|
الشِّعريَّاتُ الأساسيَّةُ في قصيدَةِ النَّثرِ العربيَّةِ
شريف رزق
الحوار المتمدن-العدد: 4722 - 2015 / 2 / 16 - 14:10
المحور:
الادب والفن
الشِّعريَّاتُ الأساسيَّةُ في قصيدَةِ النَّثرِ العربيَّةِ الرَّاهِنَة
يكشفُ المشهدُ الشِّعريُّ الرَّاهنُ ، لقصيدةِ النَّثرِ العربيَّةِ ، مجموعةً من الشِّعريَّاتِ الجديدةِ التي تُشكِّلُ المعالمَ الأساسيَّةَ لقصيدةِ النَّثرِ ، في تحوُّلِها الأخيرِ ؛ بعدَ أنْ تخلَّصتْ من المفهومِ الأنجلوسكسونيِّ ؛ الذي ظهرَ منذُ أواخرِ الأربعينيَّاتِ ، في تجربةِ توفيق صايغ (1923-1971) ، كما تخلَّصتْ من المفهومِ الفَرَنسيِّ ؛ الذي ظهرَ منذُ أواخرِ الخمْسِينيَّاتِ وأوائلِ السِّتينيَّاتِ ، تحتَ مظلَّةِ مجلَّةِ :(شِعْرٍ) اللبنانيَّةِ ، كما تخلَّصتْ من المفهومِ الأنجلو أمريكيِّ ؛ الذي ظهرَ منذُ أواخرِ السِّتينيَّاتِ ، لدى سركون بولص (1944-2007) على سبيلِ المثالِ ، كما تجاوزتْ الأُطُرَ التَّعبيريَّةَ التي اسْترفَدَها شعراءُ السَّبعينيَّاتِ ، من هذه الشِّعريَّاتِ ، في نماذجِها العربيَّةِ ، أو نماذجِها الأصليَّةِ ؛ وبهذا تخلَّصَتْ منْ هيمنَةِ المَرْكزيَّةِ الشِّعريَّةِ الغَربيَّةِ ؛ الَّتي ظلَّتْ فَاعِلةً في مَشْهَدِ شِعرِ النَّثرِ العَرَبيِّ ، مُنذُ بداياتِهِ التَّأسيسيَّةِ ، وَكَشَفَتْ المَعَالمُ الأسَاسِيَّةُ لِشِعريَّةِ القَصِيدِ النَّثريِّ الرَّاهِنَةِ ، عنْ اقترَابِهَا الوَاضِحِ منْ حَرَكةِ الوَاقعِ المَعِيشِ ، وَمِنْ خِبْرَةِ الجَسَدِ وَعَوَالمِهِ البَاطنيَّةِ المَحْجُوبَةِ ، وَعلى الرَّغمِ منْ هيمنَةِ شِعريَّةِ الشَّخصِيِّ وَاليَومِيِّ وَالمَعِيشِ على المَشْهَدِ الشِّعريِّ ، فإنَّ مِنْ الشُّعرَاءِ مَنْ بَدَوا أكثرَ اقترابًا مِنْ عَوَالمِ التَّخييلِ ، عَبْرَ تحفيزِ الأدَاءِ السِّريَاليِّ لأدَاءِ أدْوارٍ شِعريَّةٍ جَديدَةٍ ، وَالتَحَمَتْ هذه الشِّعريَّةُ الجَديدةُ بآليَّاتِ السَّردِ وَالسِّينمَا التِحَامًا وَاضِحًا ، وَتَحرَّرَتْ منْ أيدلوجيَّةِ اللغَةِ وَشَخْصَانيَّتِهَا وَحَدَاثيَّتِهَا ، وانْحَازَتْ إلى أدَاءٍ سَرديٍّ وَبَصَريٍّ بَسِيطٍ وَشَفَّافٍ ، وَتتمَثَّلُ هذِهِ الشِّعريَّةُ ، في عِدَّةِ شِعريَّاتٍ ، يُمْكنُ إجمالُهَا في الشِّعريَّاتِ الآتيَةِ :
شِعْريَّةُ السَّردِ السِّيْرَذَاتيِّ . شِعْريَّةُ المِخْيالِ السِّريَا- مِيتاحَداثيِّ . شِعْريَّةُ الكولاجاتِ البَصَريَّةِ ، والمونتاجِ السَّرديِّ. شِعْريَّةُ الأشياءِ المَنسِيَّة. شِعْريَّةُ البَدَاهَاتِ الأولى ، والفِطرَة.
وتكشفُ هذه التَّنوُّعاتُ الشِّعريَّةُ ، في مشهدِ القصيدِ النَّثريِّ الرَّاهنِ ، عن تحوُّلٍ واضحٍ للمشهدِ، تتجاورُ فيه هوياتٌ شِعْريَّةٌ عديدةٌ ، مُتداخلةٌ ، ومُتعارضةٌ أحيانًا .
