَاعًا مِنْ الأدْهَانِ المحلولَةِ ، لإيجادِ اللونِ المنَاسِبِ لرَسْمِ شَكْلِ تَرْسِيمِهِ."(3)
وَقَدْ اضطلَعَتْ مجلَّةُ (الهلال) بدورٍ أسَاسيٍّ في التَّرويجِ لمبدَأ الشِّعرِ في النَّثرِ، ومِنْ ذَلكَ - على سَبيْلِ المثَالِ - في عَامِ 1904، مُوَازنَةٌ مَعْقُودَةٌ بَيْنَ وَاقِعِ الشِّعرِ الأوربيِّ وَوَاقِعِ الشِّعرِ العَرَبيِّ ، كانَ ممَّا جاءَ فيْهَا أنَّ
" فيكتور هوجو لمْ يَلْتَفِتْ كثيرًا لأوْزَانِ العَروضِ الَّتي نَظَمَ فيْهَا مَنْ تَقَدَّمَ عليْهِ مِنْ الشُّعرِاءِ ؛ بَلْ تَسَاهَلَ جدًّا في جَانبِ الألفَاظِ ، وَاسْتَحْدَثَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ أنْوَاعًا جَديدَةً ،وَوَضَعَ هَذِهِ القَاعِدَةَ ، " إنَّ الشِّعرَ ليْسَ في قَوَالبِ المعَاني ؛ وَإنَّمَا هُوَ في المعَاني نَفْسِهَا ؛ فَالشُّعرُ هُوَ الأمْرُ البَاطِنيُّ لِكُلِّ شَيءٍ في الوُجودِ " .
" وَهَذِهِ القَاعِدَةُ ليْسَتْ مجهولَةً بِالتَّمَامِ ، عِنْدَ أدَبَاءِ العَرَبِ ، وَلَعَلَّ ابْن رُشدٍ أشَارَ إليْهَا بقولِهِ عَنْ المحاكَاةِ في اللفظِ ؛" أعْنِي الأقَاويْلَ المُخيَّلَةِ غيرِ الموزُونَةِ ". وَحُكِيَ عَنْ حَسَّانٍ بنِ ثَابِتٍ حِيْنَمَا أتَاهُ ابنُهُ عبد الرَّحمن ، وَهُوَ صَبيٌّ، يَبْكِي وَيَقُولُ : " لَسَعَني طَائِرٌ"، فَقَالَ حَسَّانُ :" صِفْهُ يَا بُني" . فَقَالَ : " كَأنَّهُ مُلْتَفٌّ في بُرْدَيْ حَبْرَةٍ "، وَكَانَ لَسَعَهُ زنبورٌ ، فَقَالَ حَسَّانُ : " قَالَ ابْني الشِّعرَ وَرَبِّ الكَعْبَةِ " . فَمَقْصُودُ الصَّبيِّ أنَّ الطَّائرَ الَّذي لَسَعَهُ ، يُشْبِهُ في أجْنِحَتِهِ وَشَكْلِهِ المُنقَّشِ العَجِيْبِ الشَّخصَ الملتفَّ بِرِدَاءٍ مُوَشَّى وَمُصبَغٍ ، وَقَوْلُ حَسَّانٍ حُجَّةٌ على أنَّ الشِّعرَ لا يَنْحَصِرُ في الكَلامِ المقَفَّى الموْزُونِ ."(4)
وَفي أكتوبر مِنْ عَامِ 1905 بَدَأ جورجي زيدان (1861- 1914) في التَّكريسِ لمصْطَلَحِ الشِّعرِ المنثُورِ ، حِيْنَ قَدَّمَ لِنَصٍّ شِعريٍّ - سمَّاهُ " قَصِيدَةً منثُورَةً " - كَتَبَهُ أمين الرَّيحاني - في وَصْفِ غيَابِ الشَّمسِ بلبنان ، في يَوْمٍ مِنْ أيَّامِ الخريفِ عبَّرَ عَنْهُ بـ : الحيَاة أوْ الموت - مُوضِّحًا أنَّهُ يقدِّمُهُ مثالاً لهذَا النَّوعِ مِنْ الشِّعرِ ، وَيَضَعُ لهذَا التَّقديمِ عُنوَانَ: " الشِّعر المنثور في اللغَةِ العربيَّةِ " وَيُبَّينُ فيْهِ أنَّ
" الشِّعر عِنْدَ العَرَبِ الكلامُ المقفَّى الموْزُونُ ، فإنْ لمْ يَكُنْ كَذلكَ لا يعدونَهُ شِعرًا ، فَكَأنَّهُمْ عَرَّفُوا الشِّعرَ بلفظِهِ لا بمعنَاهُ ، وَأمَّا الإفرنجُ فيعرِّفونَهُ بمعنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مَنْظُومٌ وَمَنثُورٌ ، وَالمنظومُ قَدْ يَكُونُ مَوْزُونًا غيرُ مُقفَّى أوْ مُقفَّى غَيُر مَوْزُونٍ وَإنَّمَا العُمْدَةُ عِنْدَهُمْ على الخيَالِ الشِّعريِّ أوْ المعَاني الشِّعريَّةِ .(5)
وَجورجي زيدان بهذِهِ الخُطوَةِ ، قَدْ فَتَحَ البَابَ على مِصْرَاعيْهِ لِلولوجِ إلى عَوَالمِ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَالتَّعرُّفِ على هُويَّتِهِ المسْتَقلَّةِ ، وَكَيْفِيَّةِ اخْتِلافِهِ عَنْ النَّثرِ العَاديِّ المعروفِ ؛ فَسرعَانَ مَا تَبِعَهُ بولس شحادة (1882-1943) ، مُقرًّا بأنَّ زيدان ، قَدْ فَتَحَ " وَلا رَيْبَ بابًا وَاسِعًا في الشِّعرِ يَسْتَطِيعُ أنْ يلجَهُ كثيرونَ مِنْ شُعرائِنَا الَّذينَ سَئِمَتْ نفوسُهُمْ مُتابعَةِ طُرُقِ العَرَبِ في النَّظمِ وَرَغِبُوا في أنْ يُلقوا عَنْ عَاتِقِهِمْ تِلكَ القيودَ الثَّقيلَةَ "(6)، وَبالإضَافَةِ إلى هَذَا - الَّذي يهمُّنَا هُنَا على وَجْهِ التَّحديدِ - فإنَّ شحادةَ يدعو شُعرَاءَنا إلى أنْ يحذو حَذْوَ الإفرنجِ وَيَنْظِموا شِعرًا مَوْزُونًا لا قَافيَةَ لَهُ كَمَا كَانَ يَنْظِمُ شُعَرَاءُ الجاهليَّةِ قبلَ امْريء القيسِ ، وَكَمَا فَعَلَ مُلتُن وَشكسبير في مُعْظَمِ مَا نُشِرَ لهمَا ، وَبالتَّالي أخَذَتْ دَعوةُ شحادة بُعدًا آخَرَ، وَتحدَّدَتْ في مَسَاريْنِ:
الأوَّلُ: التَّشديدُ على مُؤازَرَةِ الشِّعرِ المنثُورِ .
الثَّاني: التَّرويجُ لمَا سَيُعرَفُ بِالشِّعرِ المُرسَلِ ؛ وَهُوَ مَا سَيرتَادُهُ : جميل صِدقي الزَّهاوي (1883-1936) ، وعبد الرحمن شُكري(1886-1958) ، ثمَّ محمد فريد أبو حديد (1893-1967) ثمَّ أحمد زكي أبو شَادي (1892-1955) .
وَسرعَانَ مَا أتَى توفيق إلياس خليل لِيَبْسطَ قَضِيَّةَ الشِّعرِ المنثُورِ ، في مَقالةٍ كَامِلةٍ بعنوَانِ: "الشِّعر المنثُور" ، كَانَ ممَّا جَاءَ فيْهَا أنَّ فيكتور هوجو وَصَفَ " الشِّعرَ وَنِسْبَتَهُ للبيْتِ أوْ الوَزْنِ في البَحْرِ فَقَالَ :(هُوَ كَالعَسَلِ ، وَالبيتُ كبيتِ الشَّمعِ) ، فَإذَا جرَّدنا العَسَلَ مِنْ بيتِ الشَّمعِ الَّذي يحتاطُهُ فَهَلَ يُبْطِلُ أنْ يكونَ عَسَلاً ؟ وَالجوَابُ كلاَّ ! "(7) وَيُدلِّلُ توفيق على ذَلكَ بأنَّ الإنْسَانَ الأوَّلَ الشَّاعرَ، قَالَ "الشِّعرَ وَهُوَ لمْ يَزَلْ في طَورِ الهمَجيَّةِ ، لمْ يُلَطِّفُ التَّمدُّنُ أخْلاقَهُ بعدُ ، وَلا ذَهَبَ بخشونَةِ تَصَوُّرِهِ وَسَذَاجَةِ تعبيرِهِ "(8)، وَيُضيْفُ أنَّنَا " وَجَدْنَا الشِّعرَ يأتي على مَقَاطِع مَوْزونَةٍ فَحَسِبْنَا ذَلكَ ضَروريًّا لَهُ ، وَلكنَّ الشَّاعرَ الأوَّلَ اسْتَعْمَلَهُ ليُلطِّفَ مِنْ خُشونتِهِ وَخُشونَةِ لفظِهِ وَيَسْهُلَ حِفْظُهُ وَاسْتِظهارُهُ ، قَالَهُ وَهُوَ لا يُميِّزُ بينَ الشِّعرَ وَالموسيقَى ، بَلْ كَانَا عِنْدَهُ كالشَّيءِ الوَاحِدِ "(9) ، ثمَّ يُميِّزُ بينَ الشِّعرَ المنثورَ ، وَالنَّثرَ العَاديَّ ، فَيَقُولُ " وَرُبَّ مُعْتَرضٍ يقولُ : إذَا فَصَلْنَا الشِّعرَ عَنْ الوَزْنِ وَالقافيَةِ فَمَا الفَارقُ بينَهُ وَبَيْنَ النَّثرِ؟ ، وَالجوابُ أنَّ الفروقَ تَبْقَى كَمَا هِيَ ؛ فالشِّعرُ كَمَا بيَّنَا قائمٌ بالأفْكارِ ؛ الَّتي تُعبِّرُ عَنْ الجمَالِ وَاسْتعمَالِ الصُّورِ المناسِبَةِ لذلكَ الجمَالِ مِنْ مجازٍ وَتشبيهٍ ، وَهُوَ قائمٌ بِتَهييجِ القَريحَةِ لدرجَةٍ يَرَى بهَا الشَّاعرُ التَّناسُبَ بينَ الأشياءِ واضِحًا جَليًّا فيترُكُ الوَصْلَ وَالعِلاقَاتِ البَسِيطَةِ في الكَلامِ ، فَيُصْبحُ كلامُهُ كثيرَ الدَّلالةِ وَإن قلَّ، وَهُوَ في كُلِّ مظاهِرِهِ يَضْربُ على أوتَارِ القْلبِ ويميلُ نحوَ النَّفسِ البَشَريَّةِ ، وَالنَّاثرُ بخلافِ ذَلكَ على خَطٍّ مُسْتقِيمٍ ، فَهُوَ وَإنْ طَلَبَ الجمَالَ وَتهيَّجَ ، لايَزَالُ يَرْمِي نحوَ العَقْلِ وَيَتَحَدَّثُ المنطقَ أرَادَ أمْ لم يُرِدْ ..وَسَوفَ يقومُ جَبَابرَةٌ في الشِّعرِ المنثُورِ فيُبدِعونَ كَمَا أبدَعَ نَوابِغُ الشُّعرَاءِ قديماً؛ فإنَّ العقولَ قَدْ اسْتَيقظَتْ لهذِهِ الحقائقِ وَأخَذَ الفِكرُ يبحثُ "، وَهَكَذَا يَسْتَشرِفُ توفيق إلياس ، في النِّهايةِ ، مُسْتَقْبَلَ شِعْرَ النَّثرِ .
وَعَاودَ جورجي زيدان الحديثَ عَنْ الشَّعرِ المنثُورِ عَامَ 1907، وَهُوَ يَعْرِضُ لِكِتَابِ السَّيد البكري: صَهَاريج اللؤلؤ (11)، فَقَالَ :
" الشِّعرُ عِنْدَ العَرَبِ : الكَلامُ المقفَّى الموزُونُ ، وَهُوَ تعريفٌ للنَّظمِ لا الشِّعرِ ، إذْ قَدْ يكونُ الرَّجلُ شَاعرًا وَلا يُحْسِنُ النَّظمَ ، وَقَدْ يكونُ ناظِمًا وَليْسَ في نظمِهِ شِعرٌ ؛ فالشِّعرُ بهذَا الاعْتبَارِ قِسْمَانِ : مَنْظومٌ وَمَنْثورٌ ، وَالشِّعرُ المنظومُ كثيرٌ في اللغَةِ العَربيَّةِ ، على اخْتِلافِ أعْصُرِهَا في الجاهِليَّةِ وَالإسْلامِ ، بَلْ هِيَ أكثرُ لُغَاتِ البَشَرِ شِعرًا ، أمَّا المنثُورُ فإنَّهُ نادرٌ فيْهَا وَلاسِيَّما النَّوع الوصفيّ أوْ القَصَصيّ منْهُ .. الشِّعرُ المنثُورُ ظلَّ نادرًا حَتَّى في إبَّانِ الحضَارَةِ وَمَازَالَ كَذلكَ إلى اليومِ . (12)
وَبالإضَافةِ إلى دَورِ مجلَّة:(الهلال) ، في التَّأسيسِ لوجودِ الشِّعرِ المنثُورِ، وَتَقبُّلِهِ ، نجدُ صَحيفَةَ:(السُّفورِ) ، المصْريَّةِ الأسبوعيَّةِ ، تضطلِعُ بالدَّورِ نفسِهِ ، اعْتِبَارًا مِنْ مُنْتَصَفِ العِقْدِ الثَّاني مِنْ القَرْنِ الماضِي ؛ فَتَتَوَسَّعُ في نَشْرِ تجاربِ الشِّعرِ المنثورِ ، لمجموعَةٍ مِنْ المبدعِينَ الَّذينَ ظَهَرُوا قُبَيْلَ انْدِلاعِ الحرْبِ العالميَّةِ الأولى ، وَمِنْهُمْ : محمد تيمور، ومحمود تيمور، وحسين فوزي ، ومحمد كامل حجَّاج ، وفائق رياض ، ومحمد شوقي .
وَلَدَى هَؤلاءِ يتجاورُ التَّرويجُ لمشْرُوعيَّةِ الشِّعرِ المنثورِ، مَعَ التَّحامُلِ على أنْظِمَةِ الأوْزَانِ العَروضِيَّةِ ، وَمِنْ ذَلكَ قَوْلُ محمد كامل حَجَّاج :
" نَرَى الشَّابَ حِيْنَمَا يميْلُ إلى الشِّعرِ ويبتدئُ في معالجتِهِ يقرأُ دَواوينَ البَهَاء زُهير وَابن مَعتوق وَالخفاجي وَالشَّبراوي وَابن الفارض ، وأمثالهم ، وَهُمْ أبعدُ عنْ الشِّعرِ بُعْدَ الأرضِ عَنْ السَّمَاءِ ، ليْسُوا إلاَّ وزَّانينَ . "(13)
وَهَذَا الرَّأي يَتَّسقُ مَعَ قَامَ بِهِ المهجريُّونَ مِنْ توجيهِ طاقاتهم لِلتَّنديدِ بأنظمَةِ الأوْزَانِ الخليليَّةِ ؛ فَقَدْ كَتَبَ ميخائيل نُعيمه في: الغِربَال :
"لَقَدْ وَضَعَ النَّاسُ لِلشِّعرُ أوْزَانًا مثلمَا وَضَعُوا طقوسًا لِلصَّلاةِ وَالعِبَادةِ ، فَكَمَا أَّنهم يتأنَّقونَ في زَخْرَفَةِ مَعَابدِهِمْ لتأتي لائِقَةً بجبروتِ مَعْبُودِهِمْ ، هَكَذَا يَتَأنَّقونَ في تركيْبِ لغَةِ الَّنفسِ لتأتيَ لائقةً بالنَّفسِ ، وَكَمَا أنَّ اللهَ لا يحفَلُ بالمعابدِ وَزَخْرفتِهَا ، بَلْ بِالصَّلاةِ الخارجَةِ مِنْ أعْمَاقِ القلْبِ ، هَكَذَا النَّفسُ لا تحفَلُ بِالأوزَانِ وَالقوافي ، بَلْ بدقَّةِ تَرْجمةِ عَواطِفِهَا وَأفْكَارِهَا ."(14)
وَكَتَبَ جُبْرَان خليْل جُبْران :
"لَوْ تخيَّلَ الخليْلُ أنَّ الأوْزَانَ الَّتي نَظَمَ عقودَهَا ، وَأحْكَمَ أوْصَالهَا ، سَتَصِيرُ مِقْيَاسًا لِفَضَلاتِ القَرَائحِ ، وَخُيوطًا تُعَلَّقُ عليْهَا أصْدَافُ الأفْكَارِ ، لنَثَرَ ِتلكَ العُقودَ ، وَفَصَمَ عُرَى تِلكَ الأوْصَالِ. "(15)
وَجُبْران كَانَ على وَعْي بأنَّ مَا يُنْجِزُهُ بقلمِهِ المرهَفِ نثرًا هُوَ شِعْرٌ ؛ فَقَدْ كَتَبَ :" أنظمُ الشِّعرَ وَأنثرُهُ "(16) وَكَتَبَ في مَقْطوعَةٍ بعنوانِ: صَوْت الشَّاعر- في آخِرِ كِتَابِهِ: دَمْعَةٌ وَابتسَامَةٌ - مُسْتَشِرفًا :" وَالَّذي أقوُلهُ الآنَ بلسَانٍ وَاحِدٍ بقولِهِ الآتي بألسنةٍ عديدَةٍ ." (17)
وَبالإضَافَةِ إلى دَورِ الهلال ، وَالسفور - وَأيْضًا: الحريَّة ، العِراقيَّة ؛ الَّتي لحِقَتْ بهمَا - تتبدَّى آرَاءٌ مُنْفَصِلَةٌ ، شَديدَةُ الأهميَّةِ ، قَدْ رَافَقَتْ انْطِلاقَ حَرَكَةِ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَسَاهمَتْ في وَضْعِ إطارٍ نظريٍّ لهَا ، اسْتِنَادًا إلى مَرْجِعيَّةٍ غربيَّةٍ أوْ عَربيَّةٍ، وَيأتي في طَليعَةِ هَذِهِ الآرَاءِ رَأي أمين الرِّيحاني (1876-1940)؛ الَّذي يُعرِّفُ فيْهِ الشِّعرَ المنثُورَ ، تعريفًا يَكْشِفُ المرجعيَّةَ النَّظريَّةَ لَهُ عِنْدَهُ :
" يُدْعَي هَذَا النَّوعُ مِنْ الشِّعرِ الجديْدِ vers Libres بِالفَرنسِيَّةِ ، وَبالإنجليزيَّةِ Free verse أيْ : الشِّعر الحرّ ، أوْ بالأحْرَى : المطْلَق ، وَهُوَ آخِرُ مَا اتَّصلَ إليْهِ الارتقاءُ الشِّعريُّ عِنْدَ الإفرنجِ ، وَبالأخَصِّ عِنْدَ الأمريكيّينَ وَالإنجليزِ ، فَمِلتُن وَشكسبير أطلقَا الشِّعرَ الإنجليزيَّ مِنْ قيودِ القَافيَةِ ، وولت ويتمان الأمريكيُّ أطْلَقَهُ مِنْ قيودِ العَروضِ كَالأوزَانِ الاصْطلاحِيَّةِ العرفيَّةِ ..وَولت ويتمان هُوَ مخترعُ هذِهِ الطَّريقَةِ ، وَحَامِلُ لوائِهَا ، وَقَدْ انْضَمَّ تحتَ لوائِهِ - بعدَ مَوتِهِ - كثيرٌ مِنْ شُعرَاءِ أوربا العَصْريِّينَ ، وَفي الولاياتِ المتَّحدَةِ اليومَ جمعيَّاتٌ " وتمنية "، ينضمُّ إليْهَا فريقٌ كبيرٌ مِنْ الأدباءِ المغالينَ بمحاسِنِ شِعرِهِ الجليلَةِ. " (18)
ولمعروف الرَّصَافي (1885- 1945)- بالإضَافَةِ إلى مجموعَةِ نصوصٍ مِنْ الشِّعرِ المنثورِ - رَأيٌ في طَبيعَةِ الشِّعرِ، يتبدَّى فيْهِ أقْوى الحُججِ على وُجودِ الشِّعرِ المنثُورِ في المفهومِ النَّظريِّ العَامِّ لِلشِّعرِ عِنْدَ العَرَبِ ؛ فَبَعْدَ أنْ يُبيِّنُ أنَّ الشِّعرَ قَدْ يكونُ في المنثُورِ كَمَا يكونُ في المنظومِ وَأنَّ العَرَبَ أكثَرَتْ إطْلاقَ اسْمِ الشِّعرِ على المنظومِ حَتَّى قَالَ المتقدِّمونَ مِنْ أهْلِ الأدَبِ في تعريفِ الشِّعرِ " أنَّهُ كَلامٌ ذُو وَزْنٍ وَقافيَةٍ " ، وَهُوَ تعريفٌ لِلأعمِّ الأغْلَبِ مِنْ الشِّعرِ وَهُوَ الشِّعرُ المنظومُ . نَرَاهُ يَسُوقُ لنَا الحجَجَ على وُجُودِ الشِّعرِ المنثُورِ، في مَفْهُومِ الشِّعرِ عِنْدَ العَرَبِ :
" وَمِنْ الدَّليلِ على أنَّ العَرَبِ لا يخصُّونَ الشِّعرَ بالمنظومِ ، مَا حَكَاهُ لنَا كِتَابُ الله عنْهُمْ مِنْ قولِهِ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وَسَلَّم أنَّهُ شَاعرٌ ؛ إذْ قَالوا في كَلامِ اللهِ تعالى أنَّهُ قولُ شَاعرٍ مَعَ أنَّهُمْ يَرَونَهُ غيرَ مَوْزُونٍ وَلا مُقَفَّى ، وَلمْ يَرُدْ اللهُ عليْهِمْ بأكثرِ مِنْ قولِهِ : وَمَا هُوَ بقولِ شَاعرٍ .
" وَلَوْ كَانَ الشِّعرُ عِنْدَهُم ، خَاصًّا بِذي الوَزْنِ وَالقافيَةِ لَلَزِمَ أنْ يُقالَ لهمْ في الرَدِّ عليْهِمْ : كَيْفَ يكونُ قولَ شَاعرٍ وَهُوَ كَمَا تَرَونَ عَديم الوَزنِ وَالقافيَةِ ؟ .
" وَممَّا يُرْوَى عَنْ الأصْمَعيِّ أنَّهُ قالَ : قُلْتُ لِبشَّار بن بُرد ، إنِّي رأيْتُ رِجَالَ الرَّأي يَتَعَجَّبونَ مِنْ أبياتِكَ في المشُورَةِ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أنَّ المشاوِرَ بينَ إحْدَى الحُسْنَيَينِ ؛ بَيْنَ صَوَابٍ يفوزُ بثمرتِهِ أوْ خَطَأ يُشَاركُ في مَكْرُوهِهِ ؟، فقلتُ له : وَاللهِ أنْتَ في كَلامِكَ هَذَا أشْعَرُ مِنْ أبياتِكَ .
" فَقَدْ جَعَلَ الأصْمَعيُّ وَنَاهِيْكَ بِهِ مِنْ إمامٍ في الأدَبِ كلامَ بشَّار المنثُور شِعرًا ؛ إذْ قَالَ لَهُ: أنْتَ في هَذَا الكَلامِ أشْعَرُ، وَاسْمُ التَّفضيلِ يَقْتَضِي المشَارَكَةَ وَالزِّيادَةَ ؛ فَهَذَا أيْضًا يدلُّ على أنَّهُمْ لا يخُصُّونَ الشِّعرَ بِالمنظومِ ، وَأنَّ الشِّعرَ عِنْدَهُمْ قَدْ يكونُ مَنْثُورًا ".(19)
وَإذَا كَانَتْ (الهلال) قَدْ تبَّنَتْ قَضيَّةَ الشِّعرِ المنثورِ ، وَرَوَّجَتْ لهَا فإنَّ (أبوللو) سَوفَ تحمِلُ قَضيَّةَ الشِّعرِ المنثُورِ- ضِمْنَ قناعَاتها الشِّعريَّةِ - وَتحتفِي بِطروحَاتهَا ، وَيَتَبَدَّى هَذَا بِشَكْلٍ خَاصٍّ في آرَاءِ أحمد زكي أبي شَادي (1892– 1955) ، وَفي نَشْرِهِ قَصَائدَ مَنْثُورَةً لحسين عفيف ولجميلة العلايلي؛ فَقَدْ أوْضَحَ أبو شَادي أنَّ :
" الشِّعرُ ليْسَ الكَلامَ الموْزُونَ المقفَّى ، حَسْبَ التََّعريفِ العَرَبيِّ القديمِ ، وَإنَّمَا الشِّعرُ هُوَ البَيَانُ لعاطِفَةٍ نَفَّاذةٍ إلى مَا خَلْفَ مَظَاهِرِ الحيَاةِ لاسْتكنَاهِ أسْرَارهَا وَللتَّعبيرِ عَنْهَا ، فَإذَا جَاءَ هَذَا البَيَانُ منظومًا فَهُوَ شِعرٌ مَنْظومٌ ، وَإذَا جَاءَ منثورًا فَهُوَ شِعرٌ مَنْثُورٌ ، وَجميْعُ الآدَابِ العالميَّةِ تعترفُ بهذينِ القِسْمَينِ لِلشِّعرِ .
" الشَّاعرُ النَّاضِجُ الشَّاعريَّة ، المتمكِّنُ مِنْ اللغَةِ ، الصَّافي الطَّبع ، لا يجوزُ لنَا أنْ نُلْقِي عليْهِ دروسًا في كيفيَّةِ اسْتِعْمَالِ القَوَافي وَالبحورِ، وَلَهُ مِنْ طَبْعِهِ الشِّعريِّ ، خَيرُ مُلْهِمٍ وَدَليلٍ ، وَإنْ المعاني الشِّعريَّةَ هِيَ الَّتي تَبْحَثُ عَنْ ثوبها اللفظيِّ ، وَليْسَ الثوبُ هُو الَّذي ينبغي أنْ يُسَيطرَ عليْهَا .
" الشِّعرُ المنثورُ نوعٌ مِنْ الشِّعرِ تعترفُ بِهِ جميعُ الأممِ الرَّاقيَةِ لكنْ عَلى مَنْ يَتَصَدَّى لكتابتِهِ أنْ يكونَ عظيمَ الشَّاعريَّةِ. "(20)
كَمَا نجدُ في مُقدِّمةِ دِيوانِ أحمد زكي أبي شَادي :الشَّفق الباكي ؛ الَّتي كَتَبَهَا النَّاشرُ حسن صالح الجداوي تَشْديدًا على أنَّ " وَاضِعَ عِلْمِ العَروضِ : الخليْلَ بن أحمد الفَرَاهيديَّ ، مِنْ عُلمَاءِ القَرْنِ الثَّاني لِلْهِجرَةِ ، لمْ يُحَتِّمْ على النَّاسِ اتِّباعَ آرائِهِ وَاسْتَنْتَاجَاتِهِ عَنْ أسَاليبِ العَرَبِ الجاهليِّينَ بَلْ اعْتَرَفَ بجوازِ المخَالفَةِ له حَتَّى أنَّ بعضَ المقلِّدينَ قالَ لأبي العتاهيَةِ (وَكَانَ مُعاصِرًا للخليْلِ) نَقْداً لِبَعْضِ شِعْرِهِ :" خَرَجْتَ فيْهِ عَنْ العَروضِ" ، فَقَالَ: " سَبَقَتُ أنَا العَروضِ. "(21)
أمَّا حسين عفيف(22)(1902– 1979) ، فَقَدْ عَرَّفَ الشِّعرَ المنثورَ عدَّةَ مَرَّاتٍ ؛ مِنْهَا أنَّهُ :
" يجري وِفْقَ قَوَالب عفويَّةٍ يَصُبُّهَا وَيَسْتَنْفِدُهَا أولاً بأوَّل ، لا يتوخَّى مُوْسِيقى الوَزْنِ ، وَلكنَّهُ يَسْتَمِدُّ نغمتَهُ مِنْ ذَاتِ نَفْسِِهِ ، لا يَشْرَحُ ؛ وَمَعَ ذَلكَ يُوحِي عَبْرَ إيجازِهِ بمعَانٍ لمْ يَقُلْهَا ، لَيْسَ كَشِعْرِ القَصِيدِ ، وَلا كنثرِ المقَالِ ، وَلكنَّهُ أسْلوبٌ ثالِثٌ ، وَمُعَاناتِهِ في أنَّهُ يأبى إلاَّ أنْ يَنْضَبِطَ ، دُونَ الاسْتِعَانةِ بِضَوَابِطََ . " (23)
وَيطرَحُ تَصَوُّرَهُ لِلشِّعرِ المنثُورِ، في مَوْضِعٍ آخَر، بقولِهِ إنَّهُ :
" الشِّعرُ الَّذي يَتَحَرَّرُ مِنْ الأوْزَانِ الموضوعَةِ ، وَلكنْ لا لِيَجْنَحَ إلى الفَوْضَى ، وَإنَّمَا لِيَسِيرَ وِفْقَ أوْزَانٍ مختلِفَةٍ ، يَضَعُهَا الشَّاعرُ عَفْوَ السَّاعَةِ وَمِنْ نَسْجِهِ وَحْدَهُ ، أوْزَانٍ تَتَلاحَقُ في خَاطِرِهِ وَلكنَّهَا لا تَطَّردُ ، غَيْرَ أنَّهَا برغمِ تبايُنِ وِحْدَاتها تَتَسَاوقُ في مجموعِهَا ،وَتُؤلِّفُ مِنْ نَفْسِهَا في النِّهايَةِ هارمونيا وَاحِدَةً ، تِلكَ الَّتي تكونُ مُسَيطِرَةً عليْهِ أثناءَ الكِتَابَةِ .. لهذَا فإنَّ الشِّعرَ المنثُورَ برغْمِ مَا فيْهِ مِنْ انْسِجَامٍ يَتَنزَََّهُ عَنْ عَيْبِ الوتيرَةِ الوَاحِدَةِ ، وَيُشِعُ في أضْوَاءٍ شَتَّى مُتَباينةٍ غَيْرِ مُسْتقرَّةٍ ، مُتَجَدِّدةٍ ، وَمُتلاصِقَةٍ أبدًا.. وَهُوَ بهذَا التَّنوُّعِ وَهَذِهِ الطَّلاقةِ أقْرَبُ أنْوَاعِ الكَلامِ إلى الطَّبيعَةِ ؛ إذْ أنَّ الطَّبيعَةِ قلَّمَا تَعْرِفُ التَّماثُلَ بَيْنَ وَحَدَاتها ، وَإنَّمَا هِيَ تَنْشِدُ التَّآلفَ في مجموعِهَا ، فأنْتَ مثلاً لا تجدُ في الشَّجرَةِ تماثُلاً بينَ أجْزائِها ؛ إذْ قَدْ يَشْرِدُ غُصْنٌ وَيَتَقلَّصُ آخَر، وَيَنْثَني فَرْعٌ وَيَسْتَوي فَرْعٌ ، وَلكنَّهَا في مجموعِهَا تبدو مُتآلِفَةً مُتَعَانِقَةً تنتهي إلى مَعْنى مِنْ التَّسَاوقِ يرتاحُ إليْهِ الذَّوقُ السَّليمُ. " (24)
وَحسين عفيف هُنَا يُركِّزُ على جُوانيَّةِ هَذِهِ الموسِيقا ، وَضَرورَةِ التَّوغُّلِ في أجْوَاءِ التَّجربَةِ وَالإصْغَاءِ إلى إيقاعَاتهَا الخفيَّةِ ؛ فَهُوَ يَطْرَحُ مُوسِيقا التِّكرارِ الخارجيَّةِ المحسوبَةِ بدقَّةٍ سَعْيًا إلى موسيقا أُخرى ، يَسْتَمِدُّهَا مِنْ طبيعَةِ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ ذَاتها ، وَهِيَ مُوسِيقا أبْعَد مَنَالاً مِنْ سَابقتِهَا وَكثيرًا مَا يَضِلُّ الشَّاعرُ أوْتارَهَا ، إذَا هُوَ لمْ يَنْدَمِجْ في فِكْرتِهِ أوْ لمْ يَكُنْ عَبقريًّا ."(25)
وَبعِيداً عَنْ تجمُّعِ أبوللو ظَلَّ لِقَصِيدَةِ الشِّعرِ المنثُورِ حُضورُهَا الجليُّ ، في المشْهَدِ الشِّعريِّ ؛ حَيْثُ نجدُ لويس عوض (1914-1990) يُضمِّنُ دِيوانَهُ :بلوتولاند ، نَصَّينِ ؛ حَدَّدَهُمَا في المقدِّمَةِ - الَّتي جَاءَتْ في شَكْلِ بَيَانٍ تَبْشِيريٍّ ، عَنْوَنَهُ بـ(حطِّموا عَمودَ الشِّعرِ)- باعْتِبَارِهمَا مِنْ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَجَاءَا في إطَارٍ يحتشِدُ بالإحَالاتِ المعرفيَّةِ ، ليْسَ مُرَاعَاةً لـ" وِحْدَةِ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ ، لكنْ وِحْدَةَ المعرفةِ الإنسَانيَّة "(26)، وَيُوضِّحُ أنَّهُ - في الشِّعرِ المنثُورِ- لمْ يتأثرْ بوالت وايتمان مُبْدِع الشِّعرِ المنثُورِ ، وَإنَّما بإليوت ، وأنَّ فَهْمَ هَذَا الشِّعرَ يحتاجُ إلى أُذُنٍ تَرْتَاحُ إلى مَازوركاتِ شُوبان الرَّقيقَةِ وَعَجَلاتِ القِطارِ الغَليظَةِ ، وَتَرْبطُ مَا بَيْنَ أنغامِ الوجودِ مَهْمَا اخْتَلفَتْ مَصَادِرُهَا ، وَرَأى لويس عوض أنَّه سَوْفَ يفهمُ هَذَا الشِّعرَ ، مَنْ يَرَى مَظَاهرَ الشِّعرِ في الوجودِ ، وَليْسَ فى النَّغمِ البربريِّ الرَّتيبِ ؛ الَّذي يُفْجِعُ آذَانَ المتحضِّرينَ ، ويجمعُ الهمجَ ؛ لِيرقُصُوا حَوْلَ النَّارِ ."(27)
أمَّا مارون عبُّود (1886-1962) فَقَدْ رَصَدَ حَرَكَةَ الشِّعرِ المنثُورِ في المشْهَدِ الشِّعريِّ ، وَحَدَّدَهُ ،وَحَدَّدَ الموقِفَ منْهُ بقولِهِ: " الشِّعرُ المنثُورُ بناءٌ بلا زَوَايا، فيْهِ جمالٌ مُطْلَقٌ ، لَهُ أعْدَاءُ الدَّاءِ حَيْثُ وُجِدَ ، فَعَدُّوهُ لعبةً يَتَلهَّى بها المقصِّرونَ عنْ الشِّعرِ (الرَّسميِّ) ، وَلَهُ أحبابٌ أوفيَاءٌ يَرَونَ فيْهِ مُتعَةً لا تُرَى في الشِّعرِ المقيَّدِ ."(28)
هَذِهِ المقولاتُ المتواليةُ - وَسِوَاهَا - وَاكَبَتْ تجربَةَ الشِّعرِ المنثُورِ مُنذُ بدايةِ تجلِّياتها الأولى ، وَشَكَّلتْ الإطارَ النَّظريَّ المؤسِّسِ لِشِعرِ النَّثرِ ، وَهُوَ مَا جَسَّدَ تدريجيًّا- أفُقًا جماليًّا مُغَايرًا ، وَبِكْرًا، لِلشِّعريَّةِ العَربيَّة ، يَتَّسِمُ بالحريَّةِ وَالتَّدفُّقِ ، وَقَدْ تجلَّى هَذَا بقوَّةٍ في نماذجَ أنْجِزَتْ ، على مِسَاحَةِ نِصْفِ قرنٍ ؛ تَبْدَأُ مِنْ العِقْدِ الأخيرِ مِنْ القَرْنِ التَّاسِع عَشَرَ وَحَتَّى أرْبعِينيَّاتِ القَرْنِ العِشْريْنَ ، وَهِيَ الفترةُ الَّتي شَهَدَتْ تَوَهُّجَ حَرَكَةِ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَاسْتِقْرَارِهَا في فَضَاءِ الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، مُؤسِّسةً مَشْروعَ الشِّعرِ نثرًا ، لِلمَرَّةِ الأولى في مَشْهَدِ الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، في خِطَابٍ شِعْريٍّ جَديدٍ ، تَتَوَاشَجُ فيْهِ عَنَاصِرُ(شِعْر)يَّةٌ وَأخْرى (نَثْرِ)يَّةٌ ؛ لِتَشْكِيْلِ هَذَا النَّوعِ الشِّعريِّ الجديدِ .