-1-
شِعْريَّةُ السَّردِ السِّيْرَذَاتيِّ
يتبدَّى في هذه الشَّعريَّةِِ ، بشكلٍ واضحٍ ، جنوحٌ بارزٌ لاسْتثمارِ طاقاتِ السَّردِ وآلياته، في سردِ التَّفاصيلِ الخاصةِ ، والتَّاريخِ الشَّخصيِّ ، وهو ما يكشفُ عن تقاطُعِ قصيدةِ النَّثرِ مع السِّيرةِ الذَّاتيَّةِ في منطقةٍ تتشكَّلُ فيها خِطاباتُ السَّردِ السِّيرذاتيِّ الشِّعريَّةِ ، بطرائقِ المُذكِّراتِ،أو اليوميَّاتِ، أو الاعترافاتِ التي تتدفَّقُ فيها تفاصيلُ التَّجاربِ المعيشةِ ،عبْرَ آلياتِ السَّردِ الشِّعريِّ ، ويُرَكِّزُ البرنامجُ السَّرديُّ ، هنا ، على تسجيلِ التَّفاصيلِ الشَّخصيَّةِ والمَعيشةِ ، مُعتمدًا إجراءاتِ بناءِ بلاغتِهِ ، بوسائلَ بنائيَّةٍ مُحدَّدةٍ ، مثل : شِعْرِيَّةِ الأداءِ التَّقريريِّ - الصُّورِ السَّرديَّةِ - البناءِ الدِّراميِّ ،وبعضُ هذه الآلياتِ السَّرديَّةِ كانت تعملُ ، من قبلِ هذه الشِّعريَّةِ، بأشكالٍ مُختلفةٍ في الشَّعريَّاتِ الأسبقِ ؛ ويُلاحَظُ أن السَّردَ ،في هذه الشِّعريَّاتِ ، كان « يتبعُ قوانينَ الشِّعرِ، ويندرجُ في سياقِهِ تمامًا ، (أمَّا في هذه الشِّعريَّةِ الجديدةِ ، فإنَّنَا ) إزاءَ شِعْرٍ يتبعُ قوانينَ السَّردِ، ويكشفُ عن طبيعةِ هذه القوانين، ويُنافسُ السَّردَ أحيانًا، في إنتاجِ عددٍ من التَّقنيَّاتِ النَّصيَّةِ ، الَّتي تُراهِنُ على طَرْحِ أشكالٍ جديدةٍ ، أو مُغايرةٍ من هذا السَّرد .»(1) ، وبتعاضُدِ العناصرِ الشِّعريَّةِ والسَّرديَّةِ ، يتشكَّلُ السَّردُ الشِّعريُّ ، في خِطاباتٍ طيِّعةٍ ومُتدفِّقةٍ ، تُلائمُ طبيعةَ السَّردِ الشَّخصيِّ الحميمِ، بتفصيلاتِهِ الحياتيَّةِ المَعيشةِ ، منها قولُ وديع سعادة (1948- ) ، في نصِّ : « لحظات ميِّتة»:
« مَاذَا سَأفعلُ اليومَ ؟ ، ليسَ في نِيَّتِي فِعْلُ شيءٍ ، ولستُ مُضْطرًا لِفِعْلِ شيءٍ ، يُمكِنُني على الأرْجَحِِ أنْ أعقدَ صَدَاقةً ، مِنْ هُنا ، مِنْ وراءِ الزُّجاجِ ، مَعَ هؤلاءِ النَّاسِ في الشَّارعِ . لا يزالُ النَّهارُ في أوَّلِهِ ، وبِضْعُ دقائقَ مِنَ الصَّداقةِ تكفي اليومَ . بعدَ ذلكَ يجبُ أنْ أخرجَ إلى الشُّرفة ، وأسقي الزُّهورَ ، ويجبُ ، رُبَّمَا ، أنْ أتمشَّى قليلاً في المَدِينةِ وأجلبَ قِنِّينَةَ عرقٍ . « النَّافذةُ مُقْفلةٌ ، وَأنَا رَجُلٌ قصيرٌ وراءَها طُولُهُ 165 سنتيمترًا ، وَيَعْقِدُ صَدَاقةً مَعَ شارعٍ طويلٍ ، يُمرِّرُ يدَهُ بين وقتٍ وآخرٍ على شَعْرِهِ ، وَمَا يَسْقُُطُ مِنْه يَحْمِلُهُ بِبُطءٍ يرمِيهِ في القِمَامَةِ. رَجُلٌ هادِئٌ ، حَتَّى أنَّه بينَ غُرْفةِ النَّومِ وًالمًطْبًخ يَتَوَقَّفُ مِرَارًا ليَسْهوَ أوْ ليَسْتَرِيحَ. يلِفُّ سِيكارتَهُ على مهْلٍ ، يشيلُ التَّبغَ الزَّائدَ منْ طَرَفَيْهَا ، ينظرُ إلى الولاَّعَةِ لحظةً ، ثُمَّ يُخفِضُ رَأسَهُ ويُشْعِلُهَا.»(2)
إنَّ الخِطابَ الشِّعريَّ ، هُنا ، يتشكَّلُ من بِنيةٍ سَرديَّةٍ سِيَرِيَّة خَالِصَةٍ ، تقومُ بتشعيرِ تفاصيلِ التَّاريخِ الشَّخصيِّ ، وما يحيطُ الذَّاتَ الشَّاعرَةَ السَّاردةَ منْ تفاصِيل حياتيَّةٍ مَعِيشَةٍ ، تشعيرًا رهِيفًا ، ينسابُ منْ نبرةٍ عميقةٍ ، تَسْتَبْطِنُ عوالمَهَا الحَيَاتِيَّةَ الخاصَّةَ. وتبدو هذه الشِّعريَّةُ ، كذلكَ ، في نصِّ مُنذر مِصري (1949- ) « سُجقٌ مَعَ البَيَضِ على الفُطورِ » ؛ الَّذي يقولُ فيه :
« لَمْ أنَمْ جَيِّدًا وَاسْتَيْقَظتُ في الليلِ مَرَّاتٍ كثيرةً آخِرُهَا في الخَامِسَةِ فَجْرًا كَمَا لو أنَّني مُزْمعٌِ على سَفَرٍ. قليتُ سُجُقًّا مَعَ البَيَضِ وَازْدَرَدْتُ فُطوري وَأنَا أهُزُّ رَأسِي أسْتَطِيعُ أنْ أجِدَ حُلولاً لكلِّ مَشَاكِلي وَلَوْ سَيِّئةً. منذُ أسْبُوعَيْنِ لمْ تَصِلْنِي رِسَالةٌ مِنْ أحَدٍ اليومَ دُفعَةً وَاحِدةً وَصَلتْنِي رِسَالةٌ مِنْ مَاهِرٍ وَرِسَالةٌ مِنْ ثنَاء وَأُخْرَى مِنْ مَرَام وَرِسَالتَانِ مِنْ مُصْطَفى خَمْسُ رَسَائلَ تَخْتَلِفُ عن بَعْضِهَا في كُلِّ شَيءٍ كَاخْتِلافِ أصْحَابِها في كُلِّ شيءٍ لكِنَّها تَشْتَركُ مَعًا بِشَيءٍ وَاحِدٍ جَمِيْعُهُم مُحْبَطُون ..»(3)
فَمِنْ التَّفاصِيلِ الحياتيَّةِ المَعيشةِ المُنتخَبةِ ، تشكَّلتْ الرُّؤيةُ الشِّعريَّةُ ؛ التي وَصَلتْ إلى تَمَامِ اكتمالِها ، وَبَثِّ الحَالةِ الشِّعريَّةِ ، مَعَ نِهايةِ النَّصِّ .
-2- شِعْريَّةُ المِخْيَالِ السِّريَا مِيْتَا حَدَاثيٍّ
لا تُعَدُّ السِّرياليَّةُ مُجرَّدَ مرحلةٍ فنيَّةٍ مرَّتْ على المشهدِ الأدبيِّ والفنيِّ ، في النَّصفِ الأوَّلِ من القرنِ العشرين ؛ بل تُمثِلُ حُلمًا - سيظلُّ باقيًا - للانعتاق منْ كلُِّ أسْرٍ ، وثورةً على كُلِّ ما يُحِدُّ من حريَّةِ الإنسانِ ورغباتِهِ وأحْلامِهِ ، ومُواجَهَةً لكُلِّ القوانينِ والسُّلطاتِ والتَّقاليدِ والقواعِدِ ؛ ولهذا ستظلُّ تجلياتُ الحُلمِ السِّرياليِّ إحدى أبرز الآلياتِ الشِّعريِّةِ في قصيدةِ النَّثرِ؛ بِمَا تُتِيحُهُ من تحريرٍ للمُخيِّلةِ وللشَّعور واللاشُعور ، وتستثمرُ شعريَّةُ المِخْيالِ السِّريا مِيتا حَداثيٍّ ، شَطَحَاتِ المِخْيالِ السِّرياليِّ الحُرِّ ، في صورِهِ الغَرَائبيَّةِ ، وتداعياتِها الآليَّةِ ، واستقصاءَاتِها أغوارَ اللاوعي ، والعوالمَ اللامرئيَّةَ، في تواشُجٍ عميقٍ بآلياتٍ مِيتا حَداثيَّةٍ ؛ كالتَّشظِي ، والشَّكلِ المَفتوحِ ،والحِكاياتِ الصُّغرَى ، والهَذَيانِ السَّرديِّ الذي تَتَداخَلُ فيه الأزمنةُ والعوالمُ ،وتفجير المَرْكز .. وبتشكُّلِ هذه الآلياتِ ، مُجتمِعةً، تتشكَّلُ شِعْريَّةُ المِخْيالِ السِّرياميتا حَداثيّ ، في مَشْهدِ القصيدِ النَّثريِّ الجَديدِ ، على المَسَارَاتِ الأرْبَعَةِ الآتيةِ : -2-2- مَسَارٌ تَتَضَافرُ فيه الصَّورُ السِّرياليَّةُ الغَرَائبيَّةُ الجُزْئيَّةُ ، وَتَتَنَامَى ، في أداءٍ دِرَاميٍّ كثيفٍ، يكشفُ عن عوالمَ خفيَّةٍ في هذا العالمِ، وعن تشكُّلاتٍ غير مألوفةٍ للكائناتِ ، وعن أفعالٍ تتجاوزُ منطقَ الواقعِ المَعِيشِ ، ويُمثِّلُهُ أداءُ الشَّاعر عصام أبي زيد (1969- ) ، في نصوصٍ منها هذا النَّصُّ :
« يَتَمَرَّنُ المَيِّتُ ليُصْبحَ نَافُورَةً تَصْنَعُ مِنْ السَّمَاءِ وَالشَّاي فَطِيرةً للشَّحَاذينَ عِنْدَ الجِسْرِ، رُبَّمَا يَتَمَرَّن ُ ليُصْبِحَ مِنْدِيلاً تأوِي إليه البُحَيرةُ المَرِيضَةُ وَالرَّبيعُ الأعْرَجُ يَذكُرُ الآخَرُونَ ، أنَّهُمْ شَاهَدُوه يُخْرِجُ الماعزَ منْ شَفَتَيهِ ، ثُمَّ يطحنُ ضُلوعَهُ حَلِيْبًا يُطارِدُ المَزَارِعَ وَذَاتَ ليْلةٍ اصْطَحَبَ أرْنَبًا عِمْلاقًا وَخَرَجَا لِزِيَارَةِ الشَّمْسِ خَلْفَ البَرَاكِيْنِ يذكرُ الآخَرُونَ نَزَفَ الأطفالُ كثيرًا بعدَ رَحِيْلِهِ حَتَّى إنَّ الدَّمَ أصْبَحَ تماثيلَ المَيِّت يلتقِي عِنْدَها العُشَّاقُ يَسْألُ عَنْهَا عُلَمَاءُ الآثارِ يَذكُرُ الآخَرُونَ أنَّهُمْ بَعْدَ ذلكَ مَاتوا.»(4)
إنَّ الخِطابَ الشِّعريَّ ، هُنا ، يتأسَّسُ على توالي الصُّورِ السَّرياليَّة ِالجُزئيَّةِ المُدهِشَةِ، ضِمْنَ بنيةٍ سَردِ شِعْرِيَّةٍ ، كثيفةِ الصُّورِ ، تُشكِّلُ مَجَازَهَا الكُليَّ ، مِنْ سِحْرِ الصُّورِ ، وبَكَارَتِها ، ولا مَرْجعيَّتِها ؛ اعْتِمَادًا على تحريرِ الخَيَالِ .