الرِّيادَةُ في الشِّعرِ المَنْثُورِ
يَلْحَظُ الباحِثُ في تاريخِ الأدَبِ العَربيِّ ، وَلعًا وَاضِحًا لَدَى مُؤرِّخِي الأدَبِ : القُدَامَى وَالمُحدثِينَ بِالوُقوفِ على البِدَايَاتِ ؛ فَيَتَحَدَّثونَ عَنْ أوَّلِ مَنْ نَطَقَ بِالعَربيَّةِ المُبِيْنَةِ ، وَأوَّلِ مَنْ نَطَقَ بِالشِّعرِ ، وَأوَّلِ مَنْ قَصَّدَ القَصَائِدَ ، وَأوَّلِ مَنْ وَقَفَ على الأطْلالِ ، وَأوَّلِ مَنْ اسَتَهَلَّ قَصِيدَتَهُ بِالتَّشبيْبِ بِالنِّسَاءِ ، وَأوَّلِ مَنْ تَكَسَّبَ بِالشِّعرِ، وَأوَّل مَنْ بَدَأ شِعْرَ التَّفعيلَةِ ، وَأوَّلَ مَنْ كَتَبَ الشِّعرَ بِنَثْرٍ ، وَالوَاقِعُ أنَّهُ لا يُمْكِنُ لأحَدٍ أنْ يُجْزِمَ مَنْ أوَّلُ شَاعرٍ خَرَجَ على الأوْزَانِ ، وَكَتَبَ الشِّعرَ بالنَّثرِ ؛ فَمَسِيرَةُ الشِّعرِ العَرَبيِّ لا تَعْرِفُ هَذِهِ الأحْكَامَ القَاطِعَةَ ،" لأنَّ الشِّعرَ هُوَ نَتِيْجَةُ تَرَاكُمَاتٍ تاريخيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ وَحَضَاريَّةٍ لا تَتَوَقَّفُ "(29) وَحَرَكَاتُ الكَشْف الكُبْرَى في التَّاريخِ لَيْسَتْ مجرَّدَ مُغَامَرَاتِ أفْرَادٍ مُغَامِريْنَ ، وَإنَّمَا هِيَ تعبيرٌ عَنْ قَلقٍ جُغْرَافيٍّ وَإنْسَانيٍّ كبيرٍ ، تُصِيْبُ بَعْضَ المجتَمَعَاتِ في أزْمِنَةِ التَّحوُّلاتِ الكُبْرَى" (30)، وَتَحَقُّقُ هَذِهِ الشُّروطِ هُوَ مَا يجعلُ النَّصَّ نِتَاجَ مَرْحَلةٍ يُشَاركُ في صِيَاغَتِهَا وَيُرْسِي مَعَالمهَا عَديدُونَ .
وَأقْدَمُ مَا بَيْنَ أيدِينَا مِنْ نُصوصٍ قُدَّمتْ تحتَ مُصْطَلَحِ الشِّعرِ المنثُورِ، هُوَ نَصُّ: "التَّقوى"، لِنقولا فيَّاض (1873- 1958) ، الَّذي كَتَبَهُ سَنَةَ 1890.(31 )
وَلكنَّ ميخائيل نُعيمه - في مُقدِّمتِهِ لِلْمَجموعَةِ الكامِلَةِ لمؤلَّفاتِ جُبْرَان خليْل جُبْرَان العَربيَّةِ - يُشِيرُ إلى رِيَادَةِ جُبْرَان في الشِّعرِ المنثُورِ ؛ حَيْنَ يقولُ أنَّهُ " بَيْنَ 1903 و 1908 أخَذَ يَنْشُرُ في جَريدَةِ المُهَاجرِ ، مَقَالاتٌ مِنْ الشِّعرِ المنثُورِ، تحتَ عنوانِ: " دَمْعَة وَابْتِسَامَة " ، وَهَذِهِ المقَالاتُ هِيَ الَّتي جمِعَتْ في عَامِ 1914 ، وَنُشِرَتْ في كِتَابٍ بعَينِ العُنوَانِ ." (32)
بَيْنَمَا يَرَى البَعْضُ أنَّ خليْلَ مُطْرَان (1872- 1949) هُوَ الَّذي بَدَأ " باصْطِلاحِ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَكَتَبَ بمضَمْونِهَ(33) ، حِيْنَما كَتَبَ نَصَّهُ:(شِعْرٌ مَنْثُورٌ- كَلِمَاتُ أسَفٍ)(34) ، في تأبينِ الأدِيبِ إبراهيم اليَازجيِّ ، المتوفَّى يوم 28/12/1906 .
لكِنَّ الَّذي عليْهِ إجماعُ الدَّارسِينَ ، أنَّ رِيَادَةَ الشِّعرِ المنثُورِ، تعودُ إلى أمين الرِّيحاني ، بتجربتِهِ:(الحيَاةُ وَالموتُ أوْ الطَّبيعَة في لبنان) ، الَّتي نَشَرَهَا في مجلَّةِ (الهلال)، في الأوَّلِ مِنْ أكتوبر(تشرين أول)1905، بمقدِّمةٍ لجورجي زيدان ؛ عَرَّفَ فيْهَا بِالشِّعرِ المنثُورِ، وَشَدَّدَ فيْهَا على دَورِ الرِّيحاني ، في إدْخَالِ الشِّعرِ المنثُورِ إلى العَربيَّةِ .
يقولُ مارون عبُّود:" الرِّيحاني أبو الشِّعرِ المنثُورِ في الأدَبِ العَربيِّ ، وَهُوَ الَّذي مَهَّدَ الطَّريقَ لجبْرَان وَعَبَّدَهَا، وَلكِنَّ جُبْران طَارَ بهذَا الأسْلوبِ على أجْنِحَةِ رياحِ الفَنِّ وَالإلهَامِ ، وَلمْ يَقَعْ إلاَّ على الذُّرَى"(35) ،وَتَقُولُ سَلمى الخضْراء الجيوسِي :" إنَّ مُؤرِّخِي الأدَبِ يَتَّفِقُونَ على أنَّ أمين الرِّيحاني أوَّلُ مَنْ كَتَبَ الشِّعرَ المنثُورَ؛ لِذلكَ أُطْلِقَ عليْهِ لَقَبُ "أبي الشِّعرِ المنثُورِ"(36)، وَيَتَّفقُ مَعَ مارون عبُّود وَسَلمى الخضْراء الجيوسِي كُلٌّ مِنْ : منير الحسَامي(37)، وَأنيس الخُوري المقْدِسِي(38)، وَمحمَّد عبد المنعم خفاجِي(39)، وَنَادِرَة جميل السَّراج(40)، وَعِيْسَى ميخائيل سَابا(41)، وَأمين ألبرت الرِّيحاني .(42)
وَنَقْرَأ للرِّيحاني نَفْسِهِ:
" طَاَلعْتُ المعلَّقَاتِ ، فَحَالَتْ الألفاظُ في أكْثَرِهَا دُونَ المعَاني ، وَطَالَعْتُ دَوَاوينَ الحمَاسَةِ ، فَكُنْتُ أظُنُّني وَأنَا أتنَّقلُ مِنْ دِيوَانٍ إلى آخَرٍ ، أنِّي أُطَالِعُ دِيوَانًا وَاحِدًا تَعَدَّدتْ أسَامِيْهِ ، وَقَرَأتُ ابنَ الفَارضِ فأسِفْتُ على فَلْسَفَةٍ رُوْحِيَّةٍ صُوفيَّةٍ تَتَقَاذفُهَا أمْوَاجُ الألفاظِ وَتجعلُهَا غريقَةَ الجناسِ على الدَّوامِ ، وَفتَّشتُ في الدَّواوينِ العَربيَّةِ عَنْ اسْتِعَارَاتٍ يمتازُ بهَا هَذَا الشَّاعرُ عَنْ أخيْهِ ، وَعَنْ وِجْهَاتٍ لِلنَّظرِ جَديدَةٍ ، وَعَنْ صُوَرٍ في الشِّعرِ تُمثِّلُ مَا وَرَاءَ المحسوسِ وَالمنظومِ فَلَمْ أجِدْ غيرَ التَّقيُّدِ ، وَالتَّبدُّلِ ، وَمَا يُؤْسَفُ لَهُ أيْضًا أنَّ بهذِهِ الدَّواوينِ ، وَلا أسْتَثْني مِنْهَا دِيوان المتَنَبِّي وَلا لزومِيَّاتِ المعريّ ، شَيْئًا مِنْ النَّثرِ المنظُومِ ، وَاسْتَغْوتْني الأوْزَانُ مَرَّةً فَنَظَمْتُ قَصِيدَةً مُكسَّرةً ، أثرْتُ فيْهَا خَوَاطرَ الشُّعرَاءِ المدرسيِّينَ ، وَلمْ يَكُنْ قَصْدِي غير اكْتِشَافِ السَّببِ في عُقْمِ تصوُّرِ الشُّعرَاء وَتَبَذُّلهمْ ، فَتَحَقَّقتُ أنَّ التِزامَ القَافيَةِ الوَاحِدَةِ وَالأوْزَانِ الوَضْعيَّةِ يحولُ غالبًا دُوْنَ البَسْطِ وَالتَّدفُّقِ فَيُضطَرُ الشَّاعرُ أنْ يُلْجِمَ قريحتَهُ لئلاَّ تَعْثَرُ في البيْتِ فَتُكْسَرُ رَأسُهَا ، أوْ يُشَذِّبَ المعاني الجديدَةَ لِتُلائمَ الصِّيغَ القديمةَ أوْ يختارُ أهْوَنَ الأمورِ فَيُجِيئُنَا بالنَّثرِ المنظُومِ ، لِذَلكَ قُلتُ : لا صِيغَ قَديمَة وَلا قَوَافي وَلا أوْزَانَ ، وَبَدَلَ النَّثرِ المنظُومِ جِئْتُ بِالشِّعرِ المنثُورِ ، الَّذي يَشْهَدُ على مَا في لَوْحِ الوجودِ مِنْ مُوحِياتِ المعَاني وَالاسْتِعَارَاتِ وَالأفكارِ الجديدَةِ ، وَإذَا فيْهِ شَيءٌ مِنْ الغُموضِ في بَعْضِ الأحْيَانِ ، فَذَلكَ لأنِّي أرَى في الحيَاةِ مَالا يُرَى مِنْهَا ، وَأسْمَعُ في الأصْوَاتِ القريبَةِ صَدَى أصْوَاتٍ بعيدَةٍ عَنْ الكونِ الظَّاهِرِ ، إنْ هُوَ إلاَّ رَمْزٌ لكونٍ آخَرٍ خَفِيٍّ . "(43)
وَعلى الرَّغمِ مِنْ أنَّ الرِّيحاني كَانَ مَسْبُوقًا- بتجربَةِ نقولا فيَّاض - إلاَّ أنَّ معاني الرِّيادَةِ قَدْ تجسَّدَتْ فيْهِ ، بحقٍّ ؛ فَهُوَ الَّذي قَدَّمَ المفهُومَ ، وَرَعَاهُ ، وَارْتَبَطَتْ بِهِ قَضِيَّةُ الشِّعرِ المنثُورِ، في بِدَايَاتها ، وَأجمعَ مُعَاصِرُوهُ على رِيَادتِهِ ، وَأنَّهُ بدايَةُ الحركَةِ وَرَائدُ التَّيارِ ، مُنْذُ كَتَبَ نَصَّهُ:(الحيَاةُ وَالموتُ ، أوْ الطَّبيعَةُ في لبنان) ؛ فَكَانَ الشَّرَارَةَ ، الأسَاسِيَّةَ لانْطِلاقِ تيَّارِ الشِّعرِ المنثُورِ، وَكَانَتْ تَقْدِمَةُ جورجي زيدان لِلنَّصٍّ إيْذَانًا بِانْطِلاقِ السِّجَالِ حَوْلَ قَضِيَّةِ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَهِيَ التَّقدمَةُ الَّتي جَاءَتْ تحتَ عُنوانِ: (الشِّعر المنثور في اللغَةِ العربيَّةِ) "(44)، وَجَاءَ فيْهَا ، أنَّ " الشِّعر عِنْدَ العَرَبِ الكلام المقفَّى الموْزُون ، فإنْ لمْ يَكُنْ كَذلكَ لا يعدُّونَهُ شِعْرًا ، فَكَأنَّهُمْ عَرَّفُوا الشِّعرَ بلفظِهِ لا بمعنَاهُ ، وَأمَّا الإفرنجُ فَيُعرِّفونَهُ بمعنَاهُ دُونَ لفظِهِ ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مَنْظومٌ وَمَنْثورٌ ، وَالمنظُومُ قَدْ يكونُ موزونًا غيرَ مُقَفَّى ، أوْ مُقَفَّى غيرَ مَوْزُونٍ ، وَإنَّمَا العُمْدَةُ عِنْدَهُمْ على الخيَالِ الشِّعريِّ أوْ المعاني الشِّعريَّةِ " ، ثمَّ انْتَقَلَ زيدان إلى تقديمِ الرِّيحاني ، فَذَكَرَ أنَّهُ " مُوْلعٌ باللغَةِ العَربيَّةِ وَآدابها فأحَبَّ أنْ يُدْخِلَ فيْهَا الشِّعرَ المنثُورَ ، وَهُوَ مِنْ أقْدَرِ شُعَرائِنَا على ذَلكَ ؛ فَبَعَثَ إلينا بِقَصِيدَةٍ يَصِفُ فيْهَا غيَابَ الشَّمسِ بلبنان، في يومٍ مِنْ أيَّامِ الخريفِ، عَبَّرَ عَنْهَا بالحيَاةِ أوْ الموتِ ، نَنْشُرَهَا مِثالاً لهذَا النَّوعِ مِنْ الشِّعرِ ".
وَقَدْ ابْتَدَأ الرِّيحاني نَصَّه على هَذَا النَّحوِ :

الحَيَاةُ وَالمَوْتُ
" أوْ الخَريفُ وَغِيَابُ الشَّمسِ في لبنان"(45)

عَادَتْ أيَّامُ الأمْطارِ وَالعَوَاصِفِ وَالإعْصَارِ ، أيَّامُ الانزوَاءِ في البيتِ حَوْلَ النَّارِ ، أيَّامُ جلودِ الصُّوفِ وَالمَوقدِ وَمَا يَصْحَبُهَا مِنْ القصَصِ وَالأخْبَارِ ، قَدْ تَصَاعَدَتْ الرِّيَاحُ العَجاجَةُ إلى قمَّةِ صنينَ ، فاسْمَعْ صَدَى هبوبهَا في الأوديَةِ، اسْمَعْ حفيفَ الأوْرَاقِ البَاليَةِ الَّتي تتقاذفًهَا في الأهْوَاءِ ،وَاسْمَعْ نَقْرَ الهَوَاءَ على الزُّجَاجِ وَهبوبِهِ فَوْقَ القرميدِ، وَتَنَصَّتْ لِدَويِّهِ بَيْنَ الأشْجَارِ، وَحَوْلَ البيوتِ مِمَّا يُشِيرُ إلى حَادثٍ هائلٍ حَدَثَ في الطَّبيعَةِ .
نَعَمْ إنَّنَا في الخَريفِ أيُّهَا المَرحُونَ في ربيعِ الحَيَاةِ، نَحْنُ في المَرْحَلةِ الأخيرَةِ مِنْ السَّنةِ ، وَمَا العَويلُ المُخِيفُ الَّذي يملأ الجبالَ وَالأدويَةَ وَالبحَارَ إلاَّ بُكاءَ الزَّمَانِ حَوْلَ فِرَاشِ ابْنَتهِ المُشْرفَةِ على المَوْتِ ، على أنَّ السَّكينَةَ - الزَّوَابعَ – الانْحِلالَ – التَّحوُّلَ – كُلُّ هَذه حَسَنةٌ في عَيْنِ
البُلبلِ الَّذي يُغَرِّدُ الآنَ في قَفَصِهِ مَسْرُورًا
تعالَ مَعي، وَمَتِّعْ نَظَرَكَ بهَذَا المَشْهَدِ الهَائلِ الَّذي يدعو إلى الصَّمتِ وَالتَّخشُعِ وَالابتهَالِ، انْظُرْ كَيْفَ يَنْتَشِرُ نبأ المَوْتِ بَيْنَ الأشْجَارِ في ظِلالِ الصُّخورِ فيخرُج مِنْ هَذِهِ أصْوَاتٌ كأنَّهَا طنينُ الأجْرَاسِ ، وَمِنْ تِلكَ ألحانٌ مُحْزنةٌ تَحْسَبُهَا خَارجة ًمِنْ ألفِ أرْغنٍ مَعًا . انْظُرْ كَيْفَ يَتَمَوَّجُ الزَّيتونُ وَعلى أغْصَانِهِ الرّصَاصِيَّةِ نثارٌ فِضْيٌّ كَالنُّجومِ الَّتي تَظْهَرُ بَيْنَ الغيومِ السَّودَاءِ في الليْلةِ الليلاءِ . انْظُرْ كَيْفَ يُلاعِبُ الهَوَاءُ أغْصَانَ الخَرنُوبِ وَالتُّوتِ فينفُخُ فيْهَا رُوحًا حَيَّةً فتَهِيجُ مِنْ لَمْسِهِ فَتَتَمَايَلُ وَتَتَسَانَدُ كَأنَّهَا تَتَدَاعَبُ . انْظُرْ كَيْفَ يَتَوَالى الحُبُّ وَالبُغْضُ، كَيْفَ تَتَضَارَبُ الأغْصَانُ وَتَتَقَاتَلُ فتُحْجِمُ تَارَةً وَتَهْجمُ أخْرَى وَتَقَعُ وَتَقُومُ كَأنَّهَا عَسْكرٌ في سَاحَةِ القتَالِ ، انْظُرْ كَيْفَ تَتَنَاثَرُ منْهَا الأوْرَاقُ ذَاتَ اليميْنِ وَذَاتَ اليَسَارِ فَتَحْملُهَا رُسُلُ الرِّيَاحِ لِتُكِّللَ بهَا السَّنَةَ وَهيَ في حَالِ الاحْتِضَارِ ، وَرَقةٌ بَاليَةٌ مِنْ شَجَرَةٍ مُضْطَربَةٍ تَحْمِلُهَا العَوَاصِفُ إلى حَيْثُ لا نَعْلَمُ ،أهَذِهِ الحَيَاةُ ؟ أهَذَا هُوَ المَوتُ ؟ وَلكِنْ اسْمَعْ
إنَّ البُلبُلَ يُغَرِّدُ في قَفَصِهِ مَسْرُورًا "

وَكَانَ نَشْرُ هَذَا النَّصِّ ، وَتَقْديم زيدان لَهُ ، بِدَايةً لانْطِلاقِ قَضيَّةِ الشِّعرِ المنثُورِ ؛ فَتَتَالَتْ – في(الهلال) - دَعَوَاتٌ التَّأييدِ وَالمسَاجَلَةِ ؛ فَكَتَبَ بولس شحادة ، ثمَّ توفيق إلياس خليل ، وَعَاوَدَ جورجي زيدان الكِتَابَةَ ، ثمَّ انْتَشَرَتْ خَارجَ (الهلالِ) ، في أنحاءٍ عَديدَةٍ .

مُوَاجَهَةُ انْبثاقِ الشِّعرِ المَنْثُورِ
أثَارَتْ ظَاهِرَةُ الشِّعرِ المنثُورِ عَاصِفَةً نقديَّةً مِنْ حَوْلها ؛ فَقَدْ رَفَضَهَا بعضُ مَنْ يُنْظَرُ إليهِمْ ؛ حَاليًا، على أنَّهُمْ مِنْ رُوَّادِ الشِّعرِ المنثُورِ؛ ففي عَامِ 1915 شَنَّ إبراهيم عبد القادر المازنيُّ (1889-1949) - في كِتَابِهِ:(الشِّعرُ : غَايَاتُهُ وَوَسَائِطُهُ) - هُجُومًا شَديدًا على ظَاهِرَةِ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَوَصَفَهَا بأنَّهَا
" مَسْألَةٌ رَكبَ النَّاسُ فيْهَا جَهْلٌ عظيمٌ وَدَخَلَ عَليْهِمْ مِنْهَا خَطأٌ فَاحِشٌ ؛ وَهِيَ: هَلْ يمكِنُ أنْ يَكونَ النَّثرُ شَعرًا ؟ ، فَقَدْ رَأى أكْثَرُ النَّاسِ في هَذَا البَلدِ المنحوسِ ، أنَّ الوَزْنَ ليْسَ ضَروريًّا في الشِّعرِ، وَأنَّ مِنْ الكَلامِ مَا هُوَ شِعرٌ وَليْسَ مَوْزُونًا ، حَتَّى لَقَدْ دَفَعَتْ السَّخَافةُ وَالحمْقُ بَعْضَهُمْ إلى مُعَالجةِ هَذَا البَابَ الجديدَ مِنْ الشِّعرِ، وَهُمْ يحسَبُونَ أنَّهُمْ جَاءُوا بشَيءٍ حَسَنٍ وَابْتَكَرُوا فنًّا جَديدًا..
" إنَّ النَّثرَ قَدْ يكونُ شِعريًّا - أيْ شَبِيْهًا بِالشِّعرِ في تَأثيرِهِ - وَلكنَّهُ ليْسَ بِشِعْرٍ ، وَأنَّهُ قَدْ تَغْلُبُ عليْهِ الرُّوحُ الخياليَّةُ ، وَلكِنْ يُعوزُهُ الجسْمُ الموسيقيُّ ، وَأنَّهُ كَمَا لا تَصْويرَ مِنْ غيرِ ألْوَانٍ ، كَذَلكَ لا شِعْر إلاَّ بِالوَزْنِ ..
" إذَنْْ فَالوَزْنُ ضَروريٌّ في الشِّعرِ، وَليْسَ هُوَ بِالشَّيءِ المصْطَلَحِ عليْهِ وَلكنَّهُ جَوْهَريٌّ لابُدَّ مِنْهُ ، وَإنْ شِئْتَ فَقُلْ هُوَ جُثْمَانُ الشِّعرِ، وَليْسَ يكفِي أنْ تَدْعُوَهُ ثوبًا يخلعُهُ الشَّاعرُ على مَعَانيْهِ ، فتُشِير بِذلكَ إلى أنَّهُ شَيءٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ الشِّعرِ؛ لأنَّ الإنْسَانَ لمْ يخترعْ الوَزْنَ – لاو لا القَافيَةَ - وَلكنَّهُمَا نَشَأَ مِنْهُ ، وَلا شِعْر إلاَّ بهمَا أوْ بِالوَزْنِ على الأقلِّ ..
" وَقَدْ يَكونُ النَّثرُ شِعريًّا جَائِشًا بِالعَوَاطِفِ وَلكنَّهُ ليْسَ شِعْرًا. "(46)
كَذَلكَ شَنَّ مصطفى صادق الرَّافِعِي - الَّذي يَرَى عبد الفتَّاح أبو مدين ، مثلاً - أنَّهُ " أبْدَعَ رَوَائِعَ أدبيَّةٍ في الشِّعرِ المنثُورِ "(47)، وَالَّذي يَضَعُهُ كُلٌّ مِنْ أحمد كمال زكي (1927- 2007)، وَمحمَّد عبد المطَّلب (1937- ) ، وعبد القادر القِط (1916-2002) ، وَكمال نَشْأت (1923- 2010) ، مَعَ الرِّيحاني وَجُبْرَان وَمُطْرَان وَمَيِّ وَغَيْرِهِمْ ، ممَّنْ أبْدَعُوا في الشِّعرِ المنثُورِ (48)- يَكْتُبُ في المقطَفِ ، عَدد يناير1926، مَا يلِي:
" نَشَأَ في أيَّامِنَا مَا يُسَمُّونَهُ الشِّعرَ المنثُورَ ، وَهِيَ تَسْمِيَةٌ تَدُلُّ على جَهْلِ وَاضِعِهَا وَمَنْ يَرْضَاهَا لِنَفْسِهِ ؛ فليْسَ يَضِيْقُ النَّثرُ بالمعاني الشِّعريَّةِ ، وَلا هُوَ خَلا مِنْهَا في تَاريخِ الأدَبِ ، وَلكِنَّ سِرَّ هَذِهِ التَّسمِيَةِ أنَّ الشِّعرَ العربيَّ صِنَاعةٌ مُوسِيقيَّةٌ دَقيقَةٌ يَظْهَرُ فيْهَا الاخْتِلالُ ..وَلا يُوفَّقُ إلى سَبْكِ المعَاني فيْهَا إلاَّ مَنْ أمَدَّهُ اللهُ بأصَحّ طَبْعٍ وَأسْلَم ذَوْقٍ وَأفْصَح بيَانٍ ، فَمِنْ أجْلِ ذَلكَ لا يحتَمِلُ شَيئًا مِنْ سَخَفِ المعَاني ، مَعَ شِيءٍ مِنْ هَذِهِ العِللِ وَأشْبَاهِهَا ، وَتَرَاهُ يُلْقِي بمثْلِ(السُّعدى) مِنْ الفَلَكِ الأعْلَى إلى الحضِيضِ ، لا يُقِيمُ وَزْنًا وَلا يَرْعَى له محلاًّ، وَلا يقبَلُ فيْهِ عُذرًا ، وَلا رُخْصَةً .. فَمَنْ قَالَ الشِّعرَ المنثُورَ، فَاعْلَمْ أنْ مَعْنَاهُ عَجْزُ الكَاتبِ عَنْ الشِّعرِ مِنْ ناحِيَةٍ ، وَادِّعَاؤه مِنْ نَاحِيَةٍ أخْرَى ."(49)

أمَّا الأبُّ لويس شيخو(1859-1927) فَلا يَرَى في الشِّعرِ المنثُورِ، سِوَى زَخَارِفِ السَّطحِ :
" إنَّنَا كثيرًا مَا لقينَا في هَذَا الشِّعرِ المنثُورِ، قِشْرَةً مُزَوَّقةً ليْسَ تحتَهَا لُبَابٌ ، وَرُبَّمَا قَفَزَ صاحبُهَا مِنْ مَعْنى لَطِيْفٍ إلى قَوْلٍ بَذِيءٍ سَخَيْفٍ ، أوْ كَرَّرَ الألفَاظَ دُونَ جَدْوَى ، بَلْ بِتَعَسُّفٍ ظَاهرٍ ، وَمِنْ هَذَا الشَّكلِ كَثيرٌ مِنْ المروِّجِيْنَ لِلشِّعرِ المنثُورِ مِنْ مُصَنَّفاتِ الرِّيحاني وَجُبْرَان وَتَبعتِهِمَا فَلا تَكادُ تجِدُ في كِتَاباتهمْ شَيئًا ممَّا تَصْبُو إليْهِ النَّفسُ في الشِّعرِ الموَزْونِ الحرِّ(..)."(50)

البَحْثُ عَنْ مَرْجعيَّةٍ لِلشِّعرِ المَنْثُورِ
بَدَأتْ رِيَاحُ التَّغييْرِ تهبُّ مِنْ أوَاخِرِ القَرْنِ التَّاسع عَشَرَ لِتَغْييرِ المشْهَدِ الشِّعريِّ العَرَبيِّ ، وَكَانَتْ البِدَايَةُ بعقدِ مُقَارَنَاتٍ بَيْنَ الأدَبِ العَرَبيِّ ، وَالأدَبِ الأفرنجيِّ ، وَمِنْ ذَلكَ مَقَالَةُ نجيب حدَّاد: (مُقَابلَةُ الأدَبِ العَرَبيِّ بِالأفرنجيِّ)، في مجلَّةٍ:(البيَان) ، في عَامِ 1897، وَمَقَالَةُ أحمد أفندي كامِل:(بلاغَةُ العَرَبِ وَالإفرنْجِ) ، في مجلَّةِ:(المقطف) في عَامِ 1900، ثمَّ بَدَأتْ مجلَّةُ(الهلال) في نَشْرِ سِلْسَلةٍ مِنْ المقَالاتِ المتَتَابعَةِ ، في الفَتْرَةِ مَا بَيْنَ بِدَايةِ يوليو1902 إلى يوليو1904، بِعُنوَانِ:(تَاريخُ عِلْمِ الأدَبِ عِنْدَ الإفرنجِ وَالعَرَب)، بِتَوقيعِ: كاتِب فَاضَل ، ثمَّ جُمِعَتْ هَذِهِ المقَالاتُ في كِتَابٍ ، بِالعُنَوانِ نَفْسِهِ ، صَدَرَ عَنْ مَطْبَعَةِ الهلال في عامِ1904، لروحي الخالديِّ (المقدسِيِّ) (1864- 1913) .
ثمَّ بَدَأ جورجي زيدان ، اعْتِبَارًا مِنْ 1905 ، الدَّعوةَ إلى وَضْعِ تَعْريفٍ عَصْريٍّ لِلشِّعرِ العَربيِّ ؛ حَيْثُ رَأى أنَّ تَعْريفَ القُدَمَاءِ هُوَ لِلنَّظمِ لا لِلشِّعرِ، وَأشَارَ إلى تَقْسِيمِ الشِّعرِ عِنْدَ الأوربيِّينَ إلى مَنْظُومٍ وَمَنْثُورٍ، وَهَكَذَا بَدَأتْ المرجِعيَّةُ الغَربيَّةُ ، تَظْهَرُ بقوَّةٍ ، وَبَرَزَ النَّموذَجُ الغَربيُّ مِقْيَاسًا لِتَطْويرِ الشِّعرِ العَرَبيِّ ، وَقَاعِدَةً مِعيَاريَّةً لَهُ .
وَتَبْرزُ المرْجِعيَّةُ الغَربيَّة ، أيْضًا ، عِنْدَ أمين الرِّيحاني ، في تَعْريفِهِ لِلشِّعرِ المنثُورِ ؛ اسْتِنَادًا إلى شَكْلِ الشِّعرِ الحرِّ كَمَا أنجزَهُ وايتمان ، وَيُظْهِرُ الرِّيحاني تَقْديرًا خَاصًّا ، وَتمثُّلاً لِتَجْربَةِ وايتمان ؛ حَيْثُ يُبْدِي طُمُوحَهُ أنْ يَصْنَعَ في شِعْرِنَا مَا صَنَعَهُ وايتمان في الشِّعرِ الأمْريكيِّ ؛ فَالرِّيحاني تَرَكَ النَّموذَجَ العَرَبيَّ لِيرتمِي في فَضَاءِ النَّموذَجِ الغَربيِّ ، وَهُوَ يُرْجِعُ هَذَا إلى رَغْبَتِهِ في إطْلاقِ الشِّعرِ العَرَبيِّ (مِنْ قيودِ العَرُوضِ) ، وَالتَّحرُّرِ مِنْ هَيْمَنَةِ النَّسقِ الثَّابتِ المتكرِّرِ سَعيًا إلى مَا دَعَاهُ(الارْتِقَاءَ الشِّعريَّ) ، وَيَبْرزُ النَّموذَجُ الغَربيُّ ،كَذَلكَ وَرَاءَ تعريفِ أبي شَادِي له ، وَهُوَ مَا رَكَّزَ عليْهِ ، أيْضًا ، محمَّد عبد الغني حسن (1907- 1985) ، في رَصْدِهِ لِتجربَةِ الشِّعرِ المنثُورِ عِنْدَ شُعَرَاءِ المهْجَرِ ؛ حَيْثُ أوْضَحَ أنَّ "رَغْبَةَ شُعَراءِ المهْجَرِ في الانْفِلاتِ مِنْ قيودِ الشِّعرِ قَدْ حَدَتْهُمْ إلى ضَرْبِ الشِّعرِ المنثُورِ ، أوْ النَّثرِ الشِّعريِّ ، وَكِلا الضَّربيْنِ لونٌ مِنْ أثرِ المحاكَاةِ لِلشِّعرِ الغَربيِّ ، وَعَجِيبٌ أنْ يترُكَ شُعرَاءُ المهْجَرِ تقليدَ شِعْرِ آبائِهِمْ لِيقلِّدُوا شِعْرَ الغربيِّينَ في أثْوَابِهِ الجُدُدِ.(51) وَيُركِّزُ كُلُّ مَنْ تَنَاوَلوا الرِّيحاني على تمثُّلِهِ مَسْعَى وايتمان؛ اسْتِنَادًا إلى مَا أعْلَنَهُ الرِّيحاني ذَاتُهُ (52) ، وَمِنْ هَؤلاءِ أدونيس (1930 -) الَّذي يَرَى ، بِدَايةً ، أنَّ " اللقاءَ مَعَ الغَرْبِ على الصَّعيدِ الأدَبيِّ ، وَلَّدَ مَوْقفًا نقديًّا "(53)، وَمِنْ هَذَا الموقِفِ النَّقديِّ دَعْوةُ أمين الرِّيحاني لِلشُّعرَاءِ العَربِ أنْ يُعْنَوا بمَا يُسَمِّيه "الحقائقَ الكونيَّةَ وَالبَشريَّةَ ".. ذَلكَ أنَّ الشِّعرَ العَربيَّ لمْ يعُدْ " في مجمَلِهِ غيرَ أصْدَاءٍ لأصْوَاتِ الشُّعرَاءِ الماضِيةِ وَأشْبَاحٍ لألوانِهِ وَأشْكَالِهِ "(54) ، وَمِنْ هَذَا الموقِفِ كَذلكَ أنَّهُ " لا يمكِنُ التَّعبيرُ عَنْ " مَضْمُونٍ " جَديدٍ "بِشَكْلٍ " قديمٍ ، فَتَغيُّرُ " المضْمُونِ "يَسْتَدْعِي ، إذاً، تَغيُّر " الشَّكلِ ". وَقَدْ اقْتَصَرَتْ الدَّعوةُ إلى تغييرِ الشَّكلِ على مجرَّدِ التَّحررُِّ مِنْ أشْكالِ النَّظمِ التَّقليديَّةِ - وَبخاصَّةٍ التَّحرُّر مِنْ القافيَةِ ، وَتَضَمَّنَ ذَلكَ إمْكَانُ الكِتابَةِ الشِّعريَّةِ بطريقَةٍ جديدَةٍ غيرِ طريقَةِ الوَزْنِ، وَهِيَ مَا سمَّاهَا أمين الرِّيحاني بطريقَةِ "الشِّعرِ الحرِّ الطَّليقِ "..وَهَذِهِ الطَّريقَةُ تَلْتَمِسُ مِقْيَاسَهَا وَمَصْدَرَهَا في الشِّعرِ الأوربيِّ."(55 )
وَهَذَا يَكْشِفُ أنَّ هَذِهِ البِدَايَاتِ مَثَّلَتْ اسْتِبْدَالَ نموذَجٍ بِنَمُوذَجٍ ؛ فَأصْبَحَتْ التَّجربَةُ الغربيَّةُ مِعْيَارًا بديلاً لِلتَّجربَةِ العَربيَّةِ الرَّاسِخَةِ ، كَمَا يُوَضِّحُ أيضًا أنَّ الخروجَ على الشَّكلِ الشِّعريِّ العَربيِّ الرَّاسِخِ جَاءَ نتيجَةً لِلتَّفاعُلِ مَعَ أشْكَالِ الشِّعرِ المخْتَلِفَةِ في اللغَاتِ الأخْرَى ، وَهُوَ مَا أكَّدَتْ عليْهِ سَلْمَى الخضْرَاء الجيوسِي (1928- ) بِقَوْلهَا :" كَانَ الأثرُ النَّاجِمُ عَنْ احْتِكاكِنَا بالثَّقافةِ الغَربيَّةِ حَاسمًا في جميعِ الحرَكَاتِ الَّتي اسْتَهْدَفَتْ تغييرًا جذريًّا في القَصِيدَةِ العَربيَّةِ ؛ فمنذُ مَطْلعِ القَرْنِ رَاحَ الرِّيحاني يُحَدِّثُ العَرَبَ عَنْ إمكانِ كتابَةِ الشِّعرِ بالنَّثرِ وَعَنْ شِعرِ والت وايتمان الَّذي تأثَّرَ بِهِ ."(56)
وَلمْ تَقْتَصِرْ المرجِعيَّةُ الغَربيَّةُ على التَّجَاربِ الشِّعريَّةِ الطَّليعيَّةِ الحديثَةِ ؛ فَهُنَاكَ مَنْ أرْجَعَهَا إلى أقْدَمِ العُصُورِ ، وَمِنْهُمْ محمَّد عبد المنعم خفاجِي (1915- 2006) الَّذي يَرَى أنَّ" الشِّعرَ المنثُورَ " أقْدَمُ مِنْ " الشِّعرِ المنظُومِ " في مختلَفِ اللغَاتِ ، وَأمْثَالُهُ كثيرَةٌ في الآدَابِ السُّومريَّةِ وَالبَابليَّةِ وَالمصْريَّةِ القديمةِ وَغَيْرِهَا ."(57)
وَمِنْهُمْ كَذَلكَ حُسين عفيف ، الَّذي يُرْجِعُ بدايَاتِ " الشِّعرِ المنثُورِ إلى لغَةِ الكُتُبِ السَّماويَّةِ وَطَلاقَتِهَا وَمُوسِيقَاهَا الَّتي لا تخضَعُ لقافيَةٍ أوْ وَزْنٍ ، وَيَرَى أنَّ " مَزَاميرَ دَاود وَنشِيدَ الإنْشَادِ لِسُليمانَ همَا أقْدَمُ شِعْرٍ غنائيٍّ بِاعْتِرَافِ دَائرَةِ المعَارفِ البريطانيَّةِ ، وَهمَا مِنْ الشِّعرِ المنثُورِ"(58)، وَلِيُؤكِّدَ حُسين عفيف مَوْقِفَهُ يُضِِيْفُ :" الشِّعرُ أسْبَقُ مِنْ الأوْزَانِ ، لأنَّ الأوْزَانَ مِنْ صُنْعِ البَشَرِ في حِيْنِ أنَّ الشِّعرَ وُجِدَ مَعَ الحيَاةِ ، وَمَادَامَ الشِّعرُ قَدْ اسْتَطَاعَ فيْمَا مَضَى أنْ يعيشَ حِينًا مِنْ غيرِ أوْزَانٍ ، فَهُوَ بعدَ أنْ وُجِدَتْ يَسْتَطيعُ أنْ يَعِيشَ بدونها(59)، غَيْرَ أنَّهُ مِنْ الملاحَظِ أنَّ الرَّأي الَّذي يُعِّبرُ عَنْهُ كُلٌّ مِنْ محمَّد عبد المنعم خفاجِي وَحُسَين عفيف يَتَّسِمُ بالعُمومِيَّةِ وَالاتِّسَاعِ ، وَهُوَ مَا يَتَخَطَّى مَفْهُومَ الشِّعرِ المنثُورِ- الَّذي تحقَّقَ في مَطَالعِ القَرْنِ العِشْرينَ - إلى خَصِيْصَةِ الشِّعريَّةِ ؛ بدليْلِ أنَّه لا يُوجَدُ نتاجٌ يحمِلُ الخصَائِصَ النَّوعيَّةَ لِلشِّعرِ المنثُورِ ، فيْمَا بَيْنَ ذَلكَ التُّرَاثِ التَّليدِ المشَارِ إليْهِ ، وَمَا أرْسَاهُ مُبْدِعو الشِّعرِ المنثُورِ ، في بِدَايَاتِ القَرْنِ العِشْريْنَ بكثَافةٍ : شِعرًا وَتَنْظِيرًا .