-2-3- مَسَارٌ يَتَدَاخَلُ فيهِ المعيشُ وَالسِّرياليُّ ، الوَاقِعيُّ وَالفنتازيُّ ، السَّرديُّ وَالبَصَريُّ ؛ في رُؤى عَجَائبيَّةٍ هَذَيَانيَّةٍ حُرَّةٍ ، كَمَا في قولِ نصيف النَّاصري (1960 - ):
« قلتُ لأبي : أعْطنِي نُقودًا لأسْكرَ فَتَحَ فَمَهَ فَخَرَجَ منْهُ أسَدٌ جَائعٌ . قلْتُ لحَبيبتي : أعْطِني قُبْلَةً فَتَحَتْ فَمَهَا فَخَرَجَتْ مِنْهُ لبوةٌ . قُلْتُ لآمرِ سَريَّتِي : أعْطِني إجازَةً يَا سيِّدي فَتَحَ فَمَهُ فَخَرَجَتْ مِنْهُ دَبَّابَةٌ الأسَدُ الجَائعُ وَاللبوَةُ اصْطَحَبْتُهُمَا مَعِي في نُزْهَةٍ على الدَّبابَةِ ثمَّ عُدْتُ إلى السِّجنِ مَصْدُوعَ الرَّأسِ .»(5) إنَّ الخطابَ الشِّعريَّ ، هُنَا، يُؤسِّسُ شعريَّتَهُ في جَديلَةٍ شعريَّةٍ يَتَوَاشَجُ فيْهَا الحياتيُّ بِالفَنْتَازيِّ ، وَالتَّقريريُّ بِالتَّصويريِّ ، عَبْرَ مخيَالٍ تحرَّرَ مِنْ هَيْمَنَةِ الشِّعريَّةِ السِّريَاليَّةِ ؛ لِيُشَكِّلَ خِطَابًا جَديدًا ، يَكْشِفُ سِريَاليَّةَ الواقعِ المليءِ بأجْوَاءِ العُنْفِ .
-2-4- مَسَارٌ تتشكَّلُ فيه الصُّورُ السِّرديَّةُ السَّرياليَّةُ ، ذاتُ الخَيَالِ المُحَلِّقِِ الحُرِّ ، الذي يقتربُ - أحْيانًا - من مُخيِّلةِ الشَّطْحِ الصُّوفيِّ ، وهو ما يُمْكِنُ مُلاحظتُهُ لدى حمدي عابدين (1967-) ، في قولِهِ : « في الليلِ يُمْكِنُ لأيَّة بِنَتٍ أنْ تَخْرُجَ مِنْ سَرِيرِهَا وَتَفْتَحَ شُرْفَةَ حُجْرَتِها وَتَطِيْرُ. صَدِّقُونِي البَنَاتُ يَطِرْنَ في الظَّلام وَلأنَّهُنَّ يَخَفْنَ على عَصَافِيرِهِنَّ مِنَ الوِحْدَةِ يَصْحَبْنَهَا أيْنَمَا اتَّجَهَتْ المُوسِيْقَى رَأيْتُ بَنَاتٍ يَحْمِلْنَ العَصَافِيرَ مِنْ مَنَاقِيرِهَا وَيَضْوِيْنَ.»(6)
إنَّ الصُّورةَ السَّرديَّةَ ، التي تُشكِّلُ البِنيةَ الكُليَّةَ للنَّصِّ ، تجمعُ بينَ تحرُّرِ المِخْيَالِ السِّرياليِّ، وسِحريَّةِ الشَّطحِ الصُّوفيِّ وعجائبيَّتِهِ ، وشِعريَّةِ الواقعيَّةِ السِّحريَّةِ التي تتبدَّى في طيرانِ البنتِ منْ شُرْفتِها ، وهو ما يُذكِّرُنا بصورةٍ أُخرى طارتْ منْ شُرْفتِها ، وهيَ تنشرُ الغسيلَ، في رِوايةِ (مِئةِ عامٍ مِنَ العُزْلَةِ) لماركيز ، والصُّورةُ السَّرديَّةُ الكُليَّةُ ، هُنَا ، هيَ نموذجٌ آخرٌ للصُّورةِ الحُرَّةِ ، نتيجةً للخيالِ الحُرِّ .
-2-5- مَسَارٌ تتدافعُ فيه الصَّورُ السِّرياليَّةُ الجُزئيَّةُ، المُتشظِّيَّةُ ، في أبنيةٍ مُنولوجيَّةٍ تنزعُ إلى سَردٍ شِعريٍّ ، اسْتبطانيٍّ ، هَذَيانيٍّ ، يحتفي بالمَجَازِ السِّرياليِّ البَصَريِّ ، في أداءٍ شِعريٍّ يجمعُ بين معقوليَّةِ البناءِ السِّرديِّ ، وغرائبيَّةِ المَتْنِ الحِكَائيِّ ، وهو ما يتبدَّى لدى أسامة الحدَّاد(1964- ) ، في كثيرٍ من شِعْرِهِ ، مِثْلَ : « جِِوارَ جُثَّتي الطَّازَجَةِ سَأترُكُ الأحْلامَ على الوسَادَةِ، والأمنياتِ على حَافةِ النَّافذةِ، وَأُفرغُ رَأسِي تَمَامًا مِنْ أفكارٍ مَعْقولةٍ إلى حدٍّ مَا وَمُنَاسِبةٍ لقتيلٍ مَجْهولٍ تَرَكوا جُثََّتَهُ على الرَّصيف وَلَمْ يلحَظْ دَمَهُ السَّاخِنَ وَهُوَ يَتَسَلَّلُ بلا حَذرٍ دَاخِلَهُمْ.»(7)
إنَّ تتابُعَ الصُّورِ الشِّعريَّةِ الحُرَّةِ المُتشظِّيَّةِ في أداءٍ سَرْدِ شِعْريٍّ ، يقومُ على تداعياتِ الصُّورِ، وتدفُّقِها الآليِّ الحُرِّ ، يُؤسِّسُ ما دعاه اندريه بريتون بـ( الهَذَيَانِ البَصَريِّ ) ، في كُتْلةٍ نصِّيَّةٍ تعتمدُ ، أساسًا على كثافةِ الصُّورِ ، في تدفُّقٍ هَذَيَانيٍّ .
-3-
شِعْريَّةُ الكولاجَاتِ البَصَرَيَّةِ ، وَالمُونْتَاجِ السَّرديِّ
تكشفُ هذه الشِّعريَّةُ عن نُزوعٍ واضِحٍ إلى التَّشَظِّي ، والتَّداخُلِ ، وينهضُ الفِعْلُ الشِّعريُّ ، هنا ، بشكلٍ رئيسيٍّ على آليةِ التَّجميعِ والتَّوليفِ بين عناصِر بَصَريَّةٍ وسَرديَّةٍ، في بناءاتٍ خاصَّةٍ . ومن التَّقنياتِِ الأثيرةِ في هذه الشِّعريَّةِ : تفتيتُ المَشْهَدِ إلى مجموعةٍ كبيرةٍ من اللقطاتِ الدَّالةِ المُتجاورةِ والمُتواليةِ، وتفتيتُ خَطِّيَّةِ الزَّمنِ ، وتقطيعُ أوْصَالِ الحِكايةِ، وتداخُل الأحْدَاثِ ، عَبْرَ اسْتِخدامِ المُونتاجِ ، بإحْدَى الطَّريقتينِ: -3-2- المُونتاجُ البَصَرِيُّ
وفيه يتمُّ اعْتمادُ المُونتاجِ السِّينمائيِّ شِعْرِيًّا؛ حيثُ تتوالى اللقطاتُ المُتَجَمِّعةُ ؛لِتُشكِّلَ بناءً دِرَاميًّا خاصًّا ،وَدَالاًّ ، وَيَتَبَدَّى هذا في نصِّ يحيى جابر(1961- ) : « مَقْبَرَةِ الفِِيَلَة »؛ الذي يأتي في لُغةٍ مُلْتَحِمَةً بالأداءِ البَصَريِّ ، وَبلُغَةِ الحَيَاة اليوميَّةِ ، في سَرْدٍ بَصَريٍّ ، يَتَدَفَّقُ مِنْ (عينِ الكاميرا) ، منه هذا المُجْتَزَأُ :
« يَدٌ تَجْدِلُ الدِّفْلى يَدٌ تَحْزِمُ المُلصَقَات أُنْثَى في ثَيَابِ حِدَاد تَرْفَعُ إكْلِيلاً إلى أعْلى آلةٌ حَاسِبَةٌ تَرِنُّ عَامِل ٌيَمْسَحُ يَدَيْهِ مِنَ الشَّحمِ بالمُلْصَقِِ مُلْصَقَاتٌ على حَائِطٍ طَويلٍ لا يَنْتَهِي . أمَامَ الحَائطِ شرطيٌّ يَسِيْرُ وَعَرَبَة تُفَّاحٍ أحمر شَابٌ يَحْمِلُ كُرَةً أرْضِيَّةً سَيَّارَةٌ ب . أم . ف . بَيْضَاءُ تَقْتَرِبُ مُسَدَّسٌ مِنَ النَّافِذَةِ . أزِيزُ رصَاصَةٍ دولابُ رُوليت يدورُ الطَّابةُ البَيْضَاءُ تبتسِمُ لرَقمٍ سَاعَةُ حَائطٍ بلا عَقَارِب الكُرَةُ الأرْضِيَّةُ تدورُ وَحْدَهَا على الرَّصِيْفِ.»(8)
إنَّ الخِطابَ الشِّعريَّ ، هُنا ، ينهضُ على آليَّةٍ سِينمائيَّةٍ خاصَّةٍ ، هيَ : المُونتاج ؛ حيثُ تتوالى اللقطاتُ ، عبْرَ توالي اللقطاتِ المُختلِفَةِ ، في بنيةٍ دِراميَّةٍ بَصَرِيَّةٍ خالِصَةٍ ؛ لإحْدَاثِ المَجَازِ البَصَريِّ الشِّعريِّ للخِطابِ ، بأداءٍ سِينمائيٍّ خَالِصٍ .