مَرجعيَّةُ الأدَاءِ الشِّعريِّ في قَصَائدِ الشِّعر المَنْثُورِ الرَّائدَةِ
لَقَدْ كَانْ للاطِّلاعِ على تجربَةِ الشَّاعرِ الأمريكيِّ والت وايتمان(1819-1892): أوْرَاق العُشْب ؛ الَّتي أصْدَرَهَا فى عام 1855، وَأثْبَتَ فيْهَا إمكانيَّةَ إنجازِ شِعرٍ مُتحرِّرٍ مِنْ الأوْزَانِ وَالقَوَافي ، أثَرهَا العَمِيق في تحفيْزِ قُدَرَاتِ الرِّيحاني، ثمَّ جُبْرَان، إلى إيجادِ شَكْلٍ مُوَازٍ لمَا ابْتَدَعَهُ وايتمان ، في الأدَبِ العَرَبيِّ ، وَفي سَبيلِ البَحْثِ عَنْ لغَةٍ مُلائِمَةٍ بَرَزَتْ مَسَارَاتٌ ثَلاثَةٌ :-
- أوَّلهَا يعودُ إلى يَنَابيعِ النَّثرِ الفَنيِّ العَرَبيِّ وَيمزجُهُ بآليَّاتٍ رُومَانسِيَّةٍ مَسِيحيَّةٍ .
- وَثَانيْهَا يعودُ إلى يَنَابيعِ التَّعبيْرِ القُرآنيِّ ، مُسْتَلْهِمًا إيقاعَاتِهِ وَتَرَاكيبَهُ وَبَلاغَتَهُ .
- وَثَالثُهَا يعودُ إلى طَرائِقِ الأدَاءِ في الكِتَابِ المقَدَّسِ مُسْتَمَدًّا منْهُ الرُّوحانيَّةَ وَالتَّدفُّقَ ، وَآليَاتِهِ التَّعبيريَّةَ .

المَسَارُ الأوَّلُ :
يُجَسِّدُهُ نَصُّ : التَّقوى ، لنقولا فيَّاض ، وَيَنْهَضُ الأدَاءُ ، فيْهِ ، على اسْتِغْلالِ طَاقَاتِ السَّجعِ وَالازْدوَاجِ ، وَتِكرَارِ بَعْضِ الصِّيغِ وَالأبنيَةِ الصَّرفيَّةِ ، وَيَعْتَمِدُ مِنْ ناحيَةِ الشَّكلِ على آليَّاتِ النَّثرِ الفَنيِّ ، وَمِنْ ناحيَةِ مَنْهَجِ الأدَاءِ وَطَبِيْعَتِهِ على " أسْلُوبٍ مَسِيْحِيٍّ وَاضِحٍ ، مُتَأثرًا بِالرُّومانتيكيَّةِ الفَرَنْسِيَّةِ ، فكلُّ سَطْرٍ ، أوْ كلُّ فقْرَةٍ ،كُتِبَتْ مُسْتَقِلَّةً عَنْ الأخْرَى.(60)
وَمِنْ هَذَا النَّصِّ نقرأُ:
" السَّلامُ عليْكِ أيَّتُهَا الحَسْنَاءُ الزَّاهيَةُ المُتَهَاديَةُ في مَطَارفِ الجَلالِ المُتَوََّجَة بإكليْلِ الكَمَالِ
الظَّاهِرَةُ لا مِنْ القُصُور البَارزَةُ لا مِنْ الخدُور
المُقْبلةُ نَحْوَنا لا كالمُهَى الطَّالعَةُ عليْنَا لا كالسُّهَى
مَا أجْمَلَ مُحَيَّاكِ وَأطيَبَ رَيَّاكِ وَألطفَ حُميَّاكِ ".

المَسَارُ الثَّاني :
يَتَمَثَّلُ في عَوْدَةِ الرِّيحاني إلى لُغَةِ القُرْآنِ الكريمِ ، وَإلى إيقَاعَاتِ سورِهِ المكيَّةِ ؛ الَّتي اعْتَمَدَتْ على جملٍ صَغيرَةٍ ، مُتَوَازنَةٍ ، مُقفَّاةٍ ، وَتَنَاصَتْ تجربتُهُ أحْيَانًا مَعَ آياتٍ قُرآنيَّةٍ ، وَكَأنَّ الرِّيحاني قَدْ وَجَدَ في هَذَا المنبعِ الخصِيْبِ المُحْكَمِ أوْفقَ أدَاءٍ لطبيعَةِ تجاربِهِ - وَيُلاحِظُ المتأمِّلُ شِعرَ الرِّيحاني المنثُورَ فيْمَا بَيْنَ (1907-1910)(61) احْتَذَاءَهُ لإيقاعَاتِ وَأسَاليْبِ القُرَآنِ الكريمِ ؛ فَقَدْ كَانَ الرِّيحاني يميلُ إلى الإيقَاعِ الصُّلبِ المحْكَمِِ الَّذي يتلاءَمُ مَعَ طبيعَةِ تجاربِهِ الحادَّةِ ، وَلمْ يَكُنْ الرِّيحاني يميْلُ إلى النَّثرِ الوجدانيِّ المتدفِّقِ البَسِيْطِ ، بَلْ كَانَ " مِنْ أعْنَفِ خُصُومِ الرُّومَانتيكيَّةِ وَالأسْلُوبِ الرُّومانتيكيِّ"(62)، وَظَهَرَ حِرْصُهُ على تحقيْقِ التَّوازي بَيْنَ الجمَلِ المقفَّاةِ ، وَتَوَازي البُنَى الصَّرفيَّةِ وَالصِّيغِ النَّحويَّةِ ، وَتِكرَارِ بَعْضِ الوَحَدَاتِ، وَبَعْضِ الأسَاليبِ ، وَلمْ يَسْتَفِدْ الرِّيحاني مِنْ أنظمَةِ الأسْلوبِ القُرآنيِّ فَقَط ، بَلْ مِنْ شَكْلِ القَصِيدَةِ العَرَبيَّةِ . وَيبدُو ذَلكَ في نَصِّ :الثَّورَةِ ؛ الَّذي منْهُ :
هِي الثَّورَةُ وَيومُهَا العَبُوسُ الرَّهيْبْ
ألويةٌ كالشَّقيْقِ تموجُ تُثيرُ البعيـدَ تثيْرُ القريْبْ
وطبولٌ تُردِّدُ صَدَى نشيدٍ عَجيْبْ
وَأبْوَاقٌ تُنادي كلَّ سميـْعٍ مجيْبْ
وَشَرَرُ عيونِ القَوْمِ يَرْمي باللهيْبْ
وَنَارٌ تَسْألُ هَلْ مِنْ مَزيدْ؟ وَسَيْفٌ يُجيْبُ وَهْـولٌ يُشِيْبْ
وَيْـلٌ يومئـذٍ للظَّالميـْنْ وَيْلٌ لهُمْ مِنْ كلِّ مَريْدٍ مَهيـنْ
طَلاَّبٍ للحَقِّ عنيْدٍ مَديـنْ وَيْلٌ لِلمُسْتعزِّيْنَ وَالمُسْتأمِنيْنْ
هيَ سَاعةٌ للظَّالمينْ
هيَ الثَّورَةُ وَأبناؤهَا الحُفَاةُ وَصِبْيَانُهَا المُسْتَرْجلونَ العُتَاةُ
وَرِجَالُهَا الأشُـدَّاءُ الأبـَاةُ وَنِســَـاؤهَا المُتَنمـِّـرَاتُ
وُخَطبَاؤهَا وَخَطيبَاتُهَا الفَصِيْحَاتُ وَزُعمَاؤهَا وَزَعيماتُهَا المُتَمَرِّدَاتُ
وَيْلٌ يومئذٍ للظَّالمينْ
أنْذَرْتُهمْ بأغـْلالٍ وَسِعيـرْ بقنابلَ تفجَّرُ وَيومٍ عَسِيرْ
يومَ لا يُنْهَونَ وَلا يُأمَرُونْ وَلا يُطَلَقونَ فيهربــُونْ
وَيْلٌ يومئذٍ للظَّالمينْ (63)
يَقْتَربُ الرِّيحاني اقترابًا وَاضِحًا مِنْ إيقاعيَّةِ النَّظمِ القُرآنيِّ ، في هَذِهِ المرْحَلَةِ ، وَرُبَّمَا كَانَ اقْترابُهُ ناجمًا عَنْ الاقْتِرَابِ المباشِرِ مِنْ جماليَّاتِ النَّصِّ القُرآنيِّ ، أوْ ناتجًا عَنْ اطِّلاعِهِ على تجربَةِ أبي العَلاءِ المعريِّ ، في كِتابِهِ : الفُصُول وَالغَايَات ، أثْنَاء تَرْجمتِهِ له كِتَابيْنِ إلى الإنجليزيَّةِ .

المَسَارُ الثَّالثُ :
يَتَمَثَّلُ في رجوعِ جُبْرَان خليْل جُبْرَان إلى آليَّاتِ الكِتابِ المقَدَّسِ التَّعبيريَّةِ ؛ لِيَسْتَخْلِصَ مِنْهَا أدَوَاتِهِ الَّتي تَنْهَضُ على الانْسِيابيَّةِ ، وَالتَّدفُّقِ الغِنَائيِّ ، وَالتَّوازَنِ بَيْنَ الجُمَلِ ، وَتِكْرَارِ بَعْضِ الجمَلِ وَبَعْضِ الصِّيغِ وَبَعْضِ الأسَاليبِ ؛ الَّتي وَجَدَتْ فيْهَا تجاربُهُ الوجدانيَّةُ خَلاصَهَا ويُلاحِظُ المتأمِّلُ لتجربة الشِّعرِ المنثورِ، عِنْدَ الرِّيحاني وَجُبْرَان أنَّ " جُبْرَان كَانَ أكثرَ مُشَارَكَةً لوايتمان مِنْ الرِّيحاني (64)، وَأنَّ جُبْرَان وَوايتمان اعْتَمَدا على الإيقَاعِ الشَّخصيِّ وَأصَالتِهِ وَصِدْقِهِ "(65)، وَجُبْرَان لمْ يَشْتَرِكْ مَعَ وَايتمان في المفْهُومِ النَّظريِّ للشِّعرِ فَقَطْ ؛ بَلْ تَعَدَّاهُ إلى الاستفادَةِ مِنْ المصْدَرِ نفسِهِ ؛ وَهُوَ الكِتابُ المقَدَّسُ ، وَقَدْ لاحَظَ ميخائيل نُعيمه أنَّ الشِّعرَ المنثُورَ في كِتَابِ جُبْرَان :" دمعة وابتسامة "، يحاولُ في الكثيرِ مِنْ نَبَرَاتِهِ محاكَاةَ مَزَامِيرِ دَاودِ وَنَشِيدِ سُليمانَ وَسِفْرِ أيُّوب وَمَرَاثي أرْمِيَا وَتخيُّلاتِ أشْعِيَا وَعِظَاتِ النَّاصريِّ ، وَلا عَجَبَ فَقَدْ كَانَ للتَّورَاةِ في نَصِيبِهَا العَرَبيِّ وَالإنجليزيِّ أبْعَدَ الأثرِ على الأسْلًوبِ الَّذي اخْتَارَهُ جُبْرَان لِنَفْسِهِ (66)، كَمَا لاحَظَ عبد الكريم الأشتر أنَّ مُبْدِعي الرَّابطَةِ القلميَّةِ العَشَرَةَ ، وَهُمْ مَسِيحيُّونَ كُلُّهُمْ ، قَدْ وَجَدُوا " أنَّ أسْلُوبَ الكِتَابِ المقَدَّسَ المترجَمِ إلى العَربيَّةِ ، هُوَ المثالُ الأدَبيُّ الأوُّلُ " (67)، وَأنَّ " تأثُّرَ جُبْران وَكَانَ رئيسًا لهذِهِ الرَّابطَةِ بأسْفَارِ التَّورَاةِ الشِّعريَّةِ وَاضِحٌ "(68)، وَهَذَا مَا شَدِّدَ عليْهِ موريه أيضًا ،كَمَا أرْجَعَ اهْتِدَاءَ جُبْران إلى شِعريَّةِ الكِتابِ المقَدَّسِ إلى اطِّلاعِهِ على عَمَلِ والت وايتمان ؛ حَيْثُ " اسْتَخْدَمَ وايتمان وَجُبْران تكنيكاتِ الإنجيْلِ الشِّعريَّةِ ، مِثْلَ تَوَازِي الأفْكَارِ وَانْتِظَامِهَا وَتِكْرَارِ العِبَارَاتِ وَتَوَازُنهَا ..وَاسْتَخدَمَ الشَّكلَ المقْطَعِيَّ ، وَاللوَازمَ ، وَأسَاليبِ التَّعَجُّبِ ، وَالكَلِمَاتِ المتتابعَةِ الَّتي تَبْدَأ بحرفٍ وَاحِدٍ ، وَالكَلِمَاتِ المتَشَابهَةِ في حُروفِ العِلَّةِ . وَقَدْ تَوَافَقَ هَذَا الأسْلُوبُ مَعَ حَالاتِ التَّأمُّلِ وَالإحْسَاسِ المتدفِّقِ وَالعَوَاطِفِ الحالمةِ وَالمكتَئِبَةِ " .(69)
وَهَذَا نموذَجٌ مِنْ شِعرِ جُبْران ، ينمُّ عَنْ تأثُّرِهِ بهذِهِ الثَّقافَةِ :
"اسْكُتْ يَا قلبي فالفَضَاءُ لا يَسْمَعُكَ .
اسْكُتْ فالأثيرُ المُثقَلُ بالنُّواحِ وَالعَويلِ لنْ يَحْمِلَ أغانيْكَ وَأناشِيْدَكَ.
اسْكُتْ فأشْبَاحُ الليْلِ لا تَحْفَلُ بهَمْسِِ أسْرَارِِكَ وَمَوَاكبُ الظَّلام لا تقفُ أمَامَ أحْلامِكَ.
اسْكُتْ يَا قلبي ، اسْكُتْ حَتَّى الصَّبَاح ، فمَنْ يَتَرَقَّبُ الصَّبَاحَ صَابرًا يُلاقي الصَّباحَ قويًّا، وَمَنْ يَهْوَى النُّورَ فالنَّورُ يَهْوَاهُ .
اسْكُتْ يَا قلبي وَاسْمَعْني مُتكلِِّمًا.
في الحُلْمِ رَأيتُ شَحْرُورًا يُغِّردُ فَوْقَ فوهةِ بُرْكانٍ ثائرٍ
وَرَأيتُ زَنْبَقةً تَرْفَعُ رَأسَهَا فَوْقَ الثُّلوجِ .
وَرَأيتُ حُوريَّةً عاريةً تَرْقُصُ بَيْنَ القُبورِ .
وَرَأيْتُ طِفلاً يلْعَبُ بالجَمَاجمِ وَهُوَ يَضْحَكُ .
وَرَأيْتُ جَمِيعَ هَذِهِ الصُّورِ في الحُلْمِ ،وَلمَّا اسْتَيْقَظتُ وَنَظَرْتُ حَوْلي
رَأيْتُ البُرْكانَ هَائجًا وَلكنَّني لَمْ أسْمَعْ الشَّحرورَ مُغرِّدًا وَلا رَأيتُهُ مُرَفْرفًا .(70)
يُبِّينُ هَذَا النَّصُّ اعتمادَ جُبْرَان على اللوازِمِ التَّكراريَّةِ ، الَّتي يبدأُ بها جُمَلَهُ الشِّعريَّةَ - لتُشكِّلَ قافيةً مَقْلُوبَةً - وَاعْتِمَادَهُ على التَّراكيبِ المتكرِّرةِ ، وَهُوَ يَسْتَخْدِمُ إيقَاعَ الدَّفقةِ الشُّعوريَّةِ ؛ فَتَطُول السُّطورُ أوْ تَقْصُرُ حَسْبَهَا "، وَتكونُ النَّتيجَةُ : تَرْجمةً كِلاميَّةً لموسِيْقَى الوَزْنِ الكَامِنَةِ في أعْمَاقِ الشَّاعرِ ، وَأمَامَ هَذَا العُنْصرِ الجديدِ المُتمثِّلِ في " الدَّفعَةِ " الخاصَّةِ بالجمَلِ الَّتي لا تخضَعُ إلاَّ لِلْمَشَاعرِ الَّتي تُمْلِيهَا ، تَتَرَاجَعُ العَنَاصِرُ الوَزنيَّةُ التَّقليديَّةُ " (71)، وَهَذَا المنهجُ الإيقاعيُّ يَعْكِسُ انْتِمَاءَ جُبْران إلى إيقَاعِ الدَّاخلِ ؛ حَيْثُ باطِنيَّة التَّجربَةِ النَّابضَةِ ، وَمِنْ الملاحَظِ أنَّ البنيةَ التَّكراريَّةَ - الأثيرَةَ في الشِّعرِ المنثُورِ - عِنْدَ جُبْران ذَات أوَاصِر عَمِيقَةٍ بطَرَائقِ الكِتابِ المقَدَّسِ الإيقاعيَّةِ وَالتَّصويريَّةِ .
فعلى مُسْتَوى الإيقَاعِ ، يَتَوافقُ مَطْلَعُ هَذَا النَّصِّ ، مَعَ مَطْلَعِ الإصْحَاحِ الثَّالثِ وَالثَّلاثينَ ، مِنْ سِفْرِ أيُّوب ؛ الَّذي يُفْتَتَحُ هَكَذَا :
"وَلكِنْ اسْمَعْ الآنَ يَا أيُّوبُ أقْوَالي وَأصْغِ إلى كَلامِي
هَا أنَذَا قَدْ فَتَحْتُ فَمِي ". (72)
وَعَلى مُسْتَوَى التَّصويرِ، نجدُ أنَّ صُورَ جُبْران ، مُتَوَافِقَةٌ مَعَ أجْوَاءِ مَرَاثِي إرميَا ؛ الَّتي يَبْدَأ إصْحَاحُهَا الأوَّلُ بمَا يَلِي :
" كَيْفَ جَلَسَتْ وَحْدَهَا المَدينَةُ الكثيرَةُ الشَّعْبِ ؟
كَيْفَ صَارَتْ كَأرْمَلةٍ العَظيمَةُ في الأمَمِ ؟
السَّيدةُ في البُلدَانِ صَارَتْ تَحْتَ الجِزيَةِِ
تبكي في الليْلِ بُكاءً وَدُمُوعُهَا على خَدَّيهَا
ليْسَ لهَا مُعَزٍّ مِنْ كلِّ مُحِبِّيْهَا .
كلُّ أصْحَابهَا غَدَرُوا بهَا . صَارُوا لهَا أعْدَاءً
طُرُقُ صُهيون نَائِحَةٌ لعَدَمِ الآتيْنَ إلى العيْدِ
كلُّ أبْوَابِهَا خَرِبَةٌ."(37)
غَيْرَ أنَّ جُبْران لمْ يَسْتَفِدْ مِنْ آليَّاتِ الكتابِ المقَدَّسِ وَحْدَهَا ؛ بَلْ تَعَدَّاهَا إلى " رَمْزيَّةِ (نيتشه) و(طاغور) و(بليك)(74)، وَمَزَجَ ذَلكَ بحسِّهِ الفِطريِّ للتَّصويرِ ؛ فإلى جَانِبِ الغنائيَّةِ تُعَدُّ السِّمَةُ الشِّعريَّةُ الأثيرَةُ عِنْدَهُ هِيَ : التَّصوير؛ فَجُبْرَانُ " يُفكِّرُ وَيُحِسُّ مِنْ خِلالِ الصُّورِ وَحْدَهَا . مَا تَكَادُ تَلْمَعُ في رَأسِهِ خَاطِرَةٌ حَتَّى تَشِفَّ عَنْ صُورَةٍ ، وَلا يَتِمُّ انفعالُهُ وَلا يُسْتَنْفَدُ حَتَّى يَتَجَسَّدَ في صُورَةٍ أوْ أكْثَر؛ فَالصُّورَةُ عَمُودُ التَّعبيرِ عِنْدَهُ ، وَتُوشِكُ أنْ تَكونَ غَايتَهُ أيْضًا في كثيرٍ مِنْ الأحيَانِ ، ثمَّ قَدْ لا تَكْفِيْهِ صُورَةِ الفِكْرَةِ أوْ الإحْسَاسِ فيلجَأ إلى تَشْبِيْهِهَا بِصُورَةٍ أخْرَى ، وَمِنْ هُنَا كَثُرَتْ التَّشابيْهُ في كِتَابتِهِ حَتَّى اعْتُبِرَ رسََّامًا أكثرَ منْهُ كاتِباً ".(75)
إنَّ هَذِهِ المسَارَاتِ الثَّلاثةَ مَثَّلَتْ بداياتٍ ثلاثٍ ، وَمُنْطَلَقَاتٍ جَديدَةً مِنْ مَنَاطِقَ قَدِيمةٍ ، وَترتيبُهَا التَّاريخيُّ كَالتَّالي :
نقولا فيَّاض : في عام1890، في دِيوانِهِ :رَفِيْف الأقْحُوَان ؛ الَّذي أصْدَرَ أوَّلَ طبعَةٍ منْهُ عامَ1900 .
أمين الرِّيحاني : في عَامِ 1905، في مجلَّةِ: الهلال .
جُبْران خليْل جُبْران : فيْمَا بَيْنَ (1903-1908) ، في صَحِيفَةِ: المُهَاجرَ .
وَقَدْ اشْتَرَكَتْ هَذِهِ المسَارَاتِ في هَدَفٍ وَاحِدٍ ؛ هُوَ الوُصُولُ إلى أُفقٍ جَديدٍ لِلشِّعرِ ، يكونُ أكْثَرَ مُرونَةً وَحُريَّةً وَطَوَاعيَةً ، وَهَذَا هُوَ مَا فَتَحَ الأبْوَابَ أمَامَ الكَثِيريْنَ الَّذينَ ارْتَادُوا رِحَابَ هَذَا الفَضَاءِ وَسَاحَاتِهِ .

التَّمييزُ بَيْنَ النَّثر الشِّعريِّ وَالشِّعرِ المَنْثُور
عَدَدٌ غيرُ قليْلٍ مِنْ نُقَّادنا(67) دَأبُوا على الخلْطِ بَيْنَ الشِّعرِ المنثُورِ وَالنَّثرِ الشِّعريِّ ؛ فَوَضَعُوا مُطْرَانَ وَالرِّيحاني وَجُبْرَان وَمَيَّ وَحُسَينَ عَفيف (وَهُمْ مِنْ شُعَرَاءِ الشِّعرِ المنثورِ)، جَنْبًا إلى جَنْبٍ مَعَ المنفلوطي وَالرَّافعيِّ وَالزَّياتِ (وَهُمْ مِنْ كُتَّابِ النَّثرِ الشِّعريِّ) ، وَمِنْ الملاحَظِ أنَّ مِنْ بَيْنِ أسْمَاءِ المجموعَةِ الأولى مَنْ جمعَ بَيْنَ النَّوعينِ الإبداعيَّينِ معًا ؛ كَأمين الرِّيحاني وَجُبْرَان وَمَيِّ ، غَيْرَ أنَّ الثَّابتَ أنَّ الشِّعرَ المنثُورَ، نَوْعٌ أدبيٌّ ، وَالنَّثرَ الشِّعريُّ نَوْعٌ أدبيٌّ آخَر ، وَلِكُلٍّ مِنْ النَّوعينِ سماته الخاصَّة وَآليَّاته الأسَاسيَّة ، وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا - على الرَّغمِ مِنْ شَدَّةِ التَّقارُبِ ، وَالتَّقاطُعِ أحْيَانًا - هُوَ فرقٌ نَوْعيٌّ وَكَيْفيٌّ ؛ فَالشِّعرُ المنثُورُ هُو قَبْلَ أيِّ شيءٍ شِعْرٌ ، وَالنَّثرُ الشِّعريُّ هُوَ في الأسَاسِ نَثْرٌ ، وَهمَا يجمعَانِ الخَوَاصَ الشِّعريَّةَ ، وَالخوَاصَ النَّثريَّةَ بدرجاتٍ مُتَفَاوتَةٍ ، وَلكنَّهُمَا يظلاَّنِ نوعيْنِ مُتَحَدِّديْنِ .
وَقَدْ مَيَّزَ محمَّد عبد الغني حسن (1907- 1985) بينهُمَا ، على أسَاسٍ شَكْليٍّ ، فَقَالَ :" قَدْ يكونُ في النَّثرِ الشِّعريِّ مَا في الشِّعرِ مِنْ خَيَالٍ ، وَلكنَّهُ خلو مِنْ قيودِ الوَزْنِ وَالقَافيَةِ ، أمَّا الشِّعرُ النَّثريُّ ففيْهِ القافيَةُ الَّتي تتنوَّعُ مِنْ مَقْطَعٍ إلى آخَرٍ ، وَفيْهِ الخيَالُ الشِّعريُّ بالطَّبعِ وَلكنْ ليسَ فيْهِ ذَلكَ الخضُوعُ للتَّفعيلاتِ "(77) ، وَمِنْ الوَاضِحِ أنَّ نموذجَ الشِّعرِ المنثُورِ عِندَهُ هُوَ مَا أنجزَهُ رَائِدُهُ أمين الرِّيحاني ، في بَعْضِ نُصوصِهِ ، اعْتِمَادًا على الإيقَاعِ الخارجيِّ ، كَمَا في نصِّه: الثَّورَةِ .
أمَّا أنيس الخوري المقدسِيُّ فَقَدْ تَوَسَّعَ شيئًا مَا في تمييزِهِ بينهُمَا ، فَرَأى أنَّ : النَّثرَ الشِّعريَّ أسْلوبٌ مِنْ أسَاليْبِ النَّثرِ، تَغْلُبُ فيْهِ الرُّوحُ الشِّعريَّةُ ، مِنْ قوَّةِ العَاطِفَةِ ، وَبُعْدٍ في الخيَالِ ، وَإيقاعٍ في التَّركيبِ وَتَوفُّرٍ على المجازِ ، وَقَدْ عُرِفَ بِذَلكَ كَثيرونَ ، وَفي مُقدِّمَتِهِمْ جُبْرَان خليْل جُبْران ، حَتَّى صَارُوا يَقُولونَ الطَّريقَةَ الجبرانيَّةَ مِثْل كِتَابيْهِ: العَوَاصِف ، وَالبَدَائع وَالطَّرائِف .
" عَلى أنَّ الشِّعرَ المنثُورَ غَيْرُ هَذَا النَّثرِ الخياليِّ ، وَإنَّمَا هُوَ محاوَلةٌ جَديدَةٌ قَامَ بهَا البَعْضُ مُحَاكَاةً للشِّعرِ الإفرنجيِّ ، وَممنْ فَتَحُوا هَذَا البَابَ أمين الرِّيحاني ، في الجزءِ الثَّاني مِنْ ريحانيَّاتِهِ عَشْرُ قِطَعٍ ، وَفي الجزءِ الرَّابعِ ثلاثَ عَشْرَةَ قِطْعَةً تَلْمَسُ فيْهَا جميعَهَا هَذِهِ النَّزعَةَ إلى النَّظمِ الحرِّ مِنْ قيودِ الأبحرِ العَرُوضيَّة " (87) ، ويُضُيْفُ أنيس " وَقَدْ جَرَى عَدَدٌ مِنْ المحدَثِيْنَ على إحْدَى الطَّريقتَيْنِ : الجبرانيَّة وَالرَّيحانيَّة ، أوْ على الطَّريقتَيْنِ. (79 )
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الكَلامِ أنَّهُ يعني بالطَّريقَةِ الجبرانيَّةِ النَّثرَ الشِّعريَّ ، وَبالطَّريقَةِ الرَّيحانيَّةِ : الشِّعرَ المنثُورَ .
وَمَكْمَنُ الإشْكاليَّةِ هُنَا أنَّ جُبْرَان وَالرِّيحاني كِليْهِمَا مِنْ رُوَّادِ النَّثرِ الشِّعريِّ وَالشِّعرِ المنثُورِ مَعًا ، وَرُبَّمَا لتوفُّرِ النَّثرِ الشّعريِّ في أعْمَالِ جُبْران ، غَلَبَ هَذَا الشَّكلُ عليْهِ بينَمَا أبْرَزُ تجارَبِ الرِّيحاني مِنْ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَلِلْخُروجِ مِنْ هَذَا المأزَقِ يَبْدُو أنَّ الأنْسَبَ تَصْنِيْفُ (الأعْمَالِ) لا(الأشْخَاصِ) .
وَالوَاقِعِ أنَّ الشِّعرَ المنثُورَ نَوْعٌ شِعريٌّ خَرَجَ على التَّشكُّلِ في الشِّعرِ الموْزُونِ ، وَجَسَّدَ حَالاتِهِ الشِّعريَّةَ بحُريَّةٍ تعبيريَّةٍ خَالصَةٍ . أمَّا النَّثرُ الشِّعريُّ فَهُوَ محاوَلَةٌ أخْرَى لمزْجِ النَّثرِ بِالشِّعرِ ، في خِطَابٍ رَوْحَانيٍّ آخَر ، على مَقْرُبَةٍ مِنْ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَفي مَسْعَىً يَهْدِفُ في النِّهايةِ إلى مَا يَهْدِفُ إليْهِ الشِّعرُ المنثُورُ ، مَعَ فَارقٍ في الشَّكلِ ؛ ففي الأوَّلِ كَانَ السَّعيُ إلى تحريْرِ الشِّعرِ بالنَّثرِ، وَفي الثَّاني كَانَ السَّعيُ إلي حُريَّةِ النَّثرِ بالشِّعرِ ، وَفي الشِّعرِ المنثُورِ يظلُّ الإيقَاعُ - كَمَا في الشِّعرِ دَائِمًا - هُوَ العُنْصُرُ المهَمْينُ ، وَتَتَآزَرُ مَعَهُ فاعِليَّةُ التَّخييلِ .
وَيجمَعُ بَيْنَ المصْطَلَحَيْنِ اشْتِمَالهمَا على الشِّعرِ وَالنَّثرِ معًا، غَيْرَ أنَّ كُلَّ مُصْطَلَح يُركِّزُ أسَاسًا على خَاصِيَّتِهِ الأجناسِيَّةِ الرَّئيسِيَّةِ في تَقْدِيمهَا على الخَاصِيَّةِ الأخْرَى ؛ فَالشِّعرُ المنثُورُ شِعْرٌ ، وَالنَّثرُ الشِّعريٌّ نثرٌ ، على الرَّغمِ مِنْ جمعِهِمَا بَيْنَ الخاصتينِ وَاشْتِغَالهمَا تحديدًا على الإيقَاع وَالتَّخييلِ .
في الشِّعرِ المنثُورِ تُهَيْمِنُ الخاصيَّةُ الشِّعريَّةُ ، تَتَقَدَّمُهَا السَّليقَةُ الإيقاعيَّةُ ، الَّتي تهيمِنُ على شتَّى آليَّاتِ إنتاجِ شِعريَّةِ الخِطَابِ ؛ فيبرُزُ النَّسَقُ الإيقاعِيُّ المعَادِلُ لحرَكَاتِ التَّجربَةِ ، وَيَتَرَتَّبُ على اتِّسَاقِ حَرَكَةِ الإيْقَاعِ بنَاءُ العِبَارَةِ الشِّعريَّةِ بنَاءًا مُلائِمًا لهَذَهِ الحرَكَةِ ، وَبُروز دَرَجَةِ الغنائيَّةِ ، وَهُوَ مَا يَتَمَثَّلُ في تَعَدُّدِ التِّكرَارَاتِ وَالتَّوَازَيَاتِ وَفَاعِليَّةِ التَّخييْلِ وَجُلوَةِ التَّصويرِ وَتكثِيْفِ الحالَةِ الشِّعريَّةِ .
فَالشِّعرُ المنثُورُ شِعْرٌ في شَكْلٍ مَنْثُورٍ ، شِعْرٌ مَنْعُوتُُ بالنَّثرِ ، لأنَّهُ مَادَّتُهُ وَخَامتُهُ وَلِلتَّشديْدِ على هَجْرِهِ عُنْصرَ الوَزْنِ الخليليِّ ؛ انْطِلاقًا مِنْ أنَّ الشِّعرَ جِنْسٌ ، وَلَهُ فَرْعَانِ: مَوْزُونٌ وَمَنْثُورٌ ، وَكِلاهمَا يَتَدَفَّقُ في فَضَاءٍ مُشْتَرَكٍ كبيرٍ هُوَ : الأفُقُ الإيقاعيُّ الزَّاخرُ ، وَبَيْنَمَا يَعْتَمِدُ الموزونُ على الإطَارِ الإيقاعِيِّ التِّكراريِّ العَدَدِيِّ َالمقنَّنِ ، يَعْتَمِدُ المنثُورُ على الإطَارِ النَّبريِّ الحرِّ ، فَالشِّعرُ المنثورُ إذًا، كِيَانٌ شِعريٌّ يجسِّدُ مَقْلُوبَ الشَّكلِ النَّظميِّ المتَعَارَفِ عليْهِ اصْطِلاحًا بـ(النَّثرِ الموزُونِ) ، هُوَ، إذًا ، في الأسَاسِ ، شِعرٌ ، وَالوَعْيُ بإنتَاجِ هَذَا الشَّكلِ الشِّعريِّ هُوَ وَعْيٌ بإنْشَاءِ نَوْعٍ شِعريٍّ في المقَامِ الأوَّلِ . أمَّا النَّثرُ الشِّعريُّ فَهُوَ نثرٌ ، في المقَامِ الأوَّلِ ، مَنْعُوتٌ بالشِّعرِ ، نَثْرٌ مُكْتَنِزٌ بحالاتٍ شِعريَّةٍ ، وَمُنَاخَاتٍ شِعريَّةٍ محلولَةٍ في مَادةِ النَّثرِ وَباسْتِخْدَامَاتٍ شِعريَّةٍ لخامةِ النَّثرِ ، وَخَاصيَّةُ السَّردِ في النَّثرِ الشِّعريِّ لا تخضَعُ لذلكَ الانْضِبَاطِ الإيقاعيِّ الَّذي نَرَاهُ في الشِّعرِ المنثُورِ ، وَالَّذي يَتَحَكَّمُ في بقيَّةِ المكوِّنَاتِ النَّصيَّةِ ، سَيَكُونُ من الخَطَأ إذًا أنْ يَتَصَوَّرَ البَعْضُ أنَّ الشِّعرَ المنثُورَ وَالنَّثرَ الشِّعريَّ ، وَجْهانِ لجنسٍ إبداعيٍّ وَاحِدٍ ، مِثْلَمَا رَأى إبراهيم حمادة أنَّ تسميَةَ الشِّعرِ المنثورِ مَقْلُوبَةٌ وَصِحَّتُهَا النثَّرُ الشَّعريُّ ، وَالقَضِيَّةُ هُنَا لَيْسَتْ إزَاحَةَ المصْطَلَحِ وَإحْلالِ مُصْطَلَحٍ ؛ إنْ هِيَ إلاَّ إزَاحَة جِنْسِيَّةِ الشِّعرِ ، عَنْ هَذَا الشِّعرِ ، يقول إبراهيم حمادة:
" ظَهَرَتْ - في أوائِلِ قَرْنِنَا الحالي - مَوْجَة ُالشِّعرِ المنثُورِ، وَكَانَ هَذَا الشِّعرُ كلامًا جميلاً مُقَنَّنًا ، خَاليًا مِنْ الوَزْنِ ، وَتأتِيْهِ السَّجعَةُ عَفْوًا ، وَلكنَّهُ يَزْخَرُ بتيَّارٍ من العاطفيَّةِ الدَّافقَةِ ، وَالكلمَاتِ الرَّقيقَةِ ، وَالصُّورِ العَذْبَةِ ، وَالخيَالِ الشِّعريِّ المُجنَّحِ ، وَكَانَتْ أسطر المقطوعة - من هذا اللون النَّثريِّ ترُصُّ على الجانِبِ الأيمنِ مِنْ الصَّفحَةِ ، على نحوٍ يُناظِرُ القَصِيدَةِ مِنْ الشِّعرِ الجديْدِ ، وَالملاحَظُ أنَّ تَسْمِيتَهُ بالشِّعرِ المنثُورِ تَسْميَةٌ صَادقةٌ وَمَشْروعَةٌ إذْ تحاشَتْ كَلِمَةَ " القَصِيدَةِ "، وَلجأتْ إلى كَلِمَةِ " الشِّعرِ" (بمعنَاهَا العَام) ، ثمَّ عَاجَلتْهَا بِصِفتِهَا الخصُوصيَّةِ الشَّخصيَّةِ وَهِيَ النَّثر، وَكَأنَّ التَّسميَةَ بهذَا مَقْلُوبَةٌ، وَصِحَّتُهَا النَّثرُ الشِّعريُّ ."(80)
إنَّ الخلْطَ بَيْنَ الشِّعرِ المنثورِ وَالنَّثرِ الشِّعريِّ خَلْطٌ أجناسِيٌّ ؛ يَتَجَاهَلُ الخاصيَّةَ النَّوعيَّةَ القَارَّةَ في كُلٍّ مُنْهُمَا ؛ الَّتي تجعَلُ أحَدَهمَا شِعرًا نثريًّا، وَتجعَلُ الآخَرَ نثرًا شِعريًّا ، مَهْمَا بَلَغَ التَّدُاخُلُ بينَهُمَا.

نَمَاذجُ وَمَلامحُ مِنْ الشِّعر المَنْثُورِ

التَّقوى ( شعر منثور ) (81)
للدّكتور : نقولا فيَّاض ( 1873 – 1958 )
" قيلتْ في إحدى الحفلاتِ الخطابيَّةِ الأسبوعيَّة لِصَفِّ المُنتهين .."

السَّلامُ عليكِ أيَّتُهَا الحَسْنَاءُ الزَّاهِيةُ المُتَهَاديةُ في مَطَارفِ الجَلالِ المُتوَّجةُ بإكليلِ الكَمالِ
الظَّاهرةُ لا مِنْ القُصُور البَارزةُ لا مِنَ الخُدور
المُقبِلةُ نَحْوَنا لا كَالمُهَى الطَّالعةُ علينا لا كالسُّهى
مَا أجْمَلَ مُحَّياكِ وَأطيبَ رَيَّاكِ وَألطفَ حُميَّاكِ
تدبُّ في الأرْوَاحِ دبيبَ الأرْوَاحِ فخُشُوعٌ في الأبْصَارِ وَخُضُوعٌ في الأفكار وَتأسٍّ على الأسَى وَعَزَاءٌ على العَذَاب وَشِفاءٌ للعليلِ السَّقيم وَسَمِيرُ مَنْ يبيتُ في ليلةٍ سليم
حَيَّاكِ اللهُ مَا أقوى سُلطانكِ على القلوب وَأسْعَدَه لضَحَايا الآثامِ والذِّنوب ِ وَأبْعَدَه عَنْ العيوب وَأقرَبَهُ مِنْ تبوُّئِهِ ذَوي النَّعيم
خَطيبُ الفَضِيلةِ وَعَرُوسُ النِّعمةِ
رُوحُ المَعْرفَةِ وَرَأسُ الحِكْمةِ
كَمَالُ شَرَفِ الخُلقِ وَغَايَةُ أمرِ الله الخَلْقِ
حَيَّاكِ اللهُ مَا أحْلاكِ في النُّفوسِ وَحَيَّا اللهُ رُوحَكِ القدُّوسِ
وَحَيَّا اللهُ وَجْهَكِ الكريم
أيْ سَادتي لا حَاجَةَ للبيان وَقَدْ حَصْحَصَ الحَقُّ للعَيَان
فلتُطأطئْ الرُّءوسُ ثمان تلكُمْ هِيَ التَّقوى، وَهَذا هُوَ الإيمَان
فابنُوا على الحَقِّ آمَالَكُمْ وَاقْضُوا بالحَقِّ أعْمَالَكُم
وَلبَاسُ التَّقوى ذَلكَ خَيْرٌ لَكُم ."

( 1890 )


دَاوِيني رَبَّةَ الوَادِي (82 )
لأمين الرِّيحاني ( 1876 – 1940)

" دَاوِيني رَبَّةَ الوَادِي دَاويني
رَبَّةَ الغَابِ اذْكُريني ،رَبَّةَ المُرُوجِ اشْفِيني
رَبَّةَ الإنْشِادِ انْصُريني
ألا تذكرينَ يومَ رَدَّدتُ وَحَيكِ بَيْنَ قومٍ لا يُشْرِكُونَ مَعَ البَعْلِ إلهًا ؟
وَيَوْمَ قَدَّمْتُ ذَبيحَةً للزَّهرةِ مِنْ يدِ مَنْ لا يَعْرِفُ مِنْ الآلِهَةِ سِوَاهَا ؟
وَيَوْمَ نَادَيْتُ باسْمِكِ في هَيْكلِ إيزيسَ فَطَرَدَني مِنْ الهَيْكلِ الكُهَّانُ ؟
وَيَوْمَ تَصَاعدَ دُخَانُ بخورِكِ على الأولمبِ فاكْفَهَرَّ مِنْهُ جبينُ رَبِّ الأوْثَانِ ؟
أنَا مَنْ وَضَعَ بخورَكِ في مَجَامرِ خُدَّامِ هَيَاكِلِ الرُّومَانِ .
أنَا مَنْ عَقَدَ أوْتَارَكِ في قيثارَةِ رَاقِصَاتِ بَابلَ وَقِيَانِ اليُونانِ .
أنَسِيْتِ مَا زَرَعْتْهُ يدي حَوْلَ هَيْكلِ تمُّوز مِنْ الأشْجَارِ ؟ ، وَمَا حَاكتْهُ يَدي لِربَّةِ الفينيقيِّينَ مِنْ أكَاليلِ الغَارِ وَالأزْهَار ِ؟ ، وَمَا خَطَّتْهُ يَدي في كتابِ عَبَدةِ الشَّمسِ وَالنَّارِ؟ ، وَمَا حَطَّمتْهُ يَدي مِنْ تماثيلِ الطُّغاةِ وَدُمَى كِبَارِ الأبْرَارِ ؟ ، دَاوِيني رَبَّةَ الوَادِي دَاوِيني ؛ رَبَّةَ المُرُوجِ اشْفِيني ، رَبَّةَ الإنْشِادِ انْصُريني ، أنْشِدِيني ؛ عَلى قيثارِكِ مِنْ الألحَانِ الَّتي تُردِّدُ صَدَاهَا اليوم طيورُ الغَابِ وَشَحَاريرُ البُسْتانِ؛ أنْشِدِيني مِنْ الأنغامِ ، الَّتي يُطْرِفُ بهَا الرُّعَاةُ الأنْعَامَ ؛ صَوْتَ نايكِ في الدُّجَي ، وَصَوْتَ أرْغُنِكِ في الضُّحَى أسْمِعِيني ، إلى صَوْتِ عُبَّادِكِ على ضِفَافِ الأنْهَارِ ، وَصَوْتِ أوْلادَكِ في القِفارِ ، اهْدِيني ، انْشُري الآنَ حَوْلَ سَريري، مَا كَمَنَ في الحُقُولِ عَبيري .
اسْكُبي الآنَ فَوْقَ رَأسِي ، مَا تَرَكَتْهُ الأحْقَابُ في كَأسِي .
ألْحِفيني بحُبُّكِ ، ضَمِّخِيني بطِيبكِ ، انْعِشِينِي بِهَمْسِ شَفَتيكِ ، وَبلَمْسِ أنامِلِكِ .
رَدِّدي على مَسَامِعِي الآنَ ، مَا نَسِيتُهُ مِمَّا عَلَّمتِيني مِنْ الألحَانِ
أسْمِعِيني الآنَ ، مَا رَدَّدتْهُ عَنْكِ مَجَالِسُ قيانِ بَابلَ وَاليُونَانِ
دَاوِيني رَبَّةَ الوَادِي دَاوِيني .
رَبَّةَ الإنْشَادِ أصْلِحِيني .
أنَا نَايُ الرُّعاةِ مِنْ عِبادِكِ ، أنَا عُودُ العُشَّاقِ مِنْ عِبادِكِ .
أنَا أرْغُنُ المُتَشرِّدِ مِنْ عَبيدِكِ ، أنَا كَنَارَةُ الرَّاقِصَاتِ ليلَةَ عِيدِكِ .
أنَا النَّفْسُ الَّتي يَتَجلَّى فيْهَا جَمَالُكِ ، وَيَنْبَعِثُ مِنْهَا نوُركِ .
وَتَنْطَبعُ عَليْهَا أسْفَارُ حِكمتِكِ ، وَتَرِفُّ فَوْقَهَا بلابلُ سِحْرِكِ .
أنَا صَوتُكِ جَسَّدتْهُ الدُّهورُ ، أنَا رُوحُكِ أُنزلتْ في الفيدا في الزَّبور.
أنَا رَسُولُكِ إلى صَفْوةِ العبَادِ ، إلى خَيْرِ مَنْ زَيَّنَ الأحْلامَ في المِعَادِ ، بَلْ أنَا كلُّ مَنْ هَامَ في كلِّ وَادٍ ، أنَا وَحْيُكِ في نَشِيدِ الإنْشَادِ ، أنَا نُورُكِ في نَفْسِ مَنْ سَرْبَلَ التَّوبةَ بالإنشَادِ ، أنَا في قيثارِكِ نَغَمَةٌ جَسَّهَا الجَهْلُ ضِمْنَ جُدْرَانِ الأهْرَام ، بَلْ أنَا أغنيةٌ رَدَّدتْهَا الليالي على الأعْوَامِ ، أنَا في قيثاركِ رُوحُ الفَقْنَسِ تَحْتَ رَمَادِ المَنُونِ ، بَلْ رُوحُ أُرْفيوسَ فَوْقَ أمْوَاجِ الفُنونِ ، أجَلْ أنَا قيثارُكِ ، وَأنَا صَوْتُكِ ، وَأنَا نَشيدُكِ ، وَلكنَّ يدًا آثِمَةً خَنَقَتْ البَلابلَ في القيثار ،وَقَطَعَتْ مِنْهُ الأوْتَارَ، فَجَاءَتْ اليومَ بناتُ الهَدِيلِ ، تُدَاوِي بسَجْعِهَا سَجْعِي العَليلِ . دَاوِيني
رَبَّةَ الوَادِي دَاوِيني، رَبَّةَ المُروجِ اشْفِيني ، رَبَّةَ الإنشَادِ انْصُريني ، الْمِسِينِي بأنَامِلِكِ تُعِيدِي إليَّ بَهَاءَ مُلْكِي
عَوِّدِيني في الأسْحَار ، تَشْتَدّْ مِنْ نَسَمَاتِكِ الأوْتَارُ .
اغْسِلِي جِرَاحِي بمَوْجَاتٍ مِنْ فيوضَاتِكِ الإلهيَّةِ ، ضَمِّدي أوْتَاري برُقيَةٍ مِنْ رُقياتِكِ المُوسِيقيَّةِ ، أعِيدي إليَّ مَا سَلَبَتْنِي الآلامُ مِنْ مَجْدِ الحَيَاةِ الشِّعريَّةِ ، ضُمِّينِي
بنتَ الأزَلِ وَالخُلودِ ، فتزولَ عَنْ جَفْنِي كآبةُ
الأجْيَالِ وَيُثمِرُ فيَّ عُقْمُ الجُدودِ .


الرَّاحة (83)
لجُبْرَان خَليل جُبْرَان : (1883–1931)

اخْلَعُوا نَسِيجَ الكتَّانِ عَنْ جَسَدي وَكَفِّنوني بأوْرَاقِ الفُلِّ وَالزَّنبقِ .
انْتَشِلُوا بقايايَ مِنْ تابوتِ العَاجِ وَمَدِّدُوها على وَسَائدَ مِنْ زَهْرِ البُرتقالِ وَالليمونِ .
لا تندبُوني يَا بَني أمِّي ؛ بَلْ أنْشِدُوا أغنيةَ الشَّبابِ وَالِغبْطَةِ.
لا تَذْرُفي الدُّموعَ يَا ابْنَةَ الحُقول ، بَلْ تَرَنَّمِي بمُوَشَّحَاتِ أيَّامِ الحَصَادِ وَالعَصِيرِ.
لا تَغْمُرُوا صَدْري بالتَّأوُّهِ وَالتَّنهُدِ . بَلْ ارْسمُوا عليْهِ بأصْبَعِكُمْ رَمْزَ المَحَبَّةِ وَوَسْمَ الفَرَح .
لا تُزْعِجُوا رَاحَةَ الأثيرِ بالتَّعزيمِ وَالتَّكهينِ ؛ بَلْ دَعُوا قلوبَكُمْ تَتَهلَّلُ مَعِي بتَسْبيْحَةِ البَقَاءِ وَالخُلودِ .
لا تَلْبَسُوا السَّوادَ حُزْنًا عَليَّ ، بَلْ تَرَدُّوا البَيَاضَ فَرَحًا مَعِي .
لا تَتَكلَّمُوا عَنْ ذِهَابي بِالغُصَّاتِ، بَلْ أغْمِضُوا عيونَكُمْ تَرَونِي بينَكُمْ الآنَ وَغَدًا وَبَعْدَهُ .
مَدِّدُوني على أغْصَانٍ مُوْرِقَةٍ ، وَارْفَعُوني على الأكْتَافِ ، وَسِيرُوا بي ببُطءٍ إلى البَريَّةِ الخَاليَةِ
لا تَحْمِلُوني إلى الجَبَّانةِ ، لأنَّ الزِّحَامَ يُزْعِجُ رَاحَتِي ، وَقَضْقَضَةُ العِظامِ وَالجَمَاجمِ تَسْلُبُ سَكينَةَ رُقادِي .
احْمِلُوني إلى غَابَةِ السِّرو وَاحْفُروا لي قَبْرًا في تِلكَ البُقْعَةِ حَيْثُ يَنْبُتُ البَنَفْسَجُ بجوارِ الشَّقيقِ .
احْفُروا قَبْرًا عَمِيقًا كيْلا تَجْرف السِّيولُ عِظامِي إلى الوَادِي .
احْفُروا قبْرًا وَاسِعًا لكي تجيءَ أشْبَاحُ الليْلِ وَتَجْلسُ بجَانِبي .
اخْلَعُوا هَذِهِ الأثْوَابَ وَدلّوني عَاريًا إلى قلْبِ الأرْضِ .
مَدِّدوني ببطءٍ ، أغْمُروني بالتُّرَابِ النَّاعمِ ، وَألقُوا مَعَ كُلِّ حفنةٍ السَّوسَانَ وَاليَاسَمينَ وَالنِّسرينَ ؛ فتنبُت على قبْري مُمتَصَّةً عَناصِرَ جَسَدي ، وَتَنْمُو ناشِرةً في الهَوَاءِ رَائِحَةَ قلبي ، وَتَتَعَالى رَافعةً في وَجْهِ الشَّمسِ ، سَرَائرَ رَائِحتي ، وَتَتَمَايلُ مَعَ النَّسيمِ ، مُذكِّرةً عابرَ الطَّريقِ بمَاضِي مِيولي وَأحْلامِي .
اتْرُكوني الآنَ يَا بَنِي أُمِّي ، اتْرُكوني وَحْدي وَسِيرُوا بأقدَامٍ خَرْسَاءَ ، مِثلمَا تسِيرُ السَّكينةُ في الأوْدِيةِ الخَاليَةِ .
دَعُوني وَحْدِي وَتَفَرَّقُوا عَنِّي بهدُوءٍ ، مِثْلَمَا تَتَفَرَّقُ أزَاهِرُ اللوزِ وَالتُّفاحِ عِنْدَمَا تَنْثُرُهَا أنْفَاسُ نِيْسَانَ .
ارْجِعُوا إلى مَنازِلِكُمْ فتَجِدُوا هُناكَ مَا لمْ يَسْتَطِعْ المَوْتُ أنْ يأخذَهُ مِنِّي وَمِنْكُم .
اتْرُكُوا هَذَا المَكانَ ؛ فَالَّذي تَطْلبُونَهُ صَارَ بعِيدًا عَنْ هَذَا العَالَمِ .


شِعرٌ منثورٌ(84)- كلماتُ أسَفٍ
لخليل مُطران (1871– 1949 )
" أُنشدتْ في حفلةِ تأبين المرحوم الشَّيخ : إبراهيم اليازجي "


أطْلِقْ عَبَرَاتِكَ مِنْ حُكْمِ الوَزْنِ وَقَيْد القافيةْ
وَصَعِّدْ زَفَرَاتِكَ غَيْرَ مُقطَّعةٍ عَرُوْضًا وَلا مَحْبُوسَةً في نِظامْ
قُلْ وَقَدْ نَظَرتَ إلى المَوْتِ وَهُوَ قاتلٌ عَامِدْ
مَا تُوحيه إليْكَ النَّفسُ لَدَى رُؤيَةِ إثْمِهِ الرَّائعْ
لا عَتْبَ على الحِمَامِ ، هُوَ الظُّلمةُ وَالحَيَاةُ النُّورْ
هُوَ الأصْلُ الأزَليُّ الأبَديُّ ، وَالنُّورُ حَادِثٌ زَائلْ
فإذَا أزَهْرَ شَارقٌ في دُجُنَّةٍ فَهُوَ يُكافِحُهَا وَيُنَافيها
إلى أنْ يَنْقَضِي سَببُهُ فَيَتَضَاءَلَ ثُمَّ يَتَلاشِى فيْهَا

***
المَائتُ وَرَاءَ المَيِّتِ . أتَبْكِي مَيْتًا وَأنْتَ مَائِتْ ؟
هَلْ القَطَرَاتُ الهَابِطةُ في العُمْقِ دَمْعَةٌ تَجْري إثْرَ دَمْعَةٍ ؟
لَئِنْ مَاتَ اليَازجيُّ ، فَقَدْ مَاتَ مِنْ قبلِهِ النَّبيوُّنْ
وَمَاتَتْ أُمَمٌ أهَانَ الرَّدَى أعِزَّاءَهَا وَصَغَّرَ كُبَرَاءَها
فَلِمَ تبكُونَ رَاحِلاً أيُّهَا الرَّاحِلونَ ؟ أأنتُمْ بَعْدَهُ في خُلودْ ؟
أمْ هيَ دُموعٌ يقرضُها السَّلفُ ، ليفيهم إياها الخَلَفْ ؟
لا .. وإنما نبكي منَّا بعضنا الذي ذهبَ مع الذَّاهبْ
نبكي مغانمَنَا من أُنْسِهِ وعلمِهِ وأخلاقِهْ .
نبكي ، مفقودَنا من معاهدِهِ في الزَّمان والمكانْ
نبكي ما ألفيناهُ مِنْ مشهودِهِ ومَسْموعِهْ.

***
فيَا مَنْ يُكْبرُ جَزَعَنَا على إبْرَاهِيمْ ! إنَّ المَيْتَ يُبْكَى بمِقْدَارِهْ
وَإنَّ النَّفسَ بمَا فُطِرَتْ عليْهِ مِنْ الكَلفِ بمَصَالِحِهَا
لا تأسَفْ على الشَّمْسِ المُتَوَاريةِ بالحِجَابْ
أسَفَهَا على أيِّ نَجْمٍ يَتَوَارَى ، وَلوْ كَانَ في فُلِكِهِ شَمْسًا.
أكَانَ اليَازجيُّ مِنْ أرْوَاحِنَا بمَنْزلةِ الشَّمْسِ مِنْ العيونْ ؟
فيكُونُ حِدَادُنَا عليْهِ الليْل على النَّهارْ ؟
نَعَمْ ! كَانَ بعْلْمِهِ كالشَّمْسِ إنارَةً وَإشْرَاقًا
وَلكنَّهُ كَانَ كالرَّوضَةِ بأفانيْنِ آدَابِهِ وَمَعَارفِهْ
سِوَى أنَّهُ كَانَ كالزَّهرَةِ بوَدَاعَتِهِ وَعُرْفهِ ، وَنَفْعِ مَا يَعْصِرُ قلَمُهْ
وَلَمْ تكُنْ أشِعَّتُهُ جَارحَةً للعيُونِ بقيحِهَا ،وَإنَّمَا كَانَتْ بَلْسَمًا للعيُونْ
وَلَمْ تكُنْ ثِمَارُهُ وَأشْجَارُهُ تَنْسِيقَ تجَارَةٍ وَلا زِيْنَةَ مُفَاخَرَةْ
وَلَمْ يكُنْ عَرْفُهُ دَعْوةً للإعْجَابِ بِهِ، بَلْ نسْمَةَ رُوحٍ مُتذكِّيَّةْ

***
شَبَحٌ نحيْلٌ ضَمَّ قلبًا رَقيقًا وَعَقْلاً كَبيْرًا
فَقَدْنَاهُ ، فَفَقَدْنَا لُغَةً في يَرَاعْ
فَقَدْنَا زَهْرَةً ذَابلةً تُنْذِرُ بذبُولِ الحَديقَةْ
فَقَدْنَا حَديقَةً مُتَجرِّدَةً تُنبِئُ بزَوَالِ الرَّبيعْ
فَقَدْنَا رَبيعًا انْقَضَى بهِ عَصْرٌ في عُمْرِ رَجُلْ
فَقَدْنَا شَمْسًا أطْلَعَتْ ذَلكَ الرَّبيعَ وَزَانَتْهُ بأنْوَارِهَا وَأنْدَائِهَا
ثُمَّ غَرَبَتْ عَنْهُ بلا تَدَرُّجٍ في الانْتِقَالِ وَمَالتْ إلى الشِّتاءْ



أنْتَ أيُّهَا الغَريْبُ (85)
لمَيِّ زيَادَة ( 1886 – 1941 )

أنَا وَأنْتَ سَجَيْنتَانِ مِنْ سُجَنَاءِ الحَيَاةِ ، وَكَمَا يُعَرَفُ السُّجَنَاءُ بأرْقامِهمِ يُعْرَفُ كُلُّ حَيٍّ باسْمِهِ .
بنَظرِكَ النَّافذِ الهَادِي تَذَوَّقتُ غِبْطَةَ مَنْ لَهُ عَيْنٌ تَرْقبُهُ وتَهْتَمُّ بهِ ، فَصِرْتُ مَا ذَكَرْتُكَ إلاَّ ارْتَدَتْ نَفْسِي بثوبٍ فضْفَاضٍ مِنْ الصَّلاحِ وَالنُّبلِ وَالكَرَمِ ، مُتَمَنِّيةً أنْ أنْثُرَ الخيرَ وَالسَّعادَةَ على جَميعِ الخَلائِقِ .
لي بكَ ثِقةٌ مَوْثُوقةٌ، وَقَلْبي العَتِيُّ يَفِيْضُ دمُوعًا .
سَأفْزَعُ إلى رَحْمَتِكَ عِنْدَ إخْفَاقِ الأمَانيِ ، وَأبثُكَ شكْوَى أحْزَانِي – أنَا الَّتي تَرَاني طَرُوبةً طَيَّارَةً .
وَأُحْصِي لكَ الأثْقَالَ الَّتي قَوَّسَتْ كتِفَيَّ ، وَحَنَتْ رَأسِي مُنْذُ فَجْرِ أيَّامِي – أنَا الَّتي أسِيرُ مَحْفُوفةً بجَنَاحَينِ مُتوَّجَةً بإكليْلٍ .
وَسَأدْعُوكَ أبي وَأمِّي مُتهَِّيبَةً فيْكَ سَطْوةَ الكبيرِ ، وَتأثيرِ الآمِرِ .
وَسَأدْعُوكَ قَوْمِي وَعَشِيرَتي ، أنَا الَّتي أعْلَمُ أنَّ هَؤلاءِ لَيْسُوا دَوَامًا بالمُحِبِّينَ .
وَسَأدْعُوكَ أخِي وَصَدِيقي ، أنَا الَّتي لا أخَ لي وَلا صَدِيق .
وَسَأُطْلِعُكَ على ضَعْفِي وَاحْتيَاجِي إلى المَعُونةِ ، أنَا الَّتي تَتَخَيَّلُ فيَّ قوَّةَ الأبْطَالِ وَمَنَاعَةَ الصَّنادِيدِ .
وَسَأُبيَِّنُ لكَ افْتِقاري إلى العَطْفِ وَالحَنَانِ ، ثُمَّ أبْكِي أمَامَكَ وَأنْتَ لا تَدْرِي .
وَسَأطْلُبُ مِنْكَ الرَّأيَ وَالنَّصيحَةَ عِنْدَ ارْتِبَاكِ فِكْري وَاشْتِبَاكِ السُّبُلِ.
كُلُّ ذَلكَ، وَأنْتَ لا تَعْلَمُ !
سَأسْتَعِيدُ ذِكْرَكَ مُتَكلِّمًا في خُلوتِي ؛ لأسْمَعَ مِنْكَ حِكَايةَ غُمُومِكَ وَأطْمَاعِكَ وَآمَالِكَ ، حِكَايةَ البَشَرِ المُتَجَمِّعَةِ في فَرْدٍ أحَدٍ .
وَسَأتَسَمَّعُ إلى جَميعِ الأصْوَاتِ عَلِّي أعْثُرُ على لَهْجَةِ صَوْتكِ.
وَأشْرَحُ جَميعَ الأفْكَارِ وَأمْتدِحُ الصَّائبَ مِنْ الآرَاءِ ؛ لِيَتَعَاظَمَ تقديري لآرَائِكَ وَأفَكْارِكَ .
وَسَأسْتَبينُ في جَميعِ الوجُوهِ صِوَرَ التَّعبيرِ وَالمَعْنَى ؛ لأعْلمَ كَمْ هِيَ شَاحِبةٌ تَافِهَةٌ ؛ لأنَّهَا لَيْسَتْ صِورَ تَعْبيرِكَ وَمَعْنَاكَ .
وَسَأبْتَسِمُ في المِرْآةِ ابْتِسَامَتِكَ .
في حِضورِكَ سَأتَحَوَّلُ عَنْكَ إلى نَفْسِي لأفكِّرَ فيكَ ، وَفي غِيَابِكَ سَأتَحَوَّلُ عَنْ الآخَريْنَ إليْكَ لأفكِّرَ فيْكَ .
سَأتَصَوَّرُكَ عَليْلاً لأشْفِيْكَ ، مُصَابًا لأُعَزِّيْكَ ، مَطْرُودًا مَرْذُولاً لأكُونَ لكَ وَطنًا وَأهْلَ وَطَنٍ، سَجِيْنًا لأُشْهِدُكَ بأيِّ تَهَوُّر يُجَازفُ الإخْلاصُ ، ثمَّ أُبْصُرُكَ مُتَفَوِّقًا فريْدًا لأُفاخِرَ بكَ وَأرْكَنَ إليْكَ .
وَسَأتَخَيِّلُ ألْفَ مَرَّةٍ كَيْفَ أنْتَ تَطْرَبُ ، وَكَيْفَ تَشْتَاقًُ ، وَكَيْفَ تَحْزَنُ ، وَكَيْفَ تَتَغَلَّبُ على عَادِيِّ الانْفِعَالِ برَزَانَةٍ وَشَهَامَةٍ ؛ لِتَسْتَسْلِمَ ببسَالةٍ وَحَرَارَةٍ للانْفِعَالِ النَّبيلِ ، وَسَأتَخَّيلُ ألْفَ ألْفَ مَرَّةٍ إلى أيِّ دَرَجَةٍ تَسْتَطِيعُ أنْتَ تَقْسُو ، وَإلى أيِّ دَرَجَةٍ تَسْتَطِيعُ أنْتَ أنْ تَرْفِقَ لأعْرِفَ إلى أيِّ دَرَجَةٍ تَسْتَطِيعُ أنْتَ أنْ تُحِبَّ .
وَفي أعْمَاقِ نَفْسِي يَتَصَاعَدُ الشُّكرُ لكَ بُخُورًا ؛ لأنَّكَ أوْحَيْتَ إليَّ مَا عَجَزَ دُوْنَهُ الآخَرُونَ .
أتَعْلَمُ ذَلكَ، أنْتَ الَّذي لا تَعْلَمُ؟، أتَعْلَمُ ذَلكَ ،أنْتَ الَّذي لا أُريْدُ أنْ تَعْلَمََ ؟.


لميخائيل نُعيمه ( 1889 – 1988)
الصُّخور ( 86)

تَبَارَكَتْ الصُّخورُ !
تَبَارَكَ قِزْمُهَا وَعِمْلاقُهَا ، وَدَاجِنُهَا وَآبِدُهَا ، وَعَابسُهَا وَضَاحِكُهَا !
تَبَارَكَ أسْوَدُهَا وَأبْيَضُهَا ، وَأغْبَرُهَا ، وأزْرَقُهَا وَأسْمَرُهَا
وَمَا كَانَ مِنْهَا بلَوْنِ الشَّحْمِ وَاللحمِ .
تَبَارَكَ مَا ارْتَفَعَ مِنْهَا ،وَمَا اتَّضَعَ ، وَمَا اسْتَطَالَ وَمَا اسْتَدَارَ
وَمَا انْتَصَبَ وَمَا مَالَ ، وَمَا اتَّكأَ وَمَا اضطجَعَ ، وَمَا قَعَدَ القُرْفُصَاءَ .
تَبَارَكَ مَا تَرَاكَمَ مِنْهَا وَمَا تَكَبَّلَ وَمَا انْفَرَدَ وَاعْتَزَلَ .
تَبَارَكَتْ عُرُوشًا للبدورِ وَالنُّسور ،وَمَلاجِيءَ لِلسِّباعِ وَالأفاعِي .
وَمَخَازنَ للفَأرِ وَالنَّملِ ، وَمَسَاكِنَ لِلعَصَافيرِ ، وَمَعَابدَ للنُّسَاكِ ، وَعَقَائِلَ للرِّياحِ وَالنَّسَائمِ .
تَبَارَكتْ سَلاسِلَ فقريَّةً وَضِلوعًا في جُسُومِ الجبَالِ ، وَأسِرَّة للأنْهَارِ ، وَحََرَّاسًا للبِحَار ، وَأعْمِدَةً في الهَيَاكِلِ ، وَحِجَارَةً في المَنَازلِ .
تَبَارَكَ صَمْتُهَا مَا أفْصَحَهُ! ،وَسُكونُهَا مَا أرْهَبَهُ! ، وَعَمَاهَا مَا أبْصَرَهُ!
تَبَارَكَتْ ، تَبَارَكَتْ الصُّخورُ !