-3-3- المُونْتَاجُ السَّرديُّ
وفيه يعملُ المُونتاجُ على تجميعِ لقطاتٍ سَرديَّةٍ، والتَّوليفِ بينها ، في أبنيةٍ دِرَاميَّةٍ دالةٍ، كما لدى محمد متولي(1970-) ، في نصِّه : « حدود الوقت » ؛ حيثُ تبدو آلياتُ المونتاجِ السَّرديِّ ، في الجمعِ بين وحداتٍ سَرديَّةٍ ، تتوالى ، ويتداخلُ فيها الواقعيُّ بالخياليِّ ، في أداءٍ سَرديِّ مُمسرحٍ ، يبدو الفعلُ الإنسانيُّ فيه أقربَ إلى أداءِ مُمَثِّلينَ تراجيديينَ ، كما تُمثِّلُ عمليَّةُ تقطيعِ الحِكايةِ فيه ، وتشظِّي اللقطاتِ ، تعبيرًا عن عالمٍ مُفتَّتٍ ومُتشظٍّ ، تُهيمنُ فيه أجواءُ العُزلةِ ، والوِحْدةُ :
« في مُفترَقِ الطُّرُقِ رَجُلٌ وَامْرَأةٌ يلتقيانِ يلتصِقانِ بحُجَّةِ المَطَرِ ، تحتَ مَظلَّةٍ وَاحِدةٍ وَإذْ يَتَخَيَّلُ عُشْبًا ينمو سِرِّيًّا على الإسْفَلتِ تتلو عليه قصيدةَ «روبرت فروست» : الدّرب الأقلّ مَسْلكًا عند كُشْكِ الزُّهورِ كانَ البَائعُ يُغَالِبُ النُّعاسَ وَلِسَانُ جَرو يَلْعَقُ ما بينَ أصَابِعِهِ المَجْرُوحَة، صَاحِبُ الحَانةِ في الزَّاويةِ كانَ يُطفِئُ أنْوارَها ويُنْفِضُ الفُوطَةَ بعدَ مَا أزَاحَهَا عن خِصْرِهِ نَبَتَ جَنَاحَانِ للمُتَسِوِّل المُلتَحِي فَحَلَّقَ فَجْأةً فوقَ سَاعةِ المَيْدَانِ حِيْنَ دقَّتْ الثَّانيةُ ليلاً خَطَفَ غُرَابٌ نظَّارَةَ أكاديميٍّ بِريطَانيٍّ مَخْمُورٍ ، كانَ يُجَفِّفُها تحتَ الضَّوءِ وَأهْدَاهَا للمُتَسَوِّلِ، لمْ يكنْ يُشَاهدُ نَجْمَةَ الاسْتعرَاضِ في شَاشَةِ المَيْدَانِ سوى شابٍ في الخَامِسَةِ والثَّلاثينَ ، كانَ مُقتنِعًا بأنَّ تلكَ اللحظةَ هيَ أسْنَحُ فُرْصَة للانْتِحَارِ ؛ إذْ جَلَسَ على حَقِيْبةَِ سَفَرِهِ في أقصَي الرِّيف ابْتَسَمَ شَاعرٌ للمَرَاعِي البِكرِ ، وَاحْتَضَنَ الحَيَاةَ فتبِعَهُ آلافُ المُهَاجِرِينَ بُغيةَ أنْ يَصْنَعوا حُلْمًا في تلكَ السَّاعَةِ المُتأخِّرةِ مِنَ الليل كانَ ثَمَّةَ مُطرِبَةُ أوبرا بدينة تحتضنُ دُمْيَةً لمْ تُنجِبْهَا وَتُوجِّه لهَا ، مُنفعِلةً بالتَّصاعُدِ الغِنَائيِّ ، كلماتِ الاعْتِذَارِ قبلَ أنْ تُلقِيها ، في خِتَامِ المَشْهَدِ ، خَلْفَ الدِّيكُور.»(9)
إنَّ الخِطابَ الشِّعريَّ ، هُنا ، يُؤسِّسُ شِعريَّتَه على أرضيَّةِ سَرْدٍ بَصَريٍّ ؛ تتوالى فيه اللقطاتُ السِّرديَّةُ، عبْرَ بنيَّةِ المونتاجِ السِّينمائيِّ؛ حيثُ ينتقلُ الأداءُ السَّرديُّ من لقطةِ التقاءِ رجلٍ وامْرأةٍ في مُفترقِ الطُّرقِ ، إلى لقطةٍ أخرى يبدو فيها الرَّجلُ يتخيَّلُ عُشبًا ينمو على الأسْفلتِ فيما المرأةُ تتلو عليه قصيدةً لروبرت فروست ، ثُمَّ ينتقلُ الأداء إلى لقطةٍ أخرى : عند كشك الزُّهورِ ، حيثُ كان البائعُ يُغالبُ النَّاسَ، فيما لسانُ جروٍ يلعقُ ما بينَ أصابِعِه ، ثُمَّ لقطةٌ أخرى يبدو فيها مُتسوِّلٌ مُلتَحٍ ، ثُمَّ لقطةٌ يبدو فيها غُرابٌ يخطفُ نظارةَ أكاديميٍّ بريطانيٍّ مخمورٍ ، ثُمَّ لقطةٌ يبدو فيها شابٌ يُشاهدُ نجمةَ الاسْتعراضِ في شاشةِ الميدانِ ، ثُمَّ لقطةٌ أُخْرى لمطربةِ أوبرا بدينةٍ تحتضنُ دُميةً لمْ تُنجبْهَا .. هكذا تتوالى اللقطاتُ في بنيةٍ دراميَّةٍ ، يتمُّ فيها التَّوليفُ بين اللقطاتِ والمشاهدِ وِفْقَ تدفُّقٍ زمنيٍّ خاصٍّ.
-4-
شِعْريَّةُ الأشياءِ المَنْسِيَّةِ
تُمثِّلُ الأشياءُ - بتعبير مُحيي الدِّين بن عربيِّ(- 638هـ) - أُمَّةً منَ الأممِ ، وهيَ - هُنا - كائناتٌ نصِّيَّةٌ ، ويأتي التَّعبيرُ عنها ضِمْنَ الاهتمامِ بتفاصيلِ الواقعِ المَعِيشِ ، بِمَا يحويه من أشياءَ ظلَّتْ مُهمَّشةً ومُسْتبعَدةً ، يتمُّ التَّشديدُ على الأشْيَاءِ المهمَّشَةِ ، بحيوَاتهَا وَعَوَالمهَا الكَامِنَةِ ، وَتهمِيشِ ، وَإقْصَاءِ ، العَوَالمِ الإنْسَانيَّةِ، وَحَيَوَاتهَا الّتي ظَلَّتْ محتكِرَةً المشْهَدَ وَحْدَهَا طَويلاً ، ومن الشُّعراءِِ الذين عكفوا على شِعريَّةِ الأشياءِ ، على نحوٍ ملحوظٍ ؛ إيهاب خلفية (1972- ) ؛ فلهذه الأشياءِ ، البطولةُ ، في مشهدِهِ الشِّعريِّ ، ولهَا أبعادٌ وجوديَّةٌ ومواقفُ مُجتمعيَّةٌ ودراميَّةٌ. إنَّه يكتبُ عن أشياءَ عابرةٍ ، مُهمَّشةٍ ، أو مُهمَلةٍ ؛ ففي ديوانه : «طائرٌ مُصَابٌ بأنفلونزا»: 2006، يكتبُ عن : طائر مصاب بأنفلونزا - ما قالته الأطعمةُ داخل الثَّلاجة - ثورة الصَّراصير ، وفي ديوانه : «مساء يستريح على الطَّاولة» : 2007 ، يكتبُ عن : « توك توك» شارد جنبَ الكورنيش - كيس قمامَةٍ أسْود - نملة ، وفي ديوانه : « قبل الليل بشَارع »: 2008 ، يكتب عن : نوافذ - مقشَّات - ضرس - ورقة - ظِلال تسيرُ بمفردِها - حِذاء يرثي سيدتَهُ التي غابتْ - كراسَة رسْمٍ ، وغير ذلكَ . ومِنْهَا قولُهُ في قصيدتِهِ : «ما قالتْهُ الأطعمةُ داخلَ الثَّلاجةِ» :
« في كُلِّ مَرَّةٍ يخطفُ الإنسَانُ شَيئًا ، نَنَامُ ونسْتيقِظُ على رَفٍّ خَاوٍ ، وَلَيْسَ سِوىَ الأنينِِ مَكَانَ الزُّجَاجَاتِ التي اخْتُطِفَتْ ، ليسَ سِوىَ الأسَى وَرَاءَ كُلِّ طَبَقٍ نَتَحَطَّمُ وَأعْصَابُنَا مُنْهَارَةٌ إثرَ كُلِّ بَابٍ يُفْتَحُ ، مَنْ مِنَّا سَيَأخُذُونَهُ إلى هُناكَ حَيْثُ آلاتُ التَّعذيبِ الثَّقيلةُِ السَّكاكِينُ وَالضُّروسُ التي تَطْحَنُ.»(10)
إنََّ الأطعمةَ ، هُنا ، كائناتٌ حيَّةٌ ، ذواتٌ ؛ لها حيواتُها ومشاعرُها ورُؤاها ومواقفُها من العالمِ ، وهيَ حيواتٌ مُجاورةٌ للحيواتِ البشريَّةِ ، في مشهدِ الحياةِ المعيشةِ - الذي تتجاورُ فيه الكائناتُ والأشياءُ- إنَّها تنامُ ، وتستيقظُ ، وتئنُّ ، وتخشى الآتي ، وتخشى المصيرَ المأساويَّ المحتومَ ، إنَّها حيواتٌ مُجاورةٌ ومُوازيةٌ للحيواتِ الآدميَّةِ . ومنها ، كذلكَ ، قولُه في قصيدتِه : « كيس قمامة أسود » :
« خَرَجْتُ مِنْ كُلِّ بيتٍ مَطْرُودًا وَمَصْحُوبًا باللعنةِ مُحَمَّلاً بالأسْرارِ كثيرونَ يلمسونني لكنْ لا يُقاسِمُني أحَدٌ شَبَقَ المَحْرَقةِ.»(11)
إنَّ الشَّاعرَ، هُنا ، يتَّخذُ كيسَ القِمامَةِ ، للتَّعبيرِ عن حياةٍ هامشيَّةٍ ، مَنْبُوذَةٍ ، ومَطحُونَةٍ، لا يشعرُ بها أحدٌ .
-5-
شِعْريَّةُ البَدَاهَاتِ الأولى ، وَالفِطْرَة
تتبدَّى الوقائعُ والأشياءُ والبشرُ - في فضاءاتِ هذه الشِّعريَّةِ - في طَوْرِ الفِطْرَةِ وبساطةِ الخَلقِْ الأوَّلِ وعفويَّتِه ، في نزوعٍ واضحٍ إلى الشِّفاهيَّةِ وتداوليَّةِ الخِطابِ ، وتتمثَّلُ في هذه الشِّعريَّةِ بكارةُ الرُّؤيا وبساطةُ التَّعبيرِ ، وتصلُحُ تجربةُ الشَّاعرِ عماد أبي صالح (1967-) أنْ تكونَ نموذجًا واضحًا على هذه الشَّعريَّةِ ؛ ففيها يبدو ميلُهُ الواضحُ إلى التَّعبيرِ الفِطْريِّ البسيطِ ، عن بُسطاءِ الرِّيفِ في دلتا مصر ، بمُخيِّلةٍ ريفيَّةٍ خالصةٍ ، تنزعُ إلى البُنى السَّرديَّةِ ، وأداءٍ شِفاهيٍّ بسيطٍ ، تلتحمُ فيه مفرداتُ الحياةِ الريفيَّةِ ، ولقطاتها المعيشيَّة الدَّالة ، في صورٍ سرديَّةٍ ، مُستمدَّةٍ من واقعٍ مِصْريٍّ خالِصٍ ، كما في قوله ، في ديوانه : « كلبٌ ينبحُ ليقتلَ الوقت» :1996 :
« لمْ يكُنَّ يَنْخُلنَ كُنْ يرقصنَ على إيقاعِ المَنَاخِلِ ثُمَّ يَخْرُجْنَ منْ حُجُراتِ المَعِيشَةِ ملائكةً بيضاءَ بغُبَارِ الدَّقيقِِ إلى أنْ يلطُمُهُنَّ الأزواجُ فَجْأةً فيَعُدْنَ مَرَّةً ثانيةً أشبَاحًا في مَلابسَ سَوْدَاء.»(12)