البَحْرُ (87)

يَا بَحْرُ يَا مَهْدي وَمَهْدَ الحَيَاةِ
يَا بَحْرُ يَا صَوْتي وَصَوْتَ الدُّهور
يَا بَحْرُ يَا فَوْرَةً لا تَغُور ،
يَا بَحْرُ يَا قَلْبي وَقَلْبَ الإله !
يَا جَامِعَ مَا انْتَثَرَ ، وَنَاثِرَ مَا اجْتَمَعَ ،
يَا مُعَلِّمَ السُّموَ وَالوَدَاعَةَ وَالطُّموحَ وَالقنَاعَةَ ،
يَا حَامِلَ أوْزَارَنَا ، وَغَاسِلَ أقْذَارَنَا ،
يَا نُقْطَةً في ألْفِ نُقْطةٍ ، وَألْفِ رَبْوَةِ نُقْطةِ في نُقْطَةٍ ،
يَا نَائِمًا لا تَسْتَيْقِظُ ، وَمُسْتَيْقِظًا لا يَنَامُ ،
يَا حَالِمًا بمَا نَحْلُمُ وَمَا لا نَحْلُمُ ،
يَا مَالكَ الأرْضِ وَمَمْلوكِهَا ،
أبَديتُكَ لَمْحَةٌ ، وَلَمْحَتُكَ أبَديَّةٌ،
وَالزَّمَانُ على صَدْركَ في غَفْوَةِ الأبْرَارِ
أُحِبُّكَ أيُّهَا البَحْرُ ، أحِبُّ سُكُونَكَ الثَّائرَ ، وَثَوْرَتَكَ السَّاكِنَةَ ؛
فثَوْرَتُكَ ثَوْرَتي وَسُكونُكَ سُكُوني .
أُحِبُّ زَبَدَكَ وَأمْوَاجَكَ ، فبِي زَبَدٌ كَزَبَدِكَ ، وَأمْوَاجٌ كَأمْوَاجِكَ .
أحِبُّ انْكِمَاشَكَ وَانْبِسَاطَكَ وَانْكِمَاشَكَ
وَأحِبُّ حَنِيْنَكَ الأبَديَّ ، فَمَا أشَبَهَهُ بحَنِيْنِي !
نَحْنُ بَحْرَانِ أيُّهَا البَحْرُ ؛ وَلكِنَّ الأرْقَشَ هُوَ البَحْرُ الأوْسَعُ وَالأعْمَقُ
وَالأبْقَى ؛ فَأنْتَ يَأتِيكَ يَوْمٌ تَتَقلَّصُ فيْهُ وَتَنْضُبُ . أمَّا الأرْقَشُ ،
فلا يَتَقَلَّصُ إلاَّ لِيَنْتَشِرَ وَلا يَنْضُبُ إلاَّ لِيَمْتَلِيءَ بمَا لا يَنْضُبُ .
أجَلْ نَحْنُ بَحْرَانِ أيُّهَا البَحْرُ ، وَالأرْقَشُ هُوَ الأبْقَى .


مُنَاجَاةُ الأمِّ (88)
لأمين مَشْرِق (1898–1937)

يَا عِلَّةَ كِيَانِي وَيَا رَفيقةَ أحْزَاني ، يَا رَجَائي في شِدَّتي ، وَعَزَائي في شِقْوَتي ، يَا لَذََّتِي في حَيَاتي ، وَرَاحَتي في مَمَاتِي ، يَا حَافِظةً عَهْدِي ، وَمُطَيِّبَةً سُهْديِ وَهَادِيَةً رُشْدِي ، يَا ضَاحِكَةً فَوْقَ مَهْدي ، وَبَاكِيةً فَوْقَ لَحْدِي ، أُمِّي وَمَا أحْلاكِ يَا أمِّي ، إذَا تَرَكَنِي أهْلِي فَأنْتِ لا تَتْرُكيْنَ ، وَإنْ ابْتَعَدَ عَنِّي أحَبابي فَأنْتِ لا تَبْتَعِدين ، وَإنْ نَقِمَتَ عَليَّ الحَيَاةُ جَمِيعُهَا فأنْتِ تَصْفَحِيْنَ وَتَرْحَمِيْنَ ، أنْتِ يَا مُسْكِنةً وَجَعِي وَألَمِي ، وَمُبِيدَةً بُؤْسَ بُؤسِي وَهَمِّي ، أنْتِ وَمَا أصْفَاكِ يَا أمِّي ، عَلى بِسَاطِ الأوْجَاعِ وَلَدْتِني ، وَبأيدي الآلامِ رَبِّيتِنِي ، وَبعِيُونِ الإتْعَابِ رَعَيْتِنِي ، وَبصَدْرِ المَشَقَّاتِ حَمَيْتِنِي ، ثمَّ كَبِرْتُ ، فَقَلَوْتُ آلامَكِ ، وَسَلَوْتُ أيَّامَكِ ، وَهَكَذَا نََسِيْتُ رَحِمِي وَاحْتَقَرْتُ دَمِي ، فَمَا أعَقَّنِي وَمَا أوْفَاكِ يَا أمِّي ، قَدْ غِبْتُ عنْكِ يَا أمِّي فَغَابَ عَنْ عَيْنَي وَجْهُكِ البَاسِمُ بملامِحِهِ الرَّقيقَةِ الرَّزينَةِ ، وَمَعَانِيْهِ الدَّقيقَةِ الحَنُونَةِ ، وَتَرَاكَمَتْ على رَأسِي هُمُومُ الحَيَاةِ بضَجِيْجِهَا الهَائلِ ، فَضَعْضَعَتْ فِكْرِي ، وَزَلْزَلَتْ قلْبِي، وَتَقَاذَفَتْنِي أمْوَاجُ المَتَاعِبِ وَالشَّقاءِ ، فَغُرْتُ في لُجَجٍ طَامِيَةٍ ، وَظُلُمَاتٍ دَاجِيةٍ ، وَبعينيْنِ غَشِيَ عليْهِمَا الرُّعبُ ، نَظَرْتُ مِنْ أعْمَاقِ قنُوطِي ، فَرَأيْتُ وَجْهَكِ اللطيْفَ الثَّابتَ ، يَبْتَسِمُ إليَّ مِنْ الأقاصِي البَعِيدَةِ ، فَبَكَيْتُ وَصَرَخْتُ : يَا أمِّي ..آهِ مَا أقْسَى الغُرْبَة ، وَمَا أمَرَّ الوَحْشَة ، قَدْ كَرِهْتُ البَقَاءَ يَا أمِّي ، وَاشْتَاقَتْ نفسِي إلى مَاضِيْهَا الأميْنِ ، قَدْ كَرِهْتُ التَّمشِّي بَيْنَ القُصورِ الفَخْمَةِ وَالمَبَانِي الشَّاهِقَةِ ، وَاشْتَاقَ قلْبي إلى بيتِنَا الصَّغير المُنْفَرِدِ ، قَدْ كَرِهْتُ رَوَائحَ العُطورِ الفَائحَةِ وَالتَّماثيلَ المُتَخَطِّرَةَ في " بردواي " وَاشْتَاقَتْ حَوَاسي إلى رَائِحَةِ الأمومَةِ المُنْتَشِرَةِ مِنْ فُسْتانِكِ العتيقِ ، فَقَدْ كَرِهْتُ نيويوركَ ، وَكَرِهْتُ أمريكا، وَكَرِهْتُ العَالمَ ، وَلَمْ يَبْقَ في الحَيَاةِ إلاَّكِ يَا أمِّي .. في المَسَاءِ عِنْدَمَا أنْطَرِحُ على فِرَاشِي الخَشِنِ القاسِي ، أذْكرُ يَدَيكِ اللطيفتيْنِ النَّاعِمَتيْنِ ، وَفي الليْلِ لمَّا تمتزجُ أفْكَارِي بأبْخِرَةِ الأحْلامِ ، أشْعُرُ بقدميْكِ الصَّغيرتيْنِ يَنْقُرَانِ الأرْضَ حَوْلَ سَريري ، وَفي الصَّبَاحِ أفْتَحُ عَيْنَيَّ لأرَاكِ ، فَلا أرَى غَيْرَ جُدْرَانِ غُرْفَتِي السَّودَاءِ ، وَلأسْمَعَكِ، فلا أسْمَعُ غَيْرَ أصْوَاتِ الغُرَبَاءِ ، وَفي النَّهَارِ أمْشِي بَيْنَ النِّسَاءِ مُفتِّشًا مُتَسَائِلاً : أيَّتُهَا النِّسَاءُ هَلْ رَأيْتُنَّ أمِّي ؟.

جِرَاءُ الكِلابِ تَجْلِسُ في أحْضَانِ أمِّّهَاتِهَا ، وَفِرَاخُ الدَّجَاجِ تَحْتَ أجْنِحَةِ أمِّّهاتها ، وغُصونُ الأشْجَار تَبْقَى مُعانِقةً أمَّّهَاتِهَا ، وَأنَا وَحْدِي ، بَعْيدٌ عَنْكِ ، مَشُوقٌ إليْكِ يَا أمِّي . إذَا مِتُّ يَا أمِّي ، إذَا قَتَلَنِي وَجْدِي ، وَدُفِنَتْ آمَالِي في هَذِه الأرْضِ القَاسِيةِ الغَربيَةِ ، فَاجْلِسِي عِنْدَ الغُروبِ ، قُرْبَ غَابَةِ السِّنديَانِ وَأصْغِي ، هُنَاكَ رُوحِي امْتَزَجَتْ بنَسَمَاتِ الغَابةِ وَأشْجَارِهَا يُرَتِّلنَ بهدُوءٍ مُتَمَايلاتٍ مُرَدِّداتٍ : يَا أمِّي ، يَا أمِّي ، يَا أمِّي .


لمحمَّد السِّباعي (1881–1921)
الشَّفقُ (89)

أيُّهَا القَصْرُ الذَّهَبيُّ مَا أهْيَمَ نَفْسِي إلى أعاليْكَ اللامِعَةِ تُحَوِّمُ على شُرُفاتِهَا، فأيَّمَا طريْقٍ سَلَكْتُ مِنْ هُنَاكَ سَالَ بهَا في مُنْحَدرٍ حَريريٍّ إلى عَوَالمِ الذِّكَرِ القدِيمَةِ، وَتلكَ أحْلى من الأمَلِ العَذْبِ وَالأمَاني النَّاضِجَةِ .
ألوانُكَ الجَمَّةُ المُتَمَازجَةُ لهَا نَظيْرٌ في قَوْسِ المَطَرِ . لكِنَّ ألوَانَ القَوْسِ تَنْشَأُ عَنْ دموعِ السِّحَابِ . وَألوانَكَ عَنْ دموع الإنسانيَّةِ البَاكيةِ . وَإنَّ مَا يَتَجَدَّدُ في أشَّعتكَ الذَّائبةِ مِنْ سَالفِ المَنَاعِمِ لَهُ في الفُؤادِ لذَّةٌ فَوْقَ لذَّةٍ . وَكَذلكَ الحَلاوَةُ في جِوَارِ المَرَارَةِ أحْلَى . وَالجَمَالُ في جَانبِ الحُزْنِ أجْمَلُ ..وَزَهْرُ الخَريفِ أفْتَنُ لِقُرْبِ الشِّتَاءِ. وَالحَديقَةُ الخَضْرَاءُ في الشَّفقِ المَريْضِ تبدو للخَيَالِ جَنَّةً جُزْؤهَا في الأرْضِ وَعِنْدَ رضْوَان سَائرُهَا .

المَسَاءُ (90 )

نَضَبَ النَّهَارُ وَسَالَ الليْلُ مِنْ مَجَاريْهِ المُظْلِمَةِ . لَهُ خَريرٌ تَسْمَعُهُ المَلائِكةُ يُنِيْمُ النَّبَاتَ كَمَا يَنَامُ الطِّفلُ على غِنَاءِ أمِّهِ . أيُّهَا القَلِقُ المَحْزُونُ . اخْرُجْ إلى الليْلِ البَاردِ البليْلِ الظِّلالِ
تَتَنَفََّسْ عَليْكَ الأشْجَارُ الهَرِمَةُ حِكْمَتَهَا النَّديَّةَ .
وَتُرْسِلُ الوَرْدَةُ العَذْرَاءُ أنْفَاسَهَا الطَّاهرَةَ . وَيَرْشِفُ العُشْبُ الأخْضَرُ الحَميْمَ مِنْ بَطْنِ قَدَمِكَ وَتَنْسَلَّ رُوحُ الرَّوضِ في رُوحِكَ فتتركَهَا خَضْرَاءَ مُعْشِبَةً . فإذَا أمْسَيْتَ كَذلكَ كُنْتَ جَديرًا أنْ تَنْظُرَ إلى المَنَازلِ فَتَقُولُ : أيُّهَا المُسْتَتِرُ في بَيْتِهِ. كَأنِّي بكَ في ألَمٍ وَلَوْعَةٍ . إنِّي أفِيضُ نِعْمَةً فَهَاكَ نَفَحَاتٍ مِنْ سِروري أُرْسِلْهَا عليْكَ بَيْنَ نَفَحَاتِ الشَّمَالِ . وَنَفَثَاتٍ مِنْ نَعِيْمِي أبثُّهَا لكَ في عُشْبِِ مَنْزلكِ أوْ في ثَرَاهُ.


(شِعرٌ منثورٌ)(91): الهَرَمُ الأكْبَرُ
لمحمَّد تيمور (1892–1921)

يُطلُّ على القَاهرَةِ مِِنْ شَاهِقٍ كَأنَّهُ رَسُولُ مَجْدِهَا القديم .
على صخُورِهِ العَابسَةِ وَعَلى رِمَالِهِ الصَّفَراءِ كَتَبَ الدَّهرُ
بمخالبِهِ السَّودَاءِ تاريخَ مِصْر.
مُهَشَّم الجَبْهَةِ مُغْمَضِ العَيْنَيْنِ يَلْتَحِفُ السُّكونَ وَالجَلالَ .
هُوَ تِمثالُ الحَقيقَةِ ؛ حُلوةً كَانَتْ أوْ مُرَّة .
مِنْهُ عَرفْنَا مَجْدَ مِصْرَ القديمِ وَمِنْ بَابهِ نَسْمَعُ أنَّاتِهَا المُتَتَابعَةِ .
عَاريَ الجَسَدِ أسْمَرَ اللونِ يَحْمِلُ في صَدْرِهِ آلامَ الأيَّامِ .
لمْ يَضِقْ صَدْرُهُ بِالمَصَائبِ وَلَمْ تَذْرفْ مَحَاجرُهُ دموعَ اللأوَاءِ .
ثابتَ الجَأشِ لمْ يَتَحَوَّلْ عَنْ مَكَانِهِ القديْمِ وَلمْ تَسَلْ بَعْدُ دِمَاؤهُ الحَمْرَاءُ .

في سَفْحِهِ تَشْعُر النَّفسُ بالهَيْبَةِ وَالحُزْنِ .
هُناكَ تَذْهَبُ الأمُّ الثَّاكلُ لِتَنْدبَ أوْلادَهَا .
وَهُناكَ يَذْهَبُ العَاشِقُ لِيَبْكيَ عَشِيْقَتِهِ .
وَهُنَاكَ يَجْلِسُ الشَّاعرُ على صَخْرٍ أصَمَّ يَذْكُرُ مَجْدَ بلادِهِ الضَّائعِ .
عليْهِ مِسْحَةٌ مِنْ الجَمَالِ لا يَعْرفُهَا إلاَّ كُلُّ فنِّي .
مِنْهُ تَسْتَمِدُّ أنْفُسُ المُجَاهِديْنَ قوَّةً هَائلةً .
وَمِنْهُ ينبثقُ على مِصْرَ في جُنْحِ الليْلِ شُعَاعُ الأملِ .
هُوَ كتابُ الوَطنيَّةِ .
على صَفْحَتِهِ الأُولى كَتَبَتِ الحَقِيْقَةُ بأَسْطُرٍ مِنْ ذَهَبٍ :
مِصْرُ لِلمِصْريَّينَ .


الشَّفقُ الحزين (92)
لمحمود تيمور(1894–1973)

يَا رَقيْبَ الشَّمسِ الذَّاهِبَةِ وَيَا بَشِيْرَ القَمَرِ المُنير ، يَا مَنْ تُسْكِرُ الطَّبيعَةَ بخَمْرَةِ الأفقِ ، وَيَا مَنْ تُنْشِدُ للكونِ ألحَانَ الصَّمْتِ المشجيةِ ، يا مَن تنسج على البحارِ ستارَ الليلِ القادمِ ، يا مَن تستقبلُكَ الطيور مُغردّةً وتودِّعُك نائحةً ، يا مَن تهمسُ في أذنِ الظَّلام أسْرَارَ النُّورِ ، وَيَا مَنْ تَسْتَرقُ الخُطَا في جَوْفِ الليْلِ
يَا قُبلةَ الغَرَامِ الأولى على جَبيْنِ العَــذْرَاءِ
يَا أنْفَاسَ العَاشقِ الخَمُولِ على ثغرِ الحَسْنَاءِ
يَا جَمْـرَةَ الحُبِّ المُلْتَهبِ في فـُؤادِ السَّمَاءِ
أيُّهَا الجُرْحُ الدَّامِي في قلْبِ الأُفقِ : قِفْ بُرْهَةًَ وَانْظرْ جِرَاحَ قلوبنَا الدَّاميَةِ قِفْ وَأرْسِلْ شُعَاعَكَ الضَّعيفَ إلى تلكَ الأفئدةِ الحَالكَةِ الَّتي يَضُمُّهَا الحُزْنُ وَيَفْتَرسُهَا اليَأسُ وَتُغذِّيهَا الآلامُ . يَا ظلالَ الأمَانيِ الرَّاحلةِ : قِفْ بُرْهةً ، وَظَلِّلْ تَحْتَ جَمْرتِكِ القَانيةِ شَبَحَيْ العَاشِقينِ الوَاجفيْنِ وَانْشُرْ عليْهَا نَسِيمَ الأمَلِ ليَهْنآ تَحْتَ ظِلِّكَ لَحْظةً مِنْ الزَّمنِ.
يَا خَيَالَ الألَمِ في مِرْآةِ السَّمَاءِ : قِفْ وَانْظُرْ ذلك َ المَحْزُونَ الَّذي ازْدَحَمَتْ في رَأسِهِ تذكَارَاتِ المَاضِي المُؤلِمِ وَآلامِ المُسْتَقْبَلِ المَجْهُول ِ، قِفْ وَشَاركْهُ في سِكُونِهِ وَحُزْنِهِ ، في لَوْعَتِهِ وَبُؤسِهِ ، إنَّهُ يَتَرَقَّبُ ظهورَكَ لِيَنْظُرَ إلي وَجْهِكَ الحَزيْنِ يَقْرَأُ فيْهِ تاريخَ مُسْتَقْبلِهِ وَيَرَى عليْهِ أشْبَاحَ مَاضِيْهِ . يَا مَنْ تُطلُّ بوجْهِكَ الشَّاحبِ مِنْ بَيْن سجفِ الليْلِ القَادِمَةِ أنْتَ رَسُولُ الحُبِّ الصَّامتِ إلى أفئدَةِ العَذَارَى الوَاجِفَةِ . يَا مَنْ تُرْسِلُ أشَعَّتكَ المُضْطربَةَ على الطَّبيعَةِ النَّائمَةِ ، أنْتَ دَمْعَةُ الظَّلامِ البَاكِي على صَدْرِ الشَّمْسِ المَائِتَةِ .
أنْتَ وُرودُ الحُبِّ اليَانعَةِ على صدُورِ الحِسَان
أنْتَ خَيَالُ العَاشقِ المَهْجُورِ يَكْتَنِفُهُ النِّسيَـان
أنْتَ وِجْدَانُ الشَّاعرِ البَائسِ تَمْتَلِكُهُ الأحْـزَان
أيُّهَا الرَّاحلُ الحَزيْنُ : قِفْ قبالتِنَا بُرْهَةً نُوَدِّعُ فيْكَ الأمَلَ ؛ فمَا أنْتَ إلاَّ شَبَابٌ قََصِيرُ الأمَدِ قَطَفَهُ الليْلُ مِنْ رَبيْعِ النَّهَارِ وَثوَّتْهُ الطَّبيعَةُ بَيْنَ أحْضَانِهَا ، إلى أيْنَ تَسِيرُ أيُّها الجَوَّابُ التَّعِبُ ، إلى البَحْرِ الخِضَمِ تُحيطُ بِهِ صُفْرَةُ الشَّمسِ أمْ إلى اللانِهَايَةِ مَجْمُوعَةً عَنَّا بسِتارِ الخُلودِ ؟، أتَمُرُّ على صَرْعَى البُحُور وَقَدْ ثَوَّتْهُمْ الأمْوَاجُ بَيْنَ مَضَاجعِ الأسْمَاكِ ؟ أيُشْرقُ نُورُكَ الخَافتُ على الضَّحَايا تلْتَطِمُ بالصُّخورِ الصَّمَاءِ ؟ أمْ تَمُرُّ على القُبورِ فَتُرسِلُ أشِعَّةَ الحَنَانِ وَالعَطْفِ عَلى المَوْتَى في مَأوَاهُمْ الأخَيرِ ؟ ، بَلْ أنْتَ تَمُرُّ على العِيونِ السَّاهِرَةِ نَاظِرَةً إلى مُحَيَّاكَ الذَّابلِ فتُبَلِّغَهَا على أجْنِحَةِ النَّسيمِ رَسَائلَ الغَرَامِ . قِفْ يَا صَاحِبي قَبْلَ أنْ تُودِّعَ العَالمَ . قِفْ وَانْظُرْ إلى مَنْ يُنَاجيْكَ بلُغَةِ السُّكونِ .


ثورةُ نَفْس (93)
لحسين فوزي (1900– 1988)

دَفَنْتُ قلبي وَعَقْلي بيدِ ثابتةٍ وَلمْ أقُمْ على حُفْرَتِهِمَا صَفْحَةً مِنْ الذِّكرى ، فَمَا هِيَ إلاَّ لَحَظَاتٌ حَتَّى أخَذَتْهُمَا الظُّلمَةُ .
دَفَنْتُهُمَا وَلَمْ أزْرَعْ على تُرْبتِهِمَا زَهْرَةً وَاحِدَةً ؛ خِيْفَةَ أنْ تُصِيبَنِي أشْوَاكُهَا ، قَدْ كَفَانِي مِنْهُمَا مَا كَفَانِي .
دَفَنْتُ قلْبي وَعَقْلِي فلَمْ يَبِنْ مِنْ أثَرٍ لهُمَا إلاَّ مَرَارَةً في فَمِي ، سَتَضِيعُ إذَا اغْتَسَلْتُ في الغَديرِ مَرَّةً أوْ مَرَّتيْنِ .

أنَا حَشَرَةٌ ضَئيلةٌ تُنَقِّبُ في الحَشَائشِ عَنْ رزْقِهَا.
فَرَاشٌ ذَابلٌ لا يهمُّهُ إلاَّ زَهْرَةٌ تَضُمُّ بَيْنَ أوْرَاقِهَا طَعَامَهُ.
طائرٌ صَامِتٌ يَسْكُنُ الكُهُوفَ وَيَشْرَبُ مِنْ الينبوعِ وَيَأكُلُ مِنْ الأشْجَارِ
لا يَعْرفُ الصَّبَابةَ وَلا التَّغريْدَ .
عَنْكَبوتٌ يَنْشُرُ أنْسِجَتَهُ الوَاهِيَةَ في الأرْكَانِ الخَرِبَةِ .
أفْعَى تَنْسَلُّ في الظَّلام لا لِتَضُرَّ أحَدًا وَلكنْ لِتَعِيْشَ ، على أنَّهَا
تَنْتَقِمُ مَمَّنْ يَتَعَمَّدُ إيذاءَهَا .
أنَا هَذِهِ المَخْلُوقاتُ ، وَهَلْ لي أنْ أكُونَ أكْثَرَ مِنْهَا ؟


الظَّلامُ (94)
لمحمَّد كامل حجَّاج (-1943)

تَبَّتْ يَدَاكَ أيُّهَا الكافرُ الباغِي ! ثَكِلتْكَ أُمُّكَ أيُّهَا الظَّالمُ الطَّاغِي ! تَوَالتْ عليْكَ اللعنَاتُ ! وَصُبَّتْ فَوْقَ رَأسِكَ المِحَنُ وَالآفاتُ ! ، تَنْقَضُّ على الأبْرَارِ بدَيَاجيرِكَ المُرَوِّعَةِ وَآلامِكَ وَمَصَائبِكَ الفَاجِعَةِ ؛ فَتَعْمَى مِنْهُمْ الأبَصْارُ ، وَتُسَدُّ عليْهِمْ المَسَالكُ ليَكْفُوكَ شِدَّةَ المُطَارَدَةَ وَيَقِفُوا بَيْنَ يَديْكَ حَيَارَى أذِلاَّء كَسِخَالٍ وَديعَةٍ تَرْتَعِدُ أمَامَ ذئبٍ ضَارٍ ثَمَّ انْقَضَّ عليْهَا يَبْقَرُ بَطْنَ هَذِهِ وَيَشُقُّ ظَهْرَ تلكَ ، فَمِثلُكَ كَمِثْلِ الصَّائِدِ الظَّالمِ يُحَرِّضُ بَازيَّهُ على ظَبيَةِ الكنَاسِ فيَفْقَأُ عيْنَيهَا دُونَ رَحْمَةٍ وَلوْ كَانَ لهُ قلْبٌ لمَا اسْتَطاعَ أنْ يَثْبُتَ أمَامَ مَا تُسَدِّدُهُ إليْهِ مِنْ نبالِ عَيْنيهَا الدَّعجاوين أوْ يَسْلَمُ مِنْ سِحْرِ جُفُونِهَا الوَطْفَاءِ فتَتَخَبَّط المِسْكينَةُ تَخَبُّطَ مَنْ مَسَّهُ الشَّيطانُ وَعَيْنَاهَا غَارقَتَانِ في دِمَائِهِمَا تُنْشِدَانِهِ دُونَ جَدْوَى نُوْرًا يَهْدِيهَا إلى كنَّاسِهَا وَيُريْهَا جَمَالَ آرَامِهَا .
تَرْمِي شِبَاككَ السَّودَاءَ على العَالمِ وَهُوَ مُطْمَئنٌ فتُخْرجَهُ مِنْ نَهْرِ الهَنَاءِ ، إلى لَظَى العَذَابِ وَالشَّقاءِ ... تُسَلِّطُ عليْنَا الشُّرورَ كَحَجَرٍ أُلقِيَ وَسَطَ خَميْلةٍ أوَتْ إليْهَا الأفاعِي فَهَاجَهَا مِنْ مَنَامِِهَا وَخَرَجَتْ عِضَابًا فاغِرَاتٍ أفْوَاههَا تَنْهَشُ كُلَّ مَنْ تُصَادفُهُ .



نَجيُّ القَمَر(95)
لفائِق ريَاض

أيُّهَا القَمَرُ !
يَا أنْشُودَةَ الجَمَال ِ وَالجَلالِ في صَحِيفَةِ السَّمَاءِ !
يَا آيَةَ التَّعزيَةِ النُّورَانيَّةِ لقلوبِ الوَامِقِيْنَ وَالتُّعَسَاءِ !
يَا سَلْوَةَ المُسَهَّديْنَ في مَطَارحِ الوِحْدَةِ السَّودَاءِ !
يَا صَديقَ الوَفَاءِ حَيْثُ لا صَديقَ وَلا وَفَاءَ !
أطِلَّ عليَّ مِنْ طاقتِكَ السَّمَاويَّةِ بوجْهِكَ السَّاطعِ الجَمِيْلِ ،
اصْعَدْ وَتَبَّوأْ أريكَةَ عَرْشِكَ السَّمَاويِّ يَا مَليْكَ النُّورِ!
اخْلَعْ رِدَاءَكَ الفِضِّيَّ الجَميْلَ على شَبَحِ الليْلِ الحَالكِ ،
وَامْزجْ بسِكُونِهِ الرَّهيْبِ جَمَالَكَ القَشِيْبِ!
أطِلَّ وَانْظُرْ ذَلكَ المِسْكينَ المَفْؤودَ الَّذي يَنْتَظِرُكَ بصَبْرٍ
ليُفْضِيَ إليْكَ بنَجْوَاهُ ، وَيَبُثُّ إليْكَ شَكْوَاهُ !..
أيُّهَا الكَوْكَبُ الجَميْلُ الشَّاحِبُ ! يَا رَمْزَ الجَمَالِ وَالطُّهرِ وَالسُّرورِ
وَالحُزْنِ وَالوَصَبِ سَلامٌ عليْكَ ! ..
لَقَدْ كُنْتُ بالأمْسِ أنَامُ على رَنيْنِ أجْرَاسِكَ الفِضيَّةِ ، وَكَانَ
رُوحِي يَسْبَحُ مِنْكَ في أبْهُرٍ ذِي ألوَانٍ جَمِيلةٍ مِنْ العَوَاطِفِ
وَالوجْدَاناتِ ! كَانَ يُغْرقُ رُوحِي وَعقلِي في فَيَضَانِ نُوركَ البديعِ ،
فأُحِسُّ بمَا لا أسْتَطيعُ أنْ أصِفَ !
أوَّاهُ ! ... يَا للذكرَى الجَميْلةِ المُؤْلِمَةِ !..
أيُّهَا القَمَرُ! يَا صَديقَ الوِحْدَةِ وَيَا سَميْرَ الليْلِ ! أجبْنِي :
أيْنَ ذَلكَ السُّرورُ الفيَّاضُ الَّذي كَانَ يَسْبَحُ فيْهِ رُوحِي ؟!..
أيْنَ السَّعَادةُ الَّتي نَعِمْتُ بهَا حِيْنًا في جَوِّكَ الفِضيِّ اللذيذِ !..
صِرْتُ أرَى في ضِيائِكَ المُتَكسِّرِ على صَفْحَةِ الميَاهِ صُورَةَ
خَوَاطِري المُشَوَّشةِ الثَّائرَةِ ..
أنْظُرُ إليْكَ ، فأقرأ بَيْنَ مَحاقِكَ وَاكْتِمَالِكَ قِصَّةَ الحَيَاةِ المُتْعَبَةِ الفانيَةِ !
أنْصِتُ إلى صَوْتِ ضِيائِكَ المُكفَهِرِّ، فَأسْمَعُ أنْشُودَةَ الحُبِّ العَاثرِ وَالأسَى الصَّامِتِ !..
أتأمَّلُ وَجْهَكَ الأبيضَ الشَّاحِبَ ، فَأتمثَّلُ صُوْرَةَ الوَامقِ المُنْفَردِ
الَّذي تملَّكَهُ الحُزْنُ ، وَتَغَلْغَلَ في أعْمَاقِ فُؤادِهِ اليأسُ !..
وَدَاعًا أيُّهَا القَمَرُ ! ..



المَعْبُودَة (96 )
لمحمَّد شوقي

العَذَارَى يُنْشِدنَ الألحَانَ المُقدَّسَةَ
وَالفِتيانُ يُقدِّمونَ الضَّحَايَا وَالقَرَابيْنَ
على مَذْبحِ الهَوَى ، وَهَيْكلِ الحُبِّ
لإرْضَاءِ المَعْبُودَةِ رَبَّةِ الجَمَالِ وَالحُسْنِ
حَتَّى تَمْنَحَهُمْ السَّعَادَةَ وَالحُريَّةَ
لِيَعِيْشُوا في سَلامٍ ، وَهَنَاءٍ
مُتَحَابيْنَ ، مُتَعَانِقيْنَ .

***
وَقَدْ ظَهَرَ الغَسَقُ الجَميلُ فَصَبَغَ الغُيومَ
وَارْتَدَى الكَوْنُ ثَوْبًا وَرْديًّا
وَتَجَلَّتْ المَعبُودَةُ ، وَشَخَصَتْ الأبْصَارُ إلى بهائِهَا
وَاسْتَيْقَظَ القَومُ مِنْ سُباتِ عبادتِهِمْ
على صَوتِهَا الرَّخيمِِْ المُنْبَعِثِ مِنْ جَوَانبِ الوجودِ
وَصَلَّتِ الكَهَنةُ تَحْتَ عَرْشِهَا المُقدَّسِ
صَلاةَ الأمَاني وَالآمَالِ
فأوْحَتْ ثُمَّ أوْحَتْ إلى القلوبِ وَالأفئِدَةِ
أنَّ زَهْرَةَ السَّعَادةِ سَتَنْضُرُ
وَرَبيعَ الحُريَّةِ سَيَجيء
فَبَكَى القَوْمُ بُكاءَ السُّرورِ
وَتَسَاقطَتْ دِموعُ الفَرَحِ كاللآلئِ
على الوَجَنَاتِ الَّتي تُشْبِهُ الأُقْحُوانِ
وَتَعَانَقَتْ العَذَارَى وَالفتيانِ
على ضَوْءِ النُّورِ المُنْبَثقِ
وَبَارَكَتْ الكَهَنةُ هَذا العناقَ الطَّاهرَ
ثُمَّ اسْتَخْفَتْ المَعْبُودةُ في خِدْرِهَا
فودَّعُوهَا سَاجديْنَ لجَلالهَا السَّاحرِ
ثُمَّ ذَهَبُوا ليَغْتَسِلُوا في نَهْرِ الخُلودِ
الَّذي يَرْوي ربوعَهُمْ الهَادئةَ
وَيَسْقِي حُقُولَهُمْ السُّندسيَّةَ
المُقَامِ على شَاطِئِهِ صَرْحُ المَعْبُودةِ
المُشَيَّدِ رَمْزَ العَظَمَةِ وَالمَجْدِ
وَسِرَّ سَعَادَةِ القومِ التَّائهيْنَ .



عَيْنَاكِ (97)
لِمُنِير الحُسَامِي


أرى نُورًا جَمِيلاً يَتَلألأُ
يملأُ جَوانبَ نَفْسِي الحَزينةِ
نُورًا غَريبًا سَمَاويًّا يَتَألَّقُ
مِنْ عَيْنَيْكِ

عَيْنَاكِ مَمْلؤتَانِ جَمَالاً وَعُذوبَةً وَسِحْرًا
يَنْبَثِقُ النُّورُ مِنْهُمَا بِغَزَارَةٍ
وَيُحَدِّقَانِ بِعَيْنِي مِنْ بَعِيْدٍ
وَيَبْعَثَانِ شُعَاعًا يُرَفْرفُ فَوْقَ نَفْسِي
وَنُورًا سَمَاويًّا يَرْعَانِي
يَفِيْضُ مِنْ عَيْنَيكِ

في عَيْنَيْكِ بَرِيقٌ يُشَعْشِعُ مُتَألِّقًا في خَبَايَا رُوحِي
عَيْنَاكِ الكَبِيْرَتَانِ تُفِيْضَانِ جَمَالاً وَسِحْرًا
فَقَدْ حَرَّكَتَا أوْتَارَ فُؤادي الشَّجِيِّ بِذبُولِهِمَا وَحَرَّكَتَاهُمَا
فَإنَّهُمَا تُكَلِّمَانَنِي بِأعْذَبِ حَدِيْثٍ وَأَفْصَحِ بَيَانٍ
عَيْنَاكِ تَنْظُرَانِ إلىَّ بِحُبٍّ عَظِيمٍ
نَظَرَاتٍ صَادِقَةً ، وَحُبٍّ نَقِيٍّ كَنَقَاوتِهِمَا
حُبٍّ طَاهِرٍ كَطَهَارَةِ قَلْبِكِ العَذْبِ الرَّقِيقِ
آهٍ ! مَا أصْدَقَ نَظَرَاتِكِ !
وَأوْفَاكِ لِفَتَاكِ !
عَيْنَاكِ نِبْرَاسٌ تَفِيْضُ مِنْهُ مَعَانِي الحُبِّ وَمَهْبِطُ الجَمَالِ
آهٍ يَاحَبِيْبَتِي مَا أجْمَلَ عَيْنَيْكِ !



بقايَا الشَّفق (98)
لأبي القاسم الشَّابي (1909-1934)


أيْنَ أنْتِ؟
أيَّتُهَا الأحْلامُ العَذبَةُ الَّتي كَانَتْ تَبْسَمُ لي مِنْ خِلالِ الظَّلامِ
فَتُفْعِمُ آفاقَ نفْسِي بِأنَوْارِ الرَّجَاءِ
وَتَرفُّ بسِكُونٍ حَوْلَ قلْبي هَامِسَةً في مَسَامِعِهِ أنْشُودَةَ الأمَلِ
في أيِّ وَادٍ تلاشَيْتِ
وَفي أيِّ لحْدٍ ضُمَّ صَدَاكِ ؟
أيْنَ أنْتِ؟
أيَّتُهَا الأجْنِحَةُ البَيْضَاءُ المُتألِّقَةُ تَحْتَ أشِعَّةِ الشَّمسِ
كَعَرَائسِ الشِّعرِ
لَقَدْ طَلَبْتُكِ بَيْنَ أنْوَارِ الصَّبَاحِ
فَلَمْ أجِدْكِ
وَفَتَّشتُ عَنْكِ بَيْنَ أهْوَالِ الظَّلامِ
فَمَا رَأيتُكِ
فَتَّشتُ عنْكِ في ابتسَامَةِ الأزْهَارِ
وَفي قطوبِ الأشْوَاكِ
وَفي كُلِّ أطوَاءِ الحَيَاةِ
وَمَظاهِرهَا
فمَا وَجَدْتُكِ
فأيْنَ أنْتِ أيَّتُهَا الأشِعَّةُ الفاتنَةُ
وَأيْنَ مَأوَاكِ ؟
آهٍ !
لَقَدْ اِضْمَحلَّتْ تلكَ الأحْلامُ العَذْبَةُ السَّاحرَةُ
وَلمْ يَبْقَ لي مِنْ الأمْسِ إلاَّ المَرَارَةَ
وَالألمَ
لَقَدْ تَوَارَى خَيالُ المَاضِي الجَمِيلِ
وَرَاءَ ضَبَابِ الأسَى
وَلمْ يَبْقَ لي مِنْهُ إلاَّ قلبٌ مُنْتَحِبٌ
يَنْدبُ في عُزْلَتِهِ القَاسِيَةِ
بمَا في أعْمَاقِهِ مِنْ مَرَارَةِ الأوْجَاعِ
وَنَفْسٌ مُعَذَّبَةٌ حَزينَةٌ
مُضْطربَةٌ بَيْنَ عذوبَةِ الأمْسِ
وَمَرَارَةِ اليومِ
وَالآنَ
وَقَدْ تَقَضَّتْ أفْرَاحُ الأيَّامِ
وَانْدَثَرَتْ أحْلامُ السَّعادَةِ
كَمَا تَنْدَثرُ الزُّهورُ
غَيْرَ تَاركَةٍ على صَفْحَةِ القَلبِ
سِوى ظلٍّ ضَئيلٍ لحَيَاةٍ قَصِيَّةٍ فاتِنَةٍ
تَوَارَتْ مَعَ أشْبَاحِ الزَّمنِ
يُثيرُ في النَّفسِ هَاجِعَ التِّذكارِ
الآنَ
تقفُ نفْسِي على شَاطِئِ الأحْزَانِ
حَيْثُ تَتَدَفَّقُ أوْجَاعُ النُّفوسِ
وَتَتَكَسَّرُ أمْوَاجُ الأسَى
بسِكُونٍ
هُنَالكَ
على ضَفَّةِ تلكَ البُحيرَةِ الخَرْسَاءِ
أيْنَ يَتَرَدَّدُ صَوْتُ الكآبَةِ الأبديَّةِ الكامِنَةِ في أعْمَاقِ السُّكونِ
هُنَالكَ
تَقِفُ نَفْسِي الحَزينَةُ، صَارخَةً بمَا في صَوْتِ اليَأسِ مِنْ الهَوْلِ وَالألمْ :
أيُّهَا القلبُ المُنْسَحِقُ تَحْتَ سَنابكِ الأيَّامِ !
النَّابضُ بأنَّاتِ الأسَى
النَّاقمُ على مَوْجَةِ الدَّهر الغَضُوبِ المُتَرَاكِضَةِ في لُجْةِ الحَيَاةِ
إنْ كَانَ في اِسْتِطاعَتِكَ أنْ تَقِفَ جَبَّارًا، قويًّا
أمَامَ تيَّارِ الزَّمنِ
دُونَ أنْ يَجْرفَكَ إلى الهَاويَةِ
وَأنْ تُلقِي بتلكَ المَوْجَةِ العَاتيَةِ في أحْشَاءِ الأبدِ
فافْعَلْ
أمَّا إنْ كُنْتَ عَاجزًا
فليْسَ بمُجْديكَ العَويْلُ
أيَّتُهَا الحَيَاةُ الهَاجِعَةُ
في كَهْفِ الأسَى
حَتَّامَ تَنُوحِينَ
وَقَدْ صُمَّ مَسْمَعُ الأيَّامِ
وَإلامَ تَسْتَرْحِميْنَ
وَقَدْ اِنْصَرَفَتْ مَسَامعُ الليالي إلى ضَجَّاتِ المَظَالمِ
وَأضْحَتْ القلوبُ قاسِيةً كالْمَوْتِ
صَمَّاءَ كآذَانِ القُبورِ
أيُّهَا المَوْتُ الأصَمُّ الأخْرَسُ
أيَّتُهَا الشُّعلَةُ المُظلِمَةُ المُلتَهبَةُ في صَدْرِ الحَيَاةِ
ألا تَخْمَديْنَ
حَتَّى تُرتِّلَ الحَيَاةُ أنْشُودَةَ الخُلودِ العَذبةِ
مُكَلَّلةً
بإكليْلِ الأبَدِ الرَّائعِ .

في 19 محـرَّم سنة 1344
المُـوافـق لـ 9 أوت1925




نَحْنُ الشُّعرَاءُ (99)
لمُراد ميخائيل (1906- 1986)


عِنْدَمَا يَنْسِجُ البدرُ ثَوْبًا فضيًّا لِلمُروجِ وَالوديَانِ
نَنْسِجُ لأنفسِنَا ثوبًا مِنْ الوَجْدِ وَالحَنيْنِ
وَعِنْدَمَا يَنْثُرُ الليْلُ ما في جيوبِهِ مِنْ أحْلامٍ
نَسْتنزلُ الوَحْيَ بألفِ سِكونٍ عَمِيْقٍ
وَعِنْدَمَا يَنْثُرُ الصَّبَاحُ ذُؤابَتَهُ على قننِ الجبَالِ
وَعِنْدَمَا تَتَفَتَّحُ الأجْفَانُ المُنْطبِقَةُ
تَنْطَبقُ أجْفَانُنَا المُقرَّحَةُ بالسُّهَادِ
نَحْنُ عُشَّاقُ الحَقيقَةِ نَحْنُ أبنَاءُ الخَيَالِ .

نَحْنُ نَعيشُ وَفي عَيْشِنَا ألْفُ مَوْتٍ مَعْنَويٍّ
وَنَمُوتُ وَفي مَوْتِنَا حَيَاةٌ لا تَرْتَضِي الفَضَاء حُريَّةً
وَلا الوجُودَ مَسْرَحًا
نَحْنُ نَبْكِي لِتَفْتَرَّ الثُّغورُ الَّتي غَابَ عَنْهَا الابْتِسَامُ
وَنَضْحَكُ لِيَبْكِي مَنْ أرَادَ أنْ يَسْتَشِفَّ عَظَمَةَ نَفْسِهِ
مِنْ خِلالِ الدُّموعِ
نَحْنُ نُوَالِي النَّفخَ في الرَّمَادِ المُتَكدِّسِ في مَوْقِدِ الحَيَاةِ
لنُوجِدَ مِنْ خمُودِهِ جَمَرَاتٍ تَلْتَهِمُ الأشْوَاكَ
نحن عشاق الحقيقة نحن أبناء الخيال .

هَذِهِ بذورُنَا المَطْمُورَةُ في أعْمَاقِ التُّرَابِ مَنْ يُنَمِّيهَا بدِمُوعِ حَنَانِهِ؟
هَذِهِ خُمورُنَا المُعَتَّقَةُ في قَوارير ِأنْفُسَنَا مَنْ يَشْرَبُ مِنْهَا وَيَنْتَشِي ؟
هَذِهِ أنَاشِيدُنَا في فَمِ الطَّبيعَةِ وَالحَيَاةِ مَنْ يُنْشِدُهَا وَيُرَتِّلُهَا ؟
هَذِهِ مَعَازفُنَا السِّحريَّةُ الأوتَار مَنْ يَضْربُ عَليْهَا أعْذَبَ الأنْغَامِ ؟
قَدْ خُلِقْنَا لِنُبذَرَ وَنَجْعَلَ النَّاسَ يَحْصُدُونَ
وَقَدْ وُجِدْنَا لِنَنْتَشِيَ وَنَجْعَلَ النَّاسَ يَسْتَفِيقُونَ
نَحْنُ عُشَّاقُ الحَقيقَةِ نَحْنُ أبْنَاءُ الخَيَالِ .

(1927)


وَادِي الجَمَاجِم (100)
لرشيد أيُّوب (1871- 1941)

مَا أجْمَلَكَ أيُّهَا الوَادي مَسْرَحًا لأحْلامِي
مَا أحْسَنَكَ مَجْمَعًا لأشْبَاحِ لياليَّ
أيُّهَا الرَّاضِعُ مِنْ ثَدْي صنينَ
السَّاكنُ في حِضْنِ الطَّبيعَةِ
المُتَنَصِّتُ لوَقْعِ أقْدَامِ الدُّهورِ المَارَّةِ أبدًا
مرورُكَ في مُخَيِّلتي
أنْتَ عَمِيقٌ أيُّهَا الوَادي
عَمِيقٌ جدًّا كجِرَاحِ قلْبي
تَنْصَبُّ فيْكَ سيولُ الأمْطَارِ
كَمَا تَنْصَبُّ في صَدْرِي الهُمومُ
وَتَنْبُتُ الكآبةُ في سَفْحِ ضِلُوعِي
آهِ وَاشَوْقِي إلى طَريقِكَ المُنْعَرجَةِ
الَّتي أحبُّهَا كثيرًا
الطَّريقُ المُؤدِّيةُ إلى ربوعِ أحِبَّتِي
المُطلَّةُ على خَيْمَةِ النَّاطورِ القائِمَةُ على كَتِفِكَ
المُتَطلِّعةُ على أعْمَاقِكَ
كَمَا تَتَطلَّعُ رُوحُ الشَّاعرِ إلى أعْمَاقِ الأبديَّةِ
سَوْفَ أرْجَعُ إليكَ أيُّهَا الوَادي
وَأنْتَ أيُّهَا الطَّريقُ سَوْفَ أمُرُّ فيكَ
وَلَوْ آخِر العُمْرِ .


أيَّتُهَا الحَمَامَةُ (101)
لجميل صِدقي الزَّهاوي (1863– 1936)

أتذكَّرُ أنِّي اتَّفقتُ مَعَ الصَّبَا على أنْ نَزورَ الرَّوضَ في كُلِّ صَبَاحٍ ، وَنُحيَِّي أزْهَارَهُ المَطْلُولَةََ مِنْ بَنَفْسَجٍ غَضٍّ وَيَاسَمِيْنٍ وَنِسْريْنٍ وَأقْحُوَان وَشَقِيْقٍ ، وَأنْ أغَرِّدَ مَعَ البُلبلِ الصَّدَاحِ أغَاريدَ في العِتابِ أمْلأُ بهَا فَضَاءَهُ .
وَلَعَلَّكِ أيَّتُهَا الحَمَامَةُ قَدْ سَمِعْتِ شَيئًا مِنْ أنَاشِيدي ، حِيْنَ ألقيتُهَا على بناتِ الرَّوضِ ، وَرَأيْتِ دِمُوعِي تَرْتَجِفُ في مَآقيَّ ؛ فَتَزِلَ بهَا أقْدَامُهَا وَتَسْقُط على الأزْهَارِ مُغْمَىً عليْهَا ، وَتَخْتَلِط هُنَاكَ بالنَّدَى .
إنِّي أيَّتُهَا الحَمَامَةُ قَدْ ألقيْتُ قَصِيدَتي لهَا ، إعْجَابًا بمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ لَوْعَةٍ وَشَكَاةٍ ، فَغَنِّينِي أنْتِ أيْضًا أيَّتُهَا الحَمَامَةُ ، وَأنْشِدِينِي شَيئًا مِنْ شِعركِ في الفِرَاقِ ؛ فإنَّكِ كُلَّمَا أنْشَدْتِنِي مِنْهُ شَيئًا ذَكَّرتِنِي بأحِبَّتِي الَّذينَ رَحَلُوا إلى غَيْرِ لقَاءٍ ؛ فَهِجْتِ فيَّ أشْجَانًا ، هُنَّ الدُّموعُ الَّتي تَريْنَ عيونِي مَغْرُوقاتٍ بهَا .
أيَّتُهَا الحَمَامَةُ تَعَالي أُقاسِمُكِ الهُمُومَ تَعَالِي ؛ فإنَّا إذَا تَقَاسَمْنَاهَا خَفَّ وَقْرُهَا عَليْنَا ، وَلَعَلَّ السَّمَاءَ إذَا سَمِعَتْ تَشَجِّينا ، وَرَأتْ انْكِسَارَنَا، تَنْدَمُ على مَا قَضَتْ عَليْنَا ؛ فتُرْجِع أيَّامَنَا السَّعيدَةَ كَمَا كَانَتْ تُرْجعُ ابْتِسَامَاتِهَا.


أيُّ خَطْبٍ جَلَلٍ؟(102)
لبشَارة الخُوري (1885– 1968)

" قيلتْ في رثاءِ الشَّيخ اسْكندر العازار الشَّاعرِ وَالخَطِيبِ
؛ المُتوفَّى يوم الثُّلاثاءِ 14 يناير 1919"

نَفَذَ السَّهمُ في صَميمِ قَلْبِ الأدَبِ . فَكَأنَّمَا الجَبَلُ هَوَى في البَحْرِ فَمَلأ الفَضَاءَ رشَّاشُهُ . وَكأنَّمَا مُسْتَقَرُّ الكَهْرُبَاءِ لامَسَ صَدْرَ كُلِّ أديْبٍ فَأهووا على صِدورِهِمْ بأيْدِيْهِمْ يَمْنَعُونَهَا مِنْ الخُفُوقِ – ذَلكَ يوم قالوا : مَاتَ العَازَار !..

***
لَهَفِي وَلَهَف الأدَبِ عَليْكَ !
يَا رَاحِلاً بلا وَدَاعٍ
وَسَاكِنًا وَكَانَ مِلءَ الأسْمَاعِ
وَمُظْلِمَ الجَفْنِ وَكَانَ مَبْعَثُ النُّورِ !
***
لَهَفي وَلَهَف المَنَابرِ ! على عُودِهَا الذَّاوي
وَنَجْمِهَا الخَابِي . وَنَشْرِهَا الهَاوي – قَصَّ الرَّدَى جَانِحَيْهِ !
لَهَفِي وَلَهَف الشِّعرِ !
على أطْرَبِ أوْتَارِهِ
وَأطْيَبِ أسْحَارِهِ
وَأجْمَلِ أزْهَارِهِ!..

***
لَهَفِي وَلَهَف الجَرَائدِ !
لا الحُقُولُ فيْهَا زَوَاهِي
وَلا الآيَاتُ بيِّناتْ
وَلا النِّكاتُ مُطْرِبَاتْ
دَهَتْهَا بَعْدَكَ الدَّواهِي
فهيَ أرْضٌ مَوَاتْ

***
يَا أميرَ اليَرَاعِ في الشَّامِ
وَحَبيْبَ رِجَالِهِ في كُلِّ مَكَانْ
يَا نُقْطَةَ الظُّرْفِ وَرَوْنَقِ البَيَانْ !
يَا وَاسِطَةَ العِقْدِ مِنْ جيْدِ المَحَامِدْ !
يَا لسَانَ العَرَبِ الفَصِيْحِ وَوَجْهَ الأدَبِ الصَّبيْحِ
سَلامٌ وَرَحْمَةُ اللهِ يَوْمَ وُلِدْتَ
وَيَوْمَ مِتَّ . وَيَوْمَ تُبْعَثُ حَيًّا !

***
وَاخَلْجَتَاهُ منْكَ يَوْمَ أرْثيْكَ !
منْكَ اسْتَعَرْتُ بَيَانِي
بكَ اسْتَنْزَلْتُ إلهَامِي
وَإليْكَ كَانَ مَرْجعِي في كُلِّ شَانِي
هَا أنَا ذَا يَا أخِي وَيَا شَيْخِي !
هَا أنَا ذَا عِنْدَ قبْرِكَ الهَادِي
في وَحْشَةِ الليْلِ وَثَوْبِهِ
أجْثُو على بَلاطِ ضَريْحِكَ وَكِتَابي في يَدِيَّ
وَقَلْبي على شَفَتَيَّ
أُوْدِعَ في ذِمَّةِ القَبْرِ ، وَذِمَّةِ الليْلِ حُبِّي القَديْم
وَوَفائِي القَديْم وَإخْلاصِي القَديْم !
نَمْ برَغْمِي آمنًا في قبْرِكَ
آمِنًا في عُزْلتِكَ
أنْعَشَ اللهُ رُوْحَكَ
وَآنَسَ الطَّيرُ ضَريحَكَ !
وَفيَّأَ الصَّفصَافُ عليْكَ مِنْ الجَانِبينْ .



طَيْفُ الرَّبيعِ (103)
لِجَمِيْلَة مُحَمَّد العَلاَيْلِي (1917–1991)


خَلاَ المَكَانُ إلاَّ مِنْ أنْفَاسِكَ تَرِفُّ عَليَّ ، وَخَلا المَكَانُ إلاَّ مِنْ طَيْفِِكَ يبدو مِنْ وَرَاءِ نَاظِرِي ، وَوَرَاءَ نَاظِرِي قَلْبِي الأَمِيْنُ يَخْضَعُ لِنَامُوْسِكَ .
خَلا المَكَانُ وَلكِنِّي أشْعُرُ أنَّ العَالَمَ يَحُوْطُنِي ، وَأَنَّ المَكَانَ مَلِيءٌ بِأَخْيِلَةٍ تَهِفُّ أمَامِي مَحْسُوسَةً وَلاَ وُجُودَ لَهَا إلاَّ في قَلْبِي الوَسِيْعِ .
وَلِلخُلوِّ غَفْوَةٌ شَبِيْهَةٌ بِغَفْوَةِ النَّائِمِ امْتَطَيْتُ مَعَهَا جَوَادَ الرَّبيعِ وَهُوَ يَجْتَازُ بِي مُحِيْطَ العَالمَِ الرُّوحَانِيِّ مَأْخُوْذَةً بسَِكْرَةِ الرَّبيعِ وَيَالَهَا مِنْ سَكْرةٍ! رَشَفْتُ خَمْرَهَا بِكَأْسِ فَمِ الرُّوحِ الرَّفِيفِ وَهُوَ يَحْمِلُنِي عَلى الصُّعودِ إلى مَلَكُوتِ الخُلُودِ حَيْثُ يَسْكُنُ الرُّوحُ الألِيْفُ .
وَعَلى بِسَاطِ الرَّبيعِ انْبَسَطَ جِسْمِي وَقَدْ اسْتَشْعَرَ قَلْبِي بِمَا وَرَاءَ الرَّبيعِ
سَهَوْتُ عنْ نَفْسِي .. وَنَسِيْتُ كِيَانِي في عَالَمِي المَحْدُودِ .
خَلْفَ شُعَاعٍ مِنَ الضَّوءِ سِرْتُ حَيْثُ لا أدْرِي وَالنَّسِيمُ يَحْمِلُنِي بِرِقَّةٍ إلى حَيْثُ أبْغِي .
وَيَا لَهَا مِنْ رِحْلَةٍ شَاهَدْتُ فِيْهَا مِنْ جَمَالِ الكَوَاكِبِ الرَّبِيْعِيَّةِ مَا بَهَرَنِي بَهَاؤهُ .


البُلْبُلُ (104)
لِحُسَين عَفِيف (1902- 1979)

- 20–

أمَا تَرَيْنَ يَاحَبِيبَتِي ، أنَّ مَنْظَرَنَا يُصْبِحُ أجْمَلَ عِنْدَمَا نَبْكِي؟ أمَا نَغْدو عِنْدَئذٍ كَالزَّهْرَةِ خَضَّلَهَا النَّدَى؟ أوْ كالسَّمَاءِ تُرْسِلُ على الزُّروعِ صَيْبَ القَطْرِ ؟ .
غَنِّينِي بِرِبِّكِ أغْنِيةً حَزِينَةً ، كَتِلْكَُ التي ينشدُهَا الحَمَامُ في الأبْرَاجِ ، وَاليَمَامُ على أيكِهِ في الفَجْرِ .
نَعَمْ ، غَنِّينِيهَا حَزينةً ؛ كمثلِ أُغْنِيةِ المَلاَّحِ في اليَمِّ ، أو الحَادِي يَجُوزُ بِقَافِلَتِهِ الصَّحَرَاءَ ، أوْ الرَّاعِي يَهْبِطُ البَرَاري مَعَ أبْقَارِهِ ، أوْ الفَلاَّحِ يَرْوي مِنْ مَاءِ السَّواقِي حَقْلَهُ ، أولِئكَ الأشْقِيَاءُ الذين يَنْزِلُ البُؤسُ بِتُرْبَتِهِمْ الطَّيبةِ ، فَيُثْمِرُ فِيْهَا النَّغَمَ الحَزِيْنَ ، يُسَرِّحُونَهُ في ألْحَانِهِمْ السَّاذَجَةِ ، أغَانِيَ شَاكِيَةً ، تَتَرَدَّدُ على طُولِ البِقَاعِ .
هَيَّا يَاحَبِيْبَتِي غَنِّي ! ، وَتَعَقَّبِي بِدَمْعِكِ السَّخِيِّ أُغْنِيَتَكِ البَاكِيَةَ ، وَدَعِي قَطَرَاتِهِ الدَّافِئَةَ تَلْتَقِي وَدمُوعِي عَلى خَدَّيْنَا المُتَلاصِقَيْنِ ، ثُمَّ تَمْتَزجَانِ معًا في نَهْرٍ حَزِيْنٍ ، تَنْعَقِدُ مِنْ أنْفَاسِهِ كُلَّمَا لَفَحَهُ الجَوَى فَتَضَوَّعَتْ غَمَامَةٌ تَسْتَقِرُّ في ضَمِيْرِ الأُفُقِ ، مُكْتَئِبَةً ، وَتُضْفِي عَلَيْنَا وَنَحْنُ في جِلْسَتَنَا الهَادِئَةِ تِلكَ ، ضَبَابًا أشْبَهُ بِذَلِكَ الذي يَغْمُرُ بِهِ الأزْهَارُ ، أوْ ظِلالاً تُشْبِهُ تِلكَ التي يُفِيْئُهَا الأيْكُ في الظَّهِيرَةِ .

-25-

أطْلِقْنِي يَا إلهِي مِنْ إسَارِ ذَلِكَ الحُبِّ الذي حَرَّمَ عليَّ بَنَاتِ حَوَّاءَ إلاَّ وَاحِدَةً .
أطْلِقْنِي كَمَا تُطْلِقُ الفَرَاشَةَ في الرَّوضِ ، تَلْثُمُ كُلَّ زَهْرَة ٍ،وَتُعَانِقُ كُلَّ غُصْنٍ .
أطْلِقْنِي كَمَا تُطْلِقُ الجَدْوَلَ يُلامِسُ كُلَّ حَصَاةٍ ، وَيُصَافِحُ كُلَّ نَبْتَةٍ .
أطْلِقْنِي كَمَا تُطْلِقُ النَّسيمَ السَّاري ؛ يَهِيْمُ بِلا مُسْتَقَرٍّ ، وَيَهْبِطُ كُلَّ مُنْتَجَعٍ .
أطْلِقْنِي كَمَا تُطْلِقُ الظِّبَاءَ في المَرَاعِي ، تَأكُلُ مَا تَشَاءُ وَتَدَعُ مَا تَشَاءُ .
أطْلِقْنِي كَمَا تُطْلِقُ النَّغَمَ الحَبِيْسَ ، يَنْسَكِبُ في كُلِّ مَسْمَعٍ ، وَيَلْمَسُ كُلَّ جُرْحٍ .

-39-

يَابَنَاتِ الوَادِي خَبِّئنَ عُيونَكُنَّ السُّودَ عَنِّي ، لَقَدْ ذَكَّرْنَنِي بِغَادَةِ الضَّوَاحِي ، رَبَّةِ العَيْنَيْنِ السَّودَاوَيْنِ وَالجُفُونِ الكَحِيْلَةِ ، تِلْكَ السَّمْرَاءِ ذَاتِ الشَّعْرِ الفَاحِمِ المَنْفُوشِ ، وَالسَّاقَيْنِ اللتينِ مِنَ الشَّلاتِ صُبَّتَا ، جَمَعَتْ في جَسَدِهَا ظُلْمَةَ الليلِ على لَهَبِ مَصَابِيْحِهِ ، مَنْ رَآهَا يَرَى الظَّلامَ البَرْبَرِيَّ ، وَعَلَيْهِ مِنْ الهَمَجِ جَوَارٍ يُوْقِدْنَ الحَطَبَ ، في أحْشَائِهِ جَمْرٌ يَحِزُّ ، وَعَلى الصَّدرِ لَهِيْبٌ وَشَرَرٌ ، وَإمَّا يَتَقَلَّبُ اللهَبُ فيهِ يُزْجِي حَوْلَهُ الأضْوَاءَ دَمَويَّةً ،يَلْفَحُ إِذْ تَتَذَبْذَبُ حَرُّهَا الوجوهَ ، وَيَعُودُ بِالقَلْبِ إلى مَوَاطِنِهِ الخَفِيَّةِ ، حَيْثُ الشَّهَوَاتُ لَيْسَتْ إلاَّ نِيْرَانًا تَأجَّجُ في كُهُوفِ النَّفسِ المُظْلِمَةِ .


نَهَارٌ وَلَيلٌ (105)
لِبِشْرِ فَارِس(1906-1963)


بِودِّي لوْ أنْهَضُ وَالنَّهَارُ بَاسِم
فَألْمَحُ إلى عَجَائِبَ فَأَسْتَمْلِي
لكِنِّي أخُو العَجْزِ
لا أزَالُ ظِلاًّ للنُّعَاسِ المُتَثَائِبِ
فَلَو انْدَفَعَ النُّورُ لَفَتَكَ بِالأشْوَاقِ

ذَاتَ مَسَاءٍ إلى وَلِيْجَةِ نَفْسِي تَحَدَّرتُ
- بَدْوةً مِنْ بَدَوَاتٍ –
هَلْ أرَدْتُ تَصَفُّحَ البُسْتَانَ
لا ثَمَرَ فيهِ وَلا زَهَر ؟
تَحَدَّرتُ وَمَا اسْتَطَعْتُ الصُّعودَ
لِوَجْهِي ، صَرَعَنِي هَوْلٌ ، مَا دَرَ يْتُ مَا يَكُونُ .

الحُبُّ وَحْدَهُ كَانَ يَقْوَى أنْ يُسْعِفَنِي
فَأَصْعَدُ
لكنَّهُ جَاءَ مِنْ بَعْدُ ، مِنْ عَلٍ ،
مِنْ مَغِيْبِ البُعْدِ
أقْبَلَ عَاجِلاً مُتْرَعًا بِالضَّوءِ /
فَيْضٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ
شَدَّ مَا فَتَنَنِي ؛ فَذَوَّبْتُهُ في خَاطِرِي
وَفي الخَاطِرِ ظَلَلْنَا رُوْحًا
لِصْقَ رُوْحٍ
كِلانَا جَاثِمٌ مُخْفِقٌ

هَلْ كَانَ في وُسْعِي أنْ أُدْرِكَ
قَبْلَ أنْ أَغْفُو وَأَذْهَبُ في الغَفْوَةِ
- يَالَهُ مِنْ سُبَاتٍ لَطِيْفٍ
في ضَمِيْرِهِ خِصْبٌ وَنَشَاطٌ –
هَلْ كَانَ في وُسْعِي أنْ أحْلُمَ
بِاليَقْظَةِ النَّاعِمَةِ
بِالأُعْجُوبَةِ يُعَانِقُهَا النُّورُ ؟

في البَدْءِ دَاخَلَ الليلُ نَهَارِي
وَأسْرَفَ
فَغَلُظَتْ العَتْمَةُ
وَلكنَّنِي أصْرَرْتُ على التَّبَصُّرِ
أُصِرُّ
وَالآنَ ..
الآنَ أَذْكُرُ كَيْفَ لَفَّتْ العَتْمَةُ خَاطِرِي
يَالله ! يَاظُلْمَةٌ تُجْرِي الخَوَارِقَ
في وَلِيْجَةِ نَفْسِي
يَاظُلْمَةٌ أصْبَحَتْ مَنْبِتَ مَصِيْرٍ مُحَيِّرٍ
مَصِيْرِي الوَهَّاجِ .



ذَرينِي (106)
لكامل محمود حبيب

ذَرينِي أطِرْ بيْنَ فَلَجَاتِ الأرْضِِ وَمُضِلاَّتِ السَّمَاءِ، أسْتَشِفُّ بَهَاءَ الحَيَاةِ وَجَمَالهَا !
ذَرينِي أُحَطَِّمْ الأغْلالَ الثِّقالَ الَّتي أرْسُفُ فيْهَا ؛ لأفرَّ مِنْ هَذا السِّجنِ الأسْوَدِ ، أتنسَّمُ رُوحَ الحَيَاةِ وَالحُريَّةِ .
ذَرينِي أتَحَلَّلْ مِنْ هَذا العِبءِ الفَادحِ ؛ فَلَقَدْ آدَنِي ، فَمَا عُدْتُ أُطِيْقُهُ !..
ذَرينِي أرَ الدُّنيَا ؛ فَلَقَدْ وَجَدْتُ فَقْدَهَا بَيْنَ طيِّاتِ نَفْسِي الوثَّابَةِ !

***
يَا عَجَبًا ! لَقَدْ جَفَّ قلْبي وَذَوَتْ سَعَادَتِي !
فَهَذا هُوَ القَمَرُ يتألَّقُ في السَّمَاءِ ، وَالأرْضُ نَائِمةٌ في سِكُونٍ ،
وَأنَا أرْمُقُهُ مِنْ خِلالِ هِمُومي ، فَلا أحِسُّ فيْهِ الجَمَالَ وَلا المُتْعَةَ..
وَتَنَفَّسَ الفَجْرُ فمَا لَمَسْتُ في نَسَماتِهِ النَّديَّةِ بَرْدَ الرَّاحَةِ وَلا نَشْوَةَ اللذَّةِ ..
وَافْتَرَّ ثَغْرُ المَشْرقِ عَنْ ابْتِسَامَةِ الشَّمْسِ ، وَأنَا – وَحْدي– جَاثمٌ على نشزٍ
لا أسْتَبْشِرُ لبَسَمَاتِهَا ..
وَإنَّ الغديرَ لَيَعْزفُ على قِيْثَارِهِ لَحْنَ الخُلُودِ الشَّجيِّ ، فَمَا تطَّربُ لَهُ نَفْسِي ..
يَا عَجَبًا ! أفَكُلُّ هَذَا لأنَّكِ- أيَّتُهَا المَرْأةُ – إلى جَانِبي
تَنْفُثيْنَ فيَّ رُوحَ الشَّر ؟

***
أيَّتُهَا المَرْأةُ ، لَطَالَمَا فوَّقتِ إلى قلبي سِهَامَكِ المُرَاشَةَ ؛ فاضْطَرمَ بالهَوَى ، وَتَلْهَّبَ بالشَّوقِ ، وَالآنَ هَا هُوَ ذَا قَدْ شَاطَ بينَهَا فمَا عَادَ قلبًا ، وَلكِنْ مُضْغةً لا تَتَحَرَّكُ .
وَلَطَالَمَا سَهِرْتُ أُنَاجيْكِ – وَأنْتِ في مَنْأىً عنِّي ، وَالآنَ هَدَّني الإعْيَاءُ ، فَذَرينِي أقْذفُ بأعْبَائِي جَانبًا لأتوسَّدَ ذراعِي على الحَصَا ، في ظِلالِ شَجَرةٍ وَارِفةٍ إلى جَانبِ غديرٍ تُسْكِرُنِي نَسَمَاتُ الرَّبيعِ الهَيِّنةِ ؛ فَتَسْتَمْتع نَفْسِي بحَنَانِ الطَّبيعَةِ وَهُدوءِ الكَرَى .
وَلَطَالَمَا أوْحَى إليَّ شَيْطانِي أنَّكِ فَوْقَ البَشريَّةِ ، أنَّكِ بَسْمَةُ الخَالقِ على الأرْضِ الحَزيْنَةِ ، فَمَاذا ... مَاذَا رَأيْتُ الآنَ ؟ .
وَلَطَالَمَا اسْتَلْهَمْتُ منْكِ جَمَالَ الفَنِّ ، وَرَسَمْتُكِ بريشَةِ الخَيَالِ في أضْعَافِ قلْبي ،
ثُمَّ لَمَسْتُكِ ، فَمَاذا ... مَاذَا وَجَدْتُ ؟.



ظَمَأ (107)
لألبير أديب (1908- 1985)

أشربُ حَتَّى يمتدَّ الكونُ
وَتَخْتَلِجَ زَفْرَةُ الأبَدِ العَابثِ
وَتَنْتَهي الصَّلاةُ في الهَيْكلِ العَظِيْمِ
وَتَشِيْخَ الوَرْدَةُ البَيْضَاءُ
وَيَزْرَقَّ الدَّمُ الأحْمَرُ
وَيَخْشَعَ القَدَرُ للأزَلِ الصَّامِدِ
وَتَرفُّ المُنَى حَوْلَ المُنَى
في رَقْصَةِ الحَوَالِكِ
أشْرَبُ حَتَّى تَتَلاشَى الكأسُ
في النَّفَسِ الأخيْرِ .


المَسَاءُ الأخيرُ(108)
ليوسف الشَّاروني (1924- )

فإذَا حَنَنْتُ ذَاتَ يومٍ إلى مَخْدعِكِ الَّذي طَرَدْتِني مِنْهُ ،
لا تَحْسَبِينِي سَأعُودُ لأعُبَّ مِنْ عينيْكِ ؛ فَقَدْ ذَبلتَا ،
وَسَتَريْنَ مَلامِحِي تَغَيَّرَتْ كثيرًا ، وَالبيَاضُ في شَعرِ رَأسِي كَسَحَابةِ الصَّيفِ ،
وَقَدْ عَلِمْتِ أنَّ تَشَرُّدي الَّذي أمْضَيْتُهُ مَعَ الغَسَقِ يُحْيينِي دَائمًا.
سَأحَاولُ أنْ أُجَفِّفَ جَبْهَتِي ، وَأمْسَحَ الدُّموعَ ،
ثمَّ أُعْطيْكِ بَعْضًا مِمَّا قَطَعْتُ وَرَأيْتُ وَأنْشَدْتُ ،
فإذَا لمْ تَعْرفِينِي سَأعُودُ حَاملاً مَا رَفَضْتُ لأجْلِسَ على
مُنْحَنْى الطَّريْقِ ،
مُغنِّيًا للمَارةِ الغُربَاءِ أُنْشُودَةَ الغَسَقِ البَهِيْجِ .

إشَارَاتُ الشِّعريَّةِ في خِطَابِ الشِّعرِ المَنْثُورِ

تَكْشِفُ النَّمَاذجُ الشِّعريَّةُ السَّابقَةِ ، مَعَالمَ خِطَابٍ شِعريٍّ جَديدٍ ، تَتَجَسَّدُ فيْهِ الثَّورَةُ الرُّومَانسِيَّةُ ، في أقْصَى تمرُّدِهَا الشِّعريِّ ، في مَشْهَدِ الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، عَبْرَ خِطَابٍ شِعريٍّ يُشَدِّدُ على وِجْدَانيَّة التَّجربَةِ ، وَتَدَفُّقهَا ، وَيَتخَلَّى عَنْ البِنَاءِ العَرُوضِيِّ ، بِشَكْلٍ كَامِلٍ ؛ لِلمَرَّةِ الأولى في الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، تحتَ مُسَمَّى الشِّعرِ .
وَتَتَجَسَّدُ في هَذِهِ النَّمَاذجِ ، مجموعَةٌ مِنْ الملامِحِ الرُّومَانسيَّةِ الأسَاسِيَّةِ ، تَتَرَكَّزُ فيْمَا يَلِي : هَيْمَنَةِ التَّجربَةِ الرُّومَانسِيَّةِ ؛ بمعجَمِهَا ، وَمَرْكَزيَّةِ الحضُورِ الوجْدَانيِّ ، وَعَاطِفيَّةِ الأدَاءِ الغِنَائيِّ ، وَالتِحَامِ التَّدفُّقِ الذَّاتيِّ بعَوَالمِ الطَّبيعَةِ ، وَالنُّزوعِ إلى المطْلَقِ الإنسَانيِّ وَالوجُودِيِّ .
وَإذَا كَانَ الوَعْي النَّظريُّ بملامِحِ النَّوعِ الشِّعريِّ ، قَدْ بَدَأ في بدَايَاتِ الرِّيحاني ؛ مُتَعَالِقًا بمفهومِ الشِّعرِ الحرِّ في المفْهُومِ الإنجليزيِّ ، فإنَّهُ سرعَانَ مَا تحرَّرَ ، ضِمْنَ صِيغَتِهِ العَربيَّةِ الذَّاتيَّةِ الجديدَةِ : الشِّعرِ المنثورِ ؛ هَذِهِ الصِّيغَةُ الَّتي تَعَمَّقَتْ بجهودِ عَدِيديْنَ ، تَوَالَتْ مَعَهُمْ وَشَكَّلَتْ مَعَالمَ شَكْلٍ شِعريٍّ جَديدٍ ، في مَشْهَدِ الشِّعرِ العَرَبيِّ .
وَلا يَنْفَصِلُ الحدَثُ الشِّعريُّ لِلشِّعرِ المنثورِ عَنْ الإطارِ الاجتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ المتَشَكِّلِ ضِمْنَهُ ؛ فإنَّه لا يمكِنُ إغْفَالُ أنَّ هَذِهِ النَّماذَجَ قَدْ تَزَامَنَتْ مَعَ حَرَكَاتِ التَّحرُّرِ السِّياسِيِّ وَالمجتَمَعِيِّ الَّتي ظَهَرَتْ بوضُوحٍ في أعْقَابِ الثَّورَةِ العُرَابيَّةِ ، وَوَصَلَتْ إلى ذِرْوتهَا مَعَ انْدِلاعِ الحرْبِ العالميَّةِ الأولى ، وَثَوْرَة 1919.
كَمَا لا يمكِنُ إغْفَالُ المؤثِّرِ الغَرْبيِّ ، في انْبِعَاثَةِ هَذَا الشَّكلِ ، في مَشْهَدِ الشِّعرِ العَربيِّ ، لَدَى قُطْبَيْهِ الرَّائدينِ : أمين الرِّيحاني وَجُبران خليْل جُبران .
وَعَلى الرَّغمِ مِنْ هَيْمَنَةِ النَّزعَةِ الرُّومَانسِيَّةِ ، عَلى آليَّاتِ تَشْكِيْلِ الخطَابِ الشِّعريِّ ، في الشِّعرِ المنثورِ ، فَقَدْ لُوحِظَ انْبِعَاثُ النَّزعَةِ الحدَاثيَّةِ ، في العِقْدِ الثَّاني - مِنَ القَرْنِ الماضِي - لَدَى حُسين فوزي ، وَفي الثَّلاثينيَّاتِ لَدَى بِشْر فارس ، وَفي الأرْبَعِينيَّاتِ لَدَى ألبير أديب .

عَوَامَلُ انحِسَارِ ظَاهِرَةِ الشِّعرِ المَنْثُورِ

اسْتَمَرَّتْ حَرَكَةُ الشِّعر المنثورِ ، تُؤكِّدُ حُضُورَهَا الفعَّالَ في الرُّبعِ الأوَّلِ مِنْ القَرْنِ العِشْرين ، وَبِالإضَافةِ إلى جماعَةِ المهْجَريِّينَ الَّذينَ ارْتَبَطَ بهمْ تَأْسِيْسُ هَذَا الشَّكلِ الشِّعريِّ ، كَانَ محمد السِّباعي (1881-1921) ، قَدْ نَشَرَ كِتَابَ: الصُّورِ، في أُخْرَيَاتِ سَنَةِ 1908 وَأُوليَاتِ 1909- عَلى مَا يَذْكُرُ صَديقُهُ إبراهيم عبد القادر المازنيُّ ، في مُقدِّمَتِهِ للطَّبعَةِ الثَّانيةِ سَنَةَ 1946- بَعْدَ أنْ نَشَرَهُ على حَلَقَاتٍ في صَحِيْفَةِ :الجريدَةِ ؛ الَّتي كَانَ يُصْدِرُهَا حزبُ الأمَّةِ وَرَأَسَ تحريرَهَا حِيْنَئذٍ - أحمد لطفي السَّيد ؛ فأُعْجِبَ كثيرونَ بِهِ ، ذَكَرَ المازنيُّ مِنْهُمْ : عبد الرحمن شُكري ؛ الَّذي قَالَ إنَّ السِّباعي قَدْ سَبَقَ بِهِ زَمَانَهُ ، وَأنَّهُ أخْرَجَهُ للنَّاسِ قَبْلَ أوَانِهِ ، وَالكِتَابُ يَتَضَمَّنُ نُصُوصًا مِنْ الشِّعرِ المنثورِ ، وَأخْرَى مِنْ النَّثرِ الشَّعريِّ ، وَيخلُو مِنْ تَقْدِيمِ مَفْهُومٍ نَظَريٍّ لهذِهِ النُّصوصِ ، وَإذَا كَانَ المهْجَريُّونَ - وَعَلى رَأْسِهِمْ الرِّيحاني وَجُبْرَان - كَانُوا مُعَايِشِيْنَ - عَنْ قُرْبٍ - لِتَجْربَةِ الشِّعرِ المنثورِ ؛ الَّتي أطْلَقَهَا والت وايتمان ، فإنَّ السِّباعي لمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنْ هَذِهِ الثَّقافَةِ ؛ فَقَدْ تَرْجَمَ لكثيرينَ ، مِنْهُمْ: موباسان وديكنز وبيرون وكارليل، وَتَرْجَمَ :رُبَاعيَّاتِ الخيَّامِ ، عَنْ فتزجرالد ،وَلمْ يَكُنْ الوَعْيُ بطبيعَةِ هَذَا النَّوعِ الشِّعريِّ خَافيًا عَنْ مُسْتَقْبِلِي كِتابِ: الصُّورِ ؛ فَقَدْ اخْتَارَ حبيب سلامة للسِّباعي نصَّينِ مِنْهُ ، في كِتَابِهِ: الشِّعر المنثور ، الصَّادر عَنْ مَطْبَعَةِ الهلالِ سَنَةَ 1922 - ضِمْنَ مختاراتٍ لجبران ، وَالرِّيحاني ، وَخليْل مُطران ، وَميِّ زيادَة ، وَمحمَّد لُطفِي جمعة ، وَتوفيق مفرج ، وَرَشِيد نخلة ، وَمحمَّد السِّباعي ، ومحمد كامل حَجَّاج ، وَمُرَاد ميخائيل ، وَحَبِيب سَلامة .
كَذَلكَ كَانَ ثمَّةَ إسْهَامٌ آخرٌ - لِرُوَّادِ القِصَّةِ القَصِيرَةِ - فيْمَا بَعْدُ - في سَاحَاتِ صَحيفَةِ : السُّفور- مُنذُ أوَاسِطِ العِقْدِ الثَّاني مِنْ القَرْنِ الماضِي ؛ تمثَّلَ هَذَا الإسْهَامُ في نماذجَ عَديدَةٍ لمحمود تيمور (1894- 1973) ، وَلمحمَّد تيمور (1892-1921) ، وَلحسَين فوزي (1900- 1988) ، وَثمَّةَ إسْهَامٌ آخرٌ ، يَتَمَثَّلُ في مُشَارَكةِ أعْلامِ القَصِيدَةِ الكِلاسِيكيَّةِ في صِياغَةِ مَلامحِ الشِّعرِ المنثورِ ؛ فبالإضَافَةِ إلى جُبران خليْل جُبران ، نَشَرَ زَمِيلُهُ - في: الرَّابطَةِ القَلَميَّةِ - رشيد أيوب دِيوَانَهُ :أغاني الدَّرويش : 1928، مُتَضَمِّنًا شِعْرَهُ الكِلاسِيكيَّ وَالمنثورَ مَعًا ، وَفي المشْرِقِ بَرَزَتْ مُسَاهمَاتُ: خليْل مُطران (1871-1949)، ثمَّ جميل صِدْقي الزَّهاوي (1863- 1936) ، ثمَّ معروف الرَّصَافي (1875-1945)(109)، ثمَّ بِشَارة الخُوري (1885- 1968) ، ثمَّ أبي القاسِمِ الشَّابي (1909-1934) ، ثمَّ بِشْر فَارس (1906- 1963).
وَهَذِهِ التَّجاربُ وَإنْ كَانَتْ حَالاتٍ نادرةً ، لَدَى هَذِهِ الأسْمَاءِ ، إلاَّ أنَّهَا تُعْطِي الدَّليْلَ على إقْرَارِ هَذِهِ الأسْمَاءِ بِوُجودِ هَذَا النَّوعِ الشِّعريِّ ، وَليْسَ أدَلَّ على هَذَا مِنْ إسْهَامِهِمْ في إنجازِ بَعْضِ نماذِجِهِ ، كَمَا أنَّهَا تُعْطِي إشَارَةً وَاضِحَةًَ ، على عَجْزِ الشَّكْلِ القَديمِ - أحْيانًا - عَنْ اسْتِيْعَابِ بَعْضِ التَجاربِ ، وَعَلى رَغْبَةٍ كامِنَةٍ في الخروجِ إلى شَكْلٍ شِعْريٍّ أكْثَرَ طَواعِيَةً وَمُرونَةً .
وَفي وَاقعَةٍ دَالةٍ على حضورِ الشِّعرِ المنثورِ، بجوارِ الشِّعرِ الكلاسِيكيِّ المحْكَمِ ، في المشْهَدِ الشِّعريِّ ، في هَذِهِ الأثناءِ ، نجدُ مراد ميخائيل (1906-1986) يُشَاركُ بنصٍّ مِنْ الشِّعرِ المنثورِ ، في البيعَةِ العِراقيَّةِ لأحمد شوقي أميرًا للشُّعراءِ ، في الحفلِ المقَامِ بسينما الوطنيِّ ببغداد في عَامِ 1927، بجوارِ شُعراءِ الكلاسيكيَّةِ : معروف الرَّصَافي ، جميل صِدقي الزَّهاوي ، جواد علي ، محمَّد مهدي الجواهري ، عبد الرَّحمن البنا ، وَآخَرين .
وَقَدْ نُسِبَتْ مقطوعَاتٌ عديدةٌ مِنْ: أسْوَاق الذَّهب، لأحمد شوقي (1886-1932) ، للشِّعرِ المنثورِ (110)، وَهِيَ نِسْبَةٌ غيرُ حقيقيَّةٍ ؛ لأنَّ هَذِهِ المقطوعَاتِ - كغيرِهَا مِنْ مقطوعَاتِ هَذَا الكِتَابِ - تَنْدَرجُ تحتَ مَظلَّةِ النَّثرِ الفنيِّ ، وَلكنَّ شمسَ الشِّعرِ المنثورِ، أخَذَتْ في الغُروبِ شيئًا فشيئًا ؛ نتيجَةً لأسْبَابٍ في الشِّعرِ نَفْسِهِ وَلأسْبَابٍ في الوَاقِعِ المحيْطِ بِهِ وَتحوُّلاتِ المجتمَعِ مِنْ حَوْلِهِ ؛ فَقَدْ دَأبَتْ تجاربُهُ على التَّحلِيقِ في أجْوَائِهِ العاطِفيَّةِ الأوَّليَّةِ ، وَلازَمَتْ مِسَاحَاتِ الذَّاتيَّةِ الضَّيقَةِ ، وَلمْ تَتَجَاوزْ النَّمذَجَةَ القائِمَةَ على العَاطِفيَّةِ السَّاذَجَةِ ، وَالحرصَ على مجالاتِ الشُّعورِ الوجدانيَّةِ الأوَّليةِ الضَّيقةِ ؛ الَّتي تضغطُ عليْهَا أنْسِجَةُ الصِّياغةِ الضَّاربةِ في الصَّنعةِ الزُّخرفيَّةِ الأنيقةِ الآليَّةِ ، وَبالتَّالي لمْ تقعْ هَذِهِ التَّجاربُ في مجالاتٍ وِجْدَانيَّةٍ محدودةٍ فقطْ ؛ بَلْ وَقَعَتْ ، كَذَلكَ ، في وَهْمِ النَّمذجَةِ الشَّاعريَّةِ المُجنَّحَةِ الأنيقَةِ ، وَظَلَّتْ قرينَةَ الذَّاتيَّةِ الشَّاعريَّةِ وَأناقَةِ اللغَةِ في مَدَارَاتٍ محدَّدةٍ ، مُؤْثرةً الاخْتِفَاءَ وَرَاءَ نَقَاءِ اللغَةِ وَرَشَاقَة العبارَاتِ وَالتأمُّلاتِ العَاطفيَّةِ الرَّهيفَةِ المجنَّحةِ وَشَفَافيَّةِ النَّسيجِ ، وَقَدْ عَكَسَتْ هَذِهِ الآليَّاتُ التَّعبيريَّةُ صُوْرَةً حقيقيَّةً لحريَّةٍ - غيرِ حقيقيَّةٍ - تَعُوقُ - أحيانًا - حَرَكةَ التَّجربَةِ عَنْ سَيرِها البَسِيطِ الدَّافِئ الحميمِ ؛ فاللغةُ - في كثيرٍ - بَدَتْ أقْوَى مِنْ التَّجربةِ ، وَبَدَتْ ، كَذَلكَ ، غير مُلْتَبِسَةٍ بحالاتٍ إنسانيَّةٍ حقيقيَّةٍ حيَّةٍ ؛ تمنحُ النَّصَّ حَرَارَتَهُ وَحميمِيتَّهُ وَنَبْضَهُ ، وَعَجَزَتْ عَنْ التَّعبيرِ عَنْ مَضَامِينَ إنسانيَّةٍ عديدَةٍ وَتَبَقَّتْ مُحَافِظةً على وِجْدَانيَّتِهَا الشَّاعريَّةِ الهائمَةِ في عَصْرِ التَّغيرَاتِ الاجْتِمَاعيَّةِ الحادَّةِ ، وَالثَّورَاتِ الشَّعبيَّةِ المتأجِّجَةِ ، وَنَزَعَاتِ التَّحرُّرِ، وَانْدِلاعِ الحرْبِ العالميَّةِ الثَّانيةِ ، وَتَوَهُّجِ الحسِّ الشَّعبيِّ بقضَايَا التَّحريرِ وَالعَدَالةِ وَالكادحِيْنَ ، وَآثَرَتْ الاعتِصَامَ بفضَاءَاتِ الذَّاتِ وَتهويماتهَا في أجْوَاءِ الرُّوحِ وَخَلْفَ غَمَامِ الرُّؤى وَالتَّرميزِ ، فَتَبَدَّى - شيئًا فشيئًا - انْفِصَالُهَا عَنْ حَرَكَةِ الوَاقعِ العَرَبيِّ الجديدِ ، في الوقتِ نَفْسِهِ الَّذي شَهِدَ ولادَةً أخْرَى لهذِهِ الحرَكَةِ ، بآليَّاتٍ أخْرَى ، وَحَسَاسيَّةٍ شِعريَّةٍ مختلفَةٍ تشتبِكُ وَتَتَوَاشَجُ مَعَ النَّموذَجِ السَّرياليِّ الفَرَنْسِيِّ ، تَبَدَّتْ في عَمَلِ شُعرَاءِ السِّرياليَّةِ المصْريِّينَ في ثلاثينيَّاتِ وَأرْبعينيَّاتِ القَرْنِ الماضِي ؛ حَيْثُ هَيْمَنَتْ - على هَذَا النَّصِّ - آليَّاتٌ أشدُّ تركيبًا، لمْ يَعُدْ مَعَهَا الشِّعرُ اسْتِجَابةً فوريَّةً آليَّةً لِفَوَرَانِ الشُّعورِ ، وَتَقَدَّمتْ وَظيفَةُ الخَلْقِ التَّشكِيليِّ على وَظَيفَةِ التَّعبيرِ وَالتَّوصِيلِ ، وَتَوَاصَلَتْ الصُّورَةُ الشِّعريَّةُ مَعَ عَالمٍ مُضْمَرٍ لا يخضَعُ للمَنْطِقِ العَامِ ، عالمٍ مُثْقَلٍ بالمجَازِ البَصَريِّ الحرِّ، وَبهذَا الأدَاءِ المغَايرِ أقَامَ شُعَرَاءُ السِّرياليَّةِ المصْريِّينَ حَاجِزًا بَيْنَ مَا شَرَعُوا في إنجازِهِ وَبَيْنَ مَاضِي الشِّعرِ النَّثريِّ مُنذُ بِدَايَاتِ القَرْنِ ، ثمَّ حَدَثَ تحوُّلٌ آخَر ، في أوَاخِرِ الخمسينيَّاتِ ؛ تمثَّلَ في ظهورِ حَسَاسيةٍ شعريَّةٍ أخْرَى ، بَدَأتْ في الوضُوحِ مَعَ ظُهورِ قَصَائدِ محمَّد الماغوط (1932-2006)؛ الَّتي نَشَرتهَا مجلَّة (شِعْر) اللبنانيَّةِ ، اعْتِبَارًا مِنْ العَدَدِ الخامِسِ:(يناير1958)؛ حَيْثُ تَصَدَّرَ هَذَا العَدَدَ قصيدتانِ نثريَّتانِ ، بَعْدَ أحَدَ عَشَرَ عاماً مِنْ ظُهورِ قصائدِ توفيق صايغ (1923-1971) النَّثريَّةِ ، وَمَعَ مَطْلَعِ عِقْدِ السِّتينيَّاتِ أصْبَحَتْ مجلَّة (شِعْر) مَرْكَزًا للتَّرويجِ لِشِعْرِ النَّثرِ، عَبْرَ مُصْطَلَحَينِ أسَاسَيَّينِ همَا قَصِيدَة النَّثرِ ، وَالشِّعرِ الحرِّ ، وَقَدْ كَانَ اسْتدعَاءُ هَذينِ المصْطَلَحَينِ - وَالتَّرويجُ الشَّديدُ لمصْطَلَحِ قَصِيدَةِ النَّثرِ ، تحديدًا - اعْتِبَارًا مِنْ العَدَدِ الرَّابع عَشَر مِنْ مجلَّةِ (شِعْر) الصَّادرِ في رَبيعِ 1960- إيذانًا بإقامَةِ انْفِصَالٍ أكبر بَيْنَ مَا بدأ يُنْجَزُ فى شِعْرِ النَّثرِ ، وَمَا أُنجِزَ مُنْذُ البدَايَةِ ، وَإذَا افْتَرَضْنَا انْعِزَالَ جماعةِ مجلَّةِ (شِعْر) عَنْ هَذِهِ البدايَاتِ التَّأسِيسيَّةِ - بقَدْرِ اتِّصَالهَا بالمُنْجَزِ الفَرَنْسِيِّ وَالإنجليزيِّ في شِعْرِ النَّثرِ- فإنَّنَا لا يمكنُ أنْ نَغْفَلَ فيْهَا وُجُودَ الشَّاعر المصْريِّ إبراهيم شُكْر الله (1921- 1995)؛ الَّذي سيكونُ شَاهِدًا على اتِّصالِ تُجَمُّعِ مجلَّةِ (شِعْر) بتجَمُّعِ السِّرياليِّينَ المصْريَّينَ .
أمَّا مُصْطَلَحُ الشِّعرُ المنثورُ فَسَيَمْضِي ، ليأخُذَ مَوْضِعَهُ في ذَاكرَةِ الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، كعَلامَةٍ على بِدَايَةِ تاريخٍ شِعريٍّ آخَرٍ .

خَاتـمَةٌ

لَقَدْ ظَلَّ الشِّعرُ المنثورُ شَكْلاً أثيرًا ، أغْرَى الكثيريْنَ في مَطَالِعِ القَرْنِ العِشْريْنَ ، وَقَدْ سَاهَمَ في تحديدِ مَلامحِهِ مجموعَةٌ مِنْ أبْرَزِ كُتَّابِ وَشُعَرَاءِ طَليعَةِ القَرْنِ الماضِي بآليَّاتٍ مختلِفَةٍ وَمُتَجَانِسَةٍ ، يَتَّضحُ هَذَا مِنْ النَّماذَجِ الَّتي اصْطَفََاهَا البَحْثُ مِنْ مَرَاحِلَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ عُمْرِ الشِّعرِ المنثورِ تُبيِّنُ اسْتِثمَارَ تجاربِهِ المؤسِّسةِ طاقاتِ إمكانيَّاتِ مَا يلِي :
1- الأداءِ التَّعبيريِّ في القُرآنِ الكريمِ ، وَفي الكِتَابِ المقَدَّسِ .
2- النَّثرِ الفنيِّ ؛ بِشَكْلَيْهِ المسْجوَعِ وَالمرْسَلِ .
3- القَصِيدَةِ العَربيَّةِ ؛ بإطَارهَا التَّقليديِّ الموزونِ المقفَّى .
4- الشِّعرِ الحرِّ ؛ بِشَكْلِهِ المعروفِ في النَّموذَجِ الغربيِّ .
وَعِنْدَ جُبْران - الَّذي كَانَ مُتْخَمًا بروحِ الكِتَابِ المقَدَّسِ وَأسَاليبِهِ - أخَذَتْ البنيَةُ الإيقاعيَّةُ في التُّحوُّلِ أكثرَ نحْوَ الدَّاخلِ ، مُسْتَجِيْبَةً لحرَكَةِ الشُّعور، وَ" لِقُوَّةِ الأحَاسِيسِ الكَامِنَةِ عندَ الشَّاعرِ لَدَى كِتَابَةِ القَصِيدَةِ ، [ فَأصْبَحَتْ السُّطورُ الشِّعريَّةُ ] تَطُولُ أوْ تَقْصُرُ ، طِبْقًا [ لِطَبيعَةِ الشُّعورِ ، دُونَ ] أنْ تَقْبَلَ نِظامًا آخَر غَيْرَ الَّذي تَفْرضُهُ هَذِهِ المشَاعِرُ ، وَتَكُون النَّتيجَةُ : تَرْجمةً كَلاميَّةً لموسَيْقَى الوَزْنِ الكَامِنَةِ في أعْمَاقِ الشَّاعِرِ . وَأمَامَ هَذَا العُنْصرِ الجديدِ المتمَثِّلِ في " الدَّفعَةِ " الخاصَّةِ بالجمْلَةِ الَّتي لا تخضَعُ إلاَّ لِلْمَشَاعِرِ الَّتي تُمْلِيْهَا ، تَتَرَاجَعُ العناصِرُ الوَزْنيَّةُ التَّقليديَّةُ ؛ مثل: النَّبرِ، وَالقِيَاسِ ، وَالعَرُوضِ ، وَالوَقَفَاتِ...إلخ"(111) ، لَقَدْ كَانَ جُبْرانُ ، بحقٍّ ، كَمَا وَصَفَ هُوَ ابنَ الفَارضِ ، " يُغْمِضُ عَيْنيْهِ عَنْ الدُّنيَا ليرَى مَا وَرَاءَ الدُّنيَا ، وَيُغْلِقُ أُذنَيْهِ عَنْ ضَجَّةِ الأرْضِ لِيَسْمَعَ أغَانيَّ اللانهائيَّة "(112)؛ فَهُوَ غيرُ مَشْغُولٍ بتفاصِيلِ الحيَاةِ المعيشَةِ ، بَلْ بكُلِّياتهَا وَبِصَخَبِ الرُّوحِ وَبالعَالمِ الكَامِنِ فيْهَا لا بِالإيقَاعَاتِ الخارجيَّةِ . وَقَدْ أثَّرَ جُبْران تأثيرًا شديدًا على مَنْ حَوْلَهٌ وَمَنْ أتَى مِنْ بَعْدِهِ .
وَمُنْذُ البدَايَةِ بَرَزَتْ فاعليَّةُ التِّكرارِ الصَّوتيِّ ؛ حَيْثُ اسْتَثْمَرَ شُعرَاءُ الشِّعرِ المنثورِ طَرَائِقَ مَوْجُودَةً في الشِّعرِ الموزونِ ، وَوَظَّفوهَا لإيقاعَاتِ النَّثرِ ، وَمِنْ ذَلكَ : تِكرَارُ التَّركيبِ ؛ بحيْثُ بَدَا في أحْيَانٍ عديدَةٍ كأنَّ الشَّاعرَ يقيسُ كَلِمَاتِ السَّطرِ الشَّعريِّ على مَا قَبْلَهُ ، كَمَا عِنْدَ الرِّيحاني في قَوْلِهِ :
" يَا ذَا الجَلالِ الأزَليِّ ألحْفِنْي بشَيءٍ مِنْ جَلالكَ
يَا ذَا النُّورِ الدَّائمِ ، امْدُدْني بقَبَسٍ مِنْ نُوركَ
يَا ذَا القُوَّةِ غيْرِ المُتَنَاهِيَةِ ، ابْعَثْ مِنْهَا في قُوَايَ " (113)

وَتِكرَارُ الفَوَاتِحِ مِنْ القِيمِ الإيقاعِيَّةِ الَّتي اسْتَخْدَمَها شَاعرُ الشِّعرِ المنثورِ بِغَزَارَةٍ ، كَمَا يَتَّضِحُ في المقْطَعِ السَّابقِ ، وَكَمَا تَظْهَرُ عِنْدَ مُطْرَان في المقْطَعِ التَّالي :
" نبْكِي مَغَانمَنـَا مِنْ أُنْسِهِ وَعِلْمِهِ وَأخْـلاقِهِ
نبْكِي مَفْقُودَنَا مِنْ مَعَاهِدِهِ في الزَّمَانِ وَالمَكَانِ
نبْكِي مَا ألفَيْنَاهُ مِنْ مَشْهُـودِهِ وَمَسْمُـوعِهِ ".

وَعِنْدَ جُبْرَان في قولِهِ :
"اسْكُتْ يَاقلْبي فَالفَضَاءُ لا يَسْمَعُكَ .
اسْكُتْ فالأثيرُ المُثْقَلُ بالنُّوَاحِ وَالعَويْلِ لنْ يَحْمِلَ أغَانيْكَ وَأنَاشيدكٍ .
اسْكُتْ فأشْبَاحُ الليْلِ لا تَحْتَفِلُ بهَمْسِ أسْرَاركَ وَمَوَاكبُ الظَّلامِ لاتقفُ أمَامَ أحْلامِكَ .
اسْكُتْ يَا قلْبي ، اسْكُتْ حَتَّى الصَّباحِ ، فَمَنْ يَتَرَقَّبُ الصَّباحَ صَابرًا
يُلاقِي الصَّبَاحَ قويًّا ، وَمَنْ يَهْوى النُّورَ ؛ فالنُّورَ يَهْوَاهُ
اسْكُتْ يَا قلْبي وَاسْمَعْنِي مُتكلِّمًا ."

وَعِنْدَ محمود تيمور في قولِهِ :
" أنْتِ ورودُ الحُبِّ اليانعَةِ على صُدورِ الحِسَانْ
أنْتِ خَيَالُ العَاشقِ المَهْجُورِ يكْتَنفُهُ النِّسيانْ
أنْتِ وِجْدَانُ الشَّاعرِ البائِسِ تَمْتَلكُهُ الأحْزَانْ "

كَمَا أُولِعَ البعضُ بتَحْقِيْقِ التَّوازي النَّحويِّ ؛ لِتَحْقيْقِ المزيدِ مِنْ الحضورِ الإيقاعيِّ ، كَمَا عِنْدَ نقولا فيَّاض في قولِهِ:
" مَا أجْمَلَ مُحَيَّاكِ وَأطْيَبَ رَيَّاكِ وَألطْفَ حُمَّيَاكِ
تدبُّ في الأرْوَاحِ دَبيْبَ الأرْوَاحِ فَخُشوعٌ في الأبْصَار وَخُضُوعٌ في الأفكارِ وَتَأسٍّ على الأسَى وَعَزَاءٌ على العَذَابِ
خطيبُ الفَضِيلةِ وَعَرُوسُ النِّعمَةِ
رُوحُ المَعْرفَةِ وَرَأسُ الحِكْمَةِ "

وَعِنْدَ بشارَةِ الخوريِّ في قولِهِ :
" لَهَفِي وَلَهَفِ الجَرَائدِ !
لا الحقولُ فيْهَا زَوَاهِي
وَلا الآيَاتُ بيِّنات
وَلا النِّكاتُ مُطْرِبَات
دَهَتْهَا بَعْدَكَ الدَّوَاهِي فهِيَ أرْضٌ مَوَاتْ "

وَبَرَزَتْ في هَذِهِ النَّمَاذِجِ ، بِقُوَّةٍ ، فاعليَّةُ النَّبرِ ، كَمَا بَرَزَتْ مُوْسِيقَى الدَّفقَةِ الشُّعوريَّةِ ؛ الَّتي تَلْتَحِمُ بتدفُّقَاتِ الصَّوتِ البَاطِنيِّ للشَّاعرِ ؛ بحيْثُ أصْبَحَتْ القَصِيدَةُ " تَنْصَاعُ لإرَادَةِ الشَّاعرِ وَليْسَ الشَّاعرُ لإرَادَةِ القَصِيدَةِ ؛ فكُلُّ حَالةٍ نفسِيَّةٍ لابُدَّ أنْ يُقَابلُهَا تجسيدٌ مُنَاسِبٌ "(114).وَهَكَذَا أصْبَحَتْ القَصِيدَةُ تجسُّدًا إيقاعيًّا لحرَكَةِ الشُّعورِ، يَعْكِسُ طبيعَةَ التَّجربَةِ نَفْسِهَا وَيُخْلَقُ مَعَهَا ، كَمَا يبدو عِنْدَ جُبْرَان في قولِهِ :

" اخْلَعُوا نَسيجَ الكتَّانِ عَنْ جَسَدي وَكفِّنونِي بأوْرَاقِ الفُلِّ وَالزَّنبق .
انْتَشِلُوا بقَايَايَ مِنْ تابوتِ العَاجِ وَمَدِّدُوهَا على وَسَائدَ مِنْ زَهْرِ البرْتقالِ وَالليمونِ
لا تَنْدبُوني يَا بني أمِّي ؛ بَلْ أنْشِدُوا أغْنيَةَ الشَّبابِ وَالغِبْطَةِ .
لا تَذْرُفي الدُّموعَ يَا ابْنَةَ الحُقولِ ؛ بَلْ تَرَنَّمي بمُوشَّحَاتِ أيَّامِ الحَصَادِ وَالعَصِيرِ ".

لا يُمْكِنُ أنْ نُخْطِئَ هُنَا توقُّدَ الإيقَاعِ وَتَدَفُّقَهِ . إنَّ الإيقَاعَ في هَذَا النَّموذَجِ يَتَوَحَّدُ بإيقَاعِ التَّجربَةِ البَاطِنيِّ ، وَيَضْبِطُ وَحَدَاتِهِ النَّصِّيَّةَ على وَتيرَةِ أمْوَاجِ البَاطِنِ ؛ مُشَكِّلاً إيقاعيَّةَ التَّجربَةِ الكامِنَةِ وَرُوحَهَا الجيَّاشَةَ المتوقِّدَةَ ، الإيقَاعُ هُنَا شَخصِيٌّ بامْتِيَازٍ؛ يَتَجَدَّدُ ، وَيَتَنَوَّعُ بتَجَدُّدَ التَّجاربِ الشِّعريَّةِ وَتَنَوُّعِهَا ، وَإذَا كَانَتْ البِنيَةُ الشِّعريَّةُ ، في مختلَفِ حَالاتِ إنْتَاجِ الخطَابِ الشِّعريِّ ، تَتَقَدَّمُ البنيَةَ اللغويَّةَ وَالبنيَةَ المجازيَّةَ ، وَتختلِطُ بهمَا ، وَتهيمِنُ عليهِمَا ، في إنْتَاجِ شِعريَّةِ الخطَابِ ، فإنها في شِعرِ النَّثرِ وَليدَةُ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ ، مجسِّدَة إيقاعيِّتِهَا ، وَبهَا تُصْبِحُ البنيَةُ اللغويَّةُ إيقاعيَّةً ، وَ" تَظلُّ محتفظَةً بِالنَّغمَاتِ التَّوافقيَّةِ للمَشَاعِرِ "(115)؛ فَمَا تَكَادُ اللغةُ تَدْخُلُ في سِياقاتهَا ، حَتَّى تتجَسِّدَ كيانًا نَصِّيًّا جديدًا نَابضًا وَمُتوقِّدًا ، وَتُعَدُّ البنيَةُ الإيقاعيَّةُ أشَدُّ البُنَى الَّتي شَكَّلتْ تحدِّيًا حقيقيًّا أمَامَ هُويَّةِ مَشْرُوعِ الشِّعرِ المنثورِ ، وَمَشْرُوعيَّتِهِ ، وَبتَجَليَّاتِ البنيَةِ الإيقَاعِيَّةِ المغَايرَةِ شَكَّلَ الشِّعرُ المنثورُ حُضُورَهُ الشِّعريَّ الخاصَّ ؛ فالبنيَةُ الإيقاعيَّةُ هِيَ المسئولةُ عَنْ " انْتِقَاءِ الكَلِمَاتِ ؛ بحيثُ تَتَرَدَّدُ أصْوَاتٌ مُعَيَّنةٌ بصُورَةٍ أكْثَر أو أقلَّ ممَّا هُوَ مُعْتَادٌ في عُرْفِ اللغَةِ " (116) ، وَبالإضَافَةِ إلى تِكْرَارِ الأصْوَاتِ نجِدُ تَكْرَارَ المفْرَدَاتِ وَالصِّيغِ وَالأسَاليبِ في مِسَاحَاتٍ مُعَيَّنةٍ مَقْصُودَةٍ في فَضَاءِ النَّصِّ ، بما يُشَكِّلُ نَسَقًا لُغويَّا خَاصًّا ، وَبالتَّجلِّي الفينولوجيِّ للبنيَةِ الإيقاعيَّةِ يَتَجَسَّدُ شَكْلُ التَّجربَةِ الدَّاخِليِّ ، وَتَشَكُّلُ النَّصِّ - بهذَا الشَّكلِ - على نحوٍ مِنْ الأنحاءِ - يكونُ خَاضِعًا لحرَكَةِ البنيَةِ الإيقاعيَّةِ ، وَهَذَا التَّشكُّلُ - للعِلاقَاتِ الصَّوتيَّةِ وَالعِلاقَاتِ اللغويَّةِ - لا يَنْعَزِلُ عَنْ تَشَكُّلِ البنيَةِ الدِّلاليَّةِ للنَّصِّ .









الإحالات والتَّعليقات

(1) إبراهيم اليازجي - (الشِّعر) ، مقالةٌ بمجلَّة:(الضِّيَاء) - العدد:15- سبتمبر 1899- ص ص : 6 - 7 .
(2) مصطفى لطفي المنفلوطي - النَّظرَات - الجزءُ الثَّاني - مطبعة المعارف بمصر- 1912- ص : 108.
(3) رَاجِعْ المقالةَ بأكملِهَا في مجلَّةِ :(السَّعادة العُظْمَى) - العددان 19/20 - شَوَّال 1322 هـ (1902) ، وَرَاجِعْ بشأنها:(الشِّعر التُّونِسِي المعاصر:"1870- 1970") لمحمد صالح الجابري – الشِّركة التُّونسية للتَّوزيع - 1974 - ص : 73 .
(4) مجلَّة : (الهلال) - 15 يونيو ، 1 يوليو 1904 - ص 562 : مقالٌ بعنوانِ :( تاريخ عِلم الأدَبِ عندَ الإفرنجِ وَالعَرَب) ، مَنْسُوبٌ لتوقيعٍ رَمْزيٍّ مُسْتَعَارٍ هو: (كاتبٌ فاضلٌ) . وَقَدْ وَجَدْنَا هَذَا المقالَ في كِتَابٍِ يحمِلُ العنوانَ نفْسَهُ لمحمد روحي الخالِديِّ (المقدسِيِّ) ، صَدَرَ عَنْ مطبعَةِ الهلالِ في السَّنةِ نفْسِهَا 1904. أمَّا موقِفُ حَسَّان بن ثابت مَعَ ابْنِهِ فمصدَرُهُ الأصْليُّ كتابُ:(الكامِل في اللغَةِ وَالأدبِ) ، لمحمَّد بن يزيدَ المبرِّد(-285 هـ)،(رَاجِعْ : الكامل في اللغة والأدب) ، تحقيق:محمَّد أبو الفضْلِ إبراهيم- دار الفِكر العربيّ ، القاهرة - 1997- الجزءُ الأوَّل - ص:210 ، وراجع كذلك :(أسْرَار البَلاغَة) ، لعبد القاهر الجرجانيِّ (-471هـ) (رَاجِعْ : أسَرار البَلاغة) - طبعة المدني -1991- ص :191 .
(5) جورجي زيدان – الشِّعرُ المنثورُ في اللغةِ العَربيَّةِ - مجلَّة :(الهلال) ،ج2، السَّنة (14)، الأول من أكتوبر 1905- ص ص : 97 - 98 .
(6) بولس شحادة - الشِّعرُ الموزونُ غيرُ المقفَّى - مجلَّة : (الهلال) ،ج4، السَّنة (14) ، الأول من يناير 1906- ص : 214 .
(7) توفيق إلياس خليل – الشِّعرُ المنثورُ- مجلَّة :(الهلال) ،ج3، السَّنة (15) ، الأول من ديسمبر 1906 - ص : 16 .
(8) السَّابق - الصَّفحة نفسها .
(9) السَّابق - ص 161 .
(10) السَّابق - ص ص :163 -164 .
(11) الوَاقِعُ أنَّ كتابَ محمد توفيق البكري (1870-1932) ، المسمَّى بـ(صَهَاريجِ اللؤلؤِ) ، الصَّادرِ عَنْ دَارِ الهلالِ سَنَة1906َ، ليْسَ شعرًا مَنْثُورًا بالمفهومِ الاصْطِلاحِي للشِّعرِ المنثورِ ؛ بَلْ هُوَ نَثْرٌ فَنِّيٌّ بِامْتيَازٍ ، يتبنَّى آليَّاتِ الأدَاءِ الَّتي ارْتَادَهَا مبدعو النَّثر الفنيِّ مُنْذُ القَرْنِ الرَّابعِ الهجْريِّ ، وَهُوَ يحتوي بجانبِ مَقْطُوعَاتِ النَّثر الفنيِّ على بَعْضِ القَصَائدِ التَّقليديَّةِ .
(12) الهلال - مارس 1907 - ص : 354 .
(13) صَحيفَةُ :(السُّفور) - العدد 1334 - 10 مارس 1916- ص : 4 .
(14) ميخائيل نُعيمه - الغِربَال - طبعة دار المعارف الأولى - 1943 - ص:101 .
(15) جبران خليل جبران - المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران العربيَّة - قدَّمَ لهَا وَأشْرَفَ على تنسيقِهَا : ميخائيل نُعيمه - بيروت - 1964 - ص : 286 .
(16) السَّابق - ص : 368 .
(17) السَّابق - ص : 349 .
(18) أمين الرِّيحاني - الرِّيحانيَّات - الجزء الثَّاني - المطبعة العلِميَّة ، ليوسف صادر - بيروت - 1923 - ص : 182 .
(19) عن : رفائيل بطي - سحر الشِّعر :" مقالاتٌ وقصائدُ عصريَّةٌ في الشِّعرِ وَالشِّعرَاءِ لِنُخْبَةٍ مِنْ نَوَابغِ أدبَاءِ العَصْرِ ، عُنيَ بجمعِهَا وَعَلَّقَ حَوَاشِيهَا : رفائيل بطي " - الجزء الثَّاني - المطبعة الرَّحمانيَّة بمصر- 1922 - ص ص : 86 - 88 . وَقَدْ نُقِلَ هَذَا الكَلامُ حَرفيًّا في كِتابِ:(قُدَامَة بن جعفر وَالنَّقد الأدبيِّ) للدّكتور بدوي طبانة [وأصْلُ هَذَا الكتابِ رِسَالَةُ دكتوراه ] . رَاجِعْ الكِتَابَ المذكورَ، طَبْعَة : مكتبة الأنجلو المصرية – الطَّبعة الثَّانية - 1958 - ص ص : 174 -175 . وَللرَّصَافي ، أيْضًا ، رأيٌ مُتَمِّمٌ لهذَا الرَّأي ، قَدْ نَشَرَهُ في مجلَّةِ:(الحريَّة) - الَّتي كَانَ يُصْدِرُهَا : رفائيل بطي في العراق "- 1925 ، وَنَقَلَهُ - عَنْ : (الحريَّة) - د. يوسف عز الدِّين في كِتابِهِ: في الأدَبِ العَربيِّ الحديثِ . رَاجِعْ الكتَابَ المذكورَ - طبعَةَ دار البَصْري - بغداد - 1967 - ص : 242 ، كَذَلكَ رَاجِعْ له - في الكِتابِ نفْسِهِ - قَصيدَةً منثورَةً ، ص ص : 255 - 257 ، كَانَ قَدْ نَشَرَهَا في (الحريَّة) ، عدد : 15 فبراير 1924 ، أمَّا مَا رُوِيَ عَنْ الأصْمَعيِّ ، في محاورتِهِ مَعَ بَشَّار ، فَمَصْدَرُهُ كتابُ الأغاني ؛ رَاجِعْ : كِتَاب الأغَاني - الهيئة المصريَّة العامة للكِتاب - 2001 - ص : 158.
(20) أبوللو - المجلَّد (1) - يونيه 1933 - ص : 1228 . وَرَاجِعْ لهُ كَذلكَ تَعْقِيبَهُ على قصيدَةِ حسين عفيف:(القَمَر) في:(أبوللو) - فبراير 1934- ص : 497 .
(21) انْظُرْ: (الشَّفق الباكِي) ، لأحمد زكي أبي شَادِي - المطبعة السَّلفيَّة بمصر- 1926- ص : 15 .
(22) أصْدَرَ حسين عفيف (1902- 1979) أحَدَ عَشَرَ دِيوانًا مِنْ (الشِّعرِ المنثُورِ) هِيَ:(مُنَاجَاة):1934 - (وَحِيد):1938- (الزَّنبقَة): 1938- (البُلبُل): 1939- (الأغْنِية):1940- (العَبِير):1941- (الأرْغُن):1961- (الغَدِير):1965-(الغَسَق): 1968- (حَدِيقَة الوَرْد):1974 - (عصفور الكناريَا):1977 .
(23) حسين عفيف - حديقَةُ الوَرْدِ - الهيئة المصريَّة العامة للكِتَابِ - 1974 - ص : 197.
(24) عن : محاضرَةِ:(الشِّعرِ المنثورِ) ، ألقاهَا حسين عفيف في مَسْرَحِ نادي الموظَّفينَ بالإسكندريَّةِ - ص ص: 16 - 17، وَقَدْ أُعِيدَ نَشْرُ هَذِهِ المحاضرَةُ بَعْدَ ذَلكَ مَرَّتينِ ؛ مَرَّةً في مجلَّةِ:(الشِّعر) ، العدد : 56 ، يناير1992، ص :40 وَمَا بَعْدَهَا ، وَمَرَّةً في مجلَّة:(القاهرَة) ؛ ضِمْنَ ملفٍ عَنْ : حسين عفيف ، العَدَد : 135 ، فبراير1994 ص ص :70 - 72 .
(25) السَّابق - ص : 18 .
(26) بلوتولاند " وَقَصَائدُ أخْرَى مِنْ شِعْرِ الخاصَّةِ " - الهيئة المصريَّة العامة للكِتَابِ – الطَّبعة الثَّانية - 1989 - ص : 148 .
(27) السَّابق - ص ص : 25 - 26 .
(28) مارون عبُّود - (أمين الرِّيحاني) - سلْسلة: (اقْرَأ) – العدد:131- دار المعارف بمصر - أوَّل نوفمبر1953- ص: 54 .
(29) نزار قبَّاني - قِصَّتي مَعَ الشِّعر - الطَّبعة السَّابعة - إبريل 1986- ص: 68 .
(30) لويس عوض - بلوتولاند - سَابق- 176 .
(31) د. نقولا فيَّاض - رفيق الأقحوان - بيروت - 1950- ص ص:204- 205،(وَتُشِيرُ هَذِهِ الطَّبعةُ إلى أنَّ هَذَا الدِّيوانَ قَدْ نُشِرُ مِنْ قَبْلُ ، في سَنَةِ 1900) .
(32) ميخائيل نُعيمه - مُقدِّمة:(المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران العربيَّة)- سابق - ص 19 .
(33) انظرْ : د. عبد الفتَّاح أبو مدين - جريدة : (الإبداع الشِّعريّ) - مهرجان القاهرة للإبداع الشِّعريِّ - المجلس الأعلى للثَّقافة - الأربعاء 27/11/1996 - ص : 8 .
(34) انْظُرْ :" ديوان الخليل - الجزء الأوَّل - الطَّبعة الثَّانية - 1949- ص : 294 ، وَقَدْ أوْرَدَ أحمد عبد المعطي حجازي هَذِهِ القصيدَةَ في مختاراتِهِ مِنْ شِعْرِ خليل مُطران - دار الآداب - بيروت – الطَّبعة الثَّانية -1979 - ص ص: 49 -51 ، كَمَا أوْرَدَهَا كُلٌّ مِنْ د. سمير سرحان ، د. محمد عناني ، في كتاب:(المختار مِنْ شِعر خليل مطران) - الهيئة المصريَّة العامة للكتاب - 1999 - ص ص:74 - 76 . وَفي هَذَا إقرارٌ بأهميَّتِهَا ، التَّاريخيَّةِ ، على الأقلِّ .
(35) مارون عبُّود - أمين الرِّيحاني - سابق - ص : 54 .
(36) عن : حسين نصَّار - الشِّعر المنثور عند أحمد شوقي - مجلَّة :(فصول) - أكتوبر 1982 - ص : 158، كَذلكَ وَرَدَ هَذَا الرَّأيُ عند د. سَلْمَى الخضْراء الجيوسِي ، في دِرَاسَتِهَا:(بنيَة القَصِيدَة العَربيَّة عَبْرَ عُصُورِهَا)، المنشورَةِ بمجلَّةِ :(الثَّقافَة الجديدَة) ، نوفمبر1996- ص :21 .
(37) مُنير الحسَامِي - عرشُ الحبِّ وَالجمَالِ - مطبعة الأرز، بيروت - 1925، مُقدِّمةُ الدِّيوان .
(38) انْظُرْ كِتَابَهُ:(الاتجاهَات الأدبيَّة في العالم العَرَبيِّ) بيروت - الطَّبعة الثَّانية -1960 - ص:420 ، وَكتابَهُ:(الفنون الأدبيَّة وأعْلامها في النَّهضَةِ العَربيَّةِ الحديثَةِ) - دار العِلْم للمَلايين - بيروت – الطَّبعة الخامِسَة - 1990 - ص: 466 .
(39) انْظُرْ كِتَابَهُ:(قصَّة الأدَبِ المهْجَريِّ) - دار الكِتَاب اللبنانيّ - 1986 - ص : 176 .
(40) انْظُرْ كتابهَا:(شُعَرَاء الرَّابطةِ القَلَميَّةِ) - دار المعارف بمصر- الطَّبعة الثَّالثة - ص:35 .
(41) انْظُرْ كِتَابَهُ:(أمين الرِّيحاني) - الطَّبعة الثَّالثة - دار المعارف بمصر - ص : 35.
(42) د. أمين ألبرت الرِّيحاني - سَابق - ص ص : 110 - 111 .
(43) عَنْ جِهاد فاضِل - مجلَّة:(نِزْوَى) – العدد:12 - أكتوبر 1997 - ص : 239 ، وَنجدُ لخليل مُطْرَان مَعْنىً قريبًا مِنْ هَذَا ؛ حَيْثُ يقولُ : " لمَّا رَأيْتُ الشِّعرَ عَلى مَا كَانَ عليْهِ مِنْ أقْدَمِ الزَّمانِ لمْ يَتَجَدَّدْ ، وَلمْ يتطَّورْ ، بَلْ نَأخُذُ القَديمَ ، وَنُنْشِئُ الحديثَ على طِرَازِهِ ، وَإذَا أدْخَلْنَا إليْهِ إيحاءَاتِ العَصْرِ جَاءَتْ مُتَكَلَّفَة ً، قُلْتُ : إنَّ التَّجديدَ يجبُ أنْ يَشْمَلَ الأسَاسَ " عن : محيي الدِّين اللاذقاني - القَصِيدَةُ الحُرَّةُ - مجلَّة:(فُصول) - صَيْف 1997 - ص : 41 .
(44) مجلَّة:(الهلال) - ج2 ، مِنْ السَّنَةِ الرَّابعَةَ عَشَرَةَ - الأوَّل مِنْ أكتوبر 1905 - ص ص: 97 - 98 .
(45) النَّصُّ يَقَعُ بَيْنَ صَفْحَتيْ 98 - 101 ، وَمِنْ أوَّله هَذَا المقطعَانِ . وَيُنْظَرُ النَّصُّ ، كَذَلكَ ، في: الكِتَابَات الشِّعريَّة ، لأمين الرِّيحاني ، دار الجيْل ، بيروت ، د.ت ، ص ص: 81 -89 .
(46) إبراهيم عبد القادر المازني - الشِّعر: غَاياتُهُ وَوَسَائِطُهُ - مطبعَةُ البوسفور-1915- ص ص :23- 25 .
(47) د. عبد الفتَّاح أبو مَدين - سَابق - ص: 8 .
(48) رَاجِعْ للدُّكتور أحمد كمال زكي بحثَهُ:(قَصِيدَةُ النَّثرِ تجريبٌ أمْ تخريبٌ) ؛ المُقدَّمَ لمهرجَانِ القاهرَةِ للإبدَاعِ الشِّعريِّ يوم 27/11/1996 ، وَللدُّكتور محمد عبد المطَّلب : (النَّصُّ المُشْكِلُ)- الهيئة العامة لقصور الثَّقافة - يوليو 1999 - ص120، ص160، وللدُّكتور عبد القادر القِطّ :(رُؤيَةُ الشِّعرِ العَرَبي المعَاصِرِ في مِصْر) - مجلَّة:(إبداع) - مارس1996- ص :17، وَللدُّكتور كمال نشأت كتاب:(شِعْرُ الحداثَةِ في مِصْر)- الهيئة المصْريَّة العامة للكِتاب -1998- ص:202 .
(49) مصطفى صادق الرَّافعي - الشِّعرُ العَربيُّ في خمسِيْنَ سَنَة - المقتطَف - يناير1926 - ص:31 .
(50) الأب لويس شِيخو - تاريخ الآدَاب العَربيَّة في المهْجَر - دار القَلَم - الكويت - الطَّبعة الرَّابعة - 1976 - ص : 105 .
(52) كثيرونَ اعْتَمَدُوا على تَعْريفِ الرِّيحاني لِلشِّعر المنثورِ ، وَمُعْظَمُهُمْ لمْ يَنْسِبْهُ لصَاحِبِهِ ؛ وَمِنْ الَّذينَ نَسَبُوا إليْهِ هَذَا التَّعريفَ الَّذي أوْرَدَهُ في:(الرِّيحانيَّات) ، الجزء الثَّاني ، ص: 182 : د. نادرة جميل السَّراج ، في كتابها: (شُعَرَاء الرَّابطة القَلَمِيَّة) - دار المعارف - الطَّبعَة الثَّالثة - ص:204. ومحمد جمال باروت ، في كتابِهِ:(الحدَاثَة الأولى) - اتحاد كُتَّاب وَأدَبَاء الإمَاراتِ - 1991 - ص : 189 .
وَمِنْ الَّذين أوْرَدُوهُ في كُتُبِهِمْ دُونَ الإشَارَةِ إلى صَاحِبِهِ: حبيب سَلامة ، في كتابِهِ :(الشِّعر المنثور) - مطبعة الهلال - 1922 - ص ص: 13- 14 . وتوفيق الرَّافعي ، في كتابِهِ:(أمين الرِّيحاني) - المطبعة الرَّحمانيَّة بمصر - 1922 - ص ص : 269 ، 270 . ود. محمد عبد المنعم خفاجي ، في كِتابِهِ:(قصَّة الأدَبِ المهْجَريِّ) دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1986 - ص : 177 وعيسى ميخائيل سابا ، في كتابِهِ:(أمين الرِّيحاني) - دار المعارف - الطَّبعة الثَّالثة - ص:35 .
(53) أدونيس - صَدْمَةُ الحدَاثَةِ - دار السَّاقي - د.ت – ص:35 .
(54) السَّابق - ص:35 .
(55) السَّابق - ص:35 .
(56) د. سَلْمَى الخضْراء الجيوسِي - بنيَةُ القَصِيدَةِ العَربيَّةِ عَبْرَ العُصُور- مجلَّة:(الثَّقافة الجديدة) - نوفمبر1996- ص:21 .
(57) د. محمد عبد المنعم خفاجي - قصَّةُ الأدَبِ المهْجَريِّ- سَابق - ص : 176.
(58،59) عَنْ محاضَرتِهِ المذْكُورَةِ سَابقًا .
(60) س : موريه - الشِّعرُ العَربيُّ الحديثُ : 1800-1970- سَابق - ص :427 .
(61) السَّابق - ص : 431 .
(62) السَّابق - ص : 430 .
(63) أمين الرِّيحاني - الكِتَابَاتُ الشِّعريِّة - دار الجيْل - بيروت - د. ت - ص:171 ، وَرَاجِعْ كَذلكَ: توفيق الرَّافعي - (أمين الرِّيحاني) - سَابق - ص ص : 271- 273 .
(64) الشِّعرُ العَربيُّ الحديثُ :1800-1970- سَابق- ص : 435 .
(65) السَّابق - ص :431 .
(66) ميخائيل نُعيمه - مُقدِّمةُ المجموعَةِ الكاملة لمؤلَّفات جبران خليل جبران العَربيَّة - سَابق - ص : 109 .
(67) عبد الكريم الأشتر - النَّثرُ المهْجَريُّ : كُتَّابُ الرَّابطَةِ القَلَميَّةِ - الجزء الأوَّل - لجنة التَّأليف وَالتَّرجمة وَالنَّشر - 1960 - ص :197 .
(68) السَّابق - ص :206 .
(69) رَاجِعْ : الشِّعر العَربيّ الحديث :1800 -1970 – ص: 229 ، ص: 425 ، ص: 426 ، ص: 427 .
(70) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران العربيَّة - سَابق- ص : 399 .
(71) فرناندو لاثاركاريتير- الوظيفَةُ الأدبيَّةُ وَالشِّعرُ الحرُّ- ترجمة: محمود السَّيد علي محمود - مجلَّة:(فُصول) - المجلَّد السَّادس / العدد الثَّالث - 1986- ص : 50 .
(72) الكِتَابُ المقَدَّسُ – دار الكِتابِ المقَدَّسِ في الشَّرقِ الأوْسَطِ - د.ت - ص:822 .
(73) السَّابق - ص : 1176 .
(74) النَّثرُ المهْجَريُّ - كُتَّابُ الرَّابطَةِ القَلَميَّةِ - الجزءُ الأوَّل - سَابق - ص:206 .
(75) السَّابق - ص: 199 .
(76) رَاجِعْ على سَبيْلِ المثَالِ: د. عبد القادر القِطّ - رُؤيَةُ الشِّعرِ العَربيِّ المعاصِرِ في مِصْرَ - مجلَّة: (إبداع) - مارس1996- ص : 17، و د. محمد عبد المطَّلب - النَّصُّ المُشْكِلُ - ص : 120 .
(77) محمد عبد الغني حسن - الشِّعرُ العَربيُّ في المهْجَرِ- سابق - ص:105.
(78) أنيس الخوري المقدِسِي - الاتجاهاتُ الأدبيَّةُ في العالمِ العَرَبيِّ الحديثِ - سَابق - ص ص:419-420 .
(79) السَّابق - ص :421 .
(80) د. إبراهيم حمادة - قَصِيدَةُ النَّثرِ- مجلَّة:(القاهرة) - العَدد:73 - 15يوليو1987- افتتاحيةُ العَدَد .
(81) د. نقولا فياض- رفيفُ الأقْحُوَان - بيروت - 1950 - ص ص: 204 - 205.
(82) أمين الرِّيحاني - الكِتَابَاتُ الشِّعريِّة - سَابق - ص ص :105 - 108، وَتُنْظَرُ ، كَذَلكَ ، في كِتَابِ:(أمين الرِّيحاني) ، لتوفيق الرَّافعي - المطبعة الرَّحمانيَّة بمصر- 1922 - ص ص: 287 - 291 .
(83) المجموعةُ الكامِلَةُ لمؤلَّفات جبران خليل جبران - سَابق - ص ص : 336 - 337.
(84) عَنْ : دِيوَانِ الخليْلِ - الجزء الأوَّل - القاهرة – الطَّبعة الثَّانية - 1949- ص ص: 294 - 296 ، وَأيْضًا:(قَصَائِدُ :خليْل مُطْرَان) اختيار: أحمد عبد المعطي حجازي - دار الآداب - بيروت – الطَّبعة الثَّانية - 1979 - ص ص : 49 : 51 ، وَأيْضًا : (المخْتَار مِنْ شِعْرِ خليْل مُطْرَان) - إعداد: د. سمير سرحان ود. محمد عناني - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1999 - ص ص : 74 - 76 .
(85) ميّ - ظُلُمَاتٌ وَأشِعَّةٌ - نَشْرُ مجلَّة الهلال - يناير 1923 - ص ص : 127 - 132 .
(86) ميخائيل نُعيمه - البَيَادر - دار المعارف بمصر - 1945 - ص : 173، و: عبد الكريم الأشتر - النَّثرُ المهْجَريُّ : كُتَّابُ الرَّابطةِ القَلَميَّةِ – الجزء الأوَّل - لجنة التَّأليف وَالتَّرجمة وَالنَّشر - 1961 - ص ص : 215 - 216 .
(87) ميخائيل نُعيمه - مُذكِّرَاتُ الأرْقَش - دار صَادر- بيروت - د.ت - ص ص : 74 - 75 .
(88) عَنْ كِتَابِ:(بلاغَةُ العَرَبِ في القَرْنِ العِشْريْنَ) لمحيي الدِّين رضا - المطبعة الرَّحمانيَّة - 1339 هـ - ص ص: 173- 175، وَقَدْ تَوَقَّفَ الكثيرونَ أمَامَ هَذَا النَّصِّ ؛ فَاعْتَبَرَهُ د. محمد مندور نموذجًا للنَّثرِ المهْمُوسِ:(الميزانُ الجديدُ – ص :64 وَمَا بَعْدَهَا) ، وَذَكَرَهُ موريه كنمُوذَجٍ لأعْظَمِ مَا تحقَّقَ مِنْ شُعَرَاءِ المهْجَرِ الشَّمَاليِّ الَّذين لمْ يَنْضَمُّوا إلى الرَّابطةِ القَلَميَّةِ: (الشِّعرُ العَرَبيُّ الحديثُ - ص:435) ، وَشَدَّدَ د. محمد عبد المنعم خفاجي على مَا رَآهُ في هَذَا النَّصِّ مِنْ قوَّةِ الأحَاسِيسِ وَعُمْقِ التَّجربَةِ وَدِفْئِهَا وَحَرَارَتهَا وَحَيويَّتِهَا وَالهَمْسِ الَّذي تَتَبَدَّى فيْهِ هَذِهِ المنَاجَاةِ :(قصَّةُ الأدَبِ المهْجَريِّ - ص :163) .
(89) السَّابق - ص :200، وَكتاب :(الصُّور)، لمحمد السِّباعي - القاهرة – 1946- ص: 79 .
(90) (الشِّعرُ المنثورُ) - ص :200 ،:(الصُّورُ) - سَابق- ص : 78 .
(91) محمد تيمور - شِعْرٌ مَنْثورٌ: الهرَمُ الأكْبَرُ- صَحِيفَةُ:(السُّفور)- 13 نوفمبر1919 .
(92) محمود تيمور - الشَّفقُ الحزينُ - (السُّفور) - العدد: 1335- 22 ديسمبر 1916 - ص: 18، (مَقْطَعٌ مِنْ النَّصِّ) ، ولمحمود تيمور العَديدُ مِنْ نُصوصِ الشِّعر المنثور، في صَحِيفَةِ (السُّفور) ، مِنْهَا:(الحبُّ بَيْنَ دَمْعَةِ اليَأسِ وَقُبْلَةِ الأمَلِ) - العدد: 69 - سبتمبر 1916 - ص: 7 ، (الدّموع)-21 يونيه 1917 - ص :1، (نَفْسِي) – العدد:209 - 27 يوليو 1919 - ص:3 ، (الحقِيقَةُ) – العَدد:212 - 4 سبتمبر 1919 - ص: 7 ، (الزَّهرَةُ العَاشِقَةُ) - 6 نوفمبر 1919 - ص ص :5 - 6 ، (أنْتِ) - 20نوفمبر 1919 ص ص:4 - 5 .
(93) حسين فوزي - ثَوْرَةُ نَفْس - (السُّفور) - الخميس 4 نوفمبر1920 - العدد :215 - ص:7(مَقْطَعٌ مِنْ النَّصِّ) ، وَمِنْ شِعْرِهِ المنثورِ ، المنْشُورِ في (السُّفور) : (البُلبُلُ) - 13 نوفمبر - 1919 - ص:7 ، وَ:(هَوَاجِسُ) - 11ديسمبر 1919، وَ:(خَيَالاتٌ وَأحْلامٌ)- 8 أغسطس 1920 ، وَ:(نَشْوَةُ العُمْرِ) - 9 يوليه 1920 .
(94) محمد كامل حَجَّاج - الظَّلامُ - (السُّفور) - 14يناير1916- ص: 8 (مَقْطَعٌ مِنْ النَّصِّ) .
(95) فائق رياض - نجيُّ القَمَرِ - (السُّفور) - 6 نوفمبر 1919 - ص : 3 .
(96) محمد شوقي - المعْبُودَةُ - (السُّفور) - 28 مايو 1920 - ص: 11 .
(97) منير الحسَامِي - عَرْشُ الحبِّ وَالجمَالِ - مُصَدَّر بمقدِّمةٍ بقلمِ الفيلسُوفِ النَّابغة : أمين الرِّيحاني - مطبعة الأرز ، بيروت - 1925- ص ص:126-127.
(98) الأعْمَالُ الكامِلَةُ لأبي القَاسِمِ الشَّابي - الجزء الثَّاني - الدَّار التُّونسيَّة للنَّشر - تونس 1984 - ص 19 ، وَالقَصِيدَةُ مؤرَّخةٌ بتاريخ :19 محرم سنة 1344، الموافِق ليوم 9 أوت 1925، وَهِيَ مَنْشُورَةٌ بَالكَرَّاسِ الخامِسِ مِنْ - المدَاد الحيِّ - الدَّار العربيَّة للكتاب - تونس2009 – صفحة:365 ، وَنُشِرَتْ في الدِّيوانِ النَّثريِّ للشَّابيِّ ؛ الَّذي أعَدَّهُ وَقَدَّمَ لَهُ : سُوف عبيد ، بِالعنوَانِ ذَاتِهِ الَّذي وَضَعَهُ الشَّابي لَهُ:(صَفَحَاتٌ مِنْ كتَابِ الوجودِ: القَصَائِدُ النَّثريَّةُ)، وَصَدَرَ عَنْ دار الحكمَةِ ، بتونس ، في عام 2009 . وَالنَّصُّ هُوَ القَصِيدُ النَّثريُّ الأوَّلُ للشَّابي ، أنجزَهُ وَلمَّا يَتَجَاوَز السَّادسَة عَشَرَة .
(99) مُرَاد ميخائيل - المروجُ وَالصَّحَارى - 1931.(مَقَاطِعُ مِنْ نَصٍّ أطْوَل). وَرَاجِعْ : صلاح نيازي - مراد ميخائيل رائدُ الشِّعرِ المنثورِ - مَوْقِعُ الامبراطور .
(100) رشيد أيُّوب- أغاني الدَّرويش - المطبعة السُّوريَّةُ الأمريكيَّةُ في نيويورك - 1928 - ص ص 90 -91.
(101) عَنْ كِتَابِ: (سِحْرُ الشِّعرِ)، لرفائيل بطي - الجزء الأوَّلُ- المطبعة الرَّحمانيَّة بمصر - 1922 - ص ص : 80 -81 .
(102) عَنْ كِتَابِ:(الشِّعرُ المنثورُ)، لحبيب سَلامة - مطبعة الهلال - 1922 - ص ص : 293 - 295 .
(103) جميلة محمد العلايلي - طيْفُ الرَّبيع - مجلَّة:(أبوللو) - مايو 1933- ص : 1061 ، (مَقَاطِعُ مِنْ نَصٍّ أطْوَلَ) .
(104) حُسين عفيف - البُلبُلُ - ضِمْن الأعْمَالِ الكَامِلَةِ لحسين عفيف - المجلَّد الثَّاني- المجلس الأعلى للثَّقافة -2002- ص :231، 243 ،279 . وَقَدْ صَدَرَتْ الطَّبعَةُ الأولى مِنْ الدِّيوَانِ ، في عَامِ 1939 .
(105) مجلَّة:(الكَاتب المصْري) - ديسمبر1947- ص: 292 .
(106) كامل محمود حبيب - مجلَّة:(الرِّسَالة) - العدد :341 - 15يناير1940- ص : 88.
(107) ألبير أديب - ظَمَأٌ - مجلَّة:(الأدِيب) - نِسْيَان- جـ4 - السَّنة الثَّانية - ص :53 .
(108) يوسف الشَّاروني - المسَاءُ الأخِيْرُ - الأعْمَالُ الكامِلَةُ – المجلَّد:(5) - الهيئة المصريَّة العامة للكتاب - 1995 - ص ص:30 - 31 . وَكَانَ الشَّاروني قَدْ كَتَبَهُ كَامِلاً سَنَةَ 1945 ، وَنَشَرَهُ مُسَلْسَلاً في مجلَّةِ:(الأديب) ، البيروتيَّةِ بَيْنَ عاميْ: 1946- 1952، ثمَّ ظَهَرَتْ الطَّبعَةُ الأولى لَهُ كَكِتَابٍ سَنَةَ 1963، عَنْ دار المعارف بمصر .
(109) رَاجِعْ نَصَّهُ:(شِعْرٌ مَنْثُورٌ) في كِتَابِ: في الأدَبِ العَرَبيِّ الحديثِ ، للدُّكتور يوسف عزالدِّين - طبعة الهيئة المصْريَّة العامة للكتاب - 1973- ص ص:255- 257.
(110) رَاجِعْ كِتَابَ:(أسْوَاق الذَّهب) ، لأحمد شوقي - مكتبة مصر- د.ت . ص:10، ص:37، وَرَاجِعْ كَذَلكَ مُقدِّمتَهُ للكتابِ ؛ الَّتي يُشِيرُ فيْهَا إلى اقْتِفَائِهِ لخُطَا الزَّمخشريِّ في كِتابِهِ:(أطْوَاق الذَّهب)، وَالأصْفَهَاني في كِتابِهِ:(أطْبَاق الذَّهب) . وَرَاجِعْ كَذلكَ للدُّكتور حسين نصار ، دِرَاسَتَهُ: الشِّعر المنثور عِنْدَ أحمد شوقي - مجلَّة:(فُصول)- أكتوبر1982، وَرَاجِعْ كَذَلكَ لأحمد حسن الزَّيَّات كِتَابَهُ:(في أصُولِ الأدَبِ) - الطَّبعة الثَّانية - 1946 - ص : 14 ؛ حَيْثُ اعْتَبَرَ الزَّيَّاتُ ، أحمد شوقي شَاعِرًا لمْ يخرُجْ عَنْ دَائرَةِ الشُّعرَاءِ ، في كُلِّ مَا كَتَبَ ، وَأنَّ مَا نَشَرَهُ على أنَّهُ نثرٌ لا يخرُجُ عَنْ دَائرَةِ النَّثرِ المقفَّى ؛ لأنَّهُ التَزَمَ فيْهِ السَّجعَ وَاعْتَمَدَ على التَّصويرِ .
(111) فرناندو لاثاركاتيير - الوَظِيْفَةُ الأدبيَّةُ وَالشِّعرُ الحرُّ - سَابق - ص:50 .
(112) المجموعَةُ الكَامِلَةُ لمؤلَّفاتِ جبران خليل جبران العربيَّة - سَابق- ص:565 .
(113) مِنْ نَصِّ :(النَّجوى) ؛ الَّذي افْتَتَحَ بِهِ الرِّيحاني (الرِّيحانيَّات) - الجزء الرَّابع - بيروت- 1924، وَيُنْظَرُ كَذَلِكَ في:الكِتَابَاتِ الشِّعريَّة ، لأمين الرِّيحاني ، دار الجيْل ، سَابق ، ص : 171 .
(114) فرناندو لاثاركاريتير - الوَظِيفَةُ الأدبيَّةُ وَالشِّعرُ الحرُّ - سَابق- ص: 50 .
(115) إروين إدمان – الفُنون والإنسَان : مُقدِّمةٌ مُوجَزة لعِلْمِ الجمَالِ - ترجمة : مصطفى حبيب - مكتبة مصر د.ت - ص :58 .
(116) يوري لوتمان - تحليْلُ النَّصِّ الشِّعريِّ : بنيَةُ القَصِيدَةِ - ترجمة: د. محمد فَتُّوح أحمد - دار المعارف - 1995 - ص :97.



#شريف_رزق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النَّثرُ الصُّوفيُّ الشَّعريُّ
- النَّثْرُ الفَنيُّ
- شِعريَّةُ النَّثرشِعْريِّ
- فَضَاءٌ آخَرٌ ، لِشِعْريَّةٍ أُخْرَى
- الشِّعريَّاتُ الأساسيَّةُ في قصيدَةِ النَّثرِ العربيَّةِ
- شِعريَّةُ السِّيرذَاتيِّ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّة
- شعريَّةُ الغنائيَّةِ الجديدَةِ في قصيدَةِ النَّثرِ المِصْريّ ...
- شِعريَّةُ الغُرفَةِ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّةِ
- شِعريَّةُ المدينَةِ في قصيدةِ النَّثر المصْريَّةِ
- المفاهيمُ النَّظريَّة للأنواعِ الشِّعريَّة في شِعرِ النَّثرِ
- عَذَابَاتُ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ في وَحْشَةِ العَالمِ
- شِعريَّةُ قَصِيدَةِ النَّثرِ
- لانبعَاثَاتُ الأولى لقَصِيدَةِ النَّثر في مَشْهَدِ الشِّعر ا ...
- شِعريَّاتُ المشْهَدِ الشِّعريِّ المصْريِّ الجديد في قصيدَةِ ...
- تداخُلاتُ الأنواعِ الأدبيَّةِ والفَنيَّةِ في قصيدةِ النَّثرِ ...
- إِشكاليَّاتُ النَّوعِ الشِّعريِّ في قَصِيدةِ النَّثْر


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف رزق - الشِّعرُ المنثُورُ