على هذا النَّحوِ من بلاغةِ السَّردِ الشِّعريِّ الشِّفاهيِّ الحميمِ ، يُقدِّمُ في ديوانِهِ : «عجوزٌ تُؤْلِمُهُ الضَّحكاتُ » :1997 ، نَصًّا بعنوانِ : « ولدٌ صغيرٌ غيرُ مُؤَدَّبٍ، ماتَ دونَ إذنِ أُمِّهِ » ، على هذا النَّحوِ :
« أخْرَجَ زَبَدًا كثيرًا مِنْ فَمِهِ وَأطْبَقَ عينيهِ كَفَرَاشةٍ مِثلَ حَشَرةٍ كَأيِّ قِطَّةٍ كَكَلبٍ غَافلهَا، وَهِيَ تُجَهِّزُ الطَّعَامَ في المَطْبَخِ، وَمَاتَ كَعَادَتِهِ لا يَأخُذُ رأيَها أبدًا في أيِّ خُطوَةٍ يُقدِمُ عليها كانَ يُمْكِنُهُ، خاصةً وأنَّه أحَسَّ أجْنِحَةَ مَلاكِ المَوْتِ تَرِفُّ في الغُرفةِ، أنْ يُودِّعَهَا بِكَلمَةٍ أوْ يُخْبِرُهَا بمَكَانِ النُّقودِ التي سَرَقَهَا مِنهَا ، لكنَّه، في حَقِيقةِ الأمْرِ لمْ يكنْ يُحِبُّها، إنّهُ لا يكرَهُهَا لا يُحِبُّهَا ، وَلا يَكْرَهُهَا ، هِيَ أيْضًا مِثْلُهُ تَمَامًا لمْ تكُنْ تُحِبُّهُ ، وَلمْ تكُنْ تَكْرَهُهُ كُلُّ مَا بينَهُمَا أنَّهُ ابْنٌ وَهِيَ أمٌّ هِيَ تَغْسِلُ مَلابِسَهُ وَهُوَ يُسَلِّيهَا بترْبِيَتِهِ ، هيَ، يُمْكِنُ أنْ نقولَ : غَسَّالةٌ، وَهُوَ بَكَرَةُ تِرِيكو.»(13)
ثمَّةَ نزوعٌ واضحٌ إلى التَّعبيرِ الفِطْريِّ البسيطِ ، بأداءٍ شِفاهيٍّ حميمٍ ، يلتحمُ بخصوصيَّةِ الحَدَثِ السَّرديِّ ؛ بتفاصيلِهِ المَعْيشَةِ ، ومجازِهِ الحَيَاتيِّ .
الإحَالاتُ وَالتَّعليقَاتُ
(1) د. مصطفى الضَّبع - الصُّورة السَّرديَّة في الشِّعرِ العربيِّ - مجلَّة:(الشِّعر)- العدد 134 - صيف 2009 - ص : 41 . (2) وديع سعادة - بسبب غَيمةٍ على الأرْجَحِ - دار الجديد - الطَّبعة الأولى - 1992 - ص : 55 . (3) مُنذر مِصري - لأنِّي لسْتُ شخصًا آخر : « مُختارَاتٌ شِعريَّة » - آفاق عربية - العدد : 122- الهيئة العامة لقصور الثَّقافة - 2009 - ص ص : 179-180. (4) عصام أبو زيد - فَصْل الموتَى - مجلَّة:(الشِّعر) - العدد :67 ، يوليو 1992 - ص : 54 . (5) نصيف النَّاصري - أرضٌ خَضْرَاءُ مثل أبوَابِ السَّنَةِ - المؤسَّسة العَربيَّة للدِّراسَات وَالنَّشر- بيروت - 1996- ص: 66 ، نصيف النَّاصري - الأعمال الشِّعريَّة - المجلد الثَّاني - دار مخطوطات ، بهولندا - 2013 - ص : 327 . (6) حمدي عابدين - صانعُ العاهاتِ- أرابيسك للنَّشر والتَّوزيع - القاهرة -2009- ص :39 . (7) أسامة الحدَّاد - أنْ تكونَ شَبَحًا - دار إيزيس للفنون والنَّشر - القاهرة -2010 - ص : 11. (8) يحيى جابر - الزُّعران - بيروت -1990، www- arts Lebanon.com works.cfm? workpqgeid=70&bookid= (9) محمد متولي - النُّزهاتُ المفقودةُ - دار الكتابة الأخرى - القاهرة - 2010 - ص ص: 8 - 10. (10) إيهاب خليفة - طائرٌ مُصابٌ بأنفلونزا - القاهرة -2006 - ص ص :72 - 73 . (11) إيهاب خليفة - مساءٌ يستريحُ على طاولةٍ - القاهرة - 2007 - ص :36. (12) عن موقع الشَّاعرِ ، على الرابط التَّالي : www.geocities.com/emadabusaleh/ema d1.htm/. (13) المرجعُ نفسُهُ
#شريف_رزق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شِعريَّةُ السِّيرذَاتيِّ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّة
-
شعريَّةُ الغنائيَّةِ الجديدَةِ في قصيدَةِ النَّثرِ المِصْريّ
...
-
شِعريَّةُ الغُرفَةِ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّةِ
-
شِعريَّةُ المدينَةِ في قصيدةِ النَّثر المصْريَّةِ
-
المفاهيمُ النَّظريَّة للأنواعِ الشِّعريَّة في شِعرِ النَّثرِ
-
عَذَابَاتُ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ في وَحْشَةِ العَالمِ
-
شِعريَّةُ قَصِيدَةِ النَّثرِ
-
لانبعَاثَاتُ الأولى لقَصِيدَةِ النَّثر في مَشْهَدِ الشِّعر ا
...
-
شِعريَّاتُ المشْهَدِ الشِّعريِّ المصْريِّ الجديد في قصيدَةِ
...
-
تداخُلاتُ الأنواعِ الأدبيَّةِ والفَنيَّةِ في قصيدةِ النَّثرِ
...
-
إِشكاليَّاتُ النَّوعِ الشِّعريِّ في قَصِيدةِ النَّثْر
المزيد.....
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